قراءةٌ في أعمال ثقافية
د. السيد حسن إسلامي(*)
1ـ المدخل
لوحظ في السنوات الأخيرة زيادة الاهتمام بالأبحاث الأخلاقية، وكثر تداول هذا الموضوع في المجامع العلمية. ولا بُدَّ من التفاؤل بهذا الاهتمام، وإنْ كان مقترناً ـ كأيّ اهتمام من هذا القبيل ـ بالكتب التجارية. وظهرت في الوسط الثقافي تحت هذا العنوان كتابات تحمل عنوان كتب الأخلاق، وذلك ممّا يعرض هذا النبع الغضّ إلى خطر الاندثار. وقد كنتُ منشغلاً خلال العقد المنصرم، إلى جانب أبحاث فلسفة الدين، بالمؤلَّفات الأخلاقية. وأسعى للحصول على المصنَّفات المهمة المنشورة، ومطالعتها أو تصفُّحها على الأقلّ. وقد مررتُ بالعديد من المؤلفات في مجال فلسفة الدين والأخلاق. إلاّ أني قرأت ثلاثة كتبٍ بدقّة، ووجدتها غنية ومفيدة.
الأوّل: كتاب (الأخلاق للحياة)([1])، من تأليف: الكاتبة جوديث أ. بوس([2]). وهو منهج درسي في الأساس.
والثاني: كتاب (مقدمة تاريخية لفلسفة الدين)، من تأليف: الكاتبة ليندا زاغزبسكي. وفيه تعرض نظريتها حول العلاقة بين الدين والأخلاق. وهو كتاب جدير بالقراءة.
والثالث: كتاب (الأخلاق الدينية)، تأليف: أبو القاسم فنائي. وهو بحث تحقيقي، وجديرٌ بالملاحظة.
وهنا أشير أوّلاً إلى بعض الملاحظات عن الكتابين الأوّلين، ثم أتحدّث بالتفصيل عن الكتاب الثالث.
2ـ الأخلاق للحياة
يحتاج التوصيف والتحليل في الكتاب الأول إلى مجالٍ آخر، إلاّ أننا نذكر بعض الكلمات لمَنْ لم يكن الكتاب في متناوله، أو لا يمكنه الاستفادة منه. فهذا الكتاب في الحقيقة مدخلٌ جادّ لمباحث الأخلاق، ومعزَّز بنصوص من المراجع الأصلية في هذا العلم، ويتمتع بأسلوب تعليمي عال.
نظمت المؤلفة كتابها في أحد عشر فصلاً، شرعت من المفاهيم، وبنظرةٍ عامة للقضايا الأخلاقية، ثم عرضت المذاهب الأخلاقية المختلفة ومجالات هذا العلم، وعرجت على أخلاق الفضيلة، وأنهت الكتاب بخاتمة جديرة بالاهتمام.
ونوهت في تلك الخاتمة إلى قوّة وضعف كلٍّ من النظريات الأخلاقية الثلاث السائدة في الغرب. ولهذا فقد اعتبرت النظرية النفعية لجون ستورات ميل فاعلة جدّاً في السياسة العامة. وكثيراً ما كانت هناك غفلة عن الكرامة الفردية. ومن جهةٍ أخرى فنظرية ديكارت في الأخلاق وإنْ قدّمت أساساً متيناً ووجوباً مطلقاً للسلوك الأخلاقي، إلا أنها تتوقّع من الإنسان أكثر من اللازم، ومن الصعوبة القبول بها. ونظرية أخلاق الفضيلة التي أعيد إحياؤها في العقود الأربعة الأخيرة في الغرب يمكن اعتبارها مكملة لتلك النظريات، لا منافسة لها.
وبينما تختلف تلك النظريات عن بعضها فإن بينها تشابهاً جديراً بالاهتمام أيضاً. فمثلاً: كلّ النظريات ترغب في أن تكون أصولها عامّة وحيادية، وتحترم شخصيات الأفراد، وكلّ فردٍ يسعى لإصلاح ذاته. والنظريات الأخلاقية ـ أساساً ـ تميل إلى التبسيط، ولا تغطي كلّ الأبعاد. وتلك النظريات ـ بحسب تمثيل بوذا ـ مثل عميان يريدون وصف فيلٍ في الظلام. فكلٌّ منهم صادق في إثبات ما أدركه، إلاّ أنه يخطئ غافلاً عن الأجزاء الأخرى. والمهمّ هو رؤية الصورة الكاملة. يشبّه ديفيد روس ـ الفيلسوف المعروف في القرن العشرين ـ الرأي الأخلاقي بعملٍ فنّي. ولا توجد صيغة واحدة وقاعدة ثابتة لحلّ كلّ القضايا الأخلاقية. ولا بُدَّ أن يتّخذ القرار بحنكةٍ في ظروف خاصة. إلاّ أن المهم أن نعرف أنفسنا، ونسعى دائماً للتغلُّب على الآليات الدفاعية وتعلُّقاتنا الذهنية؛ لنصبح أناساً أكثر فضيلة وحكمة.
الفصل الخامس من هذا الكتاب يدرس العلاقة بين الدين والأخلاق. وبعد التعريف بنظرية الأمر الإلهي المعروفة، تناقشها الكاتبة، وتعتبرها غير منتجة، وتعتقد أن نظرية الأمر الإلهي لا تقدِّم تفسيراً مقبولاً للأخلاق، وبذلك فإنها تتحدّث بمقدار معرفته بها. فإن العجز عن تفسير جامع أمرٌ، والصحة والبطلان أمرٌ آخر. ولهذا فإن بوس، وبعد أن تشير إلى إشكاليات هذه النظرية، تؤكِّد أنه من الخطأ أن نعتبر تلك النظرية باطلة بمجرد هذه الأدلة؛ لأننا في تلك الحالة نكون قد ارتكبنا مغالطة التوسُّل بالجهل. ولهذا فأقصى ما يمكن أن ندّعيه في مقابل تلك النظرية هو القول بأننا لا نعلم هل أن الأخلاق مبنية على الأمر الإلهي، أو بعبارةٍ أخرى: الأخلاق مرتبطة بالدين، أم لا؟ فربما يكون الأمر كذلك في الواقع، إلاّ أننا لا نملك دليلاً مقنعاً على ذلك.
3ـ زاغز بسكي([3]) ونظرية الدافع الإلهي([4])
وفي مقابل النظرية السابقة تتبنّى المختصة باللاهوت المسيحي (زاغزبسكي) نظرية خاصة في العلاقة بين الدين والأخلاق، وتدافع عنها، والتي هي غير مبنية على استقلال الأخلاق عن الدين، ولا تصنف كنظرية الأمر الإلهي؛ لأن نظرية الأمر الإلهي تواجه إشكالات حقيقية، ولا يوجد اليوم مَنْ يدافع عنها بصيغتها التقليدية. تسمي زاغزبسكي نظريتها بـ (الدافع الإلهي). وكتابها الرزين والمتقن (مقدّمة تاريخية لفلسفة الدين)، الذي يبحث في فصله السادس عن العلاقة بين الدين والأخلاق، توضح فيه زاغزبسكي نظريّتها في هذا المجال. وقد أدرجت هذه النظرية في نصوص منتخبة (Anthologies)، أو الكتب الدراسية لمادة الفلسفة وفلسفة الأخلاق، وشرحتها هناك. مثلاً: تذكر هذا البحث في الفصل الخامس للكتاب الدرسي في أكسفورد، حرّره ويليام وينرايت، وتدافع عن نظريتها، وأيضاً تشرح نظريتها بالتفصيل في مقالة (الفضائل الإلهية وأصول الأخلاق).
تعتقد زاغزبسكي بأن الدين مبنيّ على الأخلاق، لكنْ بدلاً من أن تربطه بالأمر الإلهي فقد اعتبرته نتاجاً للفضائل الإلهية. والحقيقة أن الله بدلاً من أن يعرَّف كمقنِّن أخلاقي فإنه قُدِّم كمثل أخلاقي أعلى يجب الاقتداء به. وبحسب تعبيرها فإن الله في هذه النظرية بدل أن يكون مقنِّناً، أو مشرِّعاً لا بُدَّ من إطاعته، يعرَّف على أنه قدوةٌ أخلاقية يجب ـ بحَسَب علماء الأخلاق الإسلاميين ـ التشبُّه به. وفي تلك النظرية توجد جذور كلّ الصفات الأخلاقية في الدوافع الإلهية، ويقدَّر عدل الأفراد وأخلاقهم بمقدار تشبُّههم بصفات الله.
إن أهم إشكال يرد على نظرية الأمر الإلهي وصيغتها الإسلامية، يعني نظرية الحسن والقبح الشرعي، أن الحسن والقبح بحَسَب تلك النظرية تابعان للأمر الإلهي، وبالتالي فإنها ستكون نسبية ومتغيّرة. ولهذا السبب فإن السيدة بوس ترى في بناء الأخلاق على الدين نوعاً من النسبية في الأخلاق. ومن خلال التوضيح الذي تقدّمه زاغزبسكي تدّعي أنه ليس هناك موضع للفعل المزاجي في نظريتها، ولأن الله خير محض فلا يمكن أن تصدر منه أفعال غير مناسبة أو أوامر غير مناسبة.
وفي مقالتها (الفضائل الإلهية وأسس الأخلاق) تعرض بنظم خاص نظرية الدافع الإلهي، التي تؤكّد بنحوٍ ما على الفضيلة، وتحاول بناء الأخلاق بنحوٍ على وجود الله. وتشير إلى أن الأخلاق لا تكون ملزمة بلا وجود الله. طبعاً بدون الوقوع في فخّ إشكالات نظرية الأمر الإلهي. وللوصول إلى هذا الهدف قدّمت استدلالاً بسبع مراحل، واستنتجت منه أن الأخلاق إنما يكون لها معنى فقط في فرض وجود الله. ويحتاج عرض تفاصيل النظرية ومناقشتها إلى مجالٍ آخر، ونكتفي هنا بهذه الإشارة.
لكنْ نظراً للأهمية المتزايدة لأبحاث الدين والأخلاق، والعلاقة بينهما، في أوساطنا العلمية فمن المناسب أن يكون الكتاب الثالث قد تناول هذا البحث بصيغته المحلية، والذي سندرسه بتفصيلٍ أكثر، ونشرح أساسياته، ونعرض لبعض الانتقادات التي وُجِّهت إليه.
4ـ الأخلاق الدينية
يمثِّل هذا الكتاب في الحقيقة التكملة المنطقية لكتاب (الدين في ميزان الأخلاق). ولا بُدَّ من قراءتهما وفهمهما على التوالي.
الكتاب الأوّل قسّم إلى بابين.
وفي الباب الأول فصلان: 1ـ تمهيد تاريخي للعلاقة بين الدين والأخلاق، 2ـ تعريف الدين والأخلاق.
والباب الثاني يشتمل على خمسة فصول: 1ـ ارتباط الأخلاق بالدين، 2ـ ارتباط الدين بالأخلاق، 3ـ خدمات الدين في مجال الأخلاق، 4ـ المراقب المثالي والمشهد الأخلاقي، 5ـ الله بوصفه مراقباً أخلاقياً.
في هذا الكتاب يتتبع الكاتب دراسة أنواع الارتباطات الممكنة بين الدين والأخلاق، ويشير إلى أن الدين والأخلاق قد ارتبطا بشدّة وتعاضدا عملاً، وإنْ كانت الأخلاق مستقلّةً عن الدين من الناحية المفهومية والمعرفية والوجودية.
تمكّننا معطيات الكتاب من التوفُّر على فهم أخلاقي لماهية الدين وحقيقته.
في هذا الكتاب يحلِّل المؤلِّف أخلاق الاجتهاد، والقيم التي يجب أن تحكمها، مع حفظه لرؤيته السابقة. ويسعى لتسخير هذا الفهم الأخلاقي في تفسير أحكام الشريعة أيضاً.
وهكذا، فبالرغم من كون هذا الكتاب أكثر تفصيلاً من الكتاب السابق، ويضاعفه بالحجم تقريباً، فقد اختار جانباً محدّداً حصره بأخلاق الاجتهاد، أو مجموعة القيم والأمور التي تكون دالاًّ للاجتهاد أو البحث والتفكير الفقهي، أو ينبغي أن تكون([5]).
يحتوي الكتاب، مضافاً إلى مقدمته الموسعة، سبعة فصول.
في الفصل الأول ساق الكلام عن استبدال الأخلاق بالفقه. والفصل الثاني يطرح تحدّيات الفقه في العصر الحاضر. والفصل الثالث يتطرق إلى اختلاف العقلانية التقليدية عن العقلانية الحديثة. والفصل الرابع يميز بين العقلانية الفقهية والعقلانية العرفية. والفصل الخامس يبحث القبض والبسط النظري للفقه. والفصل السادس يختصّ ببسط التجربة النبوية. والفصل السابع يتكلم عن الترجمة الثقافية للنصوص الدينية.
والرابطة الخفية وإنْ كانت قائمة بين أبحاث الكتاب، إلاّ أن فصوله ليست بذلك الترابط. وخلافاً للكتاب السابق لا تتمتّع بذلك الانسجام التامّ.
والحقيقة أن هذا الكتاب ـ لأسبابٍ عديدة ـ ليس سهلَ القراءة، ومن الصعوبة مجاراة المؤلِّف إلى مقاصده. ومع ذلك فهو كتابٌ ضروري لمَنْ لديه هاجس ديني وأخلاقي.
وكان للمؤلِّف مسألة، وكان كلّ همِّه العمل على معالجتها، وهي حفظ اعتبار الفقه، وجعله فاعلاً في الفترة المعاصرة التي غيَّرت نوع نظرة الإنسان إلى الفقه والشريعة والتعبُّد. فهو من جانبٍ يسعى لحفظ التقليد الديني، والالتزام بمنشئه الإلهي؛ ومن جانبٍ آخر يريد مزامنته لقضايا العصر. وهذه هي النقطة الأساسية التي يجب أن تكون مورد نظر القارئ عند مطالعته لهذا الكتاب.
الأفكار الأساسية للكتاب
والآن، قبل أن نبدي بعض الملاحظات على الكتاب، لا بأس بإلقاء نظرة على أفكاره الأساسية.
يرى المؤلِّف أن النزاع الطويل بين التقليد والتجديد في البلدان النامية هو في الحقيقة نزاع بين اتجاهين متنافسين: الأخلاق المعتمدة على الفقه التقليدي؛ والأخلاق العلمانية، أي ما وراء الدينية؛ لأن الحداثة قائمة على قواعد أخلاقية حديثة تصطدم بإشكاليات مع الفقه التقليدي([6]).
وفي هذا المضمار يتّخذ المؤلِّف جانب الأخلاق العلمانية، ويعتقد أن على الأحكام الفقهية أن تنسجم مع القواعد الأخلاقية ما وراء الدينية. وبالتالي فهو يدافع عن الأخلاق العلمانية، بمعنى أنه يرى تقدُّم شريعة العقل على شريعة النقل([7]). ومن هذه الرؤية ينتقد الفصل الأول من الكتاب حاكمية الفقه على الأخلاق، ويبين أن الأحكام الفقهية هي التي لا بُدَّ أن تمرّ عبر مشرحة القواعد الأخلاقية، لا العكس. ويرى الكاتب أن العقل في النظرة التقليدية ليس له تلك الفاعلية الضرورية، وبالتالي فإن الأخلاق والفهم الأخلاقي لا بُدَّ أن يتبع الفقه والقواعد الفقهية.
وينقل المؤلِّف في هذا الفصل أربع استدلالات لإثبات ضعف العقل، وينظمها، ثم يشرع بنقدها جميعاً، ويتجاوزها، ويدافع عن حجّية العقل وإصلاحه الذاتي.
وكمثال: يتدرّج أحد هذه الاستدلالات إلى أن ينتهي بوضع الفقه بديلاً عن الأخلاق كالتالي: 1ـ إن جزءاً كبيراً من المصادر الدينية تبين الأحكام التكليفية والأحكام العملية، 2ـ إذا استطاع الإنسان أن يكتشف هذه الأحكام مستقلاًّ عن الدين سيكون وجودها في الدين لغواً؛ 3ـ إذن لا بُدَّ أن يقوم الفقه بهذه المهمة؛ لكي يبرِّر وجودها، ولا يلغى حكم الشارع([8]).
يرى الكاتب أن هذه الطريقة من الاستدلال خاطئة؛ لأنه:
أوّلاً: يلغي دور العقل لتبرير وجود الأحكام.
ثانياً: إن فيه التباساً بين مرحلة كشف الأحكام ومرحلة التقييم. فربما كان الدين حقاً هو الذي جاء بهذه الأحكام وكشف عن ضرورتها، إلاّ أن ذلك لا يصلح دليلاً لكونه هو المعرّف لها، والذي يكسبها الاعتبار. فمثلاً: يمكن أن يخبرنا الدين أن العدل حسنٌ، إلاّ أن العقل هو الذي يحكم في ذلك([9]).
الجواب قد يكون مقنعاً، لكنْ ألا يمكن الاستفادة بدلاً عنه باستدلال الخواجه نصير الدين الطوسي، وشارحه العلاّمة الحلّي، في باب شبهة البراهمة. فبحَسَب هذه الشبهة إنّ ما يأتي به الأنبياء إما أن يكون موافقاً للعقل؛ أو مخالفاً له. فإنْ كان موافقاً للعقل فلا حاجة لما يأتي به الأنبياء مع وجود العقل؛ وإنْ كان مخالفاً للعقل فلا حاجة لنا به بطريقٍ أَوْلى. ولهذا فإن جوابهما هنا متينٌ، وبدلاً من الإذعان للمنفصلة الكاذبة يمكن طرح فروض أخرى، وفي نفس الوقت الدفاع عن اعتبار العقل وضرورة الشريعة.
وفي الفصل الثاني يبحث الكاتب تحدّيات الفقه التقليدي في العالم الجديد. وفي هذا الفصل يتساءل المؤلِّف عن حجّية أدوات الاستنباط الفقهي، كالقطع.
ويؤكِّد أن العالم الجديد، الذي يختلف عن العالم القديم، لا بُدَّ أن يعرف أوّلاً، ثم يحكم عليه.
ومن هذا المنظار فإن هناك أسلوبان لحلّ قضايا العالم الجديد: الأسلوب التقليدي؛ والأسلوب الجديد.
يرى الكاتب أن المجتهدين التقليديين مضطرّون لتحويل المسائل الجديدة إلى المسائل القديمة، ثم معالجتها اجتهادياً على هذا الأساس. والطرق التي يسلكونها في هذا الباب هي أربعة: 1ـ التمسُّك بالعناوين الثانوية؛ 2ـ تقسيم الأحكام إلى الثابت والمتغيِّر، وطرح فكرة منطقة الفراغ، التي مهَّدت الطريق لقانون الجمهورية الإسلامية؛ 3ـ طرح عنوان مقاصد الشريعة، وضرورة الاهتمام بها؛ 4ـ التأكيد على دور الزمان والمكان في الاجتهاد، وتقدُّم مصلحة النظام على الأحكام الأولية والثانوية.
وهذه الطرق الأربعة، رغم الاختلاف بينها، إلاّ أنها تشترك بنقطة واحدة، وهي صحّة وكمال المنهج الاجتهادي للقدماء، واعتبار مفروضاتهم مسلَّمات. ومن هذا المنظار فالخطأ في التطبيق وليد ضعف المجتهد في فهم الحالة والتطبيق الصحيح للمسائل. ولهذا السبب هناك تأكيدٌ على فهم الموضوعات والمصالح. ويرغب إلى الفقهاء الاهتمام بهذه النقطة. بينما لا تكمن الإشكالية الحقيقية في الفقة، وإنما في فلسفة الفقه، ومفروضات الفقيه، والتي لا بُدَّ من إعادة النظر فيها. وتلك المفروضات حصيلة عدم الاطّلاع على العالم الجديد. لذا يجب معرفة العالم الجديد وخصائصه أوّلاً، ثم تقديم المعالجات لإشكالياته.
والحاصل: يرى الكاتب ضرورة البحث المفصَّل عن خصائص العالم الجديد، وإحصاء مميزاته. فأهمّ خصائص العالم الجديد عبارةٌ عن: 1ـ العلمانية، 2ـ بروز الإرادة كبديل عن الحقّ، 3ـ العقلانية والأخلاق الجديدة، 4ـ الاعتقاد بتاريخية جزء من الشريعة، 5ـ إمكانية اختبار صدق الادّعاءات الدينية([10]).
بينما كان العالم القديم يدور على فكرة التكليف، وفكرة الحقّ. ولا يمكن أن يجمد العالم في ذلك النمط التقليدي. وفي مقابل الإله الذي يطرحه الفقه التقليدي لا بُدَّ من الحديث عن إله أخلاقي، والذي يتّصف بخاصيتين مهمتين: 1ـ تتوفّر فيه الفضائل الأخلاقية، وينزَّه عن الرذائل الأخلاقية، 2ـ تتقدَّم أوصافه الأخلاقية على وصفه بالربوبية والمالكية والمشرِّعية([11]).
والفكرة الرئيسة في الفصل الثالث هي البحث عن التفاوت بين العقلانية التقليدية والعقلانية الحديثة، مع التأكيد على أن العقلانية الحديثة من الأركان الأساسية للعالم الجديد، ولا يمكن إهمالها بحالٍ.
وفي هذا الفصل يقسم ـ باستفاضةٍ ـ الأمور إلى: عقلانية؛ وغير عقلانية، وما وراء العقل. ويذكر تقسيمات للأنواع العقلانية: الناظرة إلى المنهج، والناظرة إلى النتيجة، والعقلانية النظرية؛ والعملية. ومن هنا يقسم العقلانية العملية إلى قسمين: الأداتية؛ وغير الأداتية. ويقسِّمها بلحاظٍ آخر إلى: أخلاقية؛ واقتصادية.
ويرى أن موضوع العقلانية النظرية هو الفكر والعقيدة، بينما ترجع العقلانية العملية إلى العزم والفعل. وتعني العقلانية النظرية (تناسب الدليل والمدّعى)، أي إن أيّ دليل لا يصلح لإثبات أيّ مدّعى، ولا بُدَّ أن يكون متناسباً معه([12]). وفي المقابل فإن العقلانية العملية الناظرة إلى العزم تنقسم إلى قسمين: الأداتية؛ وغير الأداتية. وتلك التقسيمات مقدّمة لتمايز العقلانية الفقهية عن العقلانية العرفية. وهذه المهمة أوكلت إلى الفصل الرابع.
ويرى الكاتب أنه ليس الفقه بل العقلانية الفقهية ـ وبسبب مفروضاتها وأصولها ـ عاجزة عن حلّ الإشكاليات التي ولدت في العالم الجديد. ولذا فإن أيّ إصلاح يبدأ من تلك الأصول أوّلاً. ويحاول المصلحون والمجدّدون حلّ هذه المشكلات مع حفظ الإطار الفقهي التقليدي، ولذلك تجدهم يفشلون في هذا المضمار؛ لأنهم يواجهون تكافؤ الأدلة، وفي النهاية يصلون إلى حكمين متعارضين، وبنفس القوّة([13]).
ثم ينقد بعض الأحكام، ويرى أنها لا تنسجم ـ ظاهراًـ مع العقل الحديث، مثل: جواز السرقة الأدبية([14]). والآن إما أن يلغى دور العقل؛ أو الاعتراف بعدم عقلانية تلك الأحكام؛ أو البحث عن طريق ثالث.
والحلّ الذي يقدّمه الكاتب أن فهم الشريعة يقوم على ركنين: الركن الداخلي أو القرآن والحديث؛ والركن الخارجي أو القواعد العقلانية والمفروضات حول الله والعالم وأمثالها. ولهذا فإن بعض الفتاوى المخالفة للعقل وليدة المفروضات الخاطئة من حيث المنهج ومعرفة الله وأمثالها، والتي تعدّ ركناً خارجياً، ولا بُدَّ من إصلاحها([15]).
