قراءة تطبيقية في النصّ القرآني
المدخل ـــــــ
أثر تقدّم العلوم التجريبيّة السّريع والمذهل، ووصول الإنسان المعاصر للاكتشافات العلميّة فيما يتعلّق بالكون والعالم، على مجمل الحياة الإنسانيّة ومختلف الوجوه فيها، برزت ـ نتيجةً لذلك ـ أمام العلماء مختلف الأسئلة حول الخالق والعالم والإنسان والدين وما إلى ذلك؛ فهل تنسجم القوانين والفرضيات العلمية الحديثة في خصوص كيفيّة تكوّن الأجرام السماويّة، وظهور الكائنات الحيّة ـ ومنها الإنسان ـ وتكاملها، وحركة الأرض والكواكب والمجرّات، ودورة المياه، ومئات الأسئلة الأخرى.. مع ما جاء بشأن هذه الأمور في الكتب السماويّة أم لا؟ وعلى فرض عدم انسجام المعطيات العلمية الحديثة مع ما جاء في الكتب السّماوية، فما هو موقف المؤمنين والمعتقدين بهذه الكتب السماويّة؟
إنّ عدم الانسجام بين العلوم الحديثة والكتب السماويّة، والذي أطلقَ عليهِ مُصطلح (تعارض العلم والدّين)، هل يستلزم عدم إيمان الباحثين في حقل العلوم التجريبيّة بما جاء في الكتب السماويّة من جهة؟ وهل يستلزم معارضة المعتقدين والمؤمنين بالكتب السماويّة لمعطيات العلوم الحديثة من جهة أخرى؟ أم أنّ هناك طريقاً آخرَ يمكن من خلاله الاعتقاد بما جاء في الكتب السماويّة، ومعطيات العلوم الحديثة في آنٍ واحدٍ؟
وهذا النوع من الأسئلة كما يتوجّه إلى الكتب السماوية عند اليهود والنصارى، أي التوراة والإنجيل، كذلك يتجه إلى كتابنا نحن المسلمين أي القرآن الكريم أيضاً، ويُعدّ البحث في هذه الموضوعات لغرض العثور على الجواب المناسب عنها في إطار تنوير أذهان المؤمنين والذين ينشدون الحقيقة، خاصّة بين جيل الشباب في الحوزة والجامعة، من الواجبات الأكيدة للغاية.
وقد سعى كاتب هذه المقالة ـ بعرضه رؤية جديدة قائمة على التفكيك البياني بين لغة القرآن ولغة العلم بأسلوبٍ علمي مستدل ومحكم ـ إلى تذليل الطريق أمام المحقّقين، بحيث لا يجد سالكوه أي تعارضٍ بين العلم والدين من الأساس. وتبيّنُ هذه الرؤية أن طرح مسألة التعارض بين العلم الحديث ومضامين الكتب السماويّة كان مغلوطاً منذ البداية، وفاقداً للأسس العلميّة والمنطقيّة الدقيقة والصحيحة.
طبقاً لهذه الرؤية، سيغدو من الممكن النظر إلى معطيات العلوم الحديثة باحترام، والإيمان بمضامين الكتب السماويّة في الوقت نفسه، ونتيجةً لذلك لا يعني الاعتقاد بالكتب السماويّة الوقوفَ بوجه العلم ومخالفته، كما أنّ الإقبال على دراسة مختلف فروع العلوم والوصول إلى النتائج العلميّة، لا يعني الإلحاد وإنكار الكتب السماوية والإعراض عنها.
1- القرآن: الغاية، الرسالة، والهدف الرئيس ــــــــ
التدبّر والتحليل والاستنطاق من أنسب الطرق وأكثرها دقّة للتعرّف على الهدف الأساس والغاية النهائية من كل نتاج إنسانيّ أو سماوي؛ من هنا يتمّ التعرف على المقصد والغاية النهائيّة للقرآن الكريم على أحسن وجهٍ من خلال دراسته والتدبّر والتمعّن فيه بدقة، مما سيوفر على الباحث عناء ولوج الطرق الأخرى، خاصّة ما كان منها يعتمد الآراء الشخصية والتخمينات الحدسيّة والذوقيّة.
لقد صرّحت كثيرٌ من الآيات بأنّ الهدف والغاية االنهائية لهذا الكتاب السّماوي، تكمن في هداية الناس إلى الصراط الإلهيّ المستقيم، وبلوغ قمّة الكمال الإنساني، ومرتبة القرب إلى الله تعالى، ونيل السعادة في الدّنيا والآخرة بوصفها نتيجةً لذلك. إنّ ما تهدف إليه آيات القرآن الكريم كلّها بوصفه غاية مطمحها، ليس سوى هداية الناس إلى الهدف الأسمى من الخلق، وما تقتضيه الفطرة الإنسانيّة من الصعود إلى قمم الكمال الإنساني في ضوء الإيمان والعمل الصالح.
ويضاف إلى تصريح القرآن الكريم بهذا الهدف، أنّه مقتضى البرهان العقلي القائم على ضرورة نزول الكتب السماويّة، وبعث الرسل الربانيين من قبل الله سبحانه تعالى أيضاً. ومن الآيات التي تعرّضت للهدف والغاية الأساسيّة من نزول القرآن الكريم، قوله تعالى: {شهرُ رمضانَ الذي اُنزلَ فيهِ القرآنُ هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان} (البقرة: 185)، {هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظة للمتقين} (آل عمران: 138)، {قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأحقاف: 30)، {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9)، {طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (*) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} (النمل: 1ـ 2). وهكذا صرّحت الآيات: (البقرة: 2، 97؛ والأنعام: 157؛ والأعراف: 203؛ ويونس: 57؛ والنحل: 89؛ ولقمان: 3)، وعددٌ آخرُ من آيات القرآن الكريم، بأنّه كتاب هدايةٍ وبشارة.
ويجدر بنا التأكيد على أنّ الآيات المتقدّمة عرّفت القرآن بأنه كتاب هداية، وعليه لا ينبغي جعل هذا الهدف مختصّاً ببعض آيات القرآن، وتخصيصُ باقي الآيات القرآنيّة بأهداف أخرى غير الهداية. فكما أنّ هداية الناس إلى صراط الله المستقيم ودفعهم نحو قلل السعادة والكمال هي الغاية الأساس والهدف الحصري للقرآن الكريم، فإنّ هذا الهدف جارٍ كذلك وسارٍ بالنسبة لسائر الكتب السماوية الأخرى أيضاً؛ فمثلاً نجد أنّ الآيات: (المائدة: 44، 46؛ والأنعام: 91، 154؛ والإسراء: 2) وغيرها يؤكّد أن الكتب السّماويّة الأخرى ـ كالإنجيل والتوراة ـ إنما أنزلت لغاية هداية الناس إلى الصراط الإلهي المستقيم، وبلوغهم قمم السعادة والكمال.
2- هل أعدّ القرآن خطة محددة للهداية؟ ــــــــ
لمّا كان الوصول إلى ما يرمي إليه القرآن هدفاً له (الهداية)، مستلزماً لوضع خطة عملية تضمن للإنسان ـ فيما لو التزم بها ـ تحصيل ذلك الهدف، فقد عمد القرآن الكريم إلى إنجاز هذه الخطة لهداية الناس، وإيصالهم إلى ذلك الهدف من خلال قالبٍ جامع يضمن تلبية جميع حاجاتهم الفطرية وبما يتناسب والإمكانات التي أتيحت لهم من قبل الله تعالى.
وقد أخذت هذه الخطة جميع الأبعاد الوجودية للإنسان بنظر الاعتبار، وتمّ تجنب أيّ نوعٍ من الإفراط والتفريط الناتج عن عدم المعرفة الدقيقة بتركيبة الإنسان الأنطولوجية، أو عدم الالتفات إلى بُعدٍ من أبعاد وجوده.
إنّ الخطة الجامعة والكاملة للقرآن والتي صبّ أمر هداية الناس في قالبها، تتضمّن ثلاثة أقسام عامّة على النحو الآتي:
أ ـ بيان أصول العقائد الإسلاميّة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وما يتفرّع منها، من قبيل: اللوح، والقلم، والقضاء والقدر، والملائكة، والعرش، والكرسيّ، وخلق السماوات والأرض، وما شابه ذلك. وقد تكفل الجزء الأعظم من آيات القرآن الكريم ببيان هذه الأصول، ودعوة وترغيب الناس إلى التعرّف عليها بدقة، وتحذيرهم من مغبّة عدم الاعتقاد بها وما يتفرع على ذلك من العواقب السيئة.
ب ـ بيان أسس الأخلاق الحميدة والصّفات الحسنة التي تتلاءم مع الأصول الثلاثة المتقدمة، والتي يجب توفرها في الإنسان المؤمن وصاحب البصيرة.
ج ـ وضع القوانين العمليّة والأحكام الشرعيّة التي تضمن السعادة الحقيقيّة، وتنمّي الأخلاق الحسنة، وفوق ذلك تكون سبباً في ارتقاء ونموّ العقائد الحقة والأصول الأوّليّة([1]).
إنّ هذه الأقسام الثلاثة المتقدّمة التي تشتمل على جميع آيات القرآن الكريم، مشفوعة بتفسيرها من قبل النبي الأكرم’ والأئمة المعصومين^ حيث أمروا بذلك من قبل الله عزوجل، قد خلقت رؤية كونيّة نظريّة جامعة ومنسجمة مع خطة عمليّة تضمن سعادة الإنسان في حياته الفرديّة والاجتماعيّة، وتلبّي جميع حاجاته الأساسيّة الفكريّة والعمليّة من المهد إلى اللحد. وفي ضوء هذه الرؤية الكونية تمّ توضيح المبدأ والغاية بشكل كامل، وعرّف الإنسان بوصفه قطب الوجود ومنحته هويّة فذة، وأخذت جميع أفعاله وأقواله تسير في إطار القوانين والأحكام والإرشادات الأخلاقية والاجتماعية على طريق رشده وتساميه، ومن خلال ذلك يتحقق هدف القرآن النهائي المتمثل بهداية الإنسان إلى قمم السعادة والكمال في ضوء الإيمان والعمل الصالح.
3- تنوّعُ الأهداف يُنتج تنوّعَ الأساليب البيانيّة والخطابيّة، نظرية التحليل البياني ــــــــ
لو أضيفت حقيقة أنّ توظيف نوعٍ من البيان في أيّ مجالٍ تابعٌ للأهداف والمقاصد المعلنة في ذلك المجال، إلى ما قلناه حتى هذه اللحظة بشأن غاية القرآن النهائيّة، والطرق العمليّة والنظريّة لبلوغها، يمكن الاطمئنان إلى حصول النتيجة المتوخّاة من هذه المقالة؛ إذ إنّ تنوّع الأهداف والمقاصد المطلوبة وما تنشده مختلف المجالات يستدعي تنوّع الأساليب البيانيّة التي تختلف من ناحية الخصائص، وصلاحيات التوظيف والنتائج التي يراد الوصول إليها منها. فكما تختلف نوعيّات الأهداف المطلوبة في المجالات الدينيّة والعلمية والفلسفيّة والعرفانيّة والفنيّّة وما إلى ذلك، هناك اختلاف على الصعيد ذاته في مجال البيان ومساحة العمل ومعطياتها والنتائج الحاصلة منها بشكلٍ كامل. وعلينا أن نلتفت إلى أنّ توظيف نوعٍ من البيان يرتبط بالغاية التي نريدها، والهدف الذي نرومه ونتوخاه من ذلك البيان.
«بما أنّ البيانات المختلفة تتضمّن مختلف المشارب الفنيّة والأخلاقيّة والدينية والعلميّة، فعلى مختلف الحقول أن تسلك الطريق الذي يتناسب وأهدافها ومقاصدها»([2])؛ فبلوغ مقاصد الدين يستدعي استعمال لغته الخاصّة به، والتي يُعبّر عنها بـ (لغة الدين)، وهذه اللغة لا تضطلع إلا ببيان الأهداف الدينيّة. كما أنّ لغة العلم ولغة الفلسفة ولغة الفن وغيرها، بما أنها تهدف إلى غاياتٍ تخصّها، فهي لا تضطلع إلا بمقاصد العلم والفلسفة والفن فقط. وكما أنّ اللغة الفنيّة لا تنتج موضوعاً فلسفيّاً، وليس هناك من يتوقع منها ذلك، فإن اللغة الدينيّة لا تؤدّي المقاصد العلميّة، ولغة العلم وإن أمكنها الاشتمال على فحوى الدين، وإيصال الناس ـ بالتبع ـ إلى إدراكٍ أفضل وأكثر حسيّة لبعض المقاصد الدينيّة، إلا أنها لا تقوى أبداً على الاضطلاع ببيان الأهداف الدينيّة بشكل مباشر، ولا يمكنها الحلول في موضع اللغة الدينية، وأن تكون ناطقة باسم الدين([3]).
إنّ نظريّة التحليل البياني التي تدعو إلى استعمال بياناتٍ مختلفة للوصول إلى مقاصدها وغاياتها، وإن كانت ـ بناءً على مقولة بعض الباحثين ـ قد تبلورت على يد فلاسفة الغرب في القرن العشرين، لكن يبدو أنها كانت موضع اهتمام العلماء في مختلف الفروع منذ القدم. من هنا كان الفلاسفة يستعملون نمطاً بيانيّاً خاصّاً لإفادة مقاصدهم، فيما يستعمل الفقهاء نمطاً مغايراً لنمط الفلاسفة، كما يستعمل العرفاء بدورهم أسلوباً آخر مغايراً لأسلوب الفقهاء والفلاسفة بغية إيصال أهدافهم إلى مخاطبيهم. وفي الفقه الإسلامي وبين فقهائنا العظام إنما عُدّ التمسّك بالروايات واستنباط الأحكام الشرعيّة منها مجازاً، بسبب افتراضٍ سابق على اعتبار اللغة المستعملة في الروايات لغة عرفيّة؛ فاللغة العرفيّة عبارة عن تلك اللغة التي يتمّ فيها التفهيم والتفاهم في حدود فهم أهل العرف، فلا يجاز استعمال المصطلحات الفلسفية في التخاطب العرفي؛ لعدم تمكّن أهل العرف من فهمها واستيعابها.
4- ما هي اللغة الــتي استعملها القرآن لبلوغ أهدافه؟ ـــــــ
بعد أن عرفنا غاية القرآن الكريم وهدفه الأساس من جهة، وعرفنا أنّ المقاصد المختلفة تستدعي توظيف أساليب بيانيّة مختلفة من جهة أخرى، نضع أمامنا نتيجة مهمّة في خصوص الأسلوب البياني لهذا الكتاب السّماوي؛ فالقرآن يسير بلغته في جميع آياته بالأصالة وبشكل مباشر نحو ذلك الهدف الأساس، وبشكل يتناسب ونوع التعاليم التي يتوخاها. إنّ هذا الأسلوب البياني الخاص المتبع في جميع آيات القرآن، والذي يهدفُ إلى تعليم أسس الإيمان والأخلاق الفاضلة وتشريع القوانين التي تضمن سعادة الإنسان في حياته للوصول إلى التكامل، يساعد الباحث والمفكّر على التوصّل للهدف السّامي من الخلق والوصول إليه من آيات القرآن الكريم، والسير على نهجه. وإنما يجوز التمسّك والاستفادة من لغة القرآن في هذا المقصد فقط، وأي استفادةٍ أخرى لإثبات أهدافٍ أجنبيّة عن مقاصد القرآن وغاياته الأساسية يظلّ محظوراً؛ لأدائه إلى الانحراف وفرض الآراء الشخصيّة على القرآن الكريم.
ولو قسّمنا الآيات القرآنية ـ على أساس المحتوى ـ إلى المجموعتين الآتيتين، لا يحدث في البين أيّ تغيير في واقع الحقيقة المتقدّمة:
أ ـ الآيات التي تعرّضت بشكلٍ مباشرٍ لبيان لقضايا أصول الإيمان والأخلاق والقوانين الفرديّة والاجتماعيّة وما إلى ذلك. ويمكن مشاهدة هذه المجموعة من الآيات التي تشكّل الجزء الأعظم من القرآن الكريم بوضوح.
ب ـ الآيات التي لم تتعرّض بشكلٍ مباشرٍ لهذه القضايا المتقدّمة، إلا أنها تعرّضت إلى أمورٍ أخرى بشكل إجمالي تلفت الأذهان إلى تلك الأسس والتعاليم. وهذ القسم يشتمل على الآيات التي تتحدّث عن التفكير في السماوات والكواكب، وخلق الأرض والبحار والجبال، واختلاف الليل والنهار، وعظيم خلقة الإنسان وأسرار وجوده، وآثار المتقدّمين وقصصهم وتاريخهم.
وقد جاءت كلتا هاتين المجوعتين من الآيات في سياق الهدف الأساس للقرآن، والذي يعني هداية الناس إلى الكمال والسعادة الحقيقيّة في ضوء الإيمان والعمل الصالح؛ ولذلك فإنّ الأسلوب البياني المستعمل فيها لا يضطلع إلا بهذه الغاية، ولا يمكن لنا أن نتوقع منه غير هذه النتيجة. وإن أيّ مجهود يبذل للوصول إلى نتائج لا تنسجم مع الهدف الأساس للقرآن من هاتين المجموعتين من الآيات، سيكون جهداً عقيماً وغير منتج، وذلك لأنّ النتائج الأخرى إذا لم تندرج في جملة مقاصد القرآن الأساسيّة، فسوف تستدعي أسلوباً آخر غير الأسلوب المستعمل في القرآن.
في المجموعة الثانية التي تتناولها هذه البحوث بشكلٍ أكبر، وإن تمّ الحديث بصراحة عن خلق السماوات والنجوم وما إلى ذلك، لكن ينبغي الالتفات إلى الغاية والهدف من وراء هذا الكلام؛ فالغاية التي ذكرت في جميع هذه الآيات ـ تصريحاً أو تلويحاً ـ هي التفكّر والتدبّر وحثّ الإنسان على الاستفسار عن حقائق عالم الوجود؛ لغرض معرفة الخالق وصفاته المنحصرة بذاته المقدّسة، والتي ستؤدّي ـ تلقائيّاً ـ إلى الإيمان والاعتقاد الواعي والراسخ بذاته التي ليس لها شريك يشاكلها. إنّ هذه الغاية من جملة مقاصد القرآن الأساسيّة المتمثلة في الدعوة إلى الإيمان بمبدأ الوجود الذي تقدّم ذكره. وعليه تكون لغة القرآن في هذه المجموعة مساوية ـ من حيث الاستعمال وإمكان التمسك بها والاستنتاج منها ـ للّغة المستعملة في مجموعة الآيات التي تعرّضت لمقاصد القرآن الأساسيّة مباشرة؛ لأنّ الغايات هي التي تؤدّي إلى استعمال الأساليب البيانيّة، وليست كيفيّة الموضوعات، والمفروض أن مطلب جميع آيات القرآن ومقصدها ليس سوى هدف ومقصد واحد.
لو فرضنا أنّ القرآن الكريم كان يرمي من خلال الآيات التي تتحدّث عن خلق السماوات والأرض ونحوها إلى غاية علمية ـ كتوصيف أجزاء العالم مثلاً ـ لأمكن حينها أن نقول: لابدّ من إجراء تحليل بياني لهذه المجموعة من الآيات لغرض تبيين هذه الأهداف العلميّة، إلا أنّ العارفين بالقرآن يدركون جيّداً أنّ نسبة مثل هذه الأهداف لهذا الكتاب السماوي نسبة باطلة تماماً، وفاقدة لأيّ سندٍ وبرهان.
إنّ توصيف عالم الطبيعة وظواهره الدقيقة والجليلة، بما أنه من مقاصد العلم الأساسيّة (المراد من العلم المصطلح هنا، هو العلم التجريبي)، فهو يستدعي لغته الخاصّة والتي يُعبّرُ عنها بـ (لغة العلم). وإنّ لكلٍّ من (لغة الدين) و(لغة العلم) وظائفهما وتطبيقاتهما وخصائصهما وقرّاءهما، ولا يمكن وضع أيٍّ منهما في موضع الأخرى، أو أن نتوقع من إحداهما أن تنتج ما تنتجه الأخرى. يقول جي. أو. أورمسون: «إنّ للغة وظائف ومساحات متنوّعة، ولا ينبغي بنا أن نكون بصدد توصيف العالم، ولو صرنا بصدد ذلك، لقمنا بتوصيفه بأساليب مختلفة تمام الاختلاف، ولا يمكن تحويلها أو تبديلها ببعضها»([4]).
نظرية التمايز البياني؛ أنموذج دال في نظرية داروين ـــــــ
إنّ نظريّة (التمايز البياني بين لغة القرآن ولغة العلم) التي تمّ إيضاحها في السطور المتقدّمة إلى حدٍّ ما، تساعدنا على حلّ جميع موارد التعارض الظاهري بين الآيات القرآنيّة ومعطيات العلم الحديث. وقد سعيت من خلال هذ النظريّة إلى حلّ التعارض المدعى بين الآيات التي تحكي خلق الإنسان من تراب، وبين نظريّة التطوّر التي صدع بها (داروين) في تكامل الكائنات الحيّة، وذلك عبر السطور الآتية؛ لإثبات أنه بالإمكان من خلال هذه النظريّة الإجابة بنحو منطقيّ ومناسب عن جميع الموارد التي تدّعي وجود التعارض بين معطيات العلم الحديث ونصوص الكتب الدينيّة المقدّسة.
طبقاً لنظريّة (التمايز البياني)، تكون لغة الآيات التي تتحدّث عن خلق الإنسان من تراب، ولغة العلم التي صدعت بها نظرية تطوّر الكائنات الحيّة (ومنها الإنسان)، لغتان مختلفتان تمام الاختلاف لبيان حقيقةٍ واحدة. حيث تعمل آيات الخلق على بيان هذه الحقيقة بلغة الدين الخاصّة، لغرض تحصيل الأهداف الدينيّة، كما تبيّنها نظريّة التطوّر وتفسّرها بلغة العلم لتحصيل الأهداف العلميّة. إنّ لسانَ خلق الإنسان من ترابٍ، لسانٌ يسعى إلى بيان هدف القرآن الكريم (الهداية) النهائي، من خلال التذكير بأصلٍ من أصول الإيمان أو الأخلاق الحسنة بالشكل الذي ينبغي إيصاله إلى المخاطب، وهي كسائر الآيات القرآنيّة لا تحمل شحنة إيجابية أو سلبيّة لسائر الحقول الأخرى، بما في ذلك حقل العلوم الطبيعيّة والأحياء. وإنّ نظرية التطوّر التي تلقتها مؤسّسات العلوم الطبيعيّة أصلاً لا يقبل النقاش، نظريّة علميّة لها بعض الوظائف المحددة، تتكفلُ ببيان ظواهر عالم الطبيعة من خلال استعمال لغة العلم الخاصّة، وتبيّن كيفيّة تكوّن وظهور أنواع الكائنات الحيّة في العالم من خلال التفسير العلمي، دون أن تحمل هذه اللغة في طيّاتها أي شحنةٍ إيجابيّة أو سلبية تجاه المجال الدينيّ.
إنّ عودة كلّ واحدةٍ من هاتين اللغتين: (لغة آيات الخلق ولغة نظريّة التطوّر) إلى حقلين مختلفين ومتمايزين عن بعضهما تمام التمايز، ممّا باعد بين أهدافهما ومقاصدهما، يقتضي عدم جعلهما نِدّين لبعضهما، وبذلك تنتفي فكرة التعارض بينهما من جذورها. إنما يمكن تصوّر التعارض بين آيات الخلق ونظريّة التطوّر إذا كانت هاتان اللغتان تعودان لحقلٍ واحد، وكانتا من سنخٍ واحد، وتسعيان إلى إثبات نتيجةٍ واحدة، في حين أنّ الأمر ليس كذلك أبداً. وربما كانت رؤية الأستاذ الشهيد مرتضى مطهّري بشأن رمزيّة الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الخلق، ناظرةً إلى التمايز البياني بين لغة القرآن ولغة العلم([5])؛ وبهذا يمكننا من خلال هذه النظريّة حلّ التعارض الظاهري بين آيات القرآن الكريم ومعطيات العلم الحديث في جميع الموارد المزعومة.
5- مزايا نظرية التمايز البياني، مقارنة بأبرز النظريات المطروحة ـــــ
لنظريّة التمايز البياني بين لغة القرآن ولغة العلم مزايا ترفعها فوق الآراء التي صدع بها المفكّرون من المسلمين حول هذا الموضوع، ويمكن بيان تلك المزايا على النحو الآتي:
أ ـ يمكن لهذه النظرية أن تكون أساساً عامّاً لحلّ جميع أنواع التعارض المدّعى بين آيات القرآن والنظريّات أو الأصول العلميّة المسلمة في مختلف فروع العلوم التجريبيّة، وتغنينا عن اللهث وراء الأجوبة المتعدّدة عن مصاديق التعارض المحتملة في مختلف الأصعدة.
ب ـ طبقاً لهذه النظرية، يقوم القرآن الكريم ـ من خلال لغته الخاصّة ـ ببيان مقاصده وأهدافه المحدّدة، ويلتزم الحياد بالنسبة إلى المعطيات العلميّة فلا يتدخل بها سلباً أو إيجاباً.
ج ـ تسمو هذه النظريّة بالقرآن الكريم، وتضعه فوق مستوى التجربة، ونتيجة ذلك أنّها لا تجعل تعاليمه في معرض المعطيات العلمية التي تقع في معرض الإبطال، وتحول دون تطبيق النظريات العلميّة المتغيّرة على آيات القرآن، وتمنع فرض أيّ رأي شخصيّ أو ذوقيّ عليها.
د ـ تحول هذه النظريّة دون الردود الانفعاليّة التي تسيطر على علماء الدين على أثر التطورات العلميّة في مختلف المجالات، وتجعل العلماء أشدّ ثباتاً وتماسكاً، وهي تحثهم وتشجعهم على اتخاذ الآراء المستندة إلى القرآن الكريم.
(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، حائز على دكتوراه في علوم القرآن والحديث، وعضو الهيئة العلميّة لجامعة الزهراء في طهران.
([1]) محمد حسين الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 6 ـ 15، بتصرّف.
([2]) ايان باربور، العلم والدين: 282، ترجمة: بهاء الدين خرمشاهي، مركز نشر دانشكاهي، الطبعة الثانية، 1374ش/1995م.
([3]) لمزيد من الإطلاع على نظريّات التحليل البياني، يمكن الرجوع إلى: جون هيك، الفلسفة والدين: 169 ـ 200، انتشارات بين المللي الهدى، ترجمة: بهرام راد، الطبعة الأولى، 1372ش/ 1993م؛ وايان باربور، العلم والدين: 277 ـ 306؛ وأمير عباس علي زماني، لغة الدين، مركز إنتشارات دفتر تبليغات إسلامي، الطبعة الأولى، 1375ش/1996م.
([4]) Urmson, Philosophical Analysis. .نقلاً عن كتاب العلم و الدين: 282.
([5]) راجع: مطهري، الدوافع نحو المادية: 104، بحث التوحيد والتكامل.