د. مالك أبو حمدان(*)
الخلاصة
يتناول هذا البحث موضوع إسهامات عمل «اقتصادنا»، للسيد محمد باقر الصدر، منطلقاً من أطروحةٍ مجدّدة، مفادُها أن التركيز على هذه الإسهامات يجب أن يكون من الزاويتين الإبستمولوجية والمنهجية، حيث يكمن حجر زاويتها، بخلاف ما ذهبَتْ إليه أكثر الدراسات حول هذا العمل. ويقدّم هذا البحث اقتراحاً يهدف إلى تجديد وتطوير منهجية البحوث إسلامية الطابع بشكلٍ عامّ، وهو مبنيّ على التقريب بين إسهامات «اقتصادنا» المنهجيّة وطروحات مدرسة ماكس فيبر المنهجيّة الأساسية. ويقترح، إذن، بشكلٍ رئيس، التقريب بين فلسفة منهجية بناء «المفاهيم الإسلامية» عند الصدر وفلسفة منهجيّة بناء «النموذج ـ المثالي» عند ماكس فيبر، مع الأخذ بالأُطُر الإبستمولوجية الأساسية لهذه الأخيرة.
مقدّمةٌ
إنه لمن المفاجئ حقيقةً للباحث الأمين والمحايد أن يلاحظ قلّة الدراسات العلمية ـ الأكاديمية بشكلٍ خاصّ ـ التي تناولَتْ أعمال السيد محمد باقر الصدر، ولا سيَّما منها: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بشكلٍ رصين ودقيق، والأهمّ بشكلٍ علميّ محايد أيديولوجيّاً. ولنأخذ مثلاً عمل الصدر الشهير حول البحث عن المذهب الاقتصادي للإسلام، وهو عمل (اقتصادنا)([1]). وقد نشره السيد الصدر (1935 ـ 1980م) في خضمّ الصراع الفكري الأيديولوجي بين الماركسية من جهةٍ والرأسمالية من جهةٍ أخرى، في النصف الثاني من القرن العشرين. فمن النادر أن نجد حوله أبحاثاً نقدية محايدة وجدّية واقعاً، وذلك من وجهة النظر العلمية، لا في صفّ المدافعين، ولا في صفّ المهاجمين. وقد فوجئْتُ على المستوى الشخصي، حقيقةً، عندما وصلتني فيديوهات ومقولات لصحافيين ورجال دينٍ تسخر بشكلٍ واضح من هذا العمل، ومن صاحبه، دون أيّ اعتبارٍ للحياد والأمانة العلميّين.
واللافت هو ما يخرج من هذه الفيديوهات والمقولات من مسائل تدلِّل مجدَّداً على جهلٍ عميق بالمسائل الإبستمولوجية المؤسِّسة لأيّ بحثٍ. فنرى أحدهم يخلط بين الاقتصاد بمعنى علم الاقتصاد (ومنه: الاقتصاد السياسي المدرَّس اليوم في الجامعات الغربية خصوصاً) والاقتصاد بمعنى المذهب الاقتصادي (أي الفلسفة أو الأيديولوجيا أو العقيدة الاقتصادية). ونرى الآخرين يقعون في الخطأ ذاته، مع إغفالهم شبه التامّ لخلفية أبي جعفر الصدر الفلسفيّة، والتي ـ بلا أدنى شَكٍّ ـ قد أثَّرَتْ على طبيعة عمل (اقتصادنا)، كما على تموضعاته ونتائجه. نحن إذن أمام مشكلةٍ حقيقية في ما يخصّ مقاربة هذا العمل وإسهاماته، من قِبَل كلّ الأطراف عموماً، وبالتالي، أمام مشكلة أخطر برأينا، وهي تخصّ تفويت فرصةٍ تجديديّة كبرى أمام مستقبل منهجية البحث الإسلامي، بل رُبَما أمام مستقبل الفكر الاسلاميّ ككُلٍّ.
فإنّ أطروحتنا المركزية في هذه الورقة تتمحور حول فكرتين مركزيتين لا بُدَّ من ذكرهما، برأينا؛ إنصافاً للبحث العلميّ بشكلٍ عامّ، ولمستقبل العلوم الإسلامية الطابع بشكلٍ خاصّ، كما أسلَفْنا.
أوّل هاتين الفكرتين هي: التشديد على أنّ عمل اقتصادنا ليس عملاً عابراً في مجال الأبحاث المعنية بتجديد الفكر الإسلامي المعاصر.
وثانيهما: إنّ التركيز يجب أن يتمحور، بالتالي، حول الإسهامات الإبستمولوجية والمنهجية (الظاهرة منها والضمنية) لهذا العمل، أكثر من الإسهامات المفاهمية الجزئية النهائية (كطَرْحه مثلاً حول مفهوم «العمل المنفق» في وجه الرأسمالية، وحول «استمرارية الملكية» في وجه الماركسية…، إلخ).
إننا نعتقد، بصراحةٍ، أن أغلب ناقدي هذا البحث إما وقعوا في فخّ الحُكْم القِيَمي كما حدَّد معناه الفيلسوف والعالم الألماني الاجتماعي ماكس فيبر([2])؛ أو أخطأوا في التصويب على الجوانب الجزئية([3]) دون الجوانب الأهمّ، وهي الجوانب المعرفية (أي الإبستمولوجية) والمنهجية. وهذه الأخيرة تشكِّل برأينا ـ وبكلّ موضوعيّةٍ ـ ثورةً في عالم البحث حول المواضيع الإسلامية، وهذا ما لم يلاحظه أكثر ناقدي (اقتصادنا)، كما سنفصِّل([4]).
ومن المهمّ في هذا السياق التشديد على أننا لسنا في صدد الدفاع الأيديولوجي أو الديني أو الحزبي عن السيد محمد باقر الصدر، وإنما في صدد الدفاع عن الأمانة العلميّة، وخصوصاً في صدد الكشف عن كنوز ثمينة لمستقبل الدراسات حول تجديد منهجية البحوث الإسلامية أو ذات الطابع الإسلامي عموماً([5]).
1ـ «اقتصادنا» والأبعاد الإبستمولوجيّة والميتودولوجيّة الأساسيّة
في بداية عَرْضنا لا بُدَّ من التوقُّف عند بعض المصطلحات التي نستعملها، وبشكلٍ مقتضب([6]). وهي مصطلحاتٌ لا بُدَّ للباحث حول الإسلاميات (أو للباحث الإسلامي ببساطةٍ) من التوقُّف عندها مَلِيّاً، كما سنبين طوال هذه الورقة. باختصارٍ، فالإبستمولوجيا بشكلٍ عامّ هي: «فرعٌ من فروع الفلسفة، يهتمّ بنظرية المعرفة»، كما يعرّفها موقع قاموس المعاني مثلاً([7]). أي، ببساطةٍ، بعد تحديد موقف الباحث من «الواقع»، ولا سيَّما «الخارجي» منه (وهذا فرع الأنطولوجيا أو العلم المعنيّ بالوجود وطبيعته)، عليه أن يحدِّد ما هو موقفه من تأثير المُشاهِد عليه؟ أو بعبارةٍ أدقّ: ما هو موقفنا من تأثيرنا (أي نحن كباحثين) على الواقع الخارجي (وبالتالي على موضوع البحث)؟
على سبيل المثال: هل أن دراستنا لظاهرةٍ طبيعيّة ما تؤثِّر على هذه الظاهرة، وبالتالي على نتائج واستنباطات البحث؟ وفي نفس السياق: هل هناك «موضوعيّةٌ» حقيقية؟
من هذه التساؤلات نشأَتْ مدارس واختلافات لا تُعَدّ ولا تُحْصَى، وقد انتهَتْ مثلاً، في الغرب، إلى تأسيس مذاهب بذاتها في مجالات البحث العلمي، كالوضعية وما بعد الوضعية، والتأويلية، والبنائية…، إلخ.
وأما الميتودولوجيا (أي المنهجية) فهي ببساطة العلم المعنيّ بمنهجية البحث. فبعد أن حدَّدنا موقفنا من الوجود والواقع، وهما يتضمّنان موضوع البحث (بمعنى: Objet de la recherche)، وموقفنا من العلاقة بين الباحث وبين موضوع البحث هذا، علينا أن نظهر، بحذرٍ ودقّةٍ شديدين، الكيفية التي نريد أن نصل من خلالها إلى استنتاجات البحث([8]).
من هذه التعريفات المبسَّطة والمقتضبة يمكننا الولوج إلى إسهامات (اقتصادنا) الأساسية برأينا، وهي ذات أبعاد رئيسية ثلاثة، كما سنرى.
فبعد نقده للفلسفتين الاقتصاديتين: الماركسية؛ والرأسمالية، يصل الصدر إلى لبّ الموضوع، وهو استكشاف المذهب الاقتصادي للإسلام (أو المذهب الإسلامي في الاقتصاد). وهو، بكلّ أمانةٍ علمية، وفي فصلٍ منهجيّ سنعود إليه في ما يلي، يشدِّد على التمييز بين علم الاقتصاد وبين العلم بالمذهب الاقتصادي، ويشدِّد على أنه في صدد دراسة الثاني، وهي قضيّةٌ لا يزال يشتبه عندها كثيرٌ من الباحثين والمراقبين. ولذلك نشدِّد مجدَّداً على أهمية وضع القضايا الإبستمولوجية في أوّل قائمة العلوم البحثية المعنية بالإسلاميات. المهمّ، في الجزء الثالث من اقتصادنا، يبدأ الصدر بعرض منهجية ونتائج بحثه حول المذهب الإسلامي في عدّة مواضيع اقتصادية (مثلاً: التوزيع ما قبل الإنتاج، التوزيع ما بعد الإنتاج، الإنتاج، إعادة التوزيع…، إلخ).
وما يتوجَّب أن يلفت نظر الباحث، برأينا، هو، قبل أيّ شيءٍ، الملاحظة التالية، وهي: إننا أمام عالم فقهٍ مسلم، ومرجعٍ إسلامي مجتهد، يتعامل مع الأحكام الفقهية وآراء الفقهاء (من كلّ المذاهب والعصور) على أنها معطيات للدراسة الحيادية نسبيّاً (على الأقلّ كما يريدها هو). وما هذه المسألة بالعابرة بالمعنى الإبستمولوجي، كما رأَيْنا وسنرى بشكلٍ أدقّ؛ فقد أصبحَتْ أقوال الفقهاء وأحكامهم معطياتٍ للبحث العلمي («الموضوعي» كما يصفه الصدر طوال صفحات هذا العمل).
إنها إذن نقطةٌ جوهرية؛ فالصدر يسمح لنا من جهةٍ أن نتعامل كباحثين مع معطيات هي ذات طابعٍ ديني أو شبه دينيٍّ؛ ومن جهةٍ أخرى لا ينفي فكرة أن نبقى، مع ذلك، ضمن البحث الذي يصفه بالموضوعي.
غير أن إسهامات هذا العمل المهمّة لا تقف عند هذا الحدّ. فالسيد الصدر يتحدّث، ضمن شرحه المنهجي، عن طريقةٍ يسمِّيها بـ «طريقة الطبقات» (أو «الطوابق»). وهي تعني أنه يمكن للباحث أن يستقري (من استقراء) المعاني المفاهمية ثم الأبنية النظرية، وذلك من خلال دراسة أبواب الفقه. فالفرضية الأنطو ـ إبستمولوجية الصدرية في (اقتصادنا) تعتقد بوجود هذا المعنى المفاهيمي خلف أقوال الفقهاء المتعدِّدة والمتشعِّبة والمتقابلة من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانية تعتقد بإمكانية استقرائها أو استخراجها أو استنتاجها مع الحفاظ على الموضوعية. نحن إذن في عالم «فَهْمي» (أو «تأويلي») بامتيازٍ، بالمعنى الذي تتبنّاه المدرسة الفَهْمية ـ التأويلية المعاصرة في العلوم الاجتماعية، وخصوصاً مؤسِّسها الأبرز، وهو العالم والفيلسوف الاجتماعي الألماني ماكس فيبر (1864 ـ 1920م).
ولذلك نصل هنا، بوضوحٍ لا رَيْبَ فيه، إلى أهمِّية تفعيل الرابط بين تفكير محمد باقر الصدر والمدرسة الفيبرية.
ونذكِّر هنا، مع رايموند آرون([9])، أن للعلم الفيبري سمتين رئيستين حقيقةً، وهما: «عدم الاكتمال الجوهري» («العلم هو مستقبل العلم») من جهةٍ؛ و«الموضوعية» من جهةٍ أخرى. لذلك، يكون من المهمّ أن نبقى قريبين من نظرة فيبر الأساسية التي تشدِّد على الموضوعية، بخلاف التيّار المعاصر المهيمن حاليّاً في المدرسة الاجتماعية التأويلية، والذي يعتبر التأويل «تنظيماً للمعنى الذاتي (غير الموضوعي) من خلال المفاهيم». أما نحن فنأخذ الفهم ـ على غرار الصدر وفيبر ـ على أنه «انتزاعٌ، لكنْ موضوعيٌّ، للمعنى الممكن» (أو بحث عنه)؛ والتأويل على أنه «تنظيمٌ ـ ترجمةٌ، من خلال المفاهيم أيضاً، لكنْ للمعاني الموضوعية الممكنة»، التي يمكن استقراؤها من أقوال ونقاشات الفقهاء([10]).
إنّ طريقة الطبقات (أو الطوابق) هذه تقول إذن بالانتقال من دراسة الأحكام الفقهية الجزئية التفصيلية حول موضوعٍ معين إلى استقراء المعاني المفاهمية الممكنة أو المرجَّحة حوله أيضاً، ثمّ إلى استقراء المباني النظرية (بالمعنى الأيديولوجي) حوله. ونحن، ولو اختلَفْنا أنطولوجيّاً مع السيد الصدر حول الاعتقاد بوجود (أو عدم وجود) معنىً مفاهيمي ـ نظري مؤكَّد ويقينيّ خلف أحكام الفقهاء في كلّ بابٍ، فمن الحكمة أن نلتقي معه حول مبدأ استعمال أحكام الفقهاء كمعطيات، وحول مبدأ طريقة الطبقات، وذلك في سبيل الفهم العلمي الموضوعي للمعاني المفاهمية ـ النظرية الممكنة خلف خطاب هؤلاء.
ومن شأن هذا الالتقاء الأكاديمي أن يؤسِّس لصفحةٍ جديدة في منهجية العلوم الإسلامية، وهذا ما سنعود إليه لاحقاً. لكنّ جرأة الصدر التجديدية لا تتوقَّف عند هذا الحدّ أيضاً، بل تتعدّاه إلى مفهومٍ أصبح معروفاً في العلوم الحوزوية الشيعية ـ الإمامية المعاصرة، وهو مفهوم «منطقة الفراغ» (راجِعْ ما يلي). ففي خضمّ نقاشه لمسائل نظرية جزئية في باب التوزيعين: الابتدائي للموارد الطبيعية؛ والثانوي ـ الوظيفي لعوائد الإنتاج، يعترف الصدر بقضيّةٍ أنطولوجية مهمّة. فهو يصرِّح بأنه، خلال الغوص في الطبقات (أو الطوابق) المذكورة، قد لاحظ أن الشارع المقدَّس (وهو الله جلَّ وعلا ورسوله المصطفى|، في نهاية الأمر، حَسْب اعتقاده) قد ترك ـ لحكمةٍ ما ـ مناطق فراغٍ تشريعية، لا بُدَّ للإمام المجتهد من أن يملأها حَسْب سياق كلّ عصرٍ وكلّ واقعٍ (ضمن الهامش المشروع طبعاً). ثمّ يشرح السيد الصدر أن منطقة الفراغ التشريعية هذه لا بُدَّ من أن تؤدّي إلى مناطق فراغٍ مفاهمية بطبيعة الحال. وهو قولٌ سديدٌ طبعاً. ومن هنا، يفتح الصدر باباً كبيراً آخر أمام التقريب بين البحث الإسلامي والبحث العلمي، ولا سيَّما البحث العلمي التأويلي، كما عرَّفناه؛ إذ يقرّ بما يمكن تسميته بـ: وجود تأويلات مفاهمية متعدّدة ممكنة ـ لا تأويل واحد ـ لكثيرٍ من المواضيع. لذلك نرى السيد محمد باقر الصدر يتحدّث عن عدّة نظريّاتٍ إسلامية ممكنة حول الموضوع الواحد. وهذا أمرٌ مهمّ آخر على المستوى الإبستمولوجي والمنهجي؛ إذ يدفع بنا دَفْعاً نحو المفاهيم الفيبرية الأساسية في الإبستيمولوجيا، كما في المنهجية (راجِعْ المقاطع التالية).
في الخلاصة، وفي سبيل الدفاع عن أطروحتنا في هذه الورقة، فقد شدَّدنا على نقاط أساسية ثلاثة في ما يخصّ إسهامات (اقتصادنا) الإبستيمولوجية والمنهجية:
النقطة الأولى: هي مبدأ اتخاذ أقوال وأحكام الفقهاء (أي خطابهم بشكلٍ عامّ) كمعطيات للبحث العلمي المحايد أو شبه ـ المحايد (كما في (اقتصادنا))، أي كمعطيات يمكن التعامل معها على هذا الأساس، رغم طبيعتها القريبة من عالم المقدَّس وعالم القِيَم، ودون التخلِّي عن هدف البقاء ضمن الموضوعية العلمية.
النقطة الثانية: هي طرح «طريقة الطبقات أو الطوابق»، حيث نرى أن السيد الصدر ينطلق من أحكام أبواب الفقه، ليغوص نحو العُمْقين: المفاهيمي؛ والنظري (اللَّذَيْن يكوِّنان «المذهب الإسلامي» برأيه)، مع اعتباره ـ الأنطولوجي ـ أن هناك، وبالتأكيد، وجوداً لهذين العُمْقين خلف أحكام الفقه الفرعية والجزئية في كلّ موضوعٍ.
وبالإضافة إلى هاتين النقطتين الجوهريتين والسبّاقتين بلا أدنى شَكٍّ، على المستوى الإبستيمولوجي، كما على المستوى النظري([11])، واللتين تقرِّباننا بشكلٍ لافت من البحث «الفَهْمي ـ التأويلي» بالمعنى العلمي المعاصر، كما أسلَفْنا، تبقى النقطة المركزية إبستيمولوجيّاً هي:
النقطة الثالثة: مسألة منطقة الفراغ التشريعية ـ المفاهيمية، والتي لا يمكن إلاّ اعتبارها ثوريّةً على المستوى العلميّ الصِّرْف. فهذه الفكرة تعتبر، كما يشرح الصدر في ما سيتمّ عَرْضه لاحقاً، وكما أشَرْنا سابقاً، أن الشارع قد ترك مناطق فراغ تشريعية (وبالتالي مفاهيمية) لا بُدَّ من أن يملأها الإمام ـ المجتهد في كلّ زمان ومكان، ضمن الهامش المقبول طبعاً.
وهذا ما يفتح المجال أمام السيد الصدر للقبول بفكرة إمكانية وجود «عدّة نظريات إسلامية حول موضوعٍ ما»، قد تكون كلّها إسلامية وكلّها صحيحة إلى حدٍّ كبير، ويمكن مقابلتها فيما بينها، ومع الواقع التطبيقي، مع بقاء الحكم النهائي بيد الإمام ـ المجتهد في الزمان والمكان المحدَّدين. وهذه المسألة الأخيرة هي التي دعَّمَتْ عندنا، نهائيّاً، فكرة التقريب بين هذه الفلسفة وفلسفة «النموذج ـ المثالي» عند ماكس فيبر، كما سيلي. لكنْ، لنتوقَّفْ قليلاً عند بعض المقتطفات المهمّة للسيد محمد باقر الصدر في (اقتصادنا)، والتي تبيِّن، إيجازاً، ما يتمّ طَرْحه في هذه الورقة، التي تعتبر بالتالي، صراحةً، أننا أمام عملٍ ثوريّ معرفيّاً ومنهجيّاً، لم يتمّ استثماره بالطريقة الصحيحة والكافية من قِبَل الباحثين الإسلاميين أو المهتمّين بالمواضيع الإسلامية([12]):
2ـ الأبعاد الثلاثة في بعض أقوال السيّد الصدر
«مع أن العلم والمذهب مختلفان في طريقة البحث وأهدافه، لا في موضوعه ومجالاته، فالبحث المذهبي يظلّ مذهبيّاً ومحافظاً على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأهدافه الخاصّة، ولو تناول الإنتاج نفسه، كما أنّ البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية إذا تكلَّم عن التوزيع ودرسه بالطريقة والأهداف التي تتناسب مع العلم»([13]).
من البداية، يبدو السيد الصدر في موقع المشدِّد على الأمانة العلميّة في الفصل الراديكالي بين المذهب (الأيديولوجي) من جهةٍ، المعني خصوصاً بمسائل العدل والتوزيع والأحكام القيمية، وبين العلم بما هو علم الاقتصاد (أو الاجتماع أو غيره بطبيعة الحال). وهذا ما يؤكِّد لنا عمق التفكير الإبستمولوجي الساند والسابق لعمل (اقتصادنا).
على أنه، أي الصدر، يشدِّد على فكرة وجود بُعْدٍ مفاهيميّ خلف أقوال وأحكام الفقهاء المتنوِّعة والمتشعِّبة والمتفرِّقة، عبر المذاهب والعصور، وهي أطروحةٌ أطروحات (اقتصادنا)، بخلاف ما توقَّف عنده الأكثرون: «نعرف من ذلك كلِّه أن وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع حلولٍ لمشاكل الحياة الاقتصادية، ترتبط بفكرته ومُثُله في العدالة، وإذا أضَفْنا إلى هذه الحقيقة أن تعبيرَيْ (الحلال والحرام) في الإسلام تجسيدان للقِيَم والمُثُل التي يؤمن بها الإسلام فمن الطبيعيّ أن ننتهي من ذلك إلى اليقين بوجود اقتصادٍ مذهبيّ إسلامي»([14]). نكاد نظنّ من خلال هذه الكلمات أننا نقرأ باحثاً فيبرياً بامتيازٍ([15]). إن هذه الجملة الأخيرة عند الشهيد الصدر تختصر بشكلٍ واضح طريقة الطوابق المذكورة مع فلسفتها المؤسِّسة.
فهو يضيف: «ونحن حين نؤكِّد على ضرورة التمييز بين الكيان النظري للمذهب الاقتصادي وبين القانون المدني لا نحاول بذلك قطع الصلة بينهما، بل نؤكِّد في نفس الوقت على العلاقة المتينة التي تربط المذهب بالقانون، بوصفهما جزءَيْن من بناءٍ نظريّ كامل للمجتمع»([16]). ومن هنا نشرف على جوهر طريقة الطوابق: «وكون المذهب قاعدة نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بدَوْره بناءً علويّاً لقاعدةٍ يرتكز عليها؛ فإن البناء النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساس نظرةٍ عامّة، ويضمّ طوابق متعدِّدة يرتكز بعضها على بعضٍ، ويعتبر كلّ طابقٍ متقدّماً أساساً وقاعدةً للطابق العلوي المُشاد عليه. فالمذهب والقانون طابقان من البناء النظري، والقانون هو الطابق العلويّ منهما، الذي يتكيَّف وفقاً للمذهب، ويتحدَّد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبِّر عنها ذلك المذهب»([17]).
إذن نحن، بالفعل، ضمن طريقةٍ تأويلية ـ فَهْمية بامتيازٍ، بالمعنى العلمي المعاصر، هدفُها هو استقراء (أو بناء أو إعادة بناء) المفاهيم من خلال دراسة أحكام ونصوص فقهية (ذات طابع ديني أيضاً).
غير أن الصدر يعتقد، أنطولوجيّاً، أن الباحث الإسلامي (وهو باحثٌ غيرُ محايدٍ عقائديّاً، كما يمكن الاستنتاج من خلال خطاب الصدر) يستكشف مفاهيم هي موجودةٌ وقائمةٌ أصلاً، بعكس الباحث «الرأسمالي والاشتراكي» الذي يقوم عمليّاً بتكوين هذه المفاهيم([18]). مع احترام تموضع السيد الصدر، الإسلامي طبعاً، فإننا نعتبر أن الباحث المحايد هو في صدد بناء هذه المفاهيم من خلال بناء النماذج ـ المثالية في كلّ موضوعٍ ومجالٍ، كما سنرى. ومن الممكن أن نتبنّى تموضعاً قريباً من التموضع الإسلامي هذا من خلال الحديث عن «محاولة إعادة بناء» هذه المفاهيم، لكنْ من الضروري، برأينا، أن نبقى ضمن عمليّة «بناء»،؛ وذلك للحفاظ على الحياد الأكسيولوجي والطابع العلمي (راجِعْ الفقرات التالية).
غير أن المقاطع الأكثر بلاغةً في ما يخصّ بحثنا هي بالطبع المتعلِّقة بمنطقة الفراغ ونقاش الذاتيّة([19]): «وحيث جئنا على ذكر منطقة الفراغ في التشريع الاقتصاديّ يجب أن نعطي هذا الفراغ أهمّيةً كبيرة خلال عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي؛ لأنه يمثِّل جانباً من المذهب الاقتصادي في الإسلام(…). ونحن حين نقول: (منطقة فراغ) فإننا نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقيّ للإسلام، الذي عاشَتْه الأمّة في عهد النبوّة؛ «ذلك أن النبيّ الأكرم| هو الذي ملأ الفراغ في هذا العهد بصفته وليّ الأمر (أو الإمام والمجتهد معاً)، لا النبيّ والرسول (وهي فكرة شديدة الجرأة صراحةً، غير أنه| حين قام بعملية مَلْء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبيّاً مبلِّغاً للشريعة الإلهية، الثابتة في كلّ مكانٍ وزمانٍ(…)، وإنما ملأه بوصفه وليّ الأمر، المكلَّف من قِبَل الشريعة بمَلْء منطقة الفراغ، وفقاً للظروف»([20]). هل يمكن الادّعاء بعد مقطعٍ كهذا أننا لَسْنا أمام عملٍ «خطير» بالمعنى العلميّ، وخصوصاً بالمعنى الإبستمولوجي ـ الميتودولوجي (أي المعرفي ـ المنهجي)؟!
بالطبع، الجواب عندنا هو بالنفي. وكثيرةٌ هي المقتطفات التي يمكن استخراجها من كتاب (اقتصادنا) تأييداً لطرحنا في هذه الورقة بطبيعة الحال.
على أن المقاطع الأهمّ بلا أدنى شَكٍّ هي المتعلِّقة بالنتائج المترتِّبة على فرضية منطقة الفراغ هذه: «إن الصورة التي نكوِّنها عن المذهب الاقتصاديّ لما كانت متوقِّفةً على الأحكام والمفاهيم فهي انعكاسٌ لاجتهادٍ معين؛ لأن تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقَّف عليها الصورة [لاحِظْ تعبير «الصورة» المرتبط حميميّاً بمفهوم «النموذج ـ المثالي» الفيبيري، كما سيتم إجلاؤه] نتيجةٌ لاجتهادٍ خاصّ في فهم النصوص [لاحِظْ تعبير «فَهْم» الجَوْهري في هذا الإطار]، وطريقة تنسيقها والجمع بينها. وما دامت الصورة التي نكوِّنها عن المذهب الاقتصادي اجتهاديّةً فليس من الحَتْم أن تكون هي الصورة الواقعية؛ لأن الخطأ في الاجتهاد ممكنٌ».
نبدأ هنا بالدخول، أكثر فأكثر، في منطقة لا شَكَّ بقربها الحميم من منطقة بحث النموذج ـ المثالي عند ماكس فيبر: «ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكِّرين إسلاميين مختلفين ان يقدِّموا صوراً مختلفة للمذهب الاقتصادي في الإسلام، تَبَعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كلّ هذه الصور صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي(…). وهكذا تكون الصورة إسلاميّةً ما دامت نتيجةً لاجتهادٍ جائز شَرْعاً، بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصاديّ في الإسلام»([21]). نصبح إذن، عند هذا الحدّ، رسميّاً ويقيناً، في عالم النماذج ـ المثالية الفيبرية، أي في عالم نظريّته عن بناء المفاهيم. وإنها لنقطةٌ مركزية في مجمل أعمال ماكس فيبر، وإنها في قلب ما نعتقد أن الصدر قد قدَّمه في هذا المجال. وهي بطبيعة الحال في قلب الطرح الذي نقدِّمه في هذه الورقة، ولمستقبل الأبحاث الإسلامية أو ذات الطابع الإسلامي.
ولنختصر الفكرة الجَوْهرية في هذا السياق بالقول: إن التقريب بين طريقة الطبقات (أو الطوابق) هذه وبين فلسفة النموذج ـ المثالي هو أمرٌ بديهيّ بالنسبة إلى كلّ باحثٍ منصف وأمين؛ وذلك لأسباب أساسية ثلاثة:
1ـ لأننا في صدد عملية بناء مفاهيم وبامتيازٍ (كالمخاطرة الجائزة، والعمل المنفق، والملكية…، إلخ.
2ـ للحفاظ على الطابع العلمي لهذا الجهد، ضمن ما سبق عن التموضع الإبستمولوجي.
3ـ لأننا ضمن عملية فَهْمية ـ تأويلية بامتيازٍ أيضاً، وبلا شَكٍّ، معطياتُها هي خطابُ علماء شريعةٍ دينية، وهدفُها هو محاولةُ فَهْم تفكيرهم، في سبيل بناء مفاهيم ونظريّات على أساسها.
نحن نعتبر أن استعمال هذه المدرسة هو ذو أهمِّية خطيرة في هذا النوع من الأبحاث، كما في كلّ الأبحاث حول المواضيع الإسلاميّة، من وجهة نظرٍ علمية([22]).
ونعتبر أيضاً أن إسهام (اقتصادنا) الأهمّ هو في فتح الباب أمام هذا التقريب ذي الخطورة المنهجية القصوى، وعلى الأرجح، ذي الخطورة التاريخية في سياق تطوُّر العلوم الإسلامية بشكلٍ عامّ.
3ـ معالم الطرح المستقبلي: للتقريب بين منهجَيْ «بناء المفاهيم الإسلاميّة» و«بناء النماذج المثاليّة»
في ختام هذه الورقة، نصل إلى القناعة، المؤيَّدة والراسخة عندنا الآن، بأنّ عمل (اقتصادنا) لا يمكن أن يُعتبر عابراً بالمعنى العلميّ، ولا سيَّما بعد ما ناقشناه عن إسهاماته الخطيرة بالنسبة إلى مستقبل البحث الإسلامي، وبالأخصّ من الزاويتين المعرفية (أو الإبستمولوجية) والمنهجية (أو الميتودولوجية). إنّ هذه القناعة، كما شرَحْنا، تنطلق من ضرورة الحفاظ على الأمانة العلميّة، كما من ضرورة الحفاظ على الطبيعة التطوُّرية التراكمية للإسهام العلميّ. إن أطروحتنا المركزية تتمحور إذن حول الإسهام المعرفي والمنهجي لعمل (اقتصادنا)، الذي تغفله أكثر الأبحاث حول الاقتصاد الإسلاميّ (وحول المواضيع الأخرى أيضاً، بطبيعة الحال)، والذي قادَنا، كما رأَيْنا، إلى التفكير بضرورة التقريب بينه وبين إسهام مدرسة ماكس فيبر في فلسفة المعرفة المعنيّة بالعلوم الاجتماعية.
أما الأسباب التي تدعونا إلى هكذا طرحٍ فقد فصَّلناها في ما سبق([23]). وأما نقطة الانطلاق لهذا الطرح المجدِّد فهي بلا أدنى شَكٍّ، كما أسلَفْنا: فلسفة «النموذج ـ المثالي» (L’idéal ـ type ou le type idéal)، التي تختصر أغلب التفكير الفيبري حول موضوعنا، والتي نعتبر أن الصدر في (اقتصادنا) قد أصابها، دون ذكرٍ مباشرٍ لها([24]).
وأما أهمِّيته فهي، كما رأَيْنا، أنه يتيح قيام ثورةٍ معرفية ـ منهجية حقيقيّة في عالم البحث الإسلامي، حيث يسمح من جهةٍ بتموضع الباحث المحايد تجاه معطيات التراث الإسلامي، ومن جهةٍ أخرى يسمح بتأطير النقاش فيما بين الطروحات المفاهمية والنظرية ـ المذهبيّة الإسلامية؛ إذ تصبح هذه الأخيرة «نماذج ـ مثالية» يتمّ بناؤها انطلاقاً من عمليّةٍ استقرائية ـ فَهْميّة لمعطيات التراث الإسلامي.
كما يمكن مقابلتها فيما بينها، ويمكن مقابلتها مع الواقع، دون الوقوع في الاتهامات الأيديولوجية والأحكام القِيَمية.
وطبعاً، يُترك القرار النهائي في تبنّي هذا النموذج ـ المثالي أو ذاك لوليّ الأمر، أو لمَنْ سمَّيناه بالإمام ـ المجتهد، في كلّ زمانٍ ومكان.
فيصبح بين أيدينا:
1ـ من جهةٍ، جهدٌ علميّ محايد، يبني المفاهيم ويقارنها فيما بينها، وبينها وبين الواقع، دون حكمٍ قِيَمي.
2ـ ومن جهةٍ أخرى، إمامٌ ـ مجتهد هو يتولَّى مسألة الحُكم القِيَمي عمليّاً، والترجيح النهائي بين النماذج ـ المثالية المطروحة، مستعيناً بالجهد العلمي ذاك، ولا سيَّما في ضوء نظرية المصلحة الإسلامية (خصوصاً في الإسلام السنّي([25])).
إنّ هذا الطرح المعرفي ـ المنهجي الذي نقدِّمه، انطلاقاً من التلاقي غير المُعْلَن بين الفصل المنهجي في (اقتصادنا)([26]) وبين جوانب أساسية من أعمال ماكس فيبر (ومترجميه وأتباع مدرسته، كجوليان فرويند؛ وريموند آرون)، يقدِّم حلولاً ثمينة لكثيرٍ من المشاكل المتعلِّقة بالبحث الإسلامي، ولا سيَّما منه المذهبيّ. وهو قد يساهم إسهاماً ملحوظاً في تطوُّر الفكر الإسلامي بشكلٍ عامّ، ولا سيَّما في ما يخصّ العلوم الإنسانية والاجتماعية (وأمور الحياة الإنسانية بشكلٍ عامّ، بل رُبَما أبعد من ذلك…). فهو مثلاً يحلّ نهائيّاً مشكلة تعاطي الباحث (خصوصاً الحيادي دينيّاً) مع النصوص ذات الطابع الدينيّ؛ بهدف فَهْمها فَهْماً علميّاً (راجِعْ ما يلي عن المفاهيم الإبستمولوجية الأساسية عند فيبر). وهو يقدِّم، أيضاً، إطاراً منهجيّاً مُحْكَماً لبناء المفاهيم، انطلاقاً من فهم هذه النصوص، وهو مزيجٌ من طريقة الطبقات الصدرية وطريقة النموذج ـ المثالي الفيبري.
وهو يسمح لنا، كباحثين، بأن نناقش أبنيتنا النظرية والمفاهمية حول الفكر الإسلامي، في هذا الموضوع أو ذاك، دون أن نتَّهم بعضنا بعضاً بالخروج عمّا هو مقبولٌ دينيّاً، أو بالخروج عن الإسلام ببساطةٍ، أي يسمح لنا بأن نناقش هذه النظريات والمفاهيم دون الوقوع في الحكم القِيَمي. أخيراً، وليس آخراً، هو يتيح للفكر الإسلامي ولأولياء أمره بأن يستفيدوا من العلم، من خلال المقارنة الموضوعية بين النماذج ـ المثالية المطروحة، وبينها وبين الواقع.
الخاتمة
نستهلّ هذه الخاتمة بالتذكير ببعض المفاهيم الإبستمولوجية الأساسية عند ماكس فيبر، آملين أن يكون طرحنا واضح المعالم إلى أقصى حدٍّ، ضمن حدود هذه الورقة. وهي مفاهيم متعلِّقة بعالم القِيَم بطبيعة الحال، مع تأطيرها لفلسفة النموذج ـ المثالي بشكلٍ عامّ، ومع تأطيرها البديهيّ، أيضاً، لما نقدِّمه من طرحٍ، في هذه الورقة.
إن المفهومين الفيبريين، الأساسين هنا، ما هما إلاّ: الحياد الأكسيولوجي (La neutralité axiologique)؛ والعلاقة مع القِيَم (Le rapport aux valeurs)، كما يمكن ترجمتهما عن ترجمتي فرويند وآرون([27])؛ بالإضافة إلى العالم الاجتماعي ـ السياسي الفرنسي فيليب راينو([28]).
يوجب المفهوم الأوّل على الباحث أن يبقى، في كلّ مراحل البحث، محافظاً على الحياد من زاوية المعتقدات والإيمانيات والمسلَّمات المذهبية. وعليه أن يثبت ذلك في كلّ المواضع، وأن يكون قادراً على الدفاع عن حياديته في أيّ وقتٍ.
في حين يذكِّره الثاني أنه في موقع «التعامل العلمي مع القِيَم»، ناهياً إيّاه عن الدخول في مصيدة «الحُكم القِيَمي» (Jugement de valeur). فتغدو «القِيَم» في هذه الفلسفة، عمليّاً، معطياتٍ «خارجيّةً»، يتوجَّب دراستها دون الحُكْم عليها من وجهة نظر شخصية و/ أو ايمانية.
أما أداة «النموذج ـ المثالي» (أو «النمط ـ المثالي») فهي تشكِّل فلسفةً بحدّ ذاتها في سبيل بناء المفاهيم في العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل أبعد من ذلك، كما أسلَفْنا. وإننا نقترح، إذن، تطبيق هذه الأداة، مع تطويرها حَسْب طبيعة البحث وموضوعه، على نصوص الفقه الإسلامي (ونصوص التراث الإسلامي بشكلٍ أعمّ([29])). فقد فهم فيبر أن بناء المفاهيم في العلوم بشكلٍ عامّ، وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكلٍ خاصّ، لا يمكن إلاّ أن يمرّ من خلال بناء نماذج «مُثُلية» (بمعنى Idéél، أي من عالم الأفكار، لا كما ترجمها الأكثرون بمثاليّة أي Idéal)، وهي أبنيةٌ (أو تركيبات) ذهنية حول ظاهرةٍ معينة، لا وجود لها بشكلٍ عمليّ على أرض الواقع، لكنّها تختصر السِّمات الأساسية للظاهرة التي يُراد فَهْمها (مثلاً: «الرأسمالية» كما يعرِّفها أيُّ كتابٍ اقتصادي هي مجرّد نموذج ـ مُثُلي لظاهرةٍ معينة، وهذا النموذج ـ المُثُلي، رغم عدم وجوده الحقيقي في الواقع، يساعد على اختصار المعالم الجوهرية لهذه الظاهرة بطريقة «مُثُلية»، أي ذهنية).
باختصارٍ، تعتبر هذه الفلسفة أن العقل البشري لا يمكن أن يفهم الواقع المعقَّد (ولا سيَّما منه الإنساني والاجتماعي) إلاّ من خلال بناء هكذا هياكل ذهنية تختصر معالمه ـ سماته الأساسية. إن النموذج ـ المثالي عند ماكس فيبر، وكما تفهمه هذه الورقة، هو أداةُ قياسٍ مفهومية (قياس بمعنى Mesure conceptuelle) بامتيازٍ.
ولا يستطيع الباحث:
1ـ أن يدّعي فهم موضوعٍ أو ظاهرةٍ ما من دون بناء نموذج ـ مثالي عنه أو عنها.
2ـ أن يبني علاقاتٍ سببية (اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو تاريخية…، إلخ) إلاّ بعد هذا البناء الذهني المنطلق من دراسة المعطيات. إن منهجية النموذج ـ المثالي تسمح بالتعاطي مع التركيبات المفاهمية والنظرية ـ المذهبية هذه خارج إطار الحُكْم القِيَمي، وتتعامل معها على أنها، ببساطةٍ، أداةٌ للبحث العلمي، لا أكثر. وبالتالي، يصبح الباحث المهتمّ بالمواضيع الإسلامية عموماً قادراً على بناء هذه المفاهيم والنظريات، ودراستها، ثمّ وضعها تحت التجربة الأمبريقية، مع تجنُّب مخاطر التموضع الإبستمولوجي. وهذا ما يفتح بالتالي الباب أمام تقريبٍ جدّي جدّاً بين العلوم التجريبية من جهةٍ والمواضيع الدينية من جهةٍ أخرى.
مع ترك تفاصيل هذه التعريفات إلى المراجع المذكورة، وإلى أبحاثنا الأخرى([30])، نقدِّم طرح هذا التقريب بين التفكيرين: الإبستمولوجي ـ الميتودولوجي الصدري والفيبري بشكلٍ عامّ، وبين طريقة الطبقات (أو الطوابق) الصدرية وطريقة النموذج ـ المثالي الفيبري بشكلٍ خاصّ، نقدِّمها إلى مجمل الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية والإسلامية، على أمل أن تفتح المجال أمام نقاشٍ علميّ وحضاري، يمهِّد لتطوُّرٍ أسرع وأكثر صحّةً لكثيرٍ من مجالات البحث الإسلامي.
ونحن نعتبر أنّ تموضع الباحث الأنسب، كما اعتمَدْناه في كتابنا([31])، ولا سيَّما في البحث الأكاديمي حول الاقتصاد والمالية والاجتماع والسياسة من منظارٍ إسلامي، وبما يتوافق إلى أبعد حدٍّ مع تموضع الصدر، هو: «التموضع ما ـ بعد ـ الوضعي المُطوَّر» Positionnement post ـ positiviste aménagé، أي مطوَّر بما يتناسب مع طبيعة المعطيات من جهةٍ، ومع الاحتياطات الإبستمولوجية الفيبرية المذكورة أعلاه من جهةٍ أخرى([32]).
الهوامش
(*) خبيرٌ ماليٌّ، وباحثٌ في الماليّة والاقتصاد الإسلاميّين. من لبنان.
([1]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، دار التعارف، ط6، بيروت.
([2]) ماكس فيبر (1922 ـ 1965)، كتابات حول نظرية العلم، ترجمات: جوليان فرويند، باريس، بلون Plon. وبالفرنسية:
Essais sur la Théorie de la Science.
([3]) للأمثلة حول طريقة نقد الصدر من قِبَل بعض المعاصرين:
ـ رفيق يونس المصري، الخطر والتأمين، دار القلم، ط1، دمشق، 2001.
ـ أبو المجد حرك ويوسف كمال، الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنّة، دار الصحوة.
([4]) من وجهة النظر الأكاديمية، فقد وردَتْ أول تفاصيل نتائج هذه الأعمال في أطروحتنا للدكتوراه من جامعة باريس 2، والتي نالَتْ الاعتراف الأكاديمي اللازم من وجهة نظر قيمتها العلمية (تمّ الدفاع عنها أمام اللجنة العلمية في 16 سبتمبر 2013:
Abou Hamdan, Malek, 2013, Produits Dérivés, Risques de Marché et «Gharar»: Recherche d’une Alternative Islamique, Université Paris II Panthéon ـ Assas (Thèse, Lauréat du Prix de l’Université en 2015, consultable sur www. theses. fr).
([5]) حول تموضعنا الإبستيمولوجي «ما بعد الوضعي المطوّر» راجِعْ: المرجع السابق؛ وخاتمة هذه الورقة.
([6]) للتعريفات في العلوم الإدارية راجِعْ: ف. بيريه وم. سيفيل، الأسس الإبستيمولوجية للبحث، 2003م، في: ر. أ. تييتار ومن معها، طرق البحث في علم الإدارة، باريس، دينو Dunod. وبالفرنسية:
Fondements Epistémologiques de la Recherche.
([7]) راجِعْ: www.almaany.com. وفيه أهم المعاجم العربية الكلاسيكية والمعاصرة، وعلى رأسها: لسان العرب، لابن منظور، مثلاً.
([8]) حول هذه المواضيع راجِعْ مثلاً: فيبر، كتابات حول نظرية العلم؛ وجوليان فرويند، العلم الاجتماعي عند ماكس فيبر، المطابع الجامعية الفرنسية PUF، باريس، 1966م. وبالفرنسية:
La Sociologie de Max Weber.
([9]) وهو من شيوخ المدرسة الاجتماعية الكبار في فرنسا والعالم الغربي. رايموند آرون، مراحل تطوّر الفكر الاجتماعي، غاليمارد Gallimard، باريس، 1965م. وبالفرنسية:
Les Etapes de la Pensée Sociologique.
([10]) راجِعْ: مالك أبو حمدان، المشتقات المالية ومخاطر السوق والغرر ـ البحث عن بديلٍ إسلامي، أطروحة دكتوراه تمّ الدفاع عنها في 16/9/2013م في جامعة باريس الثانية (بانثيون أسّاس)، تحت إشراف: البروفيسور جيرار بيكرمان، مكتبة جامعة باريس، 2013، باريس.
ويمكن الإطلاع عليها على الإنترنت: Theses.fr
وهي قد نالت رتبة السماح بالنشر الأكاديمي؛ اعترافاً بإسهامها العلمي، وقد نالَتْ أيضاً جائزة أفضل بحثٍ علمي للجامعة في مجال الإدارة عام 2015م. وبالفرنسية:
Abou Hamdan, Malek, 2013, Produits Dérivés, Risques de Marché et «Gharar»: Recherche d’une Alternative Islamique, Université Paris II Panthéon ـ Assas (Thèse).
([11]) لا شَكَّ بالمناسبة، عند أغلب الباحثين الجدّيين، في أسبقية عمل (اقتصادنا)، خصوصاً على مستوى الشمولية والتفصيل الفقهيين والنظريين، رغم وجود بعض المحاولات المتفرِّقة السابقة عليه، كمحاولات أبي الأعلى المودودي، ومحاولات سيّد قطب (يعتبران عادةً من مراجع تيّار «الإخوان المسلمين» الفكري)، ومحاولة مصطفى السباعي مثلاً حول الإسلام والاشتراكية. نحن نتحدَّث هنا عن المحاولة الأكاديمية بشكلٍ عامّ، وعن الجانب النظري ـ المذهبي منها طبعاً، دون المنهجي قيد التفصيل. راجِعْ في هذا المجال: أعمال كوران (فيما يلي)، وويلسون (فيما يلي)، ومقال الدكتور حسن سلمان (2016)، دراسة نقدية لمنظومة الاقتصاد الإسلامي، محمد باقر الصدر نموذجاً:
http://ijtihadnet.net/ دراسة_نقدية_لمنظومة_الاقتصاد_الإسلامي/
(تمَّت معاينته في 21 حزيران 2021).
ت. كوران، الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الفرعي الإسلامي، مجلّة المناظير الاقتصادية، المجلّد 9، العدد 4: 155 ـ 173، 1995. وبالإنكليزية:
Islamic Economics and the Islamic Subeconomy.
ت. كوران، تكوين الاقتصاد الإسلامي: فصل ضمن سياسة الهوية المسلمة، البحوث الاجتماعية، المجلّد 64، العدد 2: 301 ـ 338، 1997. وبالإنكليزية:
The Genesis of Islamic Economics: A Chapter in the Politics of Muslim Identity.
ت. كوران، الإسلام والجشع: المآزق الاقتصادية للإسلاموية، برنستون، مطابع جامعة برنستن، 2006. وبالإنكليزية:
Islam and Mammon: the Economic Predicaments of Islamism.
رودنييه ويلسون، مساهمة محمد باقر الصدر في الفكر الاقتصادي الإسلامي المعاصر، مجلة الدراسات الإسلامية، المجلّد 9، العدد 1: 46 ـ 59، 1998. وبالإنكليزية:
The Contribution of Muhammad Baqir Al ـ Sadr to Contemporary Islamic Economic Thought.
([12]) نحيل القارئ والباحث، بشكلٍ خاصّ، إلى الفصل ـ المقطع المهمّ والخطير في كتاب (اقتصادنا)، وهو المقطع المنهجي الذي لا زلنا نتعجَّب من مرور كثيرٍ من الباحثين عليه مرور الكرام: محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 355 وما يليها «عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي». هو، حقيقيةً، مقطعٌ ذو أهمِّية قصوى وخطيرة على المستوى المنهجي، بل الفلسفي ـ المعرفي بلا أدنى شَكٍّ، كما سنرى طوال هذه الورقة، وقَدْر المستطاع.
([13]) مالك أبو حمدان، المشتقّات المالية ومخاطر السوق والغرر: البحث عن بديلٍ إسلامي: 359.
([15]) راجع: فيبر، 1965، مصدر مذكور، حول «العلاقة مع القيم».
([16]) مالك أبو حمدان، المشتقّات المالية ومخاطر السوق والغرر: البحث عن بديلٍ إسلامي: 364.
([19]) المصدر السابق: 378 وما يلي.
([22]) نذكر هنا بأهمّ المراجع: ماكس فيبر، كتابات حول نظرية العلم؛ جوليان فرويند، العلم الاجتماعي عند ماكس فيبر، المطابع الجامعية الفرنسية PUF، باريس، 1966. وبالفرنسية: La Sociologie de Max Weber؛ رايموند آرون، مراحل تطوُّر الفكر الاجتماعي، غاليمارد Gallimard، باريس، 1965. وبالفرنسية: Les Etapes de la Pensée Sociologique؛ محمد باقر الصدر، اقتصادنا. راجع المصادر المذكورة في الفقرة التالية أيضاً، خصوصاً: فيليب راينو، ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث، ترجمة وتقديم: محمد جديدي، منشورات الاختلاف، مشروع كلمة للترجمة، 2009؛ ريتشارد سويدبرغ، كيف نستعمل النموذج ـ المثالي لماكس فيبر في التحليل الاجتماعي؟، مجلة التحليل الاجتماعي، المجلّد 18، العدد 3: 181 ـ 196، 2018.
([23]) راجع النقاط الثلاثة الأساسية: 1ـ المعطيات ذات الطابع المقدَّس أو القريبة من المقدَّس؛ 2ـ منهجية الطبقات التي تحمل في طيّاتها عنصر الفَهْم والتأويل بالمعنى الفيبري؛ 3ـ مفهوم منطقة الفراغ الذي يقود حُكْماً إلى عالم التأويل المفاهيمي، وبالتالي إلى فلسفة بناء المفاهيم من خلال بناء «النماذج ـ المثالية».
إنّ أهم المراجع حول هذا الموضوع، خصوصاً في الثقافة الفرنسية، قد قُدِّمَتْ بلا شَكٍّ من قِبَل: جوليان فرويند وريموند آرون. بالإضافة إلى المراجع المذكورة لفيبر وفرويند وآرون:
ـ جوليان فريوند، دراسات حول ماكس فيبر، جينيف: مكتبة دروز Droz، 1990. وبالفرنسية:
Etudes sur Max Weber.
ـ ريتشارد سويدبرغ، كيف نستعمل النموذج ـ المثالي لماكس فيبر في التحليل الاجتماعي؟، مجلة التحليل الاجتماعي، المجلّد 18، العدد 3: 181 ـ 196، 2018.
([24]) راجع الفصل المنهجي في: محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 355 ـ 406.
([25]) راجع الأدبيات حول نظرية المصلحة، مثلاً:
ـ ح. حامد حسان، فقه المصلحة وتطبيقاته المعاصرة، سلسلة محاضرات لعلماء بارزين، رقم 7، جدّة IRTI، 1995. وبالفرنسية:
Jurisprudence de la Maslaha et ses applications contemporaines.
ـ م. ح. كمالي، هل تجاهلنا نظرية الشريعة حول المصلحة؟، دراسات إسلامية، المجلّد 27، العدد 4: 287 ـ 303، 1998. وبالإنكليزية:
Have we neglected the Shariah Law doctrine of Maslahah?
([26]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 355 ـ 406.
([27]) نحيل، للتفاصيل، إلى مجمل المراجع السابقة عن فيبر وفرويند وآرون.
([28]) فيليب راينو، ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث، ترجمة وتقديم: محمد جديدي، منشورات الاختلاف، مشروع كلمة للترجمة، 2009.
([29]) مثلاً: في الفلسفة والعرفان والتاريخ والاجتماع…، إلخ.
([30]) لا سيَّما: مالك أبو حمدان، المشتقّات المالية ومخاطر السوق والغرر: البحث عن بديلٍ إسلامي.
([31]) المشتقّات المالية ومخاطر السوق والغرر: البحث عن بديلٍ إسلامي.
([32]) راجع: ف. بيريه وم. سيفيل، الأسس الإبستيمولوجية للبحث، 2003م، في: ر. أ. تييتار ومن معها، طرق البحث في علم الإدارة، باريس، دينو Dunod. وبالفرنسية:
Fondements Epistémologiques de la Recherche.