والحقيقة أن التعارض الواقع بين الشرع والعرف هو بالأساس تعارض بين «عرف صدر الإسلام» و«عرف المجتمع الحديث»، بمعنى أن الكثير من الأحكام المثيرة للإشكال هي من أحكام الإسلام الإمضائية، لا من أحكامه التأسيسية. فمثلاً: في الوقت الذي كان فيه الرقّ رائجاً أجازه الإسلام أيضاً. والآن حيث تغيَّر عرف المجتمع فلا يمكن الحديث عن إسلامية هذا الحكم وإمضائيّته([16]).
ومن هذه الجهة فإن أحد أسباب الأحكام المخالفة للعقل هو التباس الأحكام التأسيسية بالأحكام الإمضائية، وعدم توفُّر معيار للتمييز بين هذين النوعين.
وقد أدَّتْ هذه المسائل إلى تصادم الأحكام الفقهية مع العقل في بعض الحالات، والسبيل للخروج من ذلك تفعيل الفقه. وهو مرهونٌ بالتجديد. وهذا متوقِّفٌ على إصلاح المباني الفلسفية للفقه([17]). أمّا كيف يجب الخروج؟
يقول «فنائي»: قد طرحت عدّة حلول للخروج من الوضع القائم. وأهمّ ثلاثة منها عبارةٌ عن: «القبض والبسط النظري للفقه»؛ «بسط التجربة الفقهية النبوية»؛ و«الترجمة الثقافية للنصوص الدينية».
طرحت هذه الحلول في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب، ونوقشت فاعليتها.
وتناول الفصل الخامس نظرية القبض والبسط الفقهي، التي لها جذور في نظرية قبض وبسط الشريعة النظري، وتطرح جانباً، رغم القبول بها.
والمدّعى الأساسي لنظرية «بسط التجربة الفقهية النبوية»، الذي شرح بالتفصيل في الفصل السادس من الكتاب، أن «للشريعة في مقام الثبوت (عالم التشريع) بسط تدريجي وتاريخي. وهذا البسط مستمرٌّ إلى الأبد، ولا يتوقَّف بختم النبوّة ووفاة النبيّ|»([18]).
وبهذه النظرة يمكن أن نتعرَّف على نوعين من الاجتهاد: اجتهاد بمحورية القانون؛ واجتهاد بمحورية النموذج.
والنوع الأوّل ينتهي بالتمسُّك بالظاهر، والنوع الثاني إمكانية بسط التجربة النبوية في مجال الفقه؛ لأنه ينظر إلى النبي الأكرم| بمثابة نموذجٍ، ولو كان اليوم موجوداً لفعل كذا وكذا.
والنوع الأوّل يعمل على إعادة تنظيم المجتمع الفعلي على ضوء قوانين زمان النبيّ|. أمّا النوع الثاني فيحاول أن يبرز لو كان النبيّ| موجوداً في مجتمعنا فكيف سيتّخذ قراراته؟ وكيف يضع القوانين ويمارس أعماله؟
يسعى «فنائي» بعد ذلك لتوضيح وشرح مباني هذه النظرية ومفروضاتها.
وأخيراً فالنظرية المطلوبة من فنائي في هذا الكتاب هي «الترجمة الثقافية للنصوص الدينية»، والتي يشرحها في الفصل الأخير للكتاب. والفرض القبلي لهذه النظرية أن الدين (قادم) قدسي وسماوي، صبّ في وعاءٍ عُرْفي وأرضي، لهذا فإن تقدُّس وخلود وأبدية القادم يجب أن لا تسري إلى وعائه»([19]). وخلود الدين ـ من وجهة نظره ـ لا يعني خلود كافّة الأحكام الدينية([20])، وأن «الاجتهاد يعني الترجمة الثقافية» في مقابل الترجمة اللفظية.
والحقيقة أن هناك ثلاث اتجاهات دينية يمكن عرضها: 1ـ الاتجاه المتحجِّر الباقي في قيد الوعاء القديم، ويسعى لإضفاء الأصالة عليه، ويدّعي ـ بغير حقٍّ ـ أصالة نظريته؛ 2ـ الاتجاه الالتقاطي، الذي يدخل العالم الجديد ويجدِّد كلّ شيءٍ في الدين؛ 3ـ الاتجاه النقدي، الذي يسعى لتبيين العلاقة بين الحالّ والمحلّ([21]).
يحاول الكاتب، الذي يتبنّى الدفاع عن الاتجاه الثالث، أن يقدِّم ملاكات لتمييز الحالّ عن المحلّ، وإنْ اعترف أن بعضها متلابسة. وهذه الملاكات عبارةٌ عن: 1ـ عدم الانسجام مع العقل والعقلانية الجديدة. 2ـ عدم الانسجام مع الفطرة. 3ـ عدم الانسجام مع ربوبية الله. 4ـ عدم الانسجام مع إنسانية الإنسان. 5ـ عدم الانسجام مع القيم والالتزامات الأخلاقية. 6ـ عدم الانسجام مع ضروريات ومقوّمات الحياة الجديدة. 7ـ عدم الانسجام مع الجهات الحسنة والإيجابية في الحياة الجديدة. 8ـ عدم الانسجام مع الحقائق التجريبية. 9ـ عدم الانسجام مع أصول الدين. 10ـ عدم الانسجام مع مقاصد الشريعة. 11ـ عدم الانسجام مع توقُّعات الإنسان من الدين. 12ـ عدم الانسجام مع العرف الجديد([22]).
وبهذه النظرة يمكن القول: إن للاجتهاد مرحلتين:
الأولى: الترجمة الثقافية للنصوص، والتي ينزع الدين بحَسَبها ثوبه القديم.
الثانية: وهي إظهاره بثوبٍ جديد يناسب المرحلة الزمانية المعاصرة([23]).
فمثلاً: دفع الزكاة وعدم جواز الاحتكار من أحكام الإسلام المطلقة، إلاّ أن النصوص التي تحدِّد مواردها والمصاديق التي تجب فيها توضِّح الموارد التاريخية لا غير، ولا بُدَّ من ترجمتها ترجمة ثقافية في مقابل الترجمة اللفظية، وجعلها متناسبة مع العصر([24]).
5ـ ملاحظات حول الأخلاق الدينية
حاولنا تقديم عرضٍ أمين ومفصَّل عن ذلك الكتاب، ووضعنا اليد على النقاط الأساسية فيه.
والحقيقة أن الجانب المفيد والمهم في هذا الكتاب هو هاجس الدين والأخلاق. وكانت مهمة الكاتب في أن لا يجعل من أحدهما فداءً للآخر. ولهذا السبب فقد قرأت الكتاب إلى نهايته رغم الصعوبات التي واجهتها. لكنّ ذلك لا يمنع من عرض بعض النقاط حول محتوى الكتاب، وآراء كاتبه.
وبدون الدخول في الجزئيات فإنّي سأكتفي هنا بالاشارة إلى ستّ نقاط أساسية:
1ـ حجم الكتاب ومحتواه ليس مناسباً. فهذا الكتاب لا يتوفَّر على اختصار كتاب «الدين في ميزان الأخلاق»، ولا الانسجام الذي يتمتّع به. فبينما اجتهد مؤلِّف الكتاب السابق أن يأتي بأبحاث متعدّدة ودقيقة بعبارات جزلة، وهو ما أدّى إلى الإبهام في بعض المواضع، نرى في الكتاب الحالي إفراطاً في تفصيل الأبحاث.
بالإضافة إلى أن فصول الكتاب السابق مترابطة، وتشرح فكرة واحدة، إلاّ أن الكتاب الحالي ليس كذلك. والحقيقة أن كلّ فصلٍ فيه يحظى باستقلالٍ نسبي.
وقد أشار الكاتب أحياناً إلى أن خلاصة بعض الفصول سبق أن نشرت في المجلات المطبوعة([25])، وهذا أدّى إلى عدم الاهتمام الكافي بحجم الفصول، بحيث نشاهد أحياناً فصلاً أكثر من مئة صفحة إلى جانب فصلٍ بسبع وعشرين صفحة.
إلاّ أن المشكلة الاساسية ليست في حجم الكتاب. وكأنّ الكاتب لم يعيِّن بدقّة مخاطَبيه في هذا الكتاب. ومن الطبيعي أن يكون قرّاء هكذا كتاب من أهل الاختصاص، أو المتابعين للفكر الديني المعاصر، وممَّنْ لديهم الاطّلاع التامّ على بعض مسائل هذا المجال المعرفي. لذا كان على المؤلِّف، بدلاً من شرح وتوضيح كلّ شيء، أن يعتمد على معلومات مخاطَبيه، ويرجعهم إلى مصادرها في بعض المواضع، ويختصر أبحاثه في مواضع أخرى. إلاّ أن الكاتب وكأنّه يشعر بأن القارئ غير مطَّلع على كثير من الأبحاث، ولهذا تراه مضطرّاً للتوضيح والتفصيل، وبحَسَب تعبير القدماء: إنه باستطراداته قد ابتعد عن الأبحاث الأساسية. وعلى سبيل المثال: لقد طرح نظرية القبض والبسط النظري للشريعة كأحد السبل للخروج من تحدّي الفقه التقليدي والعالم الحديث. وقد خصّ المؤلِّف فصلاً كاملاً يضمّ 102 صفحة([26]) لشرح هذه النظرية. والحقيقة أن هذه النظرية هي إعمال لنظرية القبض والبسط النظري للشريعة في مجال الفقه. وقد رأى الكاتب ضرورة توضيح مبانيها ومفروضاتها، والحال أن أغلب القرّاء لهكذا كتاب مطّلعون على هذه النظرية التي طرحت في عقد الستينات [بحَسَب التاريخ الهجري الشمسي (أي تسيعينيات الميلادي)]. وقد نشرت أبحاث كثيرة في تبيينها، والدفاع عنها أو نقدها. فإذا نظرنا من هذه الزاوية يمكن أن يختصر هذا الفصل بأربع صفحات، ويرجع القرّاء إلى المصادر المختصة.
إن مشكلة الإطناب والخروج من الهدف الأساسي للبحث لا تختصّ بهذا المورد، بل توجد في مواضع أخرى، ممّا يحول دون استمرار القارئ بمتابعة البحث بسرعةٍ.
فمثلاً: عندما يبحث عن العقلانية العملية يخصّص أربع صفحات لموضوع «لماذا يجب أن يكون الإنسان ملتزماً بالأخلاق؟»، وهو ممّا لا ضرورة له.
2ـ عدم الإرجاعات في هكذا كتاب قلَّلت من قبول مدّعياته. فقد كان يتوقع من مؤلِّف هكذا كتاب جادّ، وهكذا مقام، أن يكون مستعدّاً للإسناد والإرجاع. وبينما نشاهد ذكر مصادر أبيات الشعر والآيات، وحتّى المنامات، للأسف نجد في بعض الأحيان ادّعاءات كبيرة في ذلك الكتاب دون أن يتكلَّف المؤلِّف بذكر مصدر واحد يطمئنّ به وجدان القارئ المترقّب. في هامش النسخة التي عندي كتبت كلمة «المصدر؟»، أي إنني كنت أتوقَّع أن تشفع تلك الأبحاث بمصادرها؛ لكي أتمكَّن من متابعة البحث، والحكم بصحة تلك المدّعيات أو سقمها!
فمثلاً: ادّعى الكاتب أن «بعض الفقهاء يشكِّكون في دور علم المنطق في استنباط الحكم الشرعي»([27]). وقد ذكر هذا الادّعاء بدون أيّ مصدر. فأنا والسيد فنائي لسنا من «بعض الفقهاء»، لكن كلانا درس المنطق في تلك المدارس الدينية، وأنا حتّى الآن لم ألتفت إلى هكذا تشكيك. وليس الكلام عن الالتزام العملي من عدمه، إلاّ أن المنطق اليوم يعدّ من الدروس الأساسية في الدراسة الدينية، بل إن كتاب المنطق، للعلاّمة المظفَّر&، الذي كتب في حوزة النجف الأشرف، ومضت سنوات على نشره، لا يزال من المؤلَّفات التعليمية، ويدرَّس في الجامعات باعتباره كتاباً درسياً. وإذا كان هناك ـ حقّاً ـ لفقيهٍ هكذا رأي بالنسبة للمنطق، فبدلاً من إخفاء اسمه، واستعمال عبارة «بعض الفقهاء»، كان الصواب على الأقلّ الإرشاد إلى مصدرٍ يؤيِّد صحّة هذا الادعاء.
وفي موضعٍ آخر، حيث ينقل الكاتب بعض الفتاوى «المنافية للعقل»، يدّعي أن «السرقة الأدبية جائزة» من وجهة نظر الفقه التقليدي([28]). وليته عرَّفنا على مصدرٍ واحد لادّعاء بهذه الضخامة. وإذا كان مقصوده من السرقة الأدبية نفس السرقة العلمية أو الانتحال، وما يسمِّيه الغربيون (plagiarism)، ففي حدّ مطالعتي لم أعثر على قائلٍ بجوازها. ومنذ القديم عُدَّ هذا العمل في العرف الإسلامي خطأً وغير صحيح. بل هناك دقّة في هذه المسألة، حتّى اعتبر من الخطأ أن ينقل قولاً عن مصادر لم يطلع عليها الكاتب، فضلاً عن سرقة آراء الآخرين، وعدم الإشارة إلى أصحابها. ولما كنت قد بحثت هذه القضية في مكانٍ آخر فلا أتعرَّض لها بأكثر من ذلك.
ومن الطبيعي أن تجد ـ في الواقع ـ بعض التسامح في مقابل السرقات الأدبية التي لا تختصّ بالفقهاء.
فمثلاً: يقول السيد جلال الدين الآشتياني في الدفاع عن ملاّ صدرا، الذي اتُّهم بالاقتباس من الآخرين دون ذكر صاحب القول: إن تلك كانت طريقة سائدة، وإنْ لم يمكن تبريرها. أما هل أن هذا الكلام مقبولٌ أم لا؟ فهذا خارجٌ عن بحثنا، إلاّ أن النقطة الأساسية هي أن رواج فعلٍ ما يجب أن لا يلقى على عاتق الفقه، ويجرّ الفقهاء إليه. والخلاصة أنّ المتوقَّع من الكاتب في هكذا بحثٍ حسّاس أن يذكر المصادر الدقيقة لأقواله. وهذا ما لم يتحقَّق.
3ـ النظر إلى الفقه التقليدي بنظرةٍ واحدة، واعتباره متطابقاً، هي نظرةٌ غير واقعية. فالفرضية المستترة التي اعتمدها الكاتب، وهي أن كلّ الفقه التقليدي في معسكر واحد، والعقلانية الحديثة في الجهة المقابلة. وفي النتيجة يوصي أتباع الفقة التقليدي، بدلاً من الاستمرار في طريقتهم التقليدية، من قبيل: التمسُّك بالعناوين الثانوية، وطرح مسألة (منطقة الفراغ)، لحلّ القضايا المستحدثة، أن يعيدوا النظر في (مفروضاتهم) القبلية. إلاّ أن الحقيقة أنه لا يوجد هكذا تصوُّر واحد في الفقه التقليدي، ونجد بين ما يطلق عليه من بعيد «الفقه التقليدي» تيّارات عميقة في تفكيرها الفقهي وصدور الأحكام. فمثلاً: من وجهة نظر الكاتب، وبحَسَب مبنى الفقه التقليدي، الأخلاق هي التي يجب أن تتبع الفقه، لا العكس. إلاّ أن نظرةً على ما يؤلِّفه علماء الفقه التقليدي يحكي عن ادّعاء بعضهم ـ مع الالتزام بالفقه التقليدي ـ أن الأحكام الفقهية ينبغي أن تتوافق مع الأخلاق، أو على الأقل لا تتعارض معها. ويكفي شاهداً على ذلك مطالعة بعض الحوارات الواردة في كتاب «تأثير الأخلاق في الاجتهاد»، وما ورد فيه من نظريات متنوّعة.
4ـ إن التقليل من شأن التقليد الفقهي لا يثمر شيئاً. فالكاتب يؤكّد بحقٍّ لمرات أن العقل يجب أن لا يطرح جانباً بسبب نقصه المعرفي، ويستشهد بهذا المصراع من شعر المولوي (ما ترجمته): «لا تحرق البساط لأجل حشرة…»([29]). وهذا كلامٌ صحيح. فيجب عدم سلب العقل وثاقته بسبب بعض الأخطاء المعرفية، كما أنه يجب أن لا تسلب الوثاقة من الرياضيات بسبب الخطأ في بعض الحسابات الرياضية (كما قال البلاغي&). وهذا ما يتوقَّع من الكاتب في المواجهة مع الفقه التقليدي. فإنه بسبب الضعف في بعض الاستدلالات الفقهية يجب أن لا يطعن في كلّ النظام المعرفي، والحكم على جميعه بالبطلان؛ إذ نشاهد اليوم من فقهاء هذا السلك صدور أحكام تحظى بقبولٍ اجتماعي، واعتبار علمي على مستوى عالٍ، وقد توصَّلوا إلى تلك الفتاوى بتلك الآليات التقليدية. وسواء كان توصلهم إلى تلك الفتاوى من خلال اتّباع الطريقة الفقهية المعتادة أو التفكير النفعي أو بالتخلي عن بعض الإلزامات المنهجية فليس لذلك تأثير على ما نحن فيه. القضية هي أن الفقيه مع التزامه بالمفروضات التي ذكرها السيد «فنائي» للفقه التقليدي يتوصل إلى فتاوى تنسجم مع العقلانية الحديثة ومتطلبات الإنسان المعاصر. وهذه النقطة حاكية عن القابلية المجهولة للفقه التقليدي.
5ـ ينبغي أن لا نهمل تاريخ الإصلاح الديني. يبدو أن هذا الكتاب يطرح هاجس فاعلية الفقه وتجدُّده، بحيث تختصّ بصنفٍ خاصّ، يمتاز أوّلاً بأنه من خارج معسكر الفقه التقليدي؛ وثانياً: أنه قد جرّب العالم الحديث، وأنّه مطلع بصورة جيدة على نظرته. وبالتالي لم يُشِرْ إلى ذلك الهاجس لدى العديد من الفقهاء، ولم يتعرَّض لأعمال الذين فكّروا و نظّروا في هذا المجال.
فمثلاً: من النقاط التي يذكرها السيد «فنائي»، ويشكل عليها، مسألة الاحتياط والشكّ والوسواس، ومسألة الإعادة، السائدة في الفقه التقليدي([30]).
وهذه القضية صحيحةٌ، إلاّ أنه قبل ثلاثة عقود كان السيد محمد باقر الصدر& قد تعرّض لهذه المسألة في أحد خطاباته، الذي طبع على شكل مقالة، وقال: إن أحد الإشكالات الأساسية في الفقه الشيعي على الدوام سيادة النزعة الفردية، وبالتالي طرح مسألة الشكّ والإعادة والوسواس. ويشير في مقالة الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد إلى تلك المسألة، ويطالب بإعادة النظر فيها.
وكذلك بحث الظرف والمظروف والتفكيك بينهما، الذي يطرحه المؤلِّف في هذا الكتاب([31]). فالذي يبدو أنه قد طرح من قبل الشهيد المطهري& قبل ذلك، وإنْ كان من منظارٍ آخر. فإنه بعد عرض مسألة الحسن والقبح العقلي المشهورة يعتقد بوجود ثمرةٍ عملية لهذه المسألة، «فعلى ضوء هذا المبنى سنثبت للأحكام الإسلامية روحاً وغرضاً وهدفاً، ويحصل لنا اليقين أن للإسلام هدفاً، ولا يمكن أن ينحرف عن هدفه أصلاً. ونحن نسير بمعية هذا الهدف. الأمر الآخر أننا سوف لن نتبع الشكل والصورة الظاهرية»، وبالتالي ندين الربا والسرقة بأيّ نحوٍ كانت. أما بناءً على الحسن والقبح الشرعي فإن كل شيء تابع لشكل وصورة ثابتة، وليس للعقل طريق إلى علل الأحكام، وحينئذ «لن تكون هناك أيّ روح ومعنى للقوانين والأحكام الإسلامية، تلك الروح التي نجعلها أساساً وقاعدة. كلّ ما هنالك هو الشكل والصورة، وبتغيُّرها يتغيَّر كلّ شيء».
نحن نعرف أن المطهري وغيره من علماء الشيعة يتبعون نظرية الحسن والقبح العقلي، وبناءً عليه فالمطهري يعتقد صراحة بتقدم المضمون على الشكل أو الظرف، ويؤكِّد أن روح الحكم هي التي تتمتَّع بالأهمّية، لا الشكل والصورة.
6ـ استبعاد الحلول التقليدية، وإخراجها من الباب والإتيان بها من الشبّاك. ويبدو أن السيد فنائي عمل في كلّ الكتاب على إظهار ضعف الحلول التقليدية، لكنه في النهاية يستعين بها لتثبيت نظريته. فإنه في كلّ الكتاب يشير إلى عقم الطرق الفقهية باختصارٍ، ولا يبحث أكثر من ذلك. إلاّ أنه في آخر كتابه يستعمل بعض هذه الطرق في نظرية الترجمة الثقافية للنصوص الدينية. وإحدى الطرق هي نظريّة تقدُّم مقاصد الشريعة على الأحكام. ومع ذلك يدّعي أن هذه الطرق لا تثمر شيئاً، و«قد أثبتت التجربة ضعفها وافتضاحها»([32]). لكنّه عندما يعرض نظريته، أي الترجمة الثقافية للنصوص الدينية، من خلال التفكيك بين الظرف والمظروف، يعتبر أحد ملاكات معرفة الشكل من المحتوى أو الظرف من المظروف هو «عدم الانسجام مع أهداف ومقاصد الشريعة»([33])، لكنّ مقاصد الشريعة تلك هي الأسلوب المستعمل منذ أكثر من ألف سنة في فهم أهداف الشريعة. وبذلك يكون منهجه هنا ـ كما يقول القدماء ـ «كرَّ على ما فرَّ».
والمحصَّل أننا في حين نتفهّم الهاجس الأساسي للكاتب، وهو التوفيق بين الدين والأخلاق في العالم المعاصر، إلاّ أن الحلول التي طرحها الكاتب يمكن أن تواجه نفس الإشكاليات التي ذكرها على الحلول الرائجة. فما ذكره حول نظرية القبض والبسط النظري للشريعة بأن الإشكال الحقيقي أن اقتراح استعمال العلوم الجديدة في الإفتاء لمَنْ يعتبر الظنون العقلية والتجريبية غير معتبرة لا يؤدّي إلى نتيجة([34]). كذلك يمكن أن يقال للكاتب: إن الذين لا يعترفون بالمنهج السائد في العالم المعاصر كيف يمكنهم أن يقبلوا بملاكات وقواعد عقلانيته. والحاصل أن المخرج الذي يقترحه السيد فنائي يرجع قسمٌ منه إلى تلك النظريات التقليدية، كالاهتمام بمقاصد الشريعة، والقسم الآخر يرد عليه إشكالات النظريات السابقة. وعليه «فالقصة باقية على حالها».
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة والجامعة، وأستاذٌ في جامعة الأديان والمذاهب في إيران.
([3]) Linda Trinkaus Zagzebski.
([4]) Divine Motivation Theory.
([5]) فنائي، الأخلاق الدينية: 15.
([23]) المصدر السابق: 537 ـ 538.
([26]) المصدر السابق: 287 ـ 388.
([29]) المصدر السابق: 63، والأصل الفارسي: بهر كيكي تو گليمي را مسوز.