الدين والمجتمع المدني
الشيخ صادق اللاريجاني(1)
موضوع هذه المقالة وإن كان يدور حول معرفة طبيعة علاقة الدين بالمجتمع المدني، إلاّ أن الضرورة أملت علينا أن نمرَّ أولاً – وبشكل إجمالي – بنبذة تاريخية عن مفهوم المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الغربية.
ولكن قبل كل شيء ينبغي أن تُضاء بعض النقاط بعنوان تنقيح موضوع البحث.
تنقيح موضوع البحث
لمعرفة طبيعة علاقة الدين بالمجتمع المدني، ينبغي أن تكون بين أيدينا أولاً معان وان إجمالية عن (المجتمع المدني) و (الدين) حتى يمكننا على أساس ذلك البحث عن طبيعة العلاقة فيما بينهما.
ينطوي (المجتمع المدني) في الفلسفة السياسية الغربية على تاريخ معقد. والغفلة عن هذا السياق التاريخي تستوجب عدم انضباط البحوث وخضوعها للميول، وتفضي إلى الاشتراك اللفظي بلا وجه.
صحيح أنَّ وضع الألفاظ يخضع للمواضعات، ومن ثمَّ فانَّ استخدام لفظ مثل (المجتمع المدني) في معنىً جديد تماماً، هو أمر لا إشكال فيه بحسب القاعدة، ولكن إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الألفاظ تدل أحياناً في مجال معين على معنىً ويكون لها مدلول عام، فعندئذ يمكن أن يؤدي وضع الاصطلاحات الجديدة إلى اشتراك لفظي يولد الالتباس، ويكون من قبيل لزوم ما لا يلزم.
علاوة على أنَّ الكثير من التعاريف الموجودة صادرة في الحقيقة تبعاً للرغائب – بدون ضابطة – . ونظرة عابرة لمطبوعاتنا تشير إلى أن كل إنسان يسوق لـ (المجتمع المدني) تعريفاً وفق مذاقه الخاص. فأنصار المجتمع المدني يلصقون به كل ما يعرفونه من فضائل، ليعكسوا عن هذا الطريق تعريفهم الخاص له. أما المناوئون للمجتمع المدني فيلصقون به كل ما يعرفونه من الرذائل.
وفي وسط ذلك كله يبقى الإنسان ذاهلاً وهو يتساءل: لماذا ابتعدت البحوث عن مجالها الأصلي كل هذا القدر، وراحت تساق إلى مضمار البحوث اللفظية والتعاريف المزاجية غير المقيدة.
لقد فتح رئيس الجمهورية المحترم حجة الإسلام والمسلمين السيد خاتمي في كلمته المهمة القيمة التي ألقاها في مؤتمر قمة منظمة المؤتمر الإسلامي الباب على مصراع آخر، عندما تحدث فيها عن (المجتمع المدني الإسلامي) الذي قال في معناه: (إن المجتمع المدني الذي نطالب باستقراره وتكامله في بلدنا ونوصي به الآخرين في جميع البلدان الإسلامية، يختلف ماهوياً بشكل جذري وأساسي مع المجتمع المدني المنبثق عن الفكر الفلسفي اليوناني والتجارب السياسية لروما.
وان كان ليس من الضروري أن يكون هناك تعارض بين الاثنين في جميع النتائج والعلائم. المجتمع المدني الغربي متفرع من الوجهة التاريخية ومن حيث الأصول والمرتكزات النظرية عن الدولة – المدينة اليونانية؛ ومن النظام السياسي لروما بعد ذلك، على حين أن المجتمع المدني الذي ننشده، له من البعد التاريخي والمباني النظرية أُصوله في مدينة النبي صلى الله عليه وآله).
ثم عبر النص بعد ذلك عن مدينة النبي – صلى الله عليه وآله – بأنها المكان المعنوي للمسلمين جميعاً، وبداية لامتداد ضرب من الثقافة والرؤى والسلوك ظهر مرَّة في الحضارة الإسلامية. وثمَّ لهذه الثقافة رؤية ممتازة، وخاصة إلى الكون والإنسان ومبدأ هذين الاثنين(3).
وهذا تعريف للمجتمع المدني ليس فيه أيّ إشكال بحسب القاعدة كما اشرنا من قبل. فما دمنا لا نتحدث عن ظاهرة خاصة، بل نحن بصدد المواضعة وحسب، فبمقدورنا أن نسجّل بان ما نقصده من لفظ (المجتمع المدني الإسامي) هو هذا الأمر.
ولكن عندما نكون إزاء مصطلح له امتداد تاريخي طويل في فلسفة الغرب، فسنواجه مسألتين:
الأولى: لماذا نستخدم مصطلح (المجتمع المدني) بالأساس في الوقت الذي نعتقد أن ما نريده وننشده يختلف تماماً مع المجتمع المدني الغربي، وانَّ الاثنين يعبران عن ماهيتين متفاوتتين؟ فإذا ما كنّا نسعى وراء مجتمع يستلهم من مدينة النبي والمرجعية القيمية الحاكمة فيها التي يُقصد بها الثقافة والقيم الإسلامية، أفلم يكن الأنسب والأكثر معقولية أن نتحدَّث عن (المجتمع الإسلامي) لكي نتوخى الاشتراك اللفظي ولا نعلق – بالموضوع – حمولات قيمية غير مقصودة؟
الثانية: إن التدليل على ( المجتمع المدني) بمثل هذا المعنى يجعل بعض المسائل المطروحة للبحث هنا بلا موضوع. إذ ليس معقولاً عندئذ أن نبحث في طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني ومدينة النبي، لانَّ القضية تتحوّل تماماً إلى مثل من يسأل: ما هي العلاقة بين مدينة النبي ومدينة النبي؟
وكذا يغدو السؤال عن العلاقة بين المجتمع المدني والدين بلا موضوع، لأنه يرجع إلى سؤال توتولوجي (أي سؤال تكراري ينم عن الحشو القبيح) لنكون كمن يسأل:
هل المجتمع المدني مجتمع مدني؟ وهذا سؤال لا محصّل له. وبحسب الاصطلاح الفلسفي لـ (جورج مور) – الفيلسوف الانجليزي – تكون هذه الأسئلة مغلقة.
طبيعي لا يعدّ أيٌّ من هذين الأمرين بمثابة الإشكال الفلسفي أو المنطقي على استخدام وتعريف المجتمع المدني على أساس مفهوم (مدينة النبي). إذ ليس المطروح هنا بحثاً فلسفياً، بل هو مسألة مواضعة، حيث ينبغي أن نتفحص الصيغة الأنسب والمواضعة الأكثر معقولية من غيرها في مجال استخدام هذا اللفظ. بالأخص أن الكثير من المسائل تفقد موضوعها وهي تتلبس الصيغة التي طرحت بها، أو تتسم بالغموض الذي يعيق البحث.
إذا ما عدنا على سبيل المثال إلى فهرسة هذا الموضوع وانتقينا على وجه التحديد مفردة (النظام القيمي في المجتمع المدني) