د. قاسم محمد قصير([2])
تمهيد
يتناول هذا البحث علاقة الإرهاب أو العنف بالتّكفير، ويبيِّن ما هو العنف الدّيني التّكفيري، وصلته التّاريخيّة بالهويّات الدّينيّة؟ وكيف تطوَّر مفهوم العنف عبر التّاريخ وصولاً إلى العنف الدّيني بشكلٍ عامّ، والعنف الدّيني التّكفيري على الأخصّ؟ وما هو الفارق بين العنف والتطرّف والتشدّد؟ ومتى يتحوّل التطرُّف إلى عنف؟ وهل هناك عنف مشروع وعنف غير مشروع؟ وما هي علاقة العنف بالسّلطة وفاقًا للنظريات السياسيّة الاجتماعيّة؟ وماذا عن العنف والإرهاب، وتطوُّر الإرهاب عالميًا؟
ولمّا كانت مواجهة العنف والإرهاب الحقيقيّة تستلزم فهم أسبابه، والوعي بخطورة ثقافته والتربة الّتي ينبت فيها قبل أي وسيلة أخرى، تصدّى الكثير من الباحثين والمفكِّرين، من مختلف المواقع والتخصّصات العلميّة والفكريّة، لدراسة تلك الظاهرة وتحليلها والكشف عن دوافعها وأساليبها وغاياتها، وتوفير الأدوات الناجعة في مواجهتها.
ومن هنا نقول:
بدأ العنف في أقصى صوره، مع قتل الآخر، مع بداية الكون والحياة البشريّة على الأرض، وفاقًا للنصوص الدّينيّة، ففي القرآن الكريم وردت الآيات الّتي تحكي قصة قتل «قابيل» أخاه «هابيل»: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِين * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾([3]). وفي الكتاب المقدس (العهد القديم): «وقال قاين لهابيل أخيه: لنخرج إلى الحقل، فلمّا كانا في الحقل، وثب قاين على هابيل أخيه فقتله»([4]).
إنّ ظاهرة العنف او القتل هي ظاهرة اجتماعيّة ـ تاريخيّة برزت مع ظهور الإنسان على الكون، وهي تتطوّر وفاق تطوّر الحياة البشريّة والعلاقة بين أفراد المجتمع، سواء كانوا من عائلة واحدة أو قبيلة واحدة أو قبائل متعدّدة، وصولاً لقيام الكيانات السياسيّة المتنوّعة والأمبراطوريات المتعدّدة إلى بروز الدّولة الحديثة حتى يومنا الحديث. أضف إلى ذلك العلاقة أنّ بين الأديان التوحيديّة والعنف قائمة منذ ظهور هذه الأديان، وإن كان لا توجد رؤية واحدة حول طبيعة هذه العلاقة، وهل هي علاقة عضويّة أو استغلاليّة؟
عن استغلال أتباع بعض الأديان للدين لتسويغ العنف، يتبّنى الباحث «أنطوان فليفل» رؤية خاصّة، في كتابه «الآلهة المجرمون»([5]) (Les dieux Griminels)، إذ يعرّفهم: «إنّهم أصنامٌ من اختراع البشر»، ويبحث عنهم واحدًا واحدًا في النّصوص والنّفوس، في طقوسهم وعباداتهم وعبيدهم، في أفكارهم وتنظيراتهم، في سياستهم واجتماعهم واقتصادهم، ليخلص إلى وصفهم بالإجرام. ويقسِّم «فليفل» الآلهة المجرمين ثلاثة أقسام: «إله الصهيونيّة الإنجيليّة، إله الصهيونيّة الدّينيّة اليهوديّة، وإله السّلفيّة الجهاديّة»([6]). كما تحدّث المفكّر اللبناني «سمير فرنجيّة» ـ نقلاً عن العالم والفيلسوف «رينيه جيرار» ـ عما سمّاه «العنف الميميائي»([7]): «لدى قراءتي مؤلفات «جيرار» اكتشفت الطابع الميميائي للعنف المؤسّس على «الرغبة في رغبة الآخر»، وهو عنف يشاكل (يماثل) بين النّاس، بحيث يغدو كلّ واحد توأم خصمه أو نسخه عنه، إنه عنف قائم على التبادليّة؛ وهي تبادليّة فعليّة، ولكنّها عبارة عن مجموعة لحظات غير متبادلة؛ لأنّ الخصمين لا يتخذان الموقف ذاته في وقت واحد، وإنّما على التوالي، لأصل إلى خلاصة مفادها، «إنّ قرار المعزوف المطلق عن العنف، أي عنف، هو وحده الّذي ينجينا من المدفوع في العنف الميميائي»([8]).
بدأت ظاهرة الإرهاب أو العنف بالبروز والتجلّي عمليًا، بالمعنى الحديث للإرهاب، منذ العقود الأولى في القرن العشرين إلاّ أنّه لم يُتفق على تعريف حاسم وواضح للإرهاب. ووفاق المنظور السياسي للعنف أو الإرهاب، حسبما نقلت الفيلسوفة الألمانيّة «حنّة أرندت» ([9]) (Hannah Arendt) عن «ك. رايت ميلز» (C. Wright Mill)([10]): كلّ سياسة، إنّما هي صراع من أجل السّلطة؛ والعنف إنّما هو أقصى درجات السّلطة»([11]). ولكن «أرندت» نفسها ترى، عند تحليلها للنظم الشّموليّة، أنّ العنف يتعارض جوهريّا والسّياسةـ بل يقصيها ويغيّبها تمامّا؛ إنّ العنف يرتبط بأفعال غير سياسيّة في عمقها: التحايل الضبط أو التطويع الاجتماعي، التخدير الإيديولوجي.. فتذهب إلى القول: «إنّ السّلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكمًا مطلقًا يكون الآخر غائبًا. ويظهر العنف «لمّا تكون السّلطة مهدّدة. لكنّه إن تُرك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السّلطة». كما أنّ العنف لا يمثّل إلاّ مسلكًا من المسالك الّتي تلجأ إليها السّلطة، وهي لمّا تقوم بذلك تحاول تسويغه. إنّ الأفعال السياسيّة الحقّ لا تحتاج إلى تسويغ، أمّا العنف فيوجب في أغلب الأحيان التسويغ»([12]).
كذلك، تقول «حنّة أرندت»: «لا يمكن للعنف أن ينحدر من نقيضه الّذي هو السّلطة، وأنّه يتعيّن علينا، لكي نفهم العنف على حقيقته، تفحّص جذوره وطبيعته»([13]).
وتبعًا لمقاربتها الظاهراتيّة (الفينومنولوجيّة) هي ترى أنّ العنف يعبّر، في كثير من الأحيان، عن مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالسياسة، كالخوف من الموت والفناء والبحث عن الخلود عن طريق استمراريّة الجماعة. إذ يظهر العنف المضاد للسلطة عند غياب الحريّة، فالحريّة تعني «القدرة على الفعل» أو «القدرة على التأثير». فالديمقراطيات الحديثة لها طابع بيروقراطي، بشكل رئيسي، وتاليًا هي تجنح إلى التقليص من فضاء الحريّة، بل تسعى إلى جعلها من دون جدوى وفعاليّة ومعنى، سيما وأنّ البيروقراطيّة تبدو وكأنّها «سلطة من دون هويّة سياسيّة». إن المثقفين، في الشرق، ينشدون الحريّة ويطالبون بها، أمّا المثقفون في الغرب يرون أنّ حريّتهم ليست لها معنى؛ وهذا ما أفضى في النهاية إلى أعمال العنف. إنّ المفكّرين المحدثين الّذين مجّدوا العنف، إنّما انطلقوا من أساطير وأوهام سياسيّة، فرأواه خلاقًا ومنقذًا للجماعة، كما هو الشأن عند «جورج سوريل» (Georges Eugène Sorel) ([14]) أو أنّه باعثٌ على الحياة، كما هو الشأن عند «فرانز فانون»([15]) (Frantz Fanon).
أما «ماكس فيبر» ([16]) (Maximilian Carl Emil Weber) فيرى أنّ: «الدّولة سلطة للناس على النّاس قائمة على أساس أدوات العنف المشروع»([17]). وأما المنظّر الأساسي للحرب «كارل كلاوزفيتز» (Carl Philipp ([18])Gottlieb von Clausewitz) فيقول: «الحرب هي فعل عنف يهدف إلى إجبار الخصم على فعل ما أريد»([19]). و«إنّ الحرب هي مجرد استمرار للسياسة بوسائل أخرى»([20]). ورأى «فيبر»: «إنّ الدّولة هي الكيان السياسي الوحيد الّذي يحقّ له احتكار العنف الشرعي؛ لأنّه لا بدّ من وجود كيان قادر على منع عنف الأفراد والجماعات من المجمع”
في ضوء ذلك؛ فإنّ الدّولة الحديثة هي الّتي يحقّ لها ممارسة العنف، سواء لتنظيم شؤون المجتمع الداخليّة أو لمواجهة أي عدوان أو اعتداء عليها من الخارج. وتأخذ الدّولة هذا الحقّ من خلال التعاقد الاجتماعي الداخلي مع المواطنين عبر أشكال متعدّدة، سواء عبر الانتخابات في الديموقراطيّة الحديثة، أو ما يسمّى «البيعة» في الأنظمة الملكيّة العربيّة أو بعض الأنظمة الدّينيّة. لكن رغم نجاح الدّولة ـ الأمة الحديثة ـ في احتكار العنف والحدّ منه، هناك وجهة نظر أخرى اليوم ترى: «أنّ وضع الدّولة ـ الأمة في عصر العولمة ـ قد يفرض مقاربة العنف والحرب بطريقة جديدة تتجاوز التصوّرات القديمة حول العنف، فمن المهمّ إعادة النظر في مبدأ احتكار الدّولة للعنف الشرعي»([21]).
العنف الدّيني التّكفيري أو «المقدَّس»
يرى الشاعر والمفكّر السّوري «أدونيس»([22]): «أن العنف ظاهرة مشتركة في كلّ الأديان التوحيديّة، فالعنف في التوراة مرتبط بتاريخ الشّعب الّذي عرف العبوديّة والنفي، وفي المسيحيّة العنف مرتبط بتأسيس الكنيسة، وبالمقابل العنف في الإسلام مختصّ أو مرتبط بالفتح»([23]). لعلّ هذا الرأي فيه الكثير من النّقاش، ولكن لا جدال في أنّ عددًا لا يستهان به من المفكّرين والباحثين ربطوا بين العنف والدّين، يقول الباحث «إبراهيم الحيدري»: ” بصورة عامة، من المعروف أن جميع الأديان والرسالات والفلسفات والنظريّات الاجتماعيّة تدين العنف والإرهاب وتعدّه من أعقد المشاكل والعقبات الّتي تواجه البشريّة؛ لأنّ العنف والعنف المضاد الّذي ينتجه إنما يخلّفان وقوع ضحايا بشريّة هائلة وكوارث ماديّة ومعنويّة كبيرة في كلّ الأحوال.مع ذلك لم يتوصّل المفكّرون والعلماء إلى مفهوم واضح وموحّد للعنف والإرهاب؛ لأن كلّ طرف منهم يفسِّره بحسب فهمه وقناعته السياسيّة، وبصورة خاصّة عندما يتحوّل العنف من أداة إلى فكرة عقائديّة ورفعها إلى مستوى المقدس”([24]).
في مقابل هذا الرأي هناك من يحمّل الأديان والمذاهب والاجتهادات الدّينيّة المسؤوليّة عن انتشار العنف في العالم وبين البشر؛ لأن أتباع كلّ دين أو مذهب أو اجتهاد ديني أو مدرسة فكريّة وعقائديّة يدّعون امتلاكهم الحقيقة المطلقة، وأنّهم يمثلون الله على الأرض، ويدعون الآخرين لتبني وجهة نظرهم وألا تعرضوا للعذاب في الدنيا والآخرة. بعض هؤلاء لا يكتفي بمجرد الدّعوة بالكلمة والحوار، وهذا حقّ مشروع للجميع، إنّما قد ينبري مجموعة منهم إلى فرض تلك الرؤية المؤدلجة على محيطهم الاجتماعي بقوة السّلاح والعنف والاضطهاد.
في هذا يقول الباحث فؤاد خوري: «ما من دين أو طائفة أو ملّة أو فرقة إلاّ وتعتقد أنّ الله عزّ وجلّ قد خصَّها برسالة مميزة أو ميثاق مميز، وهو في سبيل ذلك يقف إلى جانبها يشدّ أزرها ويعمل على انتصارها بطريقة أو أخرى، فكلّ الأديان الشعوب مختارة، وإلا لما بقي المؤمنون على إيمانهم… والفرق بين هذه الطوائف والأديان يقع في طبيعة وكيفيّة الاستجابة للدعوة الإلهيّة وفي التّنظيم الدّيني الّذي يكفل ويؤمن هذه الاستجابة. فكما يستجيب أهل السّنة عن طريقة بناء الدّولة المركزيّة أو الخلافة الّتي تعمل على إنقاذ دين الله وشرعه في المجتمع البشري، ويليهم في ذلك الزيود والأباضيون عن طريق بناء «مدينة الإمام»، أو «المدينة الدّينيّة»، كذلك تعمل الشيعة الاثنا عشريّة على الاستعداد الدائم عن طريق الحركة الدائمة والثورة لتقبل النظام الإلهي الآتي بانتظار الإمام وعودته»([25]).
هذه الرؤية الدّينيّة أو العقائديّة هي الّتي تؤدي إلى «التّكفير»، سواء كان مباشرًا أو غير مباشر، والّذي يكون مقدّمة لارتكاب العنف ضدّ الآخر. ويقول الباحث والكاتب الفرنسي المتخصّص بالدّراسات الإسلاميّة «أوليفييه روا» ([26]) (Olivier Roy) : ليس الإرهاب والجهاد بظاهرتين جديدتين، فأنواع «الإرهاب العالمي» ـ الّذي ينشر الرعب باختياره لإخوان ذات رمزيّة رفيعة أو على العكس باستهدافه مدنيين أبرياء من دون أن يعبأ بالحدود ـ ظهرت منذ بداية القرن العشرين مع القوقويين لتبليغ أوجها مع أول إرهاب عالمي متزامن نشأ عبر التحالف بين عصابة بادر ماينهوف الألمانيّة واليسار الفلسطيني والجيش الأحمر الياباني، في سبعينيات القرن الماضي»([27]).
فالإرهاب بمعناه الحديث يأخذ أشكالاً مختلقة وهو منتشر، في كلّ أنحاء العالم، وليس مقتصرًا على بلد دون آخر أو على مجموعة سياسيّة أو دينيّة أو عقائديّة دون أخرى. فما هي علاقة «العنف» بـ«التّكفير الدّيني» أو الّذي يُدَّعى أنّه «عنف مقدس»، وهو المبنيُّ على نص ديني؟
أوضحنا بدايةً أنّ العنف هو كلّ خطاب أو فعل مؤذ أو مدمِّر يقوم به فرْدٌ أو جماعة ضدّ جماعة أخرى، وهو نوعان: «العنف الشرعي» المقبول قانونيًا واجتماعيًا، و«العنف غير الشرعي» غير المصدَّق عليه اجتماعيًا. وتكمن وظيفة الإيديولوجيا (الدّينيّة والسياسيّة)، أنّ بعض أتباعها يسعون إلى تعزيز السّلطة القائمة، في تأمين شرعيّة ما، لفعل عنيف أو عدوانيّ، عبر اللجوء إلى التعاليم الدّينيّة والحجج الأخلاقيّة والموروث الثقافي كي يُصبح استخدام العنف مقبولاً اجتماعيًا وأخلاقيًا حين يكون الهدف منه تحرير أرض مغتصبة أو إصلاح مجتمعات فاسدة، أو لدفع مظلوميّة مجموعات مضطهدة، أو لحسم الصراع بين: الخير والشر، الإيمان والكفر، الحقّ والباطل. بهذا التسويغ الأيديولوجي لا يعود استخدام العنف خيارًا؛ بل يُصبح حتميّة تاريخيّة وضرورة وجوديّة وواجبًا أخلاقيًا.
أما بالنسبة إلى مصطلح «التّكفير» ففي اللّغة العربيّة: «كَفَّرَ الشيء، وكَفَّرَهُ» تعني: سَتَرَهُ وغطَّاهُ. كَفَرَ الزُّرَّاع البَذْرَ بالتراب: غَطُّوه. و«الكافر» هو الزَّارعُ، والليلُ المُظلم الّذي يستُرُ بِظُلمته كلَّ شيءٍ([28]). أمّا في معنى الاصطلاح الدّيني، فإن عبارة «كَفَرَ الرَّجُلُ»: تعني أشركَ بالله، لم يؤمن بالوحدانيّة أو بالنبوّة أو بالشريعة، أو بثلاثتها. و«الكُفْرُ» هو الجحود، خِلافُ الإيمان. و«الكافر» هو «الجاحد، الساترُ لنِعم الله عليه؛ لأنه مُغَطَّى على قلبه، المُشْركُ بالله، الشخص الّذي يأتي بقولٍ أو فعلٍ أو اعتقاد يُخرجه من الإسلام»([29]). و«كَفَّرَ الرَّجُلَ»: نسَبَهُ إلى الكُفْر، حَمَلَهُ على الكُفْر، عدَّهُ كافرًا، «أي أخرجه من حظيرة الإيمان، مع ما يستدعي ذلك من أحكام فقهيَّة بالتَّجريم والرِّدَّة والعقوبة الّتي تصل حدّ القتل»([30]).
التّكفير حكم ليس بالضرورة صدوره عن محكمة، بل قد تصدره أحيانًا جماعات سريّة خارج القانون والقضاء بحقّ شخص أو مجموعة من النّاس لا تتفق معها، بزعم مخالفتها للدين والعقيدة فتقوم بتأثيمها لفعل ما ثم تحريمها، وتجريمها تاليًا، والأمر يشمل الأفكار والأشخاص. وقد يكون الاتّهام بالكفر بين الجماعات الدّينيّة المختلفة أو الأفراد المنتمين لديانات مختلفة أمرًا طبيعيًا؛ لأنّ كلّ منتمٍ لدين معيّن يرى نفسه يمتلك الحقيقة، والأخر ممن لا يوافقه الفكر نفسه أو الإيمان نفسه كافرًا. ولكنّ الظاهرة الأخطر عندما يلجأ أتباع هذا الدّين أو ذاك المذهب إلى اتّهام الآخرين بالكفر ثم اللجوء إلى العنف والقوة لفرض آرائهم عليهم. وهنا يسوّغ لنفسه ما يمكن تسميته «العنف التّكفيري»، ويتم إما من خلال إصدار فتوى من قاضي أو قرار من حاكم أو مسؤول، أو عبر تبني جماعة معيّنة لهذا الرأي والموقف واللجوء للعنف لفرض رأيها أو موقفها.
في الإسلام، نزعة التّكفير الّتي تجعل الدم البريء حلالاً هي مسألة شديدة الخطورة. وقد ترسّخت أحكامها الفقهيّة من خلال المناقشات الّتي دارت بين المدارس والمذاهب والفِرق الكلاميّة والفقهيّة الإسلاميّة، على مدار العصور لتعريف الكُفْر الّذي هو نقيض الإيمان، وتحديد درجاته (بالاعتقاد أو القول أو العمل) وأقسامه وأنواعه (كُفْرٌ ظاهرٌ وكُفْرُ باطنُ، وكُفْرُ عملٍ وكُفْرُ جحود…) وقواعده وأدلّته من القرآن والسُّنَّة. كذلك دعاة التّكفير، لا يستبعدون أتباع الشرك أو المشركين من الاتّهام بالتّكفير، فالأمر سيّان بالنسبة إليه بين كافر ومشرك ـ بحسب تصنيفاتهم ـ فلا استثناء من تكفير من يؤمن بأنّ الله شريك في الملك. إذ إنّ مفهوم الشِّرك في اللُّغة العربيّة هو: اتِّخاذ الشَّريك والنِّد، ويكون ذلك بأن يُجعل أحدٌ شريكًا لأحدٍ آخر إمّا من الناس أو غيرهم، ومنه الشركة: حيث إنّ الشركة تقوم على تشارُك مجموعة من الأشخاص بملك عقارٍ واحد، أو مؤسّسةٍ واحدة، ويُقال: «أشرك بينهما إذا جعلهما اثنين، أو أشرك في أمره غيره إذا جعل ذلك الأمر لاثنين»([31]).
أمّا معنى الشرك في الاصطلاح: هو اتّخاذ شريكٍ أو نِدٍّ مع الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كونه ربَّا خالقًا مُتصرِّفًا في الكون والخلق، أو في عبادة أحدٍ معه من البشر أو الكائنات أو المخلوقات أو الجمادات، أو في الأسماء والصّفات بإضافة ما لم يُسمِّ به نفسه من الأسماء ولم يتَّصف به من الصِّفات، أو أن يُعطي صفةً من صفات الله أو اسمًا من أسمائه لأحدٍ من الخلق. وهذا يوسّع من دائرة التّكفير فقهيًا، «إذ ثمّة مدارس فقهيّة وسَّعت دائرة موجبات التّكفير، وأخرى وضعت شروطًا وضوابط عدة لتقييد أو منع إلصاق تُهمة الكُفْر بالمسلمين، فهم يرون كلّ شركٍ يسمّى كفرًا، كلّ شرك هو دعوة غير الله، والاستغاثة بغير الله، وصرف العبادة لغير الله، تسمّى شركًا. ومن هذا الجدل والنقاش الّذي استمرّ لقرون عدة، في صحة الإيمان والتوحيد، في مقابل خطيئة الكُفْر والرِّدّة، انتشرت عادة التّكفير على ألسنة النّاس»([32])، وأصبحت هذه النزعة من القوة والرسوخ في ثقافتنا، بحيث إننا بتنا بحاجة إلى ثورة ثقافيّة ومعرفيّة وعقليّة وأخلاقيّة وفقهيّة شاملة لاستئصالها واقتلاعها من قاموسنا كوسيلة سهلة لإنهاء معاركنا وخلافاتنا مع خصومنا، وتصفية حساباتنا مع أعدائنا.
لا شكّ، عندما يتداخل الدّيني بالسياسي والإلهي بالبشري، ويختلط الأُخروي بالدّنيوي والماورائي بالواقعي والمقدَّس بالوضعي، كما يحصل مع بعض الأحزاب والجماعات الّتي ترفع شعارات دينيّة لتحقيق أهداف سياسيّة وسلطويّة، فإنّ العقل الدّيني ينقل إلى الحقل السياسي كلّ مطلقاته ويقيناته وثوابته وأحكامه ومقدّساته. والمقدس المطلق بطبيعته يتعارض وحريّة الفكر والرأي والتقرير والاختيار، وهو يفترض السّمع والطاعة والخضوع، ويأبى الاختلاف والخروج على ما يُعِدُّه أصحابه إجماعًا، تحت طائلة شيطنة الشخص المختلف أو المبتدع، وتعرّضه إلى البند والاتهام في دينه والتشكيك في إيمانه.
في موازاة ظاهرة التّكفير، يبرز التطرّف الدّيني كأحد أشكال السّلوكيات الدّينيّة المنشودة والتطرّف الدّيني يعني «اتخاذ مواقف متشدّدة في مواجهة الرأي الآخر»، وهو ابن التعصّب Fanatisme )) أي «الانحياز إلى رأي أو موقف خاص دون الاستعداد للحوار والنقاش». «ويصبح، في هذه الحال، التطرّف فعلاً ماديًا (أي يتحوّل إلى العنف أو الإرهاب) وينتقل من التنظير إلى التنفيذ، ومن الفكر إلى الواقع ومن النظريّة إلى الممارسة. فما بالك إذا استخدم الدّين ذريعة للإلغاء والإقصاء وفرض الرأي بالعنف والإرهاب خارج نطاق القانون والقضاء، لا سيما من خلال التّكفير (Expiation) للآخر بزعم امتلاك الحقيقة وإدعاء الأفضليّات»([33]).
إنّ كلّ تصرف ينجم عن تعصّب لفكرة أو لرأي أو لأيديولوجيّة أو لدين أو لطائفة أو لقوميّة أو لأثنيّة أو لسلالة أو للغة محدّدة، فهو تطرّف. وكلّ متطرّف هو متعصّب تجاه الآخر، ولا يقبل الاختلاف في وجهات النظر، ويعدّ الآخر شخصًا غريبًا وفي موقع العداء. والتطرّف قد يكون دينيًا أو طائفيًا أو قوميًا أو لغويًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا أو سياسيًا. والتطرّف الدّيني يمكن أن يكون إسلاميًا أو مسيحيًا أو يهوديًا أو هندوسيًا، كما يمكن أن يكون المتطرّف علمانيًا أو حداثيًا أو محافظًا أو سلفيًا. والتطرّف الدّيني يوازي، أيضًا، ما يمكن تسميته «بالتعصّب الدّيني». و«التعصّب الدّيني أصلاً ليس ظاهرة جديدة، إذ إنّ معظم المجتمعات الإنسانيّة قد شهدت ظواهر مماثلة عبر التّاريخ، والتعصّب عمومًا هو حال من التمركز الشديد، أو من الانجذاب المفرط نحو الذات الجمعيّة السياسيّة أو القبليّة أو المعرفيّة أو المناطقيّة أو الدّينيّة. وفي جاهليّة العرب على سبيل المثال كانت العصبيّة أن تنصر أخاك ـ من القبيلة نفسها ـ ظالمًا أو مظلومًا»([34]).
التعصّب الدّيني هو الأشد خطورة بين كلّ العصبيات الّتي شهدها التّاريخ؛ لأنّه يعطي أصحابه الحقّ بتكفير الآخر وصولاً إلى إهدار دمه وقتله، ويجعل عمليّة القتل تأخذ بعدًا دينيًا مقدسًا. وهذا ما شهدناه مع مختلف الأديان السماويّة أو الإبراهيميّة وأتباعها، حين كان أتباع كلّ دين أو مذهب يقتلون أتباع الدّين الآخر أو المذهب الآخر بسبب الاختلاف على التفسيرات الدّينيّة أو الاجتهادات الدّينيّة أو حول كيفيّة تفسير النصوص الدّينيّة. فالتعصّب الدّيني يجعل من يؤمن به فوق المجتمع أو فوق أي جماعة أخرى. وهو «لا يحتاج إلى المعرفة لكي يفوز بالخلاص، وكلام الله ينتقل إليه من دون توسّط أي معرفة، وتلك على وجه الدّقة مهمّة الروح لدى البروتستانت؛ ذلك بأنّ هذا النصّ هو كلام الله الحيّ الّذي يقول الحقّ، وعلى المرء أن يكون مسكونًا بكلام الله»([35]).
لذلك؛ فإنّ أبرز ما يميز العقل الدّيني المُغالي والمُتشدّد هو رفضه التنوّع وتعدُّد المشروعيات، وادِّعاؤه أنّه الوحيد الّذي يمتلك «الحقيقة» الّتي لا يأتيها الباطل؛ وأنَ من يرفض «حقيقته» فهو يرفض «الدّين» نفسه. ومن هذا الادّعاء تنبع كلّ مظاهر الغلو والإقصاء والإلغاء والتطرّف ومصادرة الحريّات واستخدام العنف مع المخالفين والخصوم الفكريين من أتباع التيارات والمذاهب الأخرى. وإذا سمحنا لهذا النموذج من العقل الدّيني بأن يُمارس سلطته وطغيانه وفوقيّته واستعلاءه، داخل الحقل السياسي، فلا شكّ أنّ النتيجة ستكون كارثيّة، كما نُشاهد في وقتنا الرَّاهن. ذلك أن «الدّين» هو بنيّة عقديّة وإيمانيّة وأخلاقيّة وقيميّة مطلقة، تؤمن بوجود مفاهيم نهائيّة وشاملة، أما «السياسة»، فهي بُنية نسبيّة ومتحوِّلة ومتقلِّبة تعمل على التوفيق بين العناصر والمعطيات المتباينة؛ وهي تعترف بتعدّد الحقائق والسّلطات في المجتمع، وتتعامل مع الأزمات والمشكلات بصورة واقعيّة لا ماورائيّة أو غيبيّة. وفي السياسة مبدأ النفعيّة مقدَّم على الأخلاق، والغاية تُسوّغ الوسيلة، والمصالح أهمُّ من المبادئ.
من هنا، عندما تتوسّل بعض الأحزاب السياسيّة أو الحركات الدّينيّة اليقينات والمطلقات والمقدَّسات لتحقيق أهدافها ـ بغضّ النظر عن شرعيتها المجتمعيّة والشعبيّة والدّينيّة والأخلاقيّة أو مشروعيتها القانونيّة والحقوقيّة ـ وعندما تُضْفي على استخدامها العنف أهميّة دينيّة ورصيدًا أخلاقيًا لتسويغه، فإنّها تقوم عن سابق تصوُّر وتصميم بالخلْط بين بُنْيتين مختلفتين ومتباعدتين في الجوهر والوسائل والأهداف، وتُلْحق الضّرر والأذيّة بكلّتيهما. وذلك عندما تستحضر من الحقل الدّيني مفاهيم «التّكفير» بكلّ ثنائياته (مؤمن، كافر، مؤحِّد، مشرِك، طاهر، نجس، متَّبع ـ مبتدع…) ليتمّ تطبيقها في الميدان السياسي (وطنيّ، خائن، مقاوم، عميل، شريف، متآمر، صديق، عدوّ، حداثة، جاهليّة، إسلاميّ رجعيّ، علمانيٌّ ملحد، إرهاب إسلاميّ، ديموقراطيّة كافرة…) مع ما يستتبع هذه الثنائيات من أحكام مبرمة بالنبذ والعزل والإلغاء والإقصاء والنفي من دائرة الحقّ والخير والإيمان، والتجريم واستحقاق العقوبة الماديّة والمعنويّة.
إذ لا يقتصر العنف الدّيني التّكفيري على الجانب الإسلامي، فقد برز في مناطق أخرى في العالم. فمن أشكال العنف الدّيني التّكفيري ما شهدته أوروبا من القرن الثّالث عشر إلى القرن السادس عشر تحت اسم «محاكم التفتيش» (Inquisición) ثمّ الحروب الدّينيّة، «ومحاكم التفتيش هي محاكم كاثوليكيّة وضعها «البابا غريغوار» التاسع لمحاكمة جرائم البدع والردّة وأعمال السّحر والشّعوذة في جميع أنحاء العالم المسيحي، فأدّت هذه المحاكم والحروب الدّينيّة الّتي شهدتها أوروبا على نطاق واسع، خلال تلك المرحلة، إلى مقتل عشرات الآلاف وسلبهم ممتلكاتهم لمصلحة الكنيسة»([36]). هناك، أيضًا، نماذج الحرب الدّينيّة في تلك المرحلة، مثل مذبحة سان برتيليمي (Saint Barthe’lemy)في فرنسا، في العام 1572، والّتي ذبح طلاّبها ما يرقى إلى 30 ألف بروتستانتي على يد السّلطات الكاثوليكيّة والمتعصّبين الكاثوليك. ولم يبقَ بلد في أوروبا لم يتأثر بأعمال العنف بين الكاثوليك والبروتستانت، وبجرائم قتل الملوك الّتي ارتكبت باسم الكتاب المقدس أعمال عنف بين مختلف الطوائف البروتستانتيّة، وبين عامي 1517 و1648 اشتعلت القارة الأوروبيّة بنيران الحروب الدّينيّة.
لذلك؛ لا يمكن حصر التطرّف والعنف بالعالم العربي أو الإسلامي أو اتّهام الإسلام وحده المحضّ على التطرّف والإرهاب، فهذه المنطقة تعايشت فيها الأديان والقوميات والسلالات المختلفة طيلة ألف وأربعمئة عام؛ والدليل على ذلك بقاء هذا التنوع كلّه في هذه المنطقة مع تغير الدّول والأمبراطوريات والخلافات. وإذا كانت البلدان العربيّة والإسلاميّة تعاني، اليوم، من ظاهرتي التطرّف والعنف (الإرهاب) وتشهد نزاعات وإحترابات دينيّة وطائفيّة، فقد سبقتها دول ومناطق أخرى في العالم، فأوروبا شهدت «حرب المئة عام» بين بريطانيا وفرنسا (1337م ـ 1453م) وتخلّل ذلك هدنات عديدة. ومن أسبابها ادّعاء الملوك الإنجليز بأنّ العرش الفرنسي لهم، وفق تسويغات طائفيّة أو دينيّة، كما شهدت أوروبا «حرب» الثلاثين عامًا ( Thirty Years’ War) ، وهي سلسلة حروب وصراعات دمويّة بين عدد من الممالك والدّول الأوروبيّة واتخذت بعدًا دينيًا بين البروتستانت والكاثوليك، وأدّت إلى تدمير قسم كبير من أوروبا وقتل نحو13 مليون ونصف مليون إنسان، وانتشرت الأمراض والمجاعات، وانتهت بالتّوصل إلى صلح يضمن مصالح الدّول والممالك كافّة، وسمّي بـ «صلح وستفاليا»، وهو الّذي مهَّد لقيام الدّولة القوميّة الحديثة في أوروبا.
التأريخ المعاصر يشهد على حروب عديدة، نشبت إمّا لأسباب سياسيّة أو عرقيّة أو دينيّة؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الحرب العالميّة الأولى (1914 ـ 1918) الحرب العالميّة الثّانية (1943 ـ 1948) الحرب الكوريّة (كوريا الجنوبيّة وكوريا الشماليّة 1950 ـ 1953)، حرب البوسنة والهرسك (1992 ـ 1995) الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 ـ 1990)، العدوان الثلاثي على مصر (1956)، حرب كوسوفو (1998 ـ 1999)، مجازر رواند (1994)، احتلال الاتّحاد السوفياتي السّابق لأفغانستان (1979)، احتلال أميركا لأفغانستان (2001)، احتلال أميركا للعراق (2003)، المجازر ضدّ مسلمي بورما أو الروهينغا (2015 و2017)… وغيرها؛ كلّ حروب ذات أسباب سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة، ودينيّة أحيانًا. طبعًا، لا يجوز إغفال نشوء «اسرائيل» في فلسطين المحتلّة، في العام 1948، والّتي شنّت العديد من الحروب والاعتدءات، سواء على الشّعب الفلسطيني أو على الدّول والمناطق المحيطة به (مصر، الأردن، لبنان، سوريا ومصر وقطاع غزة)، وقد شهدنا منذ السابع من تشرين الأول (اوكتوبر) 2023 حرب إسرائيلية مدمرة على قطاع غزة ردًّا على الهجوم الذي شنّته حركة حماس الفلسطينية ضد بعض المستوطنات الإسرائيلية ، ولكن حجم الرد الإسرائيلي تجاوز كل الحدود الإنسانية وكل المعاهدات الدولية وحقوق الإنسان وتحول الى ما يشبه «حرب إبادة».
إزاء هذه المطالعة التأريخيّة، يتبيّن أنّ مسوّغات العنف الدّيني في مختلف عصور البشريّة هي ذاتها إلى حدّ بعيد، فالمقارنة ها هنا، تتطابق بشكل مذهل في الظروف والتوظيف، سواء اعتمده أفراد أو جماعات أو دول أو أتباع ديانات ومذاهب محدّدة. هذا ما يمكن استطلاعه في كتاب «أسطورة العنف الدّيني: العلمانيّة وجذور الصراع الحديث»، للباحث الأميركي «ويليام كافانو»(William T. Cavanaugh) ([37])، حيث يستوقفه مطوّلاً وصف هذه الحروب بالحروب الدّينيّة، ويُظهر «كافانو» : «كيف تضمّنت الحروب الدّينيّة معارك بين الكاثوليك بعضهم بعضًا وكذلك بين اللوثريين، كما تضمّنت تحالفات بين الكاثوليك والبروتستانت، محلّلاً تلك الظروف في العصور الوسطى ليقول بعدم معقوليّة الفكرة القائلة بأنّ انتقال السّلطة من الكنيسة إلى الدّولة كان حلاً ومخرجًا من حروب القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد كانت عمليّة بناء الدّولة، والّتي بدأت بالفعل قبل عصر النهضة، عمليّة محلّ نزاع بطبيعتها. فبدءًا من نهايات حقبة القرون الوسطى، تضمّنت العمليّة إدماج القوى المبعثرة تحت حماية الحاكم، كما تضمّنت ترسيم الحدود الخارجيّة في وجه الدّول الأجنبيّة الأخرى» ([38]).
نستنج في محصلة الكتاب، نوعًا من الفضح العلمي لالتباسات أسطورة العنف الدّيني، وما حمّل للدّين من تبعات الحروب والصّراعات، وهشاشة تلك المقولة انطلاقًا من مساءلة ادعاءاتها التفسيريّة. وهذا خلافًا لتوجّهات باحثين آخرين سعوا إلى تبيان خطورة العنف المتولّد عن المؤسسات العلمانيّة في محاولة لإعادة توزيع اللوم بين العلماني والدّيني أو إلى نزع الصّفة الدّينيّة عن صانعي العنف باسم الدّين، إذ يتخذ «كافانو» طريقًا آخر أكثر جديّة، فهو يطرح إشكالاً تجاوزته البحوث المغلفة بالبداهة: كيف تم تأسيس ثنائيّة الدّيني والعلماني؟ وفي سياق إثباته ذلك، يشير إلى أنّ تلك الحروب لم تكن تدور حول السياسة أو الدّين، وهو لا يدافع عن فكرة اتهام الدّولة بتلك الحروب، أو أنّ الكنيسة بريئة منها، ولكن ما يشير إليه أنّ انتقال السّلطة من الكنيسة إلى الدّولة لم يكن هو الحلّ لعنف القرنين السادس عشر والسابع عشر، وإنما كان سببًا تلك الحروب؛ فصعود الدّولة الحديثة لم يكن إعلانًا عن أوروبا أكثر سلامًا، ولكنّه ترافق مع انزياح في القيمة الّتي يقاتل البشر ويموتون من أجلها.
في الفصل الرّابع والأخير، يتتّبع «كافانو» استعمالات أسطورة العنف الدّينيّة، في نقاشات المحكمة العليا للولايات المتّحدة الأميركيّة، بعد أربعينيات القرن المنصرم، يلاحظ غياب ما كان يشكّله الدّين من قوة توحيديّة، ونوعًا من الرباط الّذي يربط الأمة معًا، حين بدأ شبح العنف الدّيني يُستحضر في قضيّة تلو الأخرى بما فيها بند الدّين المندرج في التعديل الأوّل للدستور. كما تحرّكت المحكمة لحظر الصلاة في المدارس ومنع مساعدات الدّولة عن مدارس الكنسيّة، ومنع المظاهر الدّينيّة في المباني الحكوميّة.
هنا، يبيّن «كافانو» كيف أسهمت أسطورة العنف الدّيني في تأسيس الآخر غير الغربي وفي شرعنة العنف ضده، ويقدّم مجموعة من الأمثلة حول الطريقة الّتي يُستعمل بها هذا المنطق لتسويغ التدخلات العسكريّة الغربيّة في العالمين العربي والإسلامي. إذ يحاجج بأن مقولة الدّين هي مقولة اخترعها الغرب كجزء من أيديولوجيته الناشئة، إبان عصر الحداثة وتحت تأثير توزيع وترتيب جديد للسلطة انعكس في إقامة ثنائيات: العام/ الخاص، الكنيسة/ الدّولة، الدّين/ السياسة… واحتكار الدّولة للعنف الداخلي وتدشين مشروعها الاستعماري. ولهذا لم تكن مقولة الدّين «وصفًا لواقع اجتماعي جديد، بل إنها ساهمت في جلبه إلى الوجود وتدعيمه، وذلك وفق رأيه([39]). أما مفهوم الدّين خارج الغرب، فلم يتأسس إلاّ تحت تأثير الاستعمار الغربي ـ أيضًا بحسب «كافانو» ـ لكن ما الهدف من تأسيس مقولة الدّين خارج الغرب؟ إن هذه المقولة الّتي تولدت بهدف التغريب والتحديث، تشكّل أداة للعلمنة وتطويق العناصر المهمّة في الثقافات غير الغربيّة، وتحويلها إلى شؤون فرديّة منفصلة عن الشأن السياسي العام؛ وهذا ما يضمن تطويع إرادة المستعمَر وإحكام سيطرة المستعمِر عليه.
هذه الأسطورة الخاضعة في نشأتها وازدهارها وشيوعها لترتيبات السّلطة ومحدّداتها ـ بحسب كافانو ـ هي خاضعة للمنطق نفسه في استعمالاتها. «فهي إذ تمنح الشرعيّة المطلقة للدولة العلمانيّة في ضبط المكون الدّيني وفي تحديد ما هو ديني وما هو غير ديني، تعمل في الوقت عينه على نزع الشرعيّة عن بعض العنف المسمّى دينيًا، وعلى منح الشرعيّة للعنف الّذي تنتجه العلمانيّة. هكذا يصبح عنف الدّين عنفًا غير مسوّغ؛ لأنه ينشأ عن أسباب غير موضوعيّة ولأهداف تقع في العالم الآخر. أما عنف المؤسسات العلمانيّة المحسوب والعقلاني الّذي لا يحمل طابعًا رمزيًا ومقدسًا يصبح عنفًا مطلوبًا، وخاصّة إن كان في مواجهة شعوب البلاد الّتي لمّا تتعلّم بعد كيف تتخلّص من عنف الدّين»([40]).
وفق ترتيبات هذا المنطق، يصبح التخلّص من المتشدّدين والمعادين للنموذج العلماني خيارًا مشروعًا، فما دام هؤلاء مصرّين على المحافظة على عقائدهم «اللاعقلانيّة» والخطرة، فإنّه، ولا حرج، من «المسوّغ للبشر المتسامحين أن يقتلوهم»، كما يصرّح سام هارس (Samuel Benjamin Harris) ([41]).
إذ إنّ تحييد دراسة سياسة الغرب الاستعماريّة تجاه العالم غير العلماني والبحث عن أسباب «أكثر عمقًا» كامنة في المكوّن الدّيني والثقافي لهذا العالم، هو واحدة من الاستراتيجيات الكثيرة الهادفة إلى تبرئة الذات الغربيّة من العنف وتأبيد العنف الشرعي للدولة العلمانيّة.
هذا يفضي بنا، إلى الحديث عن دور الهويّة في تلك الرؤى المقّدمة حول مفهومي العنف والإرهاب، وهل للهويّة والانتماء إلى عقيدة ما أو أيدولوجيّة محدّدة دور مؤثر في صناعة العنف أو الإرهاب وتسويغه؟ في هذا السياق يربط «رينيه جيرار»، في كتابه العنف المقدّس، بشكل غير مباشر بين الانتماءات وسلوكيات العنف حين يقول: «إنّ العنف ذو طبيعة محاكية، ليجعله أساسًا لكلّ فكر ديني وثقافي مستدلاً على ذلك بتحليل مقارن لعدد من الأعمال التراجيديّة والطقوس والأساطير المتباينة الانتماءات، بدءًا ببلاد اليونان وانتهاء بأفريقيا البدائيّة»([42]).
إزاء ذلك يقول «أمارتيا سن»([43]) في كتابه «الهويّة والعنف ـ وهم المصير الحتمي» : «إنّه ممكن تحوّل وعي معمَّق منذ النشأة بهويّة مشتركة مع جماعة من النّاس إلى سلاح قوي، يوجّه بوحشيّة ضدّ جماعة أخرى. وفي الواقع أنّ كثيرًا من النزاعات تتغذّى على وهم هويّة متفرّدة لا اختيار فيها، ويمكن أن يهزم الشّعور المفرط بالهويّة مشاعر التعاطف الفطري، ويدفع إلى العنف والإرهاب، ويمكن أن يكون الشّعور بالهويّة مصدرًا ليس فقط للفخر والبهجة؛ بل أيضًا للقوة والثقة، وليس من المدهش أن فكرة الهويّة تلقى مثل هذا الإعجاب المنتشر»([44]).
إنَّ الفكرة الأساسيَّة الّتي ما لبث الكاتب يوضّحها، طيلة فصول هذا الكتاب في إجابة عن الإشكاليَّة الّتي يندرج ضمنها مُؤَلفه هذا، هي بيان حقيقة «أنَّ الصّراع والعنف يدعمهما اليوم وهم هويَّة متفرّدة، والواقع أنَّ هناك اتجاهًا متزايدًا اليوم لرؤية العالم بكونه فيدراليَّة أديان أو ثقافات أو حضارات، مع تجاهل أهميَّة الطرائق الأخرى الّتي يرى بها النّاس أنفسهم، والّتي تختصُّ بالطبقة أو النَّوع أو المهنة أو اللّغة أو الآداب أو العلوم أو الموسيقى أو الأخلاقيات أو السّياسة، والمحاولات على مستوى الكوكب لوقف مثل هذا العنف تعوقها الفوضى المفاهيميَّة الّتي تتوَّلد عن فرضيّة وجود هويَّة منفردة أو مفروضة على الإنسان بشكل قدري، وعندما تُعرَّف العلاقات بين البشر بأنَّها «صدام حضارات» فإنَّ البشر يتمُّ تصغيرهم، بوضعهم في صناديق صغيرة»([45]).
إنَّ التَّحريض على العنف يتقوَّى بفرض هويَّات منفردة انعزاليَّة وعدوانيَّة، يناصرها ويؤيّدها أناس محترفون وبارعون في الإرهاب على أناس بسطاء مسامحين. ولمواجهة هذا العنف يقترح «أمارتيا صن» ضرورة الشُّعور بالهويَّة، والّذي يقدّم مساهمة مهمَّة لجعل العلاقة مع الآخرين قويَّة ودافئة، مثل الجيران أو أعضاء الجماعة أو المواطنين أنفسهم من أبناء الوطن أو التَّابعين للدّيانة نفسها. وهذا الشُّعور يمكن أن يساعد أيضًا في تجاوز حياتنا المتمركزة حول الذّات، «فالهويَّة لا تستمد كينونتها من ذاتها فقط، بل من المفارق لها أيضًا؛ أي ممَّا ينفصل عنها وليس فقط ممَّا يتَّصل بها، ثمَّ لا معنى لمطلب الهويَّة بمعزل عن التَّميز والاختلاف اللذين يمثّلهما الآخر، إذ تؤدي المسافة بين الأنا والآخر دورًا في وعي الهويَّة، سواء في انغلاقها أو انفتاحها؛ إذ لا تتحقَّق للهويَّة توازناتُها من خلال الذّات فقط، بل أيضًا من خلال الآخر»([46]).
و«الهويَّة المشتركة مع الآخرين إذن يمكن أن تجعل حياة الجميع تسير بشكل أفضل، ولهذا ينظر إلى الشُّعور بالانتماء إلى جماعة إنسانيَّة ما بكونه أحد مصادر الثروة»([47]).
للمفارقة المدهشة أيضّا، أنّ الهويّة سيف ذو حدين، وفق المعنى المطوّل أعلاه؛ وبرأي ذلك يعود إلى أهل الهويّة نفسها، كيف يرون أنفسهم، وكيف يعكسون صورتهم هذه أو تلك عند الآخرين. والحديث حول الهويّة والعنف أو الإرهاب، في لحظتنا الراهنة، تكاد تكون منحصرة بالدّين الإسلامي، لأسباب ظهر بعضها معنا في سياق الحديث أعلاه.
غير أنّ هناك أسبابًا أكثر بروزًا مثل: الاختلافات السياسيّة والدّينيّة بين الفرق والجماعات الإسلاميّة، وهو ما يفضي إلى تناقض مصالحها واضمحلال أفكارها الأيديولوجيّة، وفهم الأمور الواقعيّة والسياسيّة والدّينيّة فهمًا ساذجًا سطحيّا من دون التعمّق في حيثياتها الحقيقيّة، كذلك سوء فهم للدين الإسلامي، والجهل بمقاصده البعيدة والقريبة والتوقف عند ظاهر النص من دون استنطاق دلالاته العميقة وما تحمله اللغة العربيّة ـ القرآن الكريم ـ من رمزيّة. والأهم من كلّ ذلك عدم القبول بفكرة التعايش مع الآخر المختلف عنهم في اللّغة والدّين والعادات والتقاليد، والإسراف في التحريم ما أدّى إلى التباس المفاهيم والتداخل في ما بينها، والاشتغال بالقضايا الجانبيّة بدلاً من الاهتمام بالقضايا الكبرى كالبطالة والفقر والجهل والتخلّف… إلخ.
تتفاعل هذه الأسباب المختلفة في تنمية «الاتّجاه التّكفيري» داخل عقليّة هذه الجماعات الدّينيّة الساعية إلى احتلال العالم وتقسيمه وفق أهوائها الأيديولوجيّة وصياغة التصوّرات بتقسيم العالم إلى دارين: دار الكفر والإلحاد ويمثلها الغرب، ودار الإيمان والإسلام، ويمثلها العرب، وفي هذا تحريض على العنف يتقوَّى بفرض هويَّات منفردة انعزاليَّة وعدوانيَّة. ويبدو أنّ تزايد الاعتماد على التصنيف القائم على الدّين لأهل هذا العالم، يميل إلى جعل ردّ الفعل الأوروبي على الصراع والإرهاب العالمي يحدث بطريقة تخلو من أيّة براعة، ففي مواجهة ما يطلق عليه «الإرهاب الإسلامي» في التعبيرات المشوشة لسياسات العولمة المعاصرة، فإنّ القوة الفكريّة للسياسة الغربيّة موجّهة، بشكل أساسي، لمحاولة إعادة تعريف الإسلام تعريفًا مغايرًا للحقيقة ـ يتّصف بالشموليّة ورؤيته الأوسع نحو العالميّة ـ وفق منظورها الفلسفي، والّذي يحوي في بعض مضامينه وجهًا عنصريًا تجاه الآخر.
لكن، عمومًا، كلّما صارت الهويَّات أكثر تأطيرًا زاد التعصّب حولها، وكلّما زاد التعصّب زاد العنف والاضطهاد؛ فالهويَّات المتعدّدة في مقابلها تصنع الإنسان بشكل مختلف عن الآخر، وهذا ما يجعلها أفضل من الهويَّات المغلقة والجامدة الّتي تعمل جاهدة على تشتيت فكر الإنسان وحصره في التَّبعيّة والتعصّب الأعمى، فقولبة الإنسان في هويَّة واحدة، غير شموليّة أو متعدّدة، إنَّما هو إفقار له وقطع له عن التَّواصل مع الآخرين، وينشأ هذا الانحصار من التَّعامي عن حقيقة أنَّ الإنسان يعيش في شبكة هائلة من العلاقات مع الآخرين في محيطه الصَّغير والمحيطات الأكبر على السَّواء، وتزيده كلُّ علاقة من هذه العلاقات ترابطًا بالآخرين، وتزيد حياته كذلك غنًى، وعلاقته مع الآخرين توثُّقًا، ومن هنا أهمية إيجاد مساحات للاتّفاق بين البشر، والبحث عن الهويات المشتركة بين البشر بدل تضخيم وجوه الخلاف وجعلها معاول لهدم الحياة وعدم عمرانها.
الخلاصة
من خلال هذا الاستعراض لتطوّر مفهوم العنف والإرهاب والعلاقة بين التطرّف والعنف والتّكفير، والعلاقة بين الدّين والعنف، يمكن القول إنّ ظاهرة العنف تاريخيّة وقديمة، وليست مرتبطة بدين محدّد أو مجتمع معين أو مجموعة سياسيّة أو فكريّة، بل ارتبطت في مراحل متعدّدة بالصراعات السياسيّة والأيديولوجيّة ما أدّى إلى بروز «العنف السياسي» أو «الإرهاب الإسلامي»، مع مفارقة لا تزال مثيرة للاستغراب وهي أنّ العالم لمّا يتفق، حتى الآن، على تحديد مفهوم نهائي للإرهاب أو العنف. وما يربك في دراسة ظاهرة التّكفير أو العنف الدّيني أنّها عابرة للأديان والمذاهب.
ويمكن الإستنتاج من خلال العرض الذي قدمناه أنّ مفهوم الإرهاب في عالم اليوم أصبح وجهة نظر؛ ذلك أنّ هناك عددًا من الدّول الكبرى تتعامل معه بمعايير مزدوجة انطلاقًا من مصالحها أو وفق استراتيجياتها الوطنيّة أو الدّوليّة، حتى أن هناك من يتهم بعض الدّول برعايتها للإرهاب وتمويله وتدريب عناصره، ثم استخدامه للوصول إلى أهداف سياسيّة واقتصاديّة أو إثارة النعرات الطائفيّة والمذهبيّة، في مجتمعات ودول أخرى، لتغيير أنظمة الحكم المعادية لها وتمكين أنظمة جديدة موالية من الوصول إلى الحكم.
كما أن إلصاق صفة الإرهاب ببعض الدّول والحركات التحرريّة المقاومة والأحزاب الوطنيّة أو المنظّمات السياسيّة، إنما يتم وفق رأي منظومة «العالم الجديد» ما بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي وتفرّد الولايات المتّحدة الأميركيّة والغرب الأوروبي بقيادة العالم وإدارته استنادًا إلى موالاتها لهذه القيادة أو ممانعتها لها، وإنّ الإرهاب بالنسبة إلى هذا البعض هو كلّ ما كان استقلالاً في الإرادة عن هذه الإدارة، أو بمعنى آخر من ليس معنا فهو ضدنا، وتاليًا الإرهاب هو كلّ خروج عن النظام العالمي الأميركي الآحادي ونموذجه وثقافته، وفي المقابل لا نجد موقفًا حاسمًا وواضحًا من الإرهاب الذي تمارسه «إسرائيل» ضدّ الشعب الفلسطيني ويعجز مجلس الأمن عن إصدار قرار واضح ضد المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني كما حصل خلال الحرب على قطاع غزة ما بين السابع من تشرين الأول (اوكتوبر) 2023 وبدايات العام 2024.
كذلك؛ لقد شهدت المجتمعات الدّينيّة، وغير الدّينيّة، في العالم صراعات عنيفة في العالم القديم والجديد، لكنّ هذا الصراع تراجع إلى حدّ كبير في أوروبا بعد «معاهدة وستفاليا» وقيام الدّولة الحديثة، وإن كانت الصراعات تحولت إلى حروب سياسيّة واقتصاديّة من خلال الحروب التي شهدها القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، كما إنّ العنف المرتكز على البعد الدّيني في المجتمع اليهودي المتصهيّن لا يزال مستمرًا إلى اليوم، وهو يشكل الخلفيّة الأساسيّة لقيام «إسرائيل» على أرض فلسطين المحتلّة، وما ترتكبه من جرائم بحق الفلسطينيين والعرب.
كما شهدنا في العالم، في العقود الأخيرة، أشكالاً متنوعة من العنف العنصري في عدد من الدّول تمثّل بهجمات استهدفت مؤسسات دينيّة أو مجموعات المهاجرين في عدد من الدّول الأوروبيّة وفي نيوزيندا أو في أميركا. وقد تكون بفعل السياسات الدّوليّة، وقضايا المهاجرين واللجوء الّتي ساهمت في بروز هذا العنف العنصري، والّذي يختلط أحيانًا مع مشاعر دينيّة، كما لا بدّ من الإشارة للعنف الّذي تعرض له المسلمون في نيامار، والّذي يأخذ بعدًا دينيًا سياسيًا.
أمّا «جماعات العنف الدّيني التّكفيري» في المجتمعات الإسلاميّة فهي قديمة العهد، منذ وفاة الرسول محمد والاختلافات الّتي نشأت بعد وفاته، وتشكّل ظاهرة الخوارج إحدى أبرز هذه الجماعات، والّتي تستمر بأشكال مختلفة على طول التّاريخ الإسلامي وحتى يومنا الحاضر. ونقصد «بجماعات العنف الدّيني التّكفيري»: «هي الجماعات الّتي ترتكز على قاعدة تكفير الآخرين وتستخدم العنف لنشر أفكارها وسيطرتها، وتقدِّم نفسها الممثل الحقيقي للدين الإسلامي». وإذا كانت هذه الظاهرة ارتبطت تاريخيًا بالصراعات الكلاميّة والعقائديّة وإشكاليّة الخلافة أو الإمامة والصراع على السّلطة، فإنها اليوم برزت لأسباب سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة وغياب العدالة وحقوق الإنسان والتنمية والحكم الرشيد. وقد استفادت قوى دوليّة وإقليميّة من هذه الجماعات في صراعاتها ومعاركها. ولذلك اختلط البعد الدّيني التّكفيري مع الصراعات السياسيّة والدّوليّة والإقليميّة. فكيف تطوّرت هذه الجماعات تاريخيًا؟ وما هي علاقاتها مع الصراعات على الخلافة أو السّلطة؟ وما هو دور النصوص الدّينيّة في تسويغ نشوء هذه الجماعات؟ وكيف تمّ توظيفها في الصراعات الدّوليّة والإقليميّة؟ هذا ما نتعرَّض له في مقالاتٍ قادمة.
الهوامش
([1]) هذه المقالة جزءٌ من أطروحة دكتوراه للباحث في جامعة القدّيس يوسف (كلّيّة العلوم الدّينيّة)، وهي بعنوان: “العنف الدّيني بين النّصوص المؤسّسّة والمتغيّرات السّياسيّة والاجتماعيّة (من الخوارج الى تنظيم داعش)”، بإشراف: الأب الدكتور عزيز حلاّق.
([2]) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر الدينيّ والسياسيّ المعاصر.
([3]) سورة المائدة، 5: 27 ـ 30.
([4]) الكتاب المقدس، العهد القديم، ط1، (خاصّة لمصر)، القاهرة، دار المشرق 2014، ص75، الطبعة الأولى، دار المشرق، 1989.
([5]) Fleyfel, Antoine, Les dieux criminels, les Editions du cerf, 2017.
([7]) العنف الميميائي، وهو تعريف وهو تعريف لشبه حرفي لكلمة mimetique (بالفرنسية) من خلال النسبة والاشتقاق من اللغة العربية، وقد فضل مترجم كتاب «في أقاصي العنف» استخدام هذا اللفظ على الترجمة المعتمدة في بعض القواميس، وهي الخلقي أو التكيفي، أي المحاكاة.
([8]) فرنجية، سمير، رحلة في أقاصي العنف، ترجمة محمد حسين شمس الدّين، شرق للكتب، طبعة أولى 2012، ص90.
([9]) حنّة آرندت (1906 ـ 1975) فيلسوفة ومنظّرة سياسيّة وباحثة ألمانيّة، وهي يهوديّة اضطرت للهرب خوفًا من بطش هتلر خلال الحرب العالميّة إلى باريس ثم نيويرك حيث استقرت بشكل نهائي.
([10]) رايت ميلز عالم اجتماع أمريكي راديكالي (1916 ـ 1962) يعدّ الأب الروحي للاتجاه الراديكالي في علم الاجتماع المعاصر، ومن الأعلام البارزين في اليسار الجديد في الولايات المتّحدة الأميركيّة في خمسينيات القرن العشرين المنصرم.
([11]) أرندت، حنّة، في العنف، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثّانية 2015، ص31.
([14]) جورج سوريل يوجين (1847 ـ 1922) فيلسوف فرنسي ومنظر للسينديكالية الثورية.
([15]) فرانز عمر فانون (1925 ـ 1961) طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي من مواليد جزر المارتنيك، عرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصريّة.
([16]) ماكس فيبر أو ماكسيميليان كارل إميل فيبر عالمٌ اجتماعيٌ وفيلسوفٌ ألمانيٌ(1864 ـ 1920) وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث وهو من أتى بتعريف البيروقراطية. ويبقى عمله الأكثر شهرةً هو كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسماليّة، إذ يُعد أهم أعماله المؤسسة لعلم الاجتماع الدّيني.
([17]) أرندت، حنّة، في العنف، المصدر السّابق، ص32.
([18]) كارل فون كلاوزفيتز (1780 ـ 1831) جنرال ومؤرخ حربي بروسي، تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرا عميقا في المجال العسكري في البلدان الغربية. تُدرس أفكاره في العديد من الأكاديميات العسكريّة، وتُستعمل في عدة مجالات مثل قيادة المؤسسات والتسويق. ويعدّ من أكبر المفكّرين العسكريين شهرة وتأثيرًا على مرّ التّاريخ.
([19]) زكريا، عبد السلام، الإرهاب بين الأمس واليوم، مرجع سابق، ص32.
([20]) عابد ، هشام ، الحرب عند كلاوزفيتز ، موقع الحوار المتمدن ، https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=284870
([21]) منوبي، غباش، العنف السياسي، من كتاب «العنف: قضايا وإشكالات»، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، آذار 2018، ص116.
([22]) علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار أدونيس (1 يناير 1930) شاعر سوري ـ لبناني، تلقى عددًا من الجوائز العالميّة وألقاب التكريم وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة. قاد أدونيس ثورة حداثية، في النصف الثّاني من القرن العشرين، فقد كان له تأثير لا يوصف على الشعر العربي، استطاع بلورة منهج جديد في الشعر العربي يقوم على توظيف اللغة على نحو فيه قدر كبير من الإبداع والتجريب تسمو على الاستخدامات التقليدية من دون الخروج عن اللغة العربية الفصحى ومقاييسها النحوية.
([23]) Adonis, violence et Islam, entretiens avec Houria Abdelouahed, seuil paris, 2015, p48.
([24]) الحيدري، إبراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 2015، ص18.
([25]) خوري، فؤاد إسحق، إمامة الشهيد وإمامة البطل، مركز دار الجامعة بيروت 1988، ص165 ـ 166.
([26]) أوليڤييه روا (1949) عالم سياسي فرنسي، أستاذ في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، إيطاليا. نشر مقالات وكتب عن العلمنة والإسلام من بينها «الإسلام العالمي»، وفشل الإسلام السياسي. يشتهر «بنظرته المختلفة للإسلام الراديكالي» عن بعض الخبراء الآخرين، حيث يراه محيطيًا وغربيًا وجزءًا من المجتمع المتشدد و«الافتراضي» أكثر من كونه مجتمعًا إسلاميًا متدينًا «فعليًا.
([27]) روا، أوليفييه، الجهاد والموت، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2017، ص7 ـ 8.
([28]) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، ط 2005، ص 369.
([29]) موسوعة المصطلحات الإسلاميّة المترجمة، معجم المصطلحات الشرعيّة، البخاري 6045، https://islamicـcontent.com/dictionary/word/3322
([31]) المنجد، محمد صالح، ما هي حقيقة الشرك وما هي أقسامه، الإسلام سؤال وجواب، اطّلع عليه بتاريخ 28ـ3ـ2017. بتصرّف.
https://almunajjid.com/speeches/lessons/364
([32]) أمون، هلا رشيد، مصدر سابق، ص463.
([33]) شعبان، عبد الحسين، ثلاثة التعصّب والتطرّف والإرهاب، مجلة رواقات الصادرة عن مركز الرافدين للحوار، العدد الأوّل، أيلول 2019، ص11.
([34]) عتريسي، طلال، بين صحوتين: الإسلام السياسي في شرق متحول، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، طبعة أولى 2020، ص47.
([35]) روا، أولفييه، الجهل المقدس ـ زمن دين بلا ثقافة، دار الساقي، بيروت، طبعة ثالثة، 2015، ص219.
([36]) قرم، جورج، نحو مقاربة دنيوية للنزاعات من الشرق الأوسط (تحليل ظاهرة توظيف الدّيني في السياسة الدّولة)، ترجمة سلام دياب، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، أيار 2014، ص85 ـ 86.
([37]) ويليام كافانو (1962) متخصص في علم اللاهوت السياسي، وأستاذ للدراسات الكاثوليكية، في جامعة دي بول ومدير للمركز المتخصص بالكاثوليكية العالميّة واللاهوت بين الثقافات، نشر كافانو العديد من الكتب والمقالات، بعضها تمت ترجمته إلى عدة لغات.
([38]) كافانو، ويليام. ت.، أسطورة العنف الدّيني: الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث، ترجمة أسامة غاوجي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009، ص 203.
([39]) كافانو، ويليام. ت.، أسطورة العنف الدّيني: الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث، المرجع السّابق، ص 179.
([40]) كافانو، ويليام. ت.، أسطورة العنف الدّيني: الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث، المرجع السّابق، ص 186.
([41]) سام هاريس (1967) هو مؤلف وفيلسوف ومفكر وعالم أعصاب أميركي، وأحد مؤسسي مشروع إدراك ومديره التنفيذي. له مؤلف كتاب «نهاية الإيمان» (2004)، والّذي ظهر في لائحة النيويورك تايمز لأفضل المبيعات 33 أسبوعًا على التوالي. كما تُوّج الكتاب بجائزة بَنْ (PEN Award) في العام 2005. ويشتهر بكتابيه «المشهد الأخلاقي» و«الاستيقاظ: دليل إلى الروحانية الخالية من التدين».
هاريس ،سام ، المشهد الأخلاقي والاستيقاظ: دليل إلى الروحانية الخالية من التدين، ترجمة خلود عمر ومراجعة أحمد عبد المجيد، دار سطور للنشر و التوزيع، بغداد، 2022، ص 89
([42]) جيرار، رينيه، العنف المقدس، ترجمة سميرة ريشا، المنظّمة العربية للترجمة، بيروت،الطبعة الأولى، صفحة 18.
([43]) أمارتيا كومار سن، فيلسوف واقتصادي هندي، ولد سنة 1933، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1998 لمساهماته في اقتصاديات الرفاهية، وعمله على صعيد نظريَّة التّنمية البشرية، ووسائل محاربة الفقر والحريَّة السياسيّة، من أهمّ أعماله: الهندي المولع بالجدل، العقلانيَّة والحريّة، التّنمية حريّة، العقل قبل الهويّة، وهي كلها أعمال مترجمة إلى أكثر من ثلاثين لغة.
([44]) سن، أمارتيا، الهوية والعنف ـ وهم المصير الحتمي، سلسلة عالم المعرفة العام، ترجمة سحر توفيق، العدد 352، 2008، ص 10.
([46]) أبو رمان، محمّد، أنا سلفي: بحث في الهويَّة الواقعيَّة والمتخيَّلة لدى السَّلفيين، مؤسَّسة فريديريش إيبرت، عمَّان، 2014، ص 22.
([47]) كاظم، ثائر رحيم، العولمة والمواطنة والهويَّة، بحث في تأثير العولمة على الانتماء الوطني والمحلّي في المجتمعات، مجلّة القادسيَّة في الآداب والعلوم التّربويَّة، جامعة القادسيَّة، العراق، العدد الأوّل، المجلّد الثامن، 2009، ص 258 ـ 259.