أحدث المقالات

الشيخ خالد الغفوري(*)

 

تمهيد

لقد كان البحث حول مسألة ثبوت الهلال، ولا يزال، مثاراً للجدل بين المسلمين‏ بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية، ولم ينحصر البحث فيها داخل الأروقة التخصُّصية فقط، بل طفح على السطح الاجتماعي بعرضه العريض، بحيث يتداول الجميع بحماس وجدّية الحديث حول هذا الأمر في العام مرّتين أو ثلاثاً على الأقلّ؛ نظراً لما تتركه هذه المسألة من آثار ملحوظة تمسّ الواقع الاسلامي والشرعي في الصميم.

ولم يكن هذا الموضوع طارئاً على الوسط الإسلامي، بل ترجع جذوره إلى أزمنة سابقة من الناحية التاريخية. وهذا ما يُستشفّ من قوله تبارك وتعالى:  ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ (البقرة: 189)؛ فإنّ وقوع هذا الأمر مورداً للسؤال، وكونه محلاًّ للبحث بين الناس، يكشف بوضوح عن أنّه كان موضع اهتمام لديهم في الزمن الأوّل، ومفاد الجواب القرآني أنّ الحكمة من الأهلّة تنظيم الجدول الزمني للحياة في نفسها وواقعها، وكذلك برمجتها باللحاظ الشرعي.

ومن الوضوح بمكان أنّ الحياة المتحضِّرة تفتقر إلى النظم والجدولة الزمنية في مختلف زواياها، ولذا فمن الطبيعي أن توجد جملة من مقرّرات الشريعة قد صمّمت على ضوء العامل‏ الزمني وبحسب عنصر الوقت، باعتبار أنّ الشريعة جاءت لصياغة الحياة الإنسانية من دون الغضّ عن الواقع وحيثيّاته ومتطلّباته.

ومن خلال نظرةٍ سريعة إلى مجموع الأحكام الشرعية يتّضح لنا أنّ طائفة منها قد رُبط بنحوٍ ما بعنصر الزمان. فنحن نرى أنّ فريضة الصلاة قد قُيِّد وجوبها بحركة الأرض بالنسبة إلى الشمس، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ (الإسراء: 78). كما أنّ الصيام مشروطٌ بحركة القمر بالنسبة إلى الأرض: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ… * أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ… * شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ… فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى‏ ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 183 ـ 185). وكذا الحال بالنسبة إلى مناسك الحجّ التي يشترط إيقاعها في أيّام معيَّنة في السنة، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ (البقرة: 197). فهذه أمّهات العبادات في الإسلام شرّعت بنحوٍ لا يمكن امتثالها إلاّ بعد إحراز الوقت، ومنه الهلال.

ومن الملاحظ أنّه رغم أهمية هذه المسألة اكتفى القرآن الكريم بذلك المقدار من البيان الإجمالي المتقدِّم، ولم يتوسَّعْ في توضيح كيفيّة إحراز الشهر.

لكنّنا نرى في ما وصل إلينا من التراث الحديثي عن النبيّ| وأهل بيته^ الكثير من البيانات لهذه المسألة، من عدّة جهات، وبأساليب مختلفة ومتنوّعة، أوضحها ما صرّح فيها بأنّ الصيام والإفطار يتوقَّفان على رؤية الهلال، نظير: ما ورد عن النبيّ| من أنّه قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإنْ غبّي [غمّي] عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين»([1])؛ وما ورد في كتاب عليّ× من قوله: «صُمْ لرؤيته، وأفطر لرؤيته».

وقد تناول الفقهاء هذه الروايات وأمثالها بالدرس والتمحيص، وبنَوْا فتاواهم على مقدار ما يفهمونه ويستظهرونه منها. ولم تتَّفق وجهات نظرهم في نمط السير في البحث، وطريقة المعالجة الفقهية من الناحية النظرية، كما هو ديدنهم المألوف في بحث سائر القضايا الفقهية. وكذلك لم تتَّحد النتائج الشرعية التي يُنتهى إليها، وبالتالي اختلاف الموقف العملي المترتّب عليها، كالبحث في وحدة أفق الرؤية أو تعدّد الآفاق، والبحث في كفاية الرؤية بالعين المسلَّحة، والبحث في اشتراط الرؤية الحسّية وعدم كفاية الحَدْس والحساب ونحو ذلك.

مقدّمة

نتعرّض فيها إلى أمرين:

 

الأمر الأوّل: في بيان الظاهرة التكوينية للهلال

1ـ يتحدَّد الشهر القمري بسبب وجود منظومة كونية تتألّف من ثلاثة من الأجرام السماوية، هي: القمر؛ والأرض؛ والشمس.

فالأرض تدور حول الشمس، والقمر يدور حول الأرض. ثمّ إنّ للقمر حركتين: في الحركة الأولى يدور حول نفسه يومياً؛ وفي الحركة الثانية يدور حول الأرض في مسارٍ إهليليجي تقريباً، ويبدأ حركته الثانية من جهة المغرب إلى جهة المشرق، وهذه الدورة هي التي تشكِّل ما يسمَّى بالشهر القمري.

2ـ إنّ القمر كوكبٌ غير مضيء في نفسه، وإنّما يكون قابلاً للرؤية؛ لانعكاس ضوء الشمس عليه. وبسبب شكله الكروي لا يكون منيراً بجميع جهاته، بل يكون دائماً منيراً في الجهة المقابلة للشمس فقط، أي نصفه تقريباً، في حين يبقى النصف الآخر منه مظلماً، فلا يمكن رؤيته. هذا وضع القمر بالنسبة إلى الشمس.

وأمّا بالنسبة لزاوية النظر إلى القمر من الأرض فيبدو للناظر بأشكالٍ مختلفة؛ فإذا صار بين الأرض والشمس قابلنا بوجهه المعتم، ويُسمّى حينئذٍ بالمحاق أو الاقتران، وهذا إنّما يكون في نهاية الشهر؛ وإذا صارت الأرض بينه وبين الشمس في منتصف الشهر القمري قابلنا بكلِّ وجهه المضيء، ويُسمّى حينئذٍ بدراً؛ وفيما بين هذين الوضعين فهو في التربيع الأوّل في نهاية الأسبوع وبداية الأسبوع الثاني من الشهر؛ وفي نهاية الأسبوع الثالث وبداية الأسبوع الرابع يُسمّى بالأحدب. وهكذا تتوالى أشكاله في كلِّ شهر قمري([2]).

والجزء المضيء من سطح القمر ليس (180) درجة تماماً، بل إنّ هذه القيمة تزيد قليلاً.

3ـ إنّ المعدّل لمدّة دورة القمر حول الأرض بلحاظ تنوُّره هو (53089,29) يوماً، أي ما يعادل (29) يوماً وأكثر من نصف اليوم بقليلٍ. وهذا هو الذي يُطلق عليه (الشهر الاقتراني أو الاصطلاحي)، وهذا هو الشهر العرفي، وهو الذي نبحث عنه هنا.

وإنْ كانت دورة القمر حقيقةً بلحاظ نقطة معيّنة في الفضاء بالنسبة إلى الأرض أقلّ من ذلك، فلو انطلق من تلك النقطة الافتراضية إلى أن يعود إلى نفس النقطة فإنّه يستغرق في دورته هذه مدّة (27) يوماً وأكثر من ربع اليوم.

4ـ إنّ المقدار المضي‏ء من القمر هو دائماً بمقدار نصف كرة القمر تقريباً، ولكنّنا لا نرى ذلك إلاّ في أواسط الشهر حيث نرى الضوء مستوعباً لتمام الدائرة، ثمّ يأخذ بالتناقص إلى أن يختفي حينما يصبح تحت شعاع الشمس، ومقارناً له، ثمّ يولد مرّة أخرى عند خروجه من خطّ المقارنة ويكبر، حتى تتمّ الدائرة، وهكذا؛ والسبب في ذلك هو اختلاف موقع القمر بالنسبة إلى الأرض؛ فإنّ الناظر منها ستختلف زاوية نظره إلى القمر بحسب ذلك.

وعليه يتفاوت مقدار النور المنعكس على سطح القمر؛ فتارة يقع في الموضع الذي يكون بين الشمس والأرض، فلا يكون قابلاً للرؤية باعتبار وقوع الطرف المضي‏ء بالاتّجاه المعاكس للأرض، ومواجهة الطرف المظلم لها، وهذه هي حالة المحاق؛ وبعدها يبدأ يتحرّك، فيبدو منه شي‏ءٌ قليل، ثمّ يبدأ بالتزايد حتّى تكمل دائرته تماماً، وهي حالة البدر؛ ثمّ يأخذ بالتناقص حتّى يضمحلّ مقدار الضوء المرئي إلى أن يدخل في المحاق، وبذلك تكمل دورته حول الأرض.

5ـ ثمّ إنّ القمر عندما يخرج من المحاق ومن خطّ المقارنة يُعبَّر عن هذه الحالة عُرْفاً بولادة الهلال. وهذه الولادة تكون في البدء غير قابلة للرؤية إطلاقاً، لا بالوسائل العلمية الحديثة والتِّلِسْكوب، فضلاً عن الرؤية بالعين المجرَّدة، ثمّ بعد مرور فترة زمنية ـ تقدَّر بساعةٍ وتسعة أعشار الساعة ـ تزداد المساحة المضيئة، ويأخذ بالابتعاد عن شعاع الشمس بالنسبة لزاوية النظر من الأرض، ويظهر عليه نور الشمس بمقدارٍ ضئيل جدّاً بنسبة (1/180). ونظراً لضعفه الشديد يستحيل أن يُرى حتّى بالعين المجرَّدة، ولكنّه يكون قابلاً للرؤية بالأجهزة الحديثة والتِّلِسْكوب، ثمّ يأخذ بالابتعاد عن شعاع الشمس بالتدريج، وبعد حينٍ يصبح قابلاً للرؤية بالعين المجرَّدة، وذلك بعد مضيّ عدّة ساعات عادةً.

وبعبارة أخرى: يمرّ الهلال بثلاث مراحل بعد خروجه من المحاق حتّى يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرَّدة.

ويُسمّى القمر بالهلال من أوّل خروجه من المحاق إلى أن يزداد ضوؤه، وعندها لا يُطلق عليه الهلال عُرْفاً، بل يُسمَّى قمراً.

 

الأمر الثاني: في بيان كيفية تبويب البحث

إنّ كلّ مَنْ يراجع الكتب الفقهية التي تعرَّضت لبحث الهلال وطرق ثبوته يحسّ بأنّ ثمّة تشويشاً في كيفيّة الورود فيه، وفي كيفية تفريع الفروع.

وبحسب تصوُّري فإنّ البحث في هذه المسألة لم يُبوَّب تبويباً فنّياً:

أـ فإنّهم ـ كصاحب العروة ـ يسردون الطرق جميعاً، ويطرحونها في عرضٍ واحد، فيعدُّون طرق ثبوت الهلال الرئيسة كالتالي:

الأوّل: رؤية المكلَّف نفسه.

الثاني: التواتر.

الثالث: الشياع المفيد للعلم.

الرابع: مضيّ ثلاثين يوماً من هلال الشهر السابق.

الخامس: البيِّنة الشرعية، وهي شهادة عدلين.

السادس: حكم الحاكم.

وضمن ذلك يتعرَّضون أيضاً إلى بحث بعض الطرق الأخرى الفرعية، وبعد ذلك يتعرَّضون إلى وحدة الأفق وتعدُّده، وسائر المسائل([3]).

ب ـ وقد التفت بعضُهم فأجرى بعض التعديلات، فرتَّب الطرق كما يلي:

الأوّل: العلم الحاصل من الرؤية أو التواتر أو غيرهما.

الثاني: الاطمئنان الحاصل من الشياع وغيره.

الثالث: مضيّ ثلاثين يوماً من الشهر السابق.

الرابع: شهادة عدلين.

الخامس: حكم الحاكم([4]).

ج ـ ورتَّبها ثالثٌ كما يلي:

الأوّل: العلم الحاصل من الرؤية أو التواتر أو الشياع، أو مضيّ ثلاثين يوماً من الشهر السابق.

الثاني: شهادة العدلين.

الثالث: رؤيته قبل الزوال([5]).

د ـ ورتّبها رابعٌ كما يلي:

الأوّل: العلم الوجداني؛ إمّا بالرؤية بالعين المجرّدة؛ أو بالتواتر.

الثاني: الاطمئنان الحاصل من الشياع.

الثالث: مضيّ ثلاثين يوماً من الشهر السابق.

الرابع: البيِّنة.

الخامس: حكم الحاكم([6]).

هـ ـ وحاول خامسٌ أن يُغيِّر من هذه المنهجية تغييراً أساسياً إلى حدٍّ ما، فعالج البحث في مرحلتين:

المرحلة الأولى: تحديد موضوع الحكم الشرعي، وأنّه الهلال الشرعي المتوقِّف على أمرين:

أحدهما: خروج القمر من المحاق ومواجهة جزء من نصفه المضيء للأرض.

الآخر: إمكان رؤية هذا الجزء بالعين المجرَّدة.

وقد تعرَّض ضمن ذلك إلى وحدة الأفق وتعدّده.

المرحلة الثانية: تحديد طرق إثبات الهلال الشرعي:

الأوّل: الرؤية المباشرة بالعين المجرّدة.

الثاني: شهادة الآخرين بالرؤية، بشرط كثرة العدد أو وجود البيّنة.

الثالث: مضيّ ثلاثين يوماً من الشهر السابق.

الرابع: حكم الحاكم.

الخامس: كلّ جهد علمي يؤدِّي الى اليقين أو الاطمئنان بإمكان الرؤية([7]).

ولو أردنا تبويب البحث تبويباً منطقيّاً فينبغي تنظيم مفاصل البحث كما يلي:

أوّلاً: البحث في تحديد الهلال الذي أُخذ موضوعاً للحكم بدخول الشهر، الذي يترتّب عليه جملة من الأحكام، كالصيام أو الإفطار وغيرهما. فهل هو الهلال الطبيعي المتولِّد أو هو الهلال القابل للرؤية؟ وهل هناك هلالٌ واحد لجميع الدنيا أو أنّ لكلّ بلد هلالاً؟

ثانياً: البحث في طرق إثبات ذاك الهلال المأخوذ موضوعاً للحكم الشرعي. فهل هناك طرقٌ خاصّة للشارع أو أنّ الهلال يثبت بأيّ طريق كان؟

ثالثاً: ثمّ إنّ هذه الطرق نفسَها يمكن تقسيم البحث فيها إلى قسمين:

القسم الأوّل: الطرق المباشرة. هل اشترط الشارع طرقاً معيَّنة لإثبات الهلال، كالرؤية البصرية، أو لا؟

القسم الثاني: الطرق غير المباشرة. هل أنّ الهلال يثبت شرعاً بكلّ واسطة أو أنّ الشارع حدَّد وسائط خاصّة؟ فمثلاً: هل يثبت بإخبار الثقة الواحد أو لا بدّ من البيّنة، وهي شهادة عدلين اثنين؟

وبعد هذا البيان يتَّضح الأساس في كيفيّة تنظيم محاور البحث، وتبويب جهاته.

وسوف نعالج البحث في الجهات المتقدِّمة على مستويين: تارةً في ضوء الأدلّة الخاصّة؛ وأخرى في ضوء الأدلّة والقواعد العامّة.

وإليك تفصيل البحث:

 

الجهة الأولى: البحث في تحديد موضوع الحكم بدخول الشهر

إنّه بحسب النظر العقلائي يُحتمَل هنا احتمالان أو ثلاثة:

الأوّل: كون الموضوع هو الهلال الطبيعي، وهو الذي تستغرق دورته قرابة (27) يوماً.

الدليل: من الممكن أن يستدلّ له بأنّ الملحوظ هو الظاهرة الطبيعية المتمثِّلة بحركة كوكب القمر من تحت شعاع الشمس بعد غيبوبته خلفه، فيدخل الشهر بأوَّل لحظة يخرج فيها القمر من حالة المحاق.

الثاني: كون الموضوع هو الهلال العرفي أو الاصطلاحي، وهو حال تنوُّر القمر بعد خروجه من المحاق، ومن الواضح أنّ التنوُّر لا يحصل لحظة خروجه من المحاق، بل يحصل ذلك بعد ولادة الهلال الطبيعيّة بفترةٍ زمنية، وهذه الفترة الزمنية تُقدَّر بساعة وتسعة أعشار الساعة حتّى يُرى بالتِّلِسْكوب، وبـ (13) ساعة تقريباً حتّى يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرَّدة، كما تقدَّم توضيحه.

الدليل: 1ـ إنّ الهلال لغةً وعرفاً هو غرّة القمر، أي أوّل بدوّ هذا الجرم السماوي وظهوره، ولم يثبت أنّ للشارع اصطلاحاً خاصّاً.

2ـ النصوص الشرعية ـ كتاباً وسنّة ـ التي استخدمت الهلال بما له من مفهوم عرفي:

أـ أمّا الكتاب فقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (البقرة: 189)؛ فإنّ التعبير بأنّ الأهلّة ﴿مَواقِيتُ لِلنَّاسِ لَيكشف عن إرادة الأهلّة المتعارفة بين الناس في جميع الشهور، أي الهلال الاقتراني كما بيَّنّا في المقدّمة.

بـ ـ وأمّا السنّة فمنها: قول أبي عبد الله الصادق×، وقد سُئل عن الأهلّة؟ فقال: «هي أهلّة الشهور، فإذا رأيتَ الهلال فصُمْ، وإذا رأيتَه فأفطِرْ»([8]). فصدر الرواية واضحٌ في كون المعنى الملحوظ هو أهلّة الشهور المتعارفة، وعليه فرَّع كلامه حول هلال شهر رمضان.

الثالث: كون الموضوع مركَّباً من الهلال الخارجي المقيَّد بالرؤية أو ما قام مقامها. وسيأتي بحثه لاحقاً في تحقيق المراد من الرؤية، هل هو الموضوعية أو الطريقيّة؟، فانتظِرْ.

 

الموقف

1ـ إنّه يرد على الاحتمال الأوّل أنّ الهلال وإنْ كان ظاهرةً كونيّة خارجية، وليست قضية اعتبارية، فتكون ملحوظة بما لها من تحقُّق وثبوت في نفسها، سواءٌ علم بها المكلّف أو لا، إلاّ أنّ الكلام في تعيين تلك الظاهرة ما هي؟ فهل هي خروج كوكب القمر من تحت قرص الشمس أو هي تنوُّر الكوكب بعد ظلمته؟ فربما يُقال بالأوّل، وربما يُقال بالثاني. فمَنْ يذهب إلى الأوّل يعتقد بأنّ الموضوع هو الظاهرة الطبيعية؛ والذي يذهب إلى الثاني أيضاً يعتقد بأنّ الموضوع هو الظاهرة الطبيعية أيضاً.

2ـ لو كان الموضوع هو الهلال الطبيعي لأصبح الخطاب الشرعي خطاباً غير عرفي، بل هو موجَّه للمتخصِّصين من علماء الفلك، الذين يدركون هذه الظاهرة غير الواضحة للعرف العامّ.

 

الجهة الثانية: البحث في تحديد الطرق المباشرة لإثبات الهلال

فقد تعرَّضت الروايات لطريق إثبات الهلال، ألا وهو الرؤية، وسوف نبحثه بعدّة لحاظات:

 

اللحاظ الأوّل: ما هو المراد بالرؤية؟

إنّه بحسب النظر العقلائي يُحتمَل هنا احتمالان:

الأوّل: كون المراد الرؤية بالعين المجرّدة.

الدليل: الظاهر الأوّلي لروايات الباب؛ فقد ورد فيها عنوان الرؤية في ثبوت الهلال، والرؤية تنصرف إلى الرؤية العرفيّة، كما هو الشأن في سائر العناوين المأخوذة في أدلّة الشرع.

الثاني: كون المراد الرؤية بالعين مطلقاً، مجرّدة كانت أو مسلّحة، والمراد بالعين المسلَّحة العين المجهَّزة، أي استعمال الأجهزة، كالمراقب والنواظير والتِّلِسْكوبات، وليس منها العُوَيْنات (النظّارات الطبّيّة).

الدليل: إطلاق الأدلّة؛ فإنّها لم تقيِّد بنوعٍ خاصّ من الرؤية أو بوسيلة خاصّة.

 

الموقف

لكنْ يرد على الاحتمال الأوّل:

1ـ عدم تمامية دعوى الانصراف؛ لكونه ناشئاً من غلبة الوجود، باعتبار أنّ الرؤية آنذاك كانت تتمّ غالباً بواسطة العين المجرَّدة. أجل، لو كانت الغلبة ناشئةً من غلبة استعمال اللفظ في معنىً خاصّ أضيق من المعنى الموضوع له اللفظ لتمَّتْ حينئذٍ دعوى الانصراف.

2ـ إنّه فرقٌ بين البحث المفهومي والمصداقي؛ فبالنسبة إلى البحث المفهومي يُقال عادةً بأنّ العناوين الواردة في أدلّة الشرع تُحمَل على معانيها العُرْفية؛ لكنْ لا يصحّ مثل ذلك الكلام في البحث المصداقي، وإلاّ لما بقي عندنا إطلاقٌ بالمرّة، ولما صحّ التمسّك بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِِ (المائدة: 1) لإثبات مشروعيّة العقود المستحدثة، ولا وجوب الوفاء بها.

وكذا ما نحن فيه؛ فإنّ البحث في الرؤية تارةً يكون بحثاً مفهومياً، فنقول بأنّ المراد بها معناها العُرْفي، وهو رؤية الشيء الخارجي وإدراكه بالعين الجارحة وحاسّة البصر، بأن تنعكس صورة الشيء على شبكة العين، لا الرؤية بالقلب، ولا الرؤية في المنام وفي عالم الرؤيا.

وأخرى يكون بحثاً مصداقياً، فنقول: جميع مصاديق الرؤية داخلةٌ في العنوان، وتكون مشمولة بالدليل، سواء أكانت بالعين الطبيعية المجرّدة أم مع استعمال النظّارة المتعارفة اليوم أم من خلال المجهر والميكروسكوب أم من خلال النواظير والتِّلِسْكوب، فهذه كلُّها مصاديق للرؤية، من دون فرق بين رؤية الأشياء الصغيرة والكبيرة، وبين رؤية الأشياء القريبة والبعيدة. فمَنْ رأى الهلال بعينه المجرَّدة يصدق عليه أنّه رآه، ومَنْ رآه بالتِّلِسْكوب أيضاً يصدق عليه أنّه قد رآه بحاسّة البصر، ولا يمكن للناظر بالتِّلِسْكوب أن ينفي رؤيته للهلال، ولا يُقال: إنّه سمعه أو ذاقه أو لمسه أو غير ذلك.

وعليه فإنّه لا محيص عن القول بثبوت الهلال إذا تمّت رؤيته بالتِّلِسْكوب، حتّى لو جمدنا على لفظ (الرؤية) الوارد في النصوص.

 

إيضاحات

1ـ إنّه بناءً على الاحتمال الأوّل لا ينبغي الفرق بين الرائي للهلال بعينه المجرَّدة الحادّ البصر وبين ذي البصر العادي؛ لصدق الرؤية عرفاً.

2ـ لا يصحّ الإيراد على الاحتمال الأوّل بصحّة إسناد الرؤية بالتِّلِسْكوب إلى الناظر فيه؛ لأنّ الاحتمال الأوّل ليس مبتنياً على دعوى عدم صحّة الإسناد؛ كي يُنقض عليه بهذا النقض([9]).

3ـ وأيضاً لا يصحّ الإيراد على الاحتمال الأوّل بعدم الفرق بين النظّارة وبين التِّلِسْكوب؛ لأنّ النظّارة تجعل رؤية العين للأشياء رؤية طبيعيّة.

4ـ وكذا لا يصحّ الإيراد على الاحتمال الثاني بأنّ اللازم منه أنّه لو رأى أحدٌ بعد وضوئه من خلال المجهر أنّ ثمّة نقطة مجهريّة لم يصِلْ إليها الماء فيلزم الحكم ببطلان وضوئه حينئذٍ؛ لأنّ الوارد في دليل الوضوء ـ وهو قوله تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكمْ وَأَيْدِيَكم (المائدة: 6) ـ عنوان (الغَسْل)، لا عنوان (الرؤية)؛ كي يُنقض بذلك، والمراد بعنوان (الغَسْل) الغَسْل العُرفي، وهو متحقِّقٌ حتّى مع ترك غَسْل نقطة في البدن لا تُدرَك بالعين المجرّدة.

5ـ وأيضاً لا يصحّ الإيراد على الاحتمال الثاني بأنّ اللازم منه القول ببلوغ حدّ الترخُّص حال رؤيته بالناظور؛ لأنّ المراد ببلوغ حدّ الترخُّص هو بلوغ مسافة معيّنة والوصول إليها، لا رؤية مكانٍ معيَّن؛ كي يُنقض بذلك.

6ـ كما لا يصحّ دعم وتأييد الاحتمال الثاني بحالة انكشاف نقصان شهر رمضان عن تسعة وعشرين يوماً مع رؤيته بآلات الرصد في الليلة الأولى، وعدم إمكان رؤيته بالعين المجرَّدة([10])؛ فإنّ هذا لا يُثبت المدَّعى، وإلاّ فلو فُرض انحصار رؤيته في الليلة الأولى بإخبار الفاسق وشهادة البيِِّنة غير المعدَّلة فيا تُرى هل تثبت حجّية قول الفاسق والبيِّنة غير المعدَّلة، ونحكم بثبوت الهلال حينئذٍ؟!

 

اللحاظ الثاني: هل إنّ الرؤية مأخوذةٌ على نحو الموضوعية؟

فيه كذلك احتمالان:

الأوّل: كون الرؤية مأخوذةً على نحو الموضوعية، أي انحصار ثبوت الهلال شرعاً بالرؤية فقط وفقط.

وهذا تارةً يكون بدعوى كون الموضوع مركَّباً من الهلال الخارجي المقيَّد بالرؤية أو ما قام مقامها. وأخرى بدعوى أخذ الرؤية قَيْداً في الحكم بالصيام.

الدليل: 1ـ إنّه الظاهر من أدلّة الباب؛ لأخذها قيد الرؤية في الحكم بالصيام والإفطار. وإليك بعض هذه الروايات:

أـ عن النبيّ| أنّه قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإنْ غبّي [غمّي] عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين»([11]).

ب ـ عن النبيّ| أنّه قال: «لا تصوموا حتّى ترَوْا الهلال، ولا تفطروا حتّى ترَوْه، فإنْ غمّ عليكم فأقدروا له»([12]).

ج ـ عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر× قال: «إذا رأيتُم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي، ولا بالتظنّي، ولكنْ بالرؤية»([13]).

د ـ عن سماعة قال: «صيام شهر رمضان بالرؤية، وليس بالظنّ»([14]).

هـ ـ عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله الصادق×، أنّه قال: «في كتاب عليّ×: صُمْ لرؤيته، وأفطِرْ لرؤيته، وإيّاك والشكّ والظنّ…»([15]).

و ـ ما تقدّم من قول أبي عبد الله الصادق×، وقد سُئل عن الأهلّة؟ فقال: «هي أهلّة الشهور، فإذا رأيتَ الهلال فصُمْ، وإذا رأيتَه فأفطِرْ»([16]).

ز ـ عن أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي عبد الله الصادق×، في حديثٍ: «إنّ شهر رمضان فريضةٌ من فرائض الله، فلا تؤدُّوا بالتظنّي»([17]).

فإنّ الظاهر من هذه الروايات وغيرها هو لحاظ الرؤية بنحو الطريقيّة والمعرِّفية؛ وذلك لعدّة قرائن:

الأولى: تكرار لفظ الرؤية، والتأكيد عليه، كما في الأحاديث السابقة.

الثانية: جعله في مقابل الظنون.

الثالثة: لو كان المراد الطريقيّة لكان الأنسب اختيار الألفاظ الدالّة عليها، أو المشعرة بها، كالتبيُّن والاستبانة والعلم، ولا سيّما مع تكرُّر الأحاديث ووحدة التعبير فيها، فهذا يدلّ على كون الرؤية محطّ نظر الشارع على نحو الخصوص، وتعلّق غرضه بها.

2ـ ما أفاده بعض أهل اللغة من أنّ الهلال هو غرّة القمر حين يُهلّه الناس([18])، أي حين ينظرون إليه. مضافاً إلى ما قاله بعضٌ بأنّ تسميته بالهلال إنّما كانت لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته.

3ـ إنّ الرؤية هي القدر المتيقَّن، وسائر الطرق مشكوكةٌ، ومع الشكّ لا يمكن الحكم ببراءة الذمّة عن التكليف، ولا الحكم بثبوت التكليف.

الثاني: كون الرؤية مأخوذةً على نحو الطريقيّة.

الدليل: 1ـ إنّ المفهوم عرفاً من الرؤية في مثل المقام هو الطريقيّة، نظير القول: إنْ رأيتَ فقيراً فأَعطِه درهماً، فلا يُفهم منه أنّ المراد خصوص رؤية الفقير فحَسْب، فلو سمع صوته أو صافحه بيده، دون أن يراه بعينه، أترى أنّه لا يُحكَم بلزوم إعطائه درهماً؟! لا شكّ بأنّ المراد هنا الحكم بلزوم الإعطاء متى ما علم بالفقير، سواءٌ أكان من خلال الرؤية أم غيرها من الطرق.

أجل، لو قيل: إنْ رأيت الفيلم الفلاني فأبعِدْ عينَك عن شاشة التلفاز، فيُفهَم منه أنّ المراد خصوص رؤية الفيلم فحَسْب، فلو سمع صوته دون أن يراه بعينه فلا يُحكَم بلزوم إبعاد العين عن التلفاز.

2ـ دلالة الروايات الأخرى في موارد، منها:

الأوّل: مضيّ ثلاثين يوماً من الشهر السابق، فهنا يُلتزم بثبوت الهلال في الليلة اللاحقة وإنْ لم يُرَ.

الثاني: لو انكشف آخر الشهر كونه ثمانية وعشرين يوماً، فهنا يُلتزم بثبوت الهلال في الليلة السابقة عليها وإنْ لم يُرَ.

الثالث: وكذا لو رُؤي الهلال كبيراً كبراً فاحشاً، فهنا لا شكّ في الالتزام بثبوت الهلال قبل ذلك.

إنّ هذا يكشف عن كون المدار ليس هو الرؤية بما هي، وبما لها من خصوصيات، بل إنّها مأخوذةٌ مثالاً لكلِّ طريقٍ كاشف عن ثبوت الهلال.

 

الموقف

الصحيح هو الاحتمال الثاني. وأمّا الاحتمال الأوّل فيرد عليه:

1ـ إنّ عنوان الرؤية المأخوذ في الروايات لا يُراد منه التقييد بالمرّة؛ لا تقييد موضوع الحكم بالرؤية، وجعله مركَّباً من جزءين: وجود الهلال؛ والرؤية؛ ولا يُراد منه تقييد الحكم، بل الغرض منه الإرشاد إلى سلوك الطرق التي تُفيد إحراز الهلال، وترك الطرق الوهميّة. والتأكيد على عنوان (الرؤية) في الأحاديث وتكراره لأجل بيان حتميّة الاعتماد على الطرق المعتبرة في نظر العقلاء، في مقابل الظنون.

2ـ ثمّ إنّ وجود ألفاظٍ أكثر صراحةً في التعبير عن إرادة مطلق الطرق الكاشفة عن ثبوت الهلال لم يستعملها الشارع لا ينفي ظهور الرؤية في المدَّعى.

3ـ وكلمات اللغويين من ذكر رؤية الناس للهلال ليس تقييداً له، بل هو تعبير أُضيف بلحاظ الحالة الغالبة وقتذاك، حيث كانوا يتتبَّعون أوائل الشهور، ويهتمُّون بها اهتماماً كبيراً؛ نظراً إلى أسباب معيشية واعتقادية.

وكذا القول بأنّ تسميته بالهلال إنّما كانت لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته؛ فإنّ كون منشأ التسمية ذلك لا يستلزم تقييده، فهذه حيثية تعليلية، وليست تقييدية.

4ـ إنّه لا فرق في نظر العُرْف بين قوله×: «صُمْ لرؤيته، وأفطِرْ لرؤيته»([19]) وبين قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ (الإسراء: 78)، حيث يبني العقلاء على تحقُّق دلوك الشمس الواقعي وطلوع الفجر الواقعي حتّى مع تعذّر الرؤية، كما لو كانت السماء غائمة أو مغبرّة؛ لكونهم يبنون على الواقع الخارجي، ولم يخطر ببالهم ـ ولو احتمالاً ـ أنّ موضوع الصلاة مركّبٌ من تحقُّق الظاهرة الكونية مع إمكان رؤيتها.

وتعبير الروايات بعنوان (الرؤية) إنّما هو لكونها كاشفةً عن وجود الهلال في الواقع الخارجي ـ وهو الهلال الطبيعي ـ؛ فإنّ الهلال لا يمكن الكشف عنه بحاسّة اللمس أو غيرها، نظير: قوله|: «صلُّوا كما رأيتموني أصلّي»([20])؛ إذ لا يُراد منه أخذ الرؤية جزء الموضوع، ولا قيداً في الحكم، بل المراد الإتيان بالصلاة كصلاته|، أي صلُّوا كصلاتي المتحقِّقة في الخارج، والعُرْف هنا لا يهتمّ بعنوان (الرؤية) بالمرّة، ولا يحتمل دخالتها، ولو احتمالاً ضئيلاً.

وما نحن فيه كذلك. ومن هنا نجد أنّ بعض الروايات لم تتحدَّث عن الرؤية، بل نهَتْ عن سلوك الطرق الوَهْمية، كقوله× في حديثٍ: «إنّ شهر رمضان فريضةٌ من فرائض الله، فلا تؤدُّوا بالتظنّي»([21]).

وعدم تيسُّر غير الرؤية في عرف المخاطبين لا تأثير له على تعيين المراد من اللفظ، لا سلباً ولا إيجاباً، كتعارف الاعتماد على الوسائل البدائية وغير الدقيقة في تعيين جهة القبلة سابقاً، في حين توفَّرت لنا اليوم وسائل في منتهى الدقّة؛ لتعيين جهة القبلة، فإنّ هذا لا يغيِّر شيئاً من مفهوم القبلة، وجهتها سعة وضيقاً، ولا يؤثِّر على تحديد المراد بالاستقبال، رغم التفاوت الكبير في النتائج العملية الناجم عن تفاوت وسائل وطرق الكشف عن موضوع الحكم الشرعي من ناحية درجة الدقّة فيها. فثمّة محاريب في مساجد نائيةٍ عن المسجد الحرام مبنيّة على غير اتّجاه القبلة؛ اعتماداً على الوسائل المتاحة آنذاك!

5ـ واتَّضح بذلك عدم صحّة القول بتقييد الحكم بالصوم بالرؤية، لا تقييد الموضوع؛ فإنّ هذا خلاف الظاهر عُرْفاً من الأدلّة.

6ـ إنّ وجود القدر المتيقَّن لا ينفي حجّية الظهور، ولا يُبطل التمسُّك به؛ فإنّ الاقتصار على القدر المتيقَّن إنّما يتعيَّن حين لا يكون لدينا سبيلٌ لتعيين المراد، كموارد الإجمال.

 

اللحاظ الثالث: بناءً على كون عنوان (الرؤية) مأخوذاً على نحو الطريقيّة والمعرِّفية فهل المراد خصوص الطرق الحسّية؟

الاحتمال الأوّل: إرادة الطرق الحسّية خاصّة.

الدليل: إنّه الظاهر من عنوان (الرؤية) في روايات الباب، ولا سيّما مع مقابلتها بالظنّ والرأي، أي في مقابل الطرق الحَدْسية.

وننبِّه على ما يلي:

1ـ إنّ الطرق الحسّية وإنْ كانت فعلاً منحصرة برؤية نور القمر أو جرمه، لكنْ من الممكن أن تُبتَكر طرق حسّية أخرى، كأن تُكتشف وسيلة علمية حديثة تنعكس عليها حركة القمر ومنازله على شكل صور أو رموز أو إشارات أو ذبذبات تُرسل من الأقمار الصناعية أو المحطَّات الفضائية، وكذا العين الإلكترونية، كما هو متحقِّق الآن من استعمال بعض الكاميرات المسمّاة بـ (DCC)؛ فإنّها كاميرات مزوَّدة برقائق كمبيوترية حسّّاسة تجاه النور، وبوصل هذه الكاميرات بالمرصد الفلكي يشرق النور ـ على فرض وجوده ـ بعد مدَّة وجيزة على الرقيقة الكمبيوترية، فتعمل كما تعمل الكاميرات العاديّة، ثمّ بعد إيصالها بالكمبيوتر، وتكرير قراءة المعلومات المسجّلة على الرقيقة الكمبيوترية، تظهر صورة الجسم المضي‏ء من خلال الكمبيوتر على صفحة الكمبيوتر العاكسة.

فإذا فرض أنّ استخدام هذه الآلة يتيح رؤية صورة الهلال على صفحة الكمبيوتر، بتقوية درجة النور، حتّى في صورة تميّز نور الهلال عن نور السماء بأدنى درجة من القوّة، فيكون لرؤية صورة الهلال على صفحة الكمبيوتر باستعمال الكاميرا (DCC) حكم رؤيته بالعين.

2 ـ إنّ الطرق الحَدْسية المعتبرة هي الطرق العلمية المبتنية على أساس المحاسبات الدقيقة فقط، وربما تكون بعض خطواتها حسّية، كما لو تمّ رصد حركة القمر قبل دخوله المحاق بالتِّلِسْكوب، ثمّ إجراء بعض المحاسبات لفترة بقائه في المحاق، أو الاستعانة برصد حركة جرم آخر ملازمٍ لحركة القمر، بل قد تكون كلُّها حسّية، بل ومرئية.

إذن فبناءً على لحاظ (الرؤية) على نحو الطريقية لا محيص حينئذٍ من القول بثبوت الهلال بكلِّ طريقٍ حسّي، ولو بالعين الإلكترونية.

الاحتمال الثاني: إرادة مطلق الطرق الكاشفة عن الهلال، حسّية كانت أو حَدْسية.

الدليل: إنّه المراد من مقابلة (الرؤية) مع (الظنّ) في روايات الباب، أي إرادة الطرق العلمية، حسّية كانت أو حَدْسية، ومنها الحسابات الفلكية؛ فإنّها طرق صحيحة وعقلائية، وفي منتهى الدقّة، في مقابل الطرق غير العلميّة.

 

الموقف

1ـ الصحيح هو الاحتمال الثاني. وأمّا الاحتمال الأوّل فيرد عليه: إنّه ليس المقصود بمقابلة عنوان (الرؤية) مع (الظنّ) ما ذُكِر، بل المقصود أمور أخرى، من قبيل:

الأوّل: تنجُّز التكليف ـ بالصوم أو الإفطار ـ على المكلَّف إذا رأى الهلال، ولو لم يرَه الآخرون.

الثاني: عدم التعويل على الأوهام والتخرُّصات والطرق غير العلمية وغير المعتبرة لدى العقلاء.

الثالث: عدم التعويل على أقوال الفلكيّين، التي لا تخرج عن إحدى الحالات التالية:

الأولى: كونها مبتنية على المحاسبات غير الدقيقة.

الثانية: كونها مبتنية على الوسائل والآلات البدائية.

الثالثة: كونها غير معلومة المنشأ؛ نظراً لاختلاط كلمات الفلكيّين آنذاك مع كلمات الكَهَنة، ومثل هذه الحالة لا يُعوَّل عليها العقلاء، وإنْ كانت ربما أثّرت عليهم من الناحية العاطفية والنفسية.

وعليه فيتمّ القول بثبوت الهلال تعويلاً على الحسابات الفلكية العلميّة؛ فإنّها طرقٌ صحيحة وعقلائية، وفي منتهى الدقّة، بخلاف الرؤية بالعين المجرَّدة، التي ما أكثر وقوع الاشتباه فيها.

2ـ إنّ الطرق العلمية الحديثة هي طرق قطعيّة، أو مفيدة للاطمئنان على الأقلّ. وأوضح دليل على ذلك ما يقدِّمه علم الفلك من معطيات في موارد تحديد ظاهرتي الخسوف والكسوف، من ناحية تحديد زمانهما، وموقع رؤيتهما من الأرض، وكونهما كلِّيّين أو جزئيّين، ومدّة بقائهما وانجلائهما، وغير ذلك. ولم نرَ وقوع أيّ خطأ في مثل هذه الموارد.

أجل، قد يُثار بحثٌ صغروي حول مدى الاطمئنان بهذه المعطيات جميعاً، إلاّ أنّه إنْ كان في الأزمنة السابقة مجالٌ للتشكيك في ذلك فلا مجال لهذه التشكيكات اليوم، بعد أن قطع العلم أشواطاً كبيرة. ولو فُرض تحقّق الشكّ في بعض الحالات الطارئة، كمرور نجمٍ، قد يُؤثِّر على حركة القمر فهنا نُسلِّم باستثناء هذا المورد الخاصّ، فلا يُعوَّل على تلك الطرق الحَدْسية حينئذٍ، لكنّ هذا مجرَّد فرضيّة ذهنية لا أكثر.

3ـ ومن الجدير بالذكر أنّ ثمّة برامج كمبيوترية دقيقة أُعدَّت من قِبَل بعض المختصّين تستطيع أن تعيِّن وضع الهلال، ودرجة تنوُّره، في أيّ نقطةٍ من العالَم، وفي أيّ وقت كان، سواءٌ في الحال أو الاستقبال أو الماضي.

4 ـ وممّا تقدَّم يتّضح أنّه لا يصحّ الالتزام بمعطيات علم الفلك في جانب النفي، لا في جانب الإثبات، كما اختاره بعض الفقهاء؛ فإنّنا إمّا أن نعتقد باعتبارها مطلقاً، أو بعدم اعتبارها كذلك، ولا وجه للفرق بين حالتي النفي والإثبات، مع أنّ الالتزام بها في النفي مبتنٍ على كونها تفيد القطع أو الاطمئنان.

5ـ لا يُتوهَّم من ذلك أنّ القول بمشروعية التعويل على قول علماء الفلك في ثبوت الهلال يستلزم القول بثبوت الهلال بمجرَّد خروجه من المحاق، وإنْ لم يتنوَّر بعدُ؛ إذ لا ملازمة بين الأمرين؛ لأنّ الحسابات الفلكية تقدِّم لنا تعيين كلا الأمرين: أي لحظة خروج القمر من المحاق؛ وأيضاً لحظة تنوُّره. وعلى الفقيه تعيين موضوع الحكم الشرعي، هل هو الأوّل أو الثاني؟

وكذا لا يتأتّى هذا التوهُّم أيضاً بالنسبة إلى القول بإمكانية التعويل على الرؤية بالعين الإلكترونية ونحوها من الطرق الحسّية؛ لعين ما ذكرناه توّاً.

البحث في ضوء الأدلّة والقواعد العامّة

الإثارة الأولى: إنّ موضوعات الأحكام الشرعيّة يمكن ثبوتاً أن تكون لها إحدى حالات ثلاث:

الأولى: أن تكون موضوعات اعتبارية عرفية، كالغنى المأخوذ موضوعاً لبعض الأحكام، كوجوب زكاة الفطرة عليه. وهنا لا بدّ من مراجعة العُرْف لتحديده، وتشخيص ثبوته وانتفائه.

الثانية: أن تكون موضوعات اعتبارية شرعيّة، كالنَّسَب المأخوذ موضوعاً لحرمة النكاح مثلاً. وهنا لا بدّ من مراجعة الشارع لتحديد ثبوته وانتفائه، نحو: ثبوت البنوّة بإقرار الأب، وانتفائها باللِّعان.

الثالثة: أن تكون موضوعات تكوينيّة خارجيّة، كصفتَيْ الذكورة والأنوثة، اللتين يترتّب عليهما بعض الأحكام، كالتفاوت في حصص الإرث، أو لزوم التستُّر.

فلو شككنا في موضوعٍ ما هل هو من القسم الثاني أو لا؟ فإنّ الأصل يقتضي عدم كونه منه؛ لأنّه شكٌّ في الجعل والتشريع، والأصل عدمه، إلاّ إذا دلّ الدليل الخاصّ على ذلك.

وفي ما نحن فيه لو شككنا هل الهلال موضوعٌ شرعيّ أم لا؟

فإنّه؛ بحسب مقتضى القاعدة، لا يكون كذلك، بل هو موضوعٌ خارجيّ تكويني.

الإثارة الثانية: إنّ طرق إثبات موضوعات الأحكام الشرعية ثبوتاً لها حالتان:

الأولى: وجود طرق خاصّة محدَّدة من قِبَل الشارع.

الثانية: عدم تصدّي الشارع لتحديد طرق خاصّة لإثبات موضوعات الأحكام.

فلو شككنا في كون الشارع قد حدَّد طرقاً خاصّة أو لا فالأصل يقتضي العدم، إلاّ إذا دلّ دليلٌ خاصّ على اعتبار طرق خاصّة أو عدم اعتبارها. وفي ما نحن فيه لو شككنا في وجود طرقٍ شرعيّة خاصّة لإثبات الهلال فيُحكَم بانتفائها.

أجل، دلَّتْ بعض الأدلّة على عدم اعتبار بعض الطرق غير المباشرة، كشهادة النساء. وهنا نقتصر في الاستثناء على هذا المقدار لا أكثر، نظير: إبطال الشارع للمعاملة الربويّة، حيث يُقتصَر في إبطال المعاملات على هذا المقدار فقط، وأمّا الباقي فالأصل يقتضي الحكم بالصحة.

إذن فعدم قبول بعض الطرق ـ كشهادة النساء ـ، لو سلِّم، فهو لا يُثبِت أنّ للشارع نظراً خاصّاً لثبوت الهلال.

وأمّا ما دلّ على اعتبار حكم الحاكم ضمن الطرق غير المباشرة فهو لا يدلّ على جعل طريقٍ خاصّ؛ وذلك:

1ـ لأنّ حكم الحاكم ليس بأقلّ كاشفيّة من خبر الواحد، أو البيّنة.

2ـ ليس حكم الحاكم في عَرْض تلك الطرق، بل هو في طولها؛ فإنّ عدّ حكم الحاكم ضمن الطرق لبيان جانب الإلزام فيه للمكلَّفين، كسائر أحكامه الولائية، وإنْ اشتمل في هذا المورد على كاشفيّة عن الواقع.

الإثارة الثالثة: إنّ وظيفة الشارع من حيث هو شارعٌ هو جعل الأحكام وتشريعها، ولا شأن له بالموضوعات، ولا بكيفيّة تحقُّقها، ولا بكيفيّة وصول المكلَّف إليها، ولا بطرق إثباتها، إلاّ في الحالات الاستثنائية، من قبيل:

1ـ التصدّي لإدارة المجتمع، والإشراف على حركته، فهنا لا مانع من تصدّيه لشيءٍ ممّا تقدَّم، ووضع بعض التحديدات.

2ـ أن يتعلَّق غرضه بها، كما نجده في باب القضاء، وهي كما ترى مسألة عملية.

3ـ أن يتحفَّظ الشارع ويخشى فوات أحكامه، كما في رفضه التعويل على إخبار الكافر، وإنْ كان ثقةً، في المسائل التي يُحتمَل خيانته فيها.

وأمّا ما ورد من بيان بعض الطرق، وردّ أخرى، فهو من باب الإرشاد إلى اعتماد الطرق المفيدة والعقلائية، والتنبيه من سلوك الطرق غير العقلائية.

إذن فالديدن العامّ للشارع هو هذا. ومنه ما نحن فيه من مسألة الهلال؛ إذ لا فرق بين طرق ثبوت الطهارة والنجاسة وثبوت التذكية وغيرها.

الإثارة الرابعة: في ضوء ما تقدَّم يمكن تحديد الموقف تجاه مسألة اتّحاد وتعدُّد الأفق؛ باعتبار أنّ ولادة الهلال ظاهرة طبيعية، لا تختلف بحسب الموقع الجغرافي لبلد الرؤية، ولا تتعدّد بتعدُّد الآفاق، فلو ثبت الهلال في بلدٍ ثبت في سائر البلدان، ويكون الهلال هلالاً للناس أجمعين، ولكافّة أهل الأرض، لكنْ مع مراعاة بعض النكات، من قبيل:

1ـ لو فُرض أنّه وُلد الهلال ليلاً، ورُئي أوّل ولادته في بلدٍ ما ليلة الجمعة، فيثبت أنّ الجمعة هو أوّل يومٍ من الشهر الجديد لكلّ أقطار الأرض. ولكنّ مبدأ الحساب قد يختلف، فبالنسبة إلى هذا النصف من الأرض، الذي فيه بلد الرؤية، وهو النصف المُعتِم الذي أخذ يصير بالتدريج مُنيراً بدءاً بالنقطة المقابلة لبلد الرؤية، فتحسب الليلة الأولى في كافّة البلدان الواقعة غرب بلد الرؤية والمشتركة بالليل معه، والتي يبدأ نهارها تدريجاً، وعندها يحسب يوم الجمعة أوّل الشهر.

وأمّا بالنسبة إلى النصف الثاني المُنير، الذي أخذ يصير مُعتِماً بالتدريج، والذي يقع غرب بلد الرؤية، فهذا ينقسم إلى قسمين تقريبيين غير متساويين:

الأوّل: القسم الذي يشترك مع بلد الرؤية بجزءٍ من الليل ـ وهو الجزء الأعظم ـ، فجميع البلدان الواقعة فيه يحسب فيها ليلتها أوّل ليلة من الشهر. فحالها حال البلدان الواقعة غرب بلد الرؤية.

الثاني: القسم الذي لا يشترك مع بلد الرؤية بجزءٍ من الليل ـ وهو الجزء الأقلّ ـ، فيحسب الليلة القادمة هي أوّل الشهر فيه، وإنْ كان سوف يُرى الهلال فيها كبيراً؛ لمضيّ ساعات عديدة على ولادته.

2ـ إنّ البلدان المشتركة في الليل مع بلد الرؤية ليست ثابتةً، بل هي متغيِّرة، وتختلف بحسب فصول السنة؛ ففي الصيف؛ نظراً لطول الليل، تكون المناطق المشتركة في الليل أكثر، وأمّا في الشتاء؛ حيث يكون الليل قصيراً، تكون المناطق المشتركة في الليل أقلّ.

 

نتائج البحث

1ـ إنّ المأخوذَ موضوعاً للأحكام الشرعية هو موضوعٌ خارجيٌّ تكوينيٌّ، وليس اعتباريّاً، وهو الهلال المصطلح لدى العُرْف، أي خروج القمر من حالة المحاق وتنوُّره بضوء الشمس بعد ظلمته.

2ـ إنّ المراد برؤية الهلال في الروايات مطلق الرؤية، بما لها من مفهوم عُرْفي، وهو إدراك صورة الشيء بحاسّة البصر، من دون أيّ فرق بين تحقُّق الرؤية بالعين المجرَّدة أو بالمراصد. وعليه فلا بدّ من الالتزام بثبوت الهلال حتّى مع الجمود على لفظ (الرؤية) الوارد في النصوص. وهذا هو الحدُّ الأدنى من مدلول الأدلّة الشرعية.

3ـ إنّ الرؤية قد أُخذت في الأدلّة على نحو الطريقيّة والمعرِّفية، لا الموضوعية، فيكفي أيُّ طريقٍ حسّي كاشفٍ عن تحقُّق ولادة الهلال وتنوُّره، ولو كان بالعين الإلكترونية.

4ـ إنّ الطريقيّة ملحوظة مطلقاً، لا خصوص الطرق الحسّيّة، فالطرق الحسّيّة والحدسية والملفَّقة منهما كلُّها محرِزة للموضوع. وعليه فلا مناص من الالتزام بثبوت الهلال اعتماداً على الحسابات الفلكيّة.

5ـ لا يُشترط اتّحاد بلد الرؤية في ثبوت الشهر، بل يثبت الهلال لجميع أقطار الأرض، إسلامية كانت أو غير إسلامية.

 

الخاتمة

1ـ يتّضح ممّا تقدّم أنّ هذه التعدُّدية في المباني، وتكثُّر الفتاوى، يعود إلى أسبابٍ عميقة ودقيقة. وهذا ما يدعو إلى احترام جميع وجهات النظر تلك، ما دامت مستندة إلى مبرِّرات منهجية وشرعية. هذا على الصعيد البحثي النظري، وداخل الأروقة الفقهية والعلمية.

بيد أنّ الحالة التي يعيشها المسلمون في كيفيّة التعامل مع هذه القضية الشرعية خارجاً يصعب تبريرها على أساس التعدُّدية في الاجتهاد. وهذا ما لا يكاد يقنع الجمهور المسلم، ولا يشبع الوجدان الرسالي، ولم يقطع سيل التساؤلات المتداعية في ذهن المثقَّف الواعي، ولم يكن المؤمنون ليخفُوا قلقهم وعدم ارتياحهم هذا.

فأبناء الأمّة الإسلامية يرَوْن أنّ ولادة الهلال أمرٌ طبيعيّ ثابتٌ في الواقع، وليس أمراً يختلف حسب الأنظار والاعتبارات، وقابلٌ للضبط والتحديد بحسب الحسابات الفلكيّة. وأيضاً يمكن أن تحدَّد إمكانية رؤيته وعدمها فلكيّاً، وكذلك الوقت الذي يخرج فيه القمر من حالة المحاق على وجه الدقّة. وكذا يمكن تحديد النقطة الجغرافية التي يمكن للناظر أن يرى الهلال منها.

وإذا كان الأمر قابلاً للتشخيص إذن فالاختلاف حينئذٍ يصعب تحمُّله من قِبَل أبناء الأمّة، وتبريره، ولا سيّما أنّ الشريعة لم تتصرَّف في مفهوم الشهر أو الهلال، بل هي ناظرةٌ إلى نفس المفهوم المتعارف لدى الناس.

ولابدّ من أن يُحسَب لهذه المسألة ألف حساب؛ فإنّ وجود مثل هذه الحالة قد تخفِّض من مستوى الحماس الديني.

2ـ إنّ التطوُّر العلمي في مجال الرصد والفلك يتحرَّك بسرعةٍ من ناحية الآليات المستخدمة للرؤية. فالتِّلِسْكوب الحديث فيه من القابليّة الكبرى والقدرة الهائلة بحيث يمكن رصد الأجرام النائية التي هي في غاية البُعْد، ولا سيّما بعد القفزات الكبيرة التي حدثت في كيفيّة الحساب الفلكي. كلّ ذلك يثير تساؤلاً عن مدى إمكانية الإفادة من هذه المعطيات العلمية، وتوظيف التقنية الحديثة؛ لحلّ هذا المعضل الشرعي، مع أنّ القمر من الأجرام القريبة جدّاً إلى الأرض، ولا توجد مشكلة حقيقية في تشخيص موقع هذا الجرم السماوي علميّاً، فلماذا كلّ هذه الحيرة المتكرِّرة أمام هذه الظاهرة الكونية وتحديدها؟!

وفي هذا الصدد أشيد بالتدابير المهمّة التي اتّخذها الحريصون على الإسلام والمسلمين. كما أودّ أن أنوِّه بالخطوات الجادّة التي قامت بها الجمهورية الإسلامية في تشكيل عشرات من فرق الرصد المزوَّدة بأحدث الأجهزة والطائرات؛ لضبط مسألة الهلال داخل إيران وخارجها.

3ـ لا مجال لإقحام عنصر الاختلاف المذهبي لتبرير تعدُّد المواقف تجاه مسألة ثبوت الهلال؛ لكون المسألة تعود إلى أدلّة مسلَّمة بين المذاهب كافّة، ألا وهي القرآن؛ والحديث النبويّ المعروف في الهلال.

4ـ كما لا يصحّ جعل المسألة تدور مدار مدى المنهج الاجتهاد المتبنَّى؛ فبناءً على المسلك النصوصي ينحصر ثبوت الهلال بالرؤية بالعين المجرَّدة؛ وبناءً على اجتهاد الرأي لا تنحصر الطرق بالرؤية بالعين المجرَّدة، وحينئذٍ يمكن التعدّي إلى الحسابات الفلكيّة؛ وذلك لأنّ المسألة تدور مدار كيفيّة فهم النصّ، كما تقدَّم.

5ـ إنّه ممّا لا يكاد يخفى على مسلمٍ مدى الحرص الكبير الذي تحمله الشريعة الغرّاء تجاه قضية وحدة الصفّ الإسلامي، وضرورة انسجامه، ولا سيّما في إطار ممارسة الشعائر الأساسية التي تهدف إلى توحيد الأمّة في ممارسة عبادية موحَّدة، وفي حركة متناسقة، كشعيرة الحجّ أو مراسم العيدين، فكيف يمكن قبول حالة التفكُّك والتبعثر والتشويش التي تصاب بها الأمّة؛ نتيجة للتخبُّط والاضطراب في تحديد الأهلّة، وما ينجم عن ذلك من آثارٍ وخيمة، ذات انعكاسات عملية وأيديولوجية واجتماعية، تؤدّي إلى إضعاف المجتمع الإسلامي من داخله، وكذلك تضعف موقفه تجاه سائر المذاهب والأديان الأخرى.

ألا يستحق هذا الأمر اتّخاذ التدابير المناسبة، بحيث يتحاشى الفتن والأخطار، ويتمّ توظيف هذه الظاهرة لما يكرِّس حالة التكاتف والتلاحم بين أبناء الأمّة، ويزيد في عظمتها وقوّتها أمام الآخرين؟!

والكلمة التي نقولها في صدد التساؤلين الأوّل والثاني أنّه من خلال عقد الندوات وإقامة المؤتمرات العلميّة، وعن طريق التواصل بين الفقهاء وعلماء الفلك، يمكن التغلّب على نسبةٍ كبيرة من العقبات والعقد المستعصية.

وأمّا التساؤل الأخير فإنّ الحلّ المتيسِّر بأيدينا يتمثَّل بتفعيل أحد المباني الفقهية المشهورة، وهو القول بثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي؛ فإنّ الحاكم في مثل هذه الحالات يستطيع التصدّي الحاسم، فيقول كلمة الفصل، وبذلك ينغلق باب الفتنة والاختلاف والتشرذم.

6ـ وتجدر الإشارة إلى أنّه لا بدّ من العمل على توعية المكلَّفين، وضرورة تثقيفهم شرعيّاً وعلميّاً، وإحاطتهم بحيثيّات هذا الموضوع الهامّ، وأيضاً ترغيبهم بمختلف الأساليب في إحياء سنّة الاستهلال.

﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران: 8)، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله. والحمد لله أوّلاً وآخراً.

الهوامش:

(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلمية، ورئيس تحرير مجلّة فقه أهل البيت^، من العراق.

([1]) صحيح البخاري 2: 229؛ صحيح مسلم 3: 124؛ مسند أحمد بن حنبل 2: 422.

([2]) انظر: العجيري، دورة الهلال: 25، وما بعدها.

([3]) انظر: اليزدي، العروة الوثقى 3: 628، وما بعدها.

([4]) انظر: الخوئي، منهاج الصالحين 1: 278، وما بعدها.

([5]) انظر: محمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 1: 346، وما بعدها.

([6]) انظر: الفيّاض، منهاج الصالحين 1: 417، وما بعدها.

([7]) انظر: الصدر، الفتاوى الواضحة: 501، وما بعدها.

([8]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 10: 252، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1، وانظر: 254، ح7.

([9]) انظر: الشيخ محمد جواد اللنكراني، مقال (اعتبار الأجهزة الحديثة في رؤية الهلال).

([10]) المصدر السابق؛ حيث جعل ذلك خير شاهدٍ علی صحّة هذا الاحتمال.

([11]) صحيح البخاري 2: ؛ صحيح مسلم 3: 124؛ مسند أحمد بن حنبل 2: 422.

([12]) صحيح البخاري 2: 229؛ صحيح مسلم 3: 122؛ مسند أحمد بن حنبل 2: 63.

([13]) وسائل الشيعة 10: 252، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.

([14]) وسائل الشيعة 10: 253، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح6.

([15]) وسائل الشيعة 10: 255، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح11.

([16]) وسائل الشيعة 10: 252، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح1، وانظر: 254، ح7.

([17]) وسائل الشيعة 10: 256، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح16.

أقول: إنّه يتّضح لكلّ مَنْ يُلاحظ الأحاديث المنقولة عن أئمّة أهل البيت^ أنّها متَّحدة مع المنقول عن النبيّ|، وليست هي أحاديث أخری من حيث المضمون، مع التنبيه علی أمرَيْن، وهما:

الأوّل: ثمّة بعض الاختلافات اليسيرة في بعض الألفاظ.

الثاني: نفي الطرق غير العلمية.

وعليه يتّضح أنّه لا ضرورة لحصر البحث في الإطار المذهبي، بل يمكن طرح البحث في أفق أرحب ينسجم مع كافّة المذاهب الإسلامية؛ نظراً لوفاء النصّ القرآني والحديث النبويّ بعملية الاستدلال.

([18]) لسان العرب 11: 702.

([19]) وسائل الشيعة 10: 255، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح11.

([20]) الإحسائي، عوالي اللآلي 1: 198، ح8، وانظر: 3: 85، ح76؛ مسند الشافعي: 55؛ البيهقي، السنن الكبرى 2: 345.

([21]) وسائل الشيعة 10: 256، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح16.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً