أحدث المقالات

بين المذهبيّة والإسلامية

تمهيد

إنّ عملية استـنباط الحكم الشرعي ليست عملية عفوية أو مرتجلة يبدي فيها المفتي رأياً انقدح صدفة في ذهنه؛ للخلاص من إحراج علمي أو عملي، بل إنّها عملية علمية تمرّ بعدّة خطوات ومراحل، تطوي خلالها الذهنية الفقهية مجموعة من المحطّات البحثية، حيث ينطلق الفقيه من البحث عن الأدلّة، حيث يفتّش ويفحص في المصادر الأساسية، حتى يعثر على ضالّته في مظانّها، فيحدّد أدلّته أولاً، ثم يبدأ خطوة أُخرى ومرحلة ثانية، وهي مرحلة تحديد دلالات الأدلّة، ومقدار ما تدلّ عليه من مفادات بالاستـناد إلى جملة من القواعد والضوابط المحدّدة سلفاً في علم أُصول الفقه، إلى أن ينتهي إلى استـنتاج معيّن، فيصوغ فتواه على ضوء ذلك. ومن الطبيعي أن تسبق هذه العملية جملة من المقدّمات المعلوماتية من أجل تهيئة الفقيه ذهنياً وإعداده لخوض تجربته الاجتهادية.

ومن هنا يتضح أنّ الفتوى الفقهية ما لم تُولَد من رحم عملية الاستدلال، وما لم تترشّح كنتيجة لعدد من الخطوات العلمية، لا قيمة شرعية لها. وبعبارة أخرى: إنّ كلّ عملية إفتاء لابدّ أن تكون حاصلة من عملية استـنباط، وكلّ استـنباط هو عملية بحث علمي في الأدلّة الشرعية، فكلّ إفتاء يمثّل نظرية علمية فقهية أو تطبيقاً فنّياً لنظرية علمية يتبنّاها الفقيه بعد أن يبذل أقصى ما يمكنه من جهد خبروي. فالإفتاء إنجاز علمي يستـند إلى أُسس موضوعية، وليس هو محض قناعة شخصية لا تتجاوز عالم الذات.

أولاً ـ البحث الفقهي وأنواعه

نواجه عادة نوعين من البحث الفقهي، وهما:


النوع الأول: البحث الفقهي الذي يتحرّك ضمن إطار مذهب فقهي واحد، حيث تتمّ ممارسة الاستدلال الفقهي على ضوء القواعد والأُصول المتبنّاة من قبل مذهب ما. ومن الطبيعي أن تكون نتائج البحث منسجمة مع تلك المتبنّيات، والتي قد لا تلتقي مع ما يتوصل إليه الباحث في مذهب آخر غالباً، وهذا هو النمط الشائع والرائج في الأبحاث الفقهية، ومن هنا نجد أنّ لكل مذهب فقهي رؤاه الخاصة به، والمستـنبطة من قواعده وأُصوله المعتمدة لديه. ومجموع هذه الرؤى هي التي تشكل المنظومة الفقهية لكل مذهب.

النوع الثاني: البحث الفقهي الذي يتحرّك في رحاب أوسع من الأول، حيث يتم التعرّض إلى آراء المذاهب الفقهية المختلفة، وبيان مستـنداتها وأدلّتها. وعلى ضوء ذلك تحصل المقارنة والمقايسة بين الآراء. وهذا هو المسمّى بالفقه المقارن أو فقه الخلاف. وواضح أنّ البحث المقارن يعبّر عن انفتاح المذاهب الفقهية بعضها على البعض الآخر، وهذا ما يساعد في إذابة الحواجز الجليدية بين المذاهب، ويوفّر الأرضية المناسبة للتقريب بينها، فإنّ كثيراً من حالات التباعد والتـناحر تـنشأ من عدم الاطلاع على الرأي الآخر، أو بسبب عدم الاطلاع على المستـندات التي يبتـني عليها.

وكانت المذاهب الفقهية في القرون الأُولى، ومع أنها كانت تعيش فيها طور التكوين والصيرورة ومرحلة البناء الذاتي، تعيش حالة التواصل العلمي، بحيث باتت سوق الأبحاث المقارنة رائجة آنذاك، ممّا ساهم في نمو الحركة العلمية الفقهية وتطورها،لكن خفّت هذه الظاهرة الصحية وفترت حتى توقّفت في القرن الثامن وما بعده، وعاشت المذاهب الفقهية حالة القطيعة العلمية، وتقطعت فيها حبال الوصال البحثي.

بيد أنّه قد انبعثت هذه الحالة في القرن الأخير من جديد، وعاودت الأبحاث المقارنة نشاطها وفاعليتها مرّة أُخرى، غير أنّ الملاحظ أنّ الثمرات التقريبية المترتّبة على الأبحاث المقارنة محدودة جدّاً؛ لأنّ كلّ مذهب يسعى لإبراز عناصر القوة في مذهبه هو دون غيره.

ونحن لا نريد أن ننتقد ظاهرة البحث الفقهي المقارن، بل نؤكّد على مواصلة هذا النمط من التدوين، وندعو إلى تفعيله وتطويره، وغرضنا هو تقييم الآثار والنتائج المترتّبة عليه، كي لا نُغرق كثيراً في الإطراء والمدح ما دمنا نخوض بحثاً علمياً، وعلينا أن نتحلّى بالموضوعية في ذلك، بل ربما نتمكّن من اكتشاف طريق آخر أكثر فاعلية وتأثيراً، وهذا ما كنّا نبغي التـنظير له في أُطروحتـنا المقترحة.

ثانياً ـ مقدّمات نظرية للأُطروحة المقترحة

إنّ الأُطروحة التي نقترحها تـنطلق من عملية الاستـنباط ذاتها ومن عناصرها الداخلية، وبهذا يتبيّن امتيازها عن غيرها. وبيان ذلك يحتاج إلى أن نتقدّم خطوة خطوة حتى لا نرتجل الموقف تجاه هذه الأُطروحة في مستوييها التصوري والتصديقي. ومن هنا لابدّ من بيان بعض المقدّمات كي ننتهي إلى بيان الأُطروحة المتوخّاة، وهذه المقدّمات هي:

المقدّمة الأولى: مبرّرات الاجتهاد.

إنّ المبرّر لعملية الاجتهاد هو ما يلي:

1ـ إنّ كلّ مكلّف يعلم بوجود جملة من الأحكام موجّهة إليه من قبل الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر ثابت بالوجدان.

2ـ إنّ العقل يحكم بلزوم الخروج من عهدة هذه التكاليف، وهو واضح في ما هو معلوم منها، وما كان مشكوكاً لابدّ من تحصيل اليقين أو الاطمئنان به، وطريق ذلك لغير الخبير إنما هو برجوعه إلى الخبير، والخبير من له القدرة العلمية على تحصيل ذلك بنفسه من خلال الرجوع للأدلّة، وهذا يستلزم بذل الوسع من خلال الفحص التام.

والمراد ببذل الوسع هو بذل الطاقة في البحث العلمي، واستيعاب كلّ جوانبه، والتأمّل في كلّ زواياه. وإنّ التقصير في ذلك يفقد العملية الاجتهادية مبرّراتها، كما يفقدها قيمتها الشرعية. ولا فرق في أسباب التقصير في استفراغ الوسع في البحث بين الاستعجال أو التعصّب المذهبي أو الميل العاطفي أو عامل المصلحة الشخصية، فكلّ ذلك يخلّ في تحقق مفهوم الاجتهاد، ووقوعه ناقصاً كعدمه. وعليه فلا يمكنه أن يعيّن للمكلّفين طريقة امتثال التكاليف الإلهية المشكوكة.

المقدّمة الثانية: سقف الممارسة الاجتهادية.

فالاجتهاد يملي على كلّ من يتصّدى له أن يبذل قصارى جهده العلمي من أجل الوصول إلى حكم الله عزّ وجلّ، وإلاّ فلو لم يستـنفد المجتهد كل طاقته العلمية فستكون عملية الاستـنباط ناقصة لا تستحق أن توصف بالاجتهادية، ولا تترتّب عليها الآثار الشرعية من براءة ذمة المفتي، ولا العامل بفتواه. وهذا الشرط، وهو استـنفاد الطاقة الوسع، ينسحب على عملية الاستـنباط بجميع مراحلها، ولا يكفي تحققه في مرحلة دون أخرى.

وبيان ذلك: إنّ عملية الاستـنباط تمرّ بالمراحل التالية:

المرحلة الأولى: مرحلة اكتشاف الدليل. وهنا لابدّ من الفحص التام عن الأدلّة التي يحتمل وجودها في المصادر الأساسية للشريعة، بل لابدّ من الفحص عن كلّ ما يحتمل دليليته على الحكم الشرعي،ولو كان خارج المنظومة المألوفة للأدلّة، فإن كانت عملية الفحص ناقصة، ولو بنسبة ضئيلة، فلا يمكن الاطمئنان بعملية الاستـنباط طرّاً؛ بسبب وجود الاحتمال الذي يثير الشك بالنتيجة، فربّما يوجد دليل آخر لو وقع تحت يد هذا المستـنبط لاختلف اتجاه حركته الاجتهادية حينئذٍ، ولانتهى إلى نتيجة متفاوتة.

المرحلة الثانية: مرحلة تمامية الدليل. وهنا أيضاً لا محيص من الفحص التام عن الأدوات الموجبة للثقة بصدور هذا الدليل والوسائل المثبتة لاعتبار هذا الدليل؛ إذ لا شك في أنّ الالتفات إلى بعض تلك الأدوات والوسائل وإغفال بعضها الآخر قد يغيّر من عملية تقييمنا ومدى اعتبارنا لهذه الأدلّة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الكشف عن الدلالة. ولا شك هنا في ضرورة الفحص التام عن وجوه الدلالة الممكنة أو المتوفّرة للدليل، فإنّ إهمال أحد وجوه الدلالة يقدح في مدى الركون إلى ما يتبنّاه المستـنبط من تفسير للدليل الشرعي.

المرحلة الرابعة: مرحلة تمامية الدلالة. وهنا أيضاً لا مناص عن الفحص التام عن العناصر الخارجة عن هذا الدليل من أدلّة وقرائن ومعايير عامة قد تشكّل معارضاً ومدلولاً منافياً لدلالة ذلك الدليل المبحوث عنه، أو ربما تشكل قرينة مقيدة أو مخصصة أو متممة للدلالة، أو مفسّرة لها وموجّهة لها؛ إذ الاكتفاء بالبحث عن الدليل في نفسه، ومع قطع النظر عمّا يحفّ به من مؤثّرات دلالية، يعدّ نقصاً بحثياً لايمكن الغضّ عنه.

وفي المقام ننبّه إلى أنّنا في أُطروحتـنا أفدنا من اشتراط الفحص التام في العملية الاستـنباطية، وسعينا لكي نوجد لها تطبيقات اقتراحية.

المقدّمة الثالثة: منهج الاستـنباط وخطواته. فكل خطوة يمرّ بها الاستدلال الفقهي تمرّ عبر جملة من القواعد والضوابط، وهي عديدة جدّاً، فبعضها يتم بحثه في علم أُصول الفقه، وبعضها يُعالج في علم دراية الحديث، وبعضها يتم دراسته في العلوم اللغوية والأدبية، وإلى غير ذلك.

وهذه الضوابط والقواعد على نحوين:

النحو الأول: الضوابط والقواعد الخاصة بمذهب فقهي معيّن، وتكون مقبولة لديه مرفوضة لدى غيره، كالقياس، الذي يعدّ دليلاً معتبراً بحسب البعض، ومردوداً بحسب آخر.

النحو الثاني: الضوابط والقواعد التي لا تختص بمذهب معيّن، بل تكون مشتركة بين أكثر من مذهب واحد، وربما لدى جميع المذاهب الفقهية.

وأُطروحتـنا المزعومة تحاول توظيف هذا النمط من الأدلّة والقواعد المشتركة، والإفادة من هذه النقطة الإيجابية لبناء منهج استـنباطي جديد.

ثالثاً ـ البيان التصوري للأُطروحة المقترحة في الاستنباط

وسنبيّن مفاصل الأُطروحة ضمن النقاط التالية:

النقطة الأُولى: تفترض هذه الأُطروحة أن يتحرّك المتصدّي للاستـنباط ـ من أيّ مذهب كان ـ في الساحة الاستدلالية الواسعة، لا أن يحصر حركته ضمن الآفاق المتاحة له مذهبياً، بمعنى أن يتصدّى للفحص التام والمسح الكامل لكلّ جوانب الاستدلال، وفي كلّ مراحله الأربعة المذكورة في المقدّمة الثانية.

ولنوضّح الفكرة بمثال: لو شخّص الفقيه أنّ المسألة التي يبحث عنها يمكنه أن يجد دليلها في السنّة النبوية الشريفة، فهنا يرجع عادة إلى أحد المجاميع الروائية المعتمدة في المذهب الذي ينتمي إليه ذلك المستـنبط، ولا شأن له بالمجاميع الروائية الأخرى المعتمدة لدى سائر المذاهب، في حين أنّ هذه الأُطروحة تدعو إلى ضرورة الفحص في كلّ ما هو متضمّن لنقل السنّة النبوية من مختلف المجاميع الحديثية، وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر المراحل البحثية.

النقطة الثانية: حيث إنّ العنصر الأساسي في هذه الأُطروحة هو الانفتاح في عملية البحث العلمي، وعدم الانكفاء على المراجع المعتبرة مذهبياً فحسب، وهذا الانفتاح إنّما يكون مثمراً ومؤثّراً عندما يكون الرجوع إلى الأدلّة المشتركة وغير المختصة بمذهب معيّن، بحيث يحاول الفقيه استـنطاقها واستثمارها دلالياً ودليلياً، وإلا فستكون مجرّد عملية استعراضية لا أثر لها في عملية الاستدلال وما يخلص إليه من نتائج فتوائية.

النقطة الثالثة: ممّا تقدّم يتضح أنّ ثمّة فرقاً بين هذه الأُطروحة وبين طريقة البحث المقارن، حيث إنّ الباحث في الفقه المقارن يدرس كلّ رأي، وما يستـند إليه من أدلّة على حدة، وبمعزل عن سائر الآراء؛ أمّا في هذه الأُطروحة فالباحث لا يتصدّى للبحث المقارن، بل يتحرّى الأدلّة باعتبارها عناصر داخلية تهمّه كمستـنبط، لا كمراقب لسائر الآراء والأدلّة يطلّ عليها من الخارج ويطالعها. أجل، إنّ البحث المقارن يعتبر مقدّمة وخطوة مفيدة للمستـنبط؛ لأنّه يوفّر عليه فرصة الاطلاع الإجمالي على مختلف الأدلّة ومظانّها.

النقطة الرابعة: أيضاً يتضح ممّا بيّنا أنّ ثمة فرقاً بين الدعوة إلى إسلام بلا مذاهب والدعوة إلى الفقه التلفيقي من النتائج الفتوائية، وبين ما تضمّنته أُطروحتـنا من توسعة لمهمّة الفقيه البحثية، وتمديد لمساحة الفحص لدى المجتهد، ورفع لسقف الجهد العلمي الذي يبذله الفقيه، وعدم التقوقع في مساحات محدودة وضيّقة.

رابعاً ـ البيان التصديقي للأُطروحة

إنّ تحقق مفهوم الاجتهاد يتوقّف على استفراغ الوسع، واستفراغ الوسع يقتضي الفحص التام في عالم الأدلّة والدلالات، فلو أنّ الفقيه واجه مسألة في باب البيع، وراجع كلّ الأحاديث النبوية في باب البيع، فلم يعثر على ضالّته، واحتمل وجود أحاديث تتعلّق بالمسألة في أبواب أخرى، فهل يكتفي المستـنبط ببحثه الأول؟! أو يلزمه أن يستأنف البحث في ما يتوقعه من أبواب؟! إنّه بحكم المقدّمة الأُولى لابدّ من مواصلة البحث بالمقدار المعقول إلى أن ييأس أو يظفر ببغيته، وكذا الحال لو احتمل أو ظنّ وجود أحاديث ترتبط بموضوع بحثه ضمن المجاميع الحديثية في المذاهب الأُخرى، فإنّه لابدّ من مراجعتها طبقاً للمقدّمة الأُولى،وإلاّ فكيف يمكن الاكتفاء بمراجعة مصادره فحسب، ولا يقتصر في توسعة الفحص على المرحلة الأُولى، بل إنّه طبقاً للمقدّمة الثانية يلزم تحقق الفحص التام في جميع مراحل عملية الاستدلال الفقهي، وأيضاً يجب الرجوع إلى الأدلّة المشتركة لكونها معتبرة وحجة بنظره طبقاً للمقدّمة الثالثة، ولا مبرّر في إهمالها.

ومن هنا يتضح أنّ هذه الأُطروحة ليست محكمة ومبرّرة أُصولياً فحسب، بل يمكن التقدّم خطوة إلى الأمام، ودعوى أنّها بمستوى الضرورة.

خامساً ـ نماذج تطبيقية

من أجل أن تتضح هذه الأُطروحة من ناحية، ومن ناحية ثانية كي تثبت عملياً إمكانية تطبيق هذه الأُطروحة، ومن ناحية ثالثة من أجل أن تتضح ثمرات هذه الأُطروحة وآثارها في عملية الاستـنباط، نقدّم نموذجين:

النموذج الأول: الاستدلال بالسنّة النبوية الشريفة

إذا تتبعنا عمليات الاستدلال بالسنّة لرأينا أنّها تحتلّ مساحة واسعة في البحوث الفقهية، بل في بعض الحالات قد تـنفرد بالعملية الاستدلالية، ولا يلجأ إلى سواها من الأدلّة الشرعية الأُخرى.

ويمرّ الاستدلال بالسنّة بعدّة مراحل، وهي:

المرحلة الأولى: اكتشاف الدليل من خلال مسح عام لمظانّ وجود الحديث النبوي ذي الارتباط بالمسألة المبحوث عنها، وهنا لابدّ من مراجع المجاميع الحديثية كافة.

المرحلة الثانية: إثبات الصدور. وتتمثّل هذه المرحلة بدراسة الطريق والسند والوسائط التي تمّ عبرها نقل النص عن النبي‘ حتى وقع بين أيدينا، فإن كان هذا الطريق يقينياً أو مطمئناً به فيحق له دخول عملية الاستدلال كدليل قادر على إثبات جعل شرعي، وأمّا إذا لم يَرْقَ إلى هذا المستوى؛ بسبب وجود خلل في الطريق والواسطة في النقل فلا. ونواجه عادة هنا مشكلة مستعصية، وهي اختلاف الآراء في تصحيح أسانيد الأحاديث النبوية، وسيأتي بحثها.

المرحلة الثالثة: الكشف عن الدلالة. ويتمّ في هذه المرحلة بحث الدليل لفظياً، كأقواله‘، أو غير لفظي، كسيرته‘ وتقريره، من حيث مقدار ما يدلّ عليه في نفسه.

المرحلة الرابعة: إثبات تمامية الدلالة، كما أوضحنا سابقاً.

ولمزيد بيان نقول: إنّ المراحل التي يمرّ بها الاستدلال عادة؛ نظراً لتوسعة عملية الفحص هنا، ستوفّر للفقيه ثراء معلوماتياً بالقياس إلى حالة الفحص المحدود داخل مصادر المذهب الواحد، وإنّما المشكلة العسيرة التي تواجه الباحث تكمن في المرحلة الثانية، وهي مرحلة تمامية الدليل؛ نظراً لاختلاف المباني والنظريات في الأبحاث السندية وفي التوثيقات وقواعد الجرح والتعديل. من هنا لابدّ من دراسة ذلك بدقة.

والتحقيق أنّ لدينا حالات عديدة:

الحالة الأولى: تعدّد النقول والطرق لمضمون واحد إلى حدّ يشكّل اطمئناناً بالصدور، وبذلك نكون في غنى عن بحث الطرق واحداً واحداً ودراسة الأسانيد ورجال الحديث، وهذه الموارد ليست نادرة الوجود ولا قليلة، كما يتضح ذلك بأدنى مراجعة للسنّة الشريفة.

الحالة الثانية: إنّه رغم اختلاف المباني لكن هناك رجال ورواة متفق على توثيقهم أو تضعيفهم، أو قد تلتقي رؤيتان أو أكثر على ذلك، فليس الاختلاف وارداً دائماً.

الحالة الثالثة: إنّ في إثبات صحة الأحاديث عدّة نظريات، بعضها ـ وهو الأكثر والمعروف ـ البناء على وثاقة الرواة، وهناك من يرى الوثوق بالصدور كافياً بأيّة قرينة، سواء أتمّ رجال السند أو لا، فليست مشكلة اختلاف المباني في توثيق الأسانيد مشكلة عامة البلوى، بل هي واردة على بعض المباني دون أُخرى.

الحالة الرابعة: في حالة استحكام الاختلاف في قواعد معالجة الأسانيد لا يستلزم عدم الاطلاع على مباني الآخرين، كما أنّ هذا الاختلاف في الجرح أو التعديل قد يقع داخل المذهب الواحد، وليس ذلك بعزيز.

إذاً وجود مشكلة في هذه المرحلة لا ينفي فتح باب البحث والرجوع إلى مختلف المصادر الحديثية.

الحالة الخامسة: وهي فيما لو اختلفت الآراء في توثيق رجال السند، ففي مثل هذه الحالة يرجع عادة إلى الكتب الرجالية وكتب الجرح والتعديل المعتبرة لدى كلّ مذهب، والإثارة التي نطرحها بهذا الصدد هي: لـِمَ لا يتم ّ استقصاء المصادر، ويُقتصر على مراجعة مصادر الدائرة المذهبية الخاصة، ولا تمتدّ دائرة البحث إلى خارجها؟! ولا سيما في حالات التوثيق أو التضعيف المعلّلين؛ إذ من الممكن وبكلّ بساطة تتبّع ما ورد بشأن بعض الرواة من مدح أو قدح، والإفادة من ذلك في استخلاص نتيجة معيّنة من توثيق أو تضعيف أو توقّف مادامت أسباب وعلل القدح أو المدح مبيّنة.

 

ملحوظتان

الملحوظة الأُولى: إنّه من خلال هذا النموذج يتضح ضرورة إعداد منظومات حديثية جديدة جامعة؛ من أجل تلبية حاجة الاستـنباط المفتوح، يجمع فيها الأحاديث الشريفة الفقهية، وتـنظّم على الأبواب الفقهية وعناوينها، بل ولابدّ من إعداد منظومة رجالية جامعة أيضاً.

الملحوظة الثانية: لابدّ من الإشارة إلى الثمرات المترتّبة على بحث السنّة في مختلف المجاميع الحديثية على اختلاف مذاهب جامعيها، وهي كثيرة، منها:

1ـ ورود بعض الأحاديث التي قد تشكّل شاهداً أو دليلاً على تحديد دلالة أحاديث أخرى.

2ـ تفرّد بعض المجاميع بنقل قسم من الأحاديث، ممّا يفيد في تحديد الموقف تجاه تمامية الاحتجاج ببعض السير أو الارتكازات العقلائية؛ لكون الاستدلال بها يتوقف على عدم ورود الردع عنها من قبل الشارع.

3ـ ورود بعض الأحاديث التي تـنفع في حلّ بعض صور التعارض والتـنافي بين الأحاديث.

4ـ اشتمال بعض الأحاديث على زيادات في بعض النقول، وتجرّد بعض النقول عن مثل هذه الزيادات التي قد تؤثّر في طريقة فهم السنّة.

5ـ اشتمال أكثر المجاميع الحديثية على آراء الصحابة، وموقف الصحابة يمكن أن يستكشف منه الجوّ السائد آنذاك، ممّا يفيد في تحديد كيفية الفهم العرفي للخطابات الشرعية والسلوك المتلقّى من الشارع.

هذا، وقد اخترنا إحدى المسائل الفقهية التي يستدلّ لها عادة بالسنّة، وهي: (مسألة إرث المرتدّ).

من الواضح أنّ المرتدّ عن الإسلام كافر، وهو على قسمين:

أـ المرتدّ الفطري: وهو الذي يولد على فطرة الإسلام، ثم يرتدّ.

ب ـ المرتدّ الملّي: والمراد به من كان كافراً، ثم أسلم، ثم ارتدّ.

والأول تقسّم أمواله على الورثة بمجرّد ارتداده، ويقام عليه الحدّ؛ والثاني يستتاب، فإن عاد إلى الإسلام فهو، وإلا أُقيم عليه الحدّ؛ والمرأة تستتاب، ولو ارتدّت عن فطرة.

والمروي عن علي× في المرتدّ: «إذا مات أو قتل فماله لورثته»([1]). وروي عـــنه أيـضاً: «مــيراث المـرتدّ لــولده»([2]). وعـــنه: «إذا قـتل ورثه أهله المسلمون»([3]).

وقد أتي× بشيخ كان نصرانياً، ثم أســلم، ثــم ارتدّ عــن الإســلام، فــقال له عــلي×: لعلّك إنّما ارتددت لأن تصيب ميراثاً، ثم ترجع إلى الإسلام؟ قال: لا. قال: فلعلّك خطبت امرأة فأبوا أن ينكحوكـها فأردت أن تــزوجـها ثـم ترجع إلى الإســلام؟ قال: لا. قال: فارجع إلى الإسلام قال: أمّا حتى ألقى المسيح فلا، فأمر به فضربت عنقه، ودفع ميراثه إلى ولده من المسلمين([4]).

والمعروف أنّه× قد قتل المستورد العجلي بعد ارتداده([5]).

وفي مصــادر أهــل الســنّـة روى عــنه الحــارث الأعور: «أنّ ميراث المرتدّ يوضع في بيت مال المسلمين»([6]).

وفيها:

1ـ إنّها مخالفة للقواعد العامّة؛ إذ مادام هناك وارث لاتصل النوبة إلى جعله من الأموال العامّة.

2ـ إنّها معارضة لما تقدّم من الروايات عنه×، وكذلك عن أبنائه^([7]).

وهاتان المناقشتان في الدلالة واردتان فيما لو لم يمكن الجمع بين المفادين، إلاّ أنّه لا يبعد كون رواية الحارث ناظرة إلى صورة انعدام الوارث الخاص.

التشكيك في وثاقة الحارث الهمداني ومناقشته

3 ـ ونوقش في السند أيضاً، فقيل: إنّها لا تثبت عن علي×؛ لأنّها رواية الحارث الأعور عن علي، والحارث كذّاب، وخاصّة عن علي([8]).

ولكنّ المناقشة الأخيرة غير صحيحة؛ وذلك: أولاً: إنّ الحارث الأعور([9]) لم يكن ضعيفاً ولا كذّاباً؛ لأنّ الحارث وإن لم يحتجّ بحديثه من قِبل بعض أهل السنّة، ورُمي بالضعف، ممّا يثير ضبابية حوله، ولكن سبب ذلك ليس هو عدم وثاقته، بل لعدم الارتياح لآرائه، كما صرّح بعض بذلك، ويؤيّده واقعه التاريخي، حيث كان رجلاً متديّناً مستقيم الحال. وإليك بعض ما عثرنا عليه من كلمات التوثيق والتعديل الواردة بشأنه:

1ـ قال فيه ابن داود: إنّه ممدوح([10]).

2ـ وقال ابن أبي داود: كان الحارث الهمداني أفقه الناس، وأحسب الناس، وأفرض الناس، تعلّم الفرائض من علي.

3ـ وقال الدوري، عن ابن معين: الحارث قد سمع من ابن مسعود.

4ـ وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين قلت: أيّ شيءٍ حال الحارث في علي×؟ قال: ثقة([11]).

5ـ وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس.

6ـ وقال مجالد، عن أبيه: قيل للشعبي: كنت تختلف إلى الحارث؟ قال: نعم، كنت أختلف إليه أتعلّم منه الحساب، وكان أحسب الناس.

7 ـ وقال أشعث بن سوار، عن ابن سيرين: أدركت الكوفة وهم يقدّمون خمسة، من بدأ بالحارث ثنّى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنّى بالحارث، ثم علقمة الثالث لاشك فيه، ثم مسروق، ثم شريح….

وأضاف ابن عدي قائلاً: وللحارث الأعور عن علي، وهو أكثر رواياته عن علي، وروى عن ابن مسعود القليل، وعامة ما يرويه عنهما غير محفوظ([12]).

8ـ وقال علي بن مجاهد، عن أبي جناب الكلبي، عن الشعبي: شهد عندي ثمانية من التابعين، الخير فالخير، منهم: سويد بن غفلة، والحارث الهمداني، حتى عدّ ثمانية: أنّهم سمعوا علياً يقول…، فذكر خبراً.

9ـ وفي مسند أحمد: عن وكيع، عن أبيه: قال حبيب بن أبي ثابت لأبي إسحاق حين حدّث عن الحارث عن علي في الوتر: يا أبا إسحاق، يساوي حديثك هذا ملء مسجدك ذهباً.

10ـ وقال ابن أبي خيثمة: قيل ليحيى: يحتجّ بالحارث؟ فقال: ما زال المحدّثون يقبلون حديثه([13]).

11ـ وقال ابن عبد البرّ في كتاب (العلم) لمّا حكى عن إبراهيم أنّه كذّب الحارث: وأظنّ الشعبي عوقب([14]) بقوله في الحارث كذّاب، ولم يبيّن كذبه، وإنّما نقم عليه إفراطه في حبّ علي.

12ـ وقال القرطبي: والحارث رماه الشعبي بالكذب، وليس بشيء، ولم يبيّن من الحارث كذب، وإنّما نقم عليه لإفراطه في حبّ علي وتفضيله على غيره، ومن هنا ـ والله أعلم ـ كذّبه الشعبي؛ لأنّ الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنّه أول من أسلم»([15]).

13ـ وقال أحمد بن صالح المصري: الحارث الأعور ثقة، ما أحفظه وما أحسن ما روى عن علي، وأثنى عليه. قيل له: فقد قال الشعبي: كان يكذب؟ قال: لم يكن يكذب في الحديث، إنّما كان كذبه في رأيه.

14ـ وقال الذهبي في الميزان، في ترجمة الحارث: وحديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنّته في الرجال فقد احتجّ به وقوّى أمره. والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب، فهذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه، والظاهر أنّه يكذّب حكاياته، وأمّا في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم([16]).

15ـ وحكى الذهبي عن مرّة بن خالد: أنبأنا محمّد بن سيرين قال: كان من أصحاب ابن مسعود خمسة يؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة، وفاتـني الحارث فلم أرَه، وكان يفضل عليهم، وكان أحسنهم([17])([18]).

16ـ وقد اتفقت كلمات علماء الإمامية على أنّه من أعاظم أصحاب أمير المؤمنين×، وعلى نزاهته ومكانته السامية، ووصفوه بالورع والتقوى، فكيف يحتمل اتفاق علماء الطائفة كافة على توثيق رجل، وعدّه من الأعاظم، وفي أعلى درجات التقوى، ولم يكن ثقة؟!

ثانياً: إنّ توثيق شخص ما أو عدم توثيقه ليس أمراً حدسياً، بل لا قيمة للتوثيق أو التضعيف إذا لم يكونا مستـندين إلى شهادة حسّية، ولم يذكر له كذبة كلّ من طعن فيه، بل نفى عنه جملة من الرجاليين ذلك بضرس قاطع، وشهدوا له بالوثاقة العالية.

ثالثاً: إنّ الجرح والتعديل ليسا أمرين تعبّديين، بل لابدّ أن يكونا معللين، والعلّة التي ذكرت للطعن في الحارث إنّما هي حبّه لعلي× وأفكاره، فقد اتضح لك أنّ المشكلة فيه ليست ناشئة من عدم وثاقته، بل لانزعاج بعض من آرائه؛ فإنّه كان ينقل بعض الأحاديث في مناقب علي×، التي يثقل على البعض سماعها والتحديث بها، وإلاّ فإنّ الرجل كان معروفاً بالفضل والفقه، وكان من أصحاب ـ بل من خواصّ ـ علي×، وكان شديد الحبّ والتعلّق به.

قال العجلي ـ في ترجمة الحارث بن عبد الله الأعور ـ: «حدّثني قاسم العرفطي: حدّثنا زائدة، عن مغيرة بن إبراهيم، قال: كان الحارث متّهماً»([19]). والمراد: اتهامه بالتشيّع، كما صرّح بذلك أحد المحقّقين للكتاب. ويؤكده ما ذكره ابن حبّان في ترجمته بقوله: «كان غالياً في التشيّع»([20]).

رابعاً: إنّ القدح في شخصية معيّنة لابدّ أن يقيّم، ولا يؤخذ على عواهنه، فتارة يُنقل لنا القدح في شخصية مجهولة أو عليها شبهة أو يحتمل صدور الكذب منه، وأخرى يُنقل لنا القدح في شخصية كبيرة، ومن خاصة أمير المؤمنين×، ومن وجهاء الطائفة، وممّن عرف بالخير والصلاح، فهنا لابدّ من التأمّل الكثير في مثل هذه الحالة.

خامساً: إنّ الشعبي ناقض نفسه، حيث يروي عن الحارث، ويطعن فيه في الوقت ذاته.

سادساً: إنّ منشأ الطعن في الحارث هو الشعبي، والشعبي ليس بمعتمد في قوله ؛ فإنّه كان متهماً في دينه، وقد ضُبطت عليه بعض المؤاخذات السلوكية([21])، فقد كان صنيعة من صنائع الأمويين، يرتع في دنياهم، ويحظى بمناصبهم، وينعم بعطاياهم، ويسير على رغباتهم، ولم يكن تاريخه نزيهاً، فقد بعثه عبد الملك بن مروان ـ كما في كتاب النجوم الزاهرة([22]) ـ إلى مصر؛ بسبب البيعة للوليد بن عبد الملك، ثم تولّى المظالم بالكوفة ـ كما في كتاب الأغاني([23]) ـ من قِبل بشر بن مروان أيام ولايته عليها من قِبل عبد الملك، ثم تولّى القضاء ـ كما في تاريخ الطبري([24]) ـ أيام عمر بن عبد العزيز في الكوفة.

وقد ذكر أبو الفرج في «الأغاني»: عن الحسن بن عمر الفُقَيمي قال: دخلت على الشعبي، فبينا أنا عنده في غرفته إذ سمعت صوت غناء، فقلت: أهذا في جوارك؟ فأشرف بي على منزله، فإذا بغلام كأنّه قمر وهو يتغنّى…، قال: فقال لي الشعبي: أتعرف هذا؟ قلت: لا، فقال: هذا الذي أُوتي الحكم صبياً، هذا ابن سريج([25]).

وذكر أيضاً: عن عمر بن أبي خليفة قال: كان الشعبي مع أبي في أعلى الدار، فسمعنا تحتـنا غناء حسناً، فقال له أبي: هل ترى شيئاً؟ قال: لا، فنظرنا فإذا غلام حسن الوجه حديث السن يتغنّى…، فإذا هو ابن عائشة، فجعل الشعبي يتعجب من غنائه، ويقول: يؤتي الحكمة من يشاء([26]).

وذكر أيضاً: أنّ مصعب بن الزبير أيام ولايته على الكوفة أخذ بيد الشعبي، وأدخله في حجلة زوجته عائشة بنت طلحة، وهي بارزة حاسرة، فسأله عن حالها، فأبدى رأيه فيها، ووصفها له بما يريد، ثمّ أمر مصعب له بعشرة آلاف درهم وثلاثين ثوباً، فما انصرف يومئذٍ أحد بمثل ما انصرفت به! بعشرة آلاف درهم وبمثل كارة القصّار ثياباً، وبنظرة من عائشة بنت طلحة([27]).

وعليه فالشعبي ليس بشيء في نفسه، ولا يمكن الاعتماد على ما قال، ولا سيما بشأن هذا الرجل الجليل، فإنّ الأخذ بقول الشعبي حينئذٍ يكون مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أيُّها الذينَ آمَنُوا إن جاءَكُُم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أن تُصيبوا قوماً بجهالةٍ فتُصبحوا على ما فعلتُم نادمينَ} (الحجرات: 6).

إذاً فرمي الحارث الهمداني بالكذب والضعف ليس من دأب المحصّلين، ولا من الأمانة العلمية في شيء.

النموذج الثاني: الاستدلال بالقرآن الكريم

نظراً لكون القرآن الكريم هو المصدر الأول للشريعة فمن الطبيعي أن يحتلّ موقع الصدارة في عمليات الاستـنباط الفقهي، ويكون على رأس الأدلّة الأُخرى، وهو المهيمن عليها. مضافاً إلى قيمته الدليلية الذاتية.

وحيث لا خلاف ولا نقاش في دور القرآن الكريم المهم في الاستـنباط فيكون نقطة بداية مشتركة بين المذاهب، بمعنى أن يُعالج بحث الدليل القرآني والاستدلال بالكتاب الكريم في جو منفتح على سائر المذاهب، وحيث يمتاز القرآن بالدليلية الأولية، ولا دليل قبلياً آخر يسبقه أو يرجع إليه، إذاً لا داعي لحصر البحث القرآني في أُطر مذهبية معيّنة، بل إنّ أدوات الفهم القرآني هي الأدوات اللغوية والعرفية والعقلائية، وهي أدوات مشتركة وعامة.

فعندما نريد اكتشاف المفاد القرآني من فقرة قرآنية أو مقطع قرآني معيّن ينبغي تتبّع المدلول اللغوي في نفسه، والمدلول العرفي، ثم الاستعانة بالنصّ القرآني ذاته؛ لكون القرآن يفسّر بعضه بعضاً.

فلِمَ نضيّق من آفاق الدلالة القرآنية ونحصرها ضمن أفهام محدودة متبنّاة من قبل هذا المذهب أو ذاك؟!

وقد أخذنا بحثاً قرآنياً حاولنا فيه تطبيق هذه الأُطروحة، وهو بحث هذه المسألة: متى يجوز للمرأة المؤمنة أن تُبدي زينتها؟ وما هي الموارد المستثناة من حرمة إبداء الزينة؟ لكن طلباً للاختصار نقتصر على ما تقدّم.

الهوامش

(*) أستاذ في الحوزة العلمية، وباحث متخصّص في الفقه الإسلامي، ورئيس تحرير مجلة فقه أهل البيت^، من العراق.

([1]) أبو حنيفة محمّد بن النعمان، القاضي التميمي المغربي، دعائم الإسلام 2: 386، ح 1372.

([2]) محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 26: 29، باب 6 من موانع الإرث، ح 7.

([3]) الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل 17: 145، باب 5 من موانع الإرث، ح 1؛ مستدرك الوسائل 17: 146، باب 5 من موانع الإرث، ح 4؛ ابن حزم الاندلسي، المحلّى 11: 197.

([4]) ابن حزم الأندلسي، المحلّى 11: 197؛ خراج أبي يوسف: 216.

([5]) الشوكاني، نيل الأوطار 6: 193؛ محمّد رواس قلعة جي، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 45.

([6]) ابن حزم الأندلسي، المحلّى: 9: 305.

([7]) قلعه جي، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 45.

([8]) انظر: كتاب الرجال (لابن داود الحلّي): 67، رقم: 357.

([9]) الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الخارفي، أبو زهير الكوفي، والخارفي نسبة إلى خارف: بطن من همدان. ويقال: الحارث بن عبيد الله. ويقال: الحوتي، وحوت بطن من همدان. ويقال: الحالفي أو الحالقي. انظر: معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة (للخوئي) 5: 173 ـ 188.

([10]) انظر: الإكمال في أسماء الرجال (للخطيب التبريزي): 179.

([11]) عبد الله بن عدي، الكامل 2: 186.

([12]) عبد الله بن عدي، الكامل 2: 186 ـ 187.

([13]) المزّي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال 5: 249.

([14]) كذا في المصدر، وأحتمل التصحيف في الكلمة، ولعلّها (عوتب).

([15]) انظر: الجامع لأحكام القرآن (للقرطبي) 1: 5.

([16]) انظر: تهذيب التهذيب (لابن حجر) 2: 126 ـ 128؛ ميزان الاعتدال (للذهبي) 1: 437، رقم الترجمة (1627).

([17]) في المصدر (أحسنهم). أقول: ويحتمل فيه التصحيف (أحسبهم).

([18]) الذهبي، ميزان الاعتدال 1: 437.

([19]) العجلي، معرفة الثقات 1: 277، رقم الترجمة (245).

([20]) ابن حبّان، كتاب المجروحين 1: 222.

([21]) انظر: البيان في تفسير القرآن (للخوئي): 500 ـ 503.

([22]) يوسف بن تغري، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1: 208.

([23]) أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني 2: 342.

([24]) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، المعروف بـ (تاريخ الطبري) 8: 87؛ يوسف بن تغري، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1: 229.

([25]) الأغاني 1: 303.

([26]) الأغاني 2: 122.

([27]) الأغاني 2: 373 ـ 374.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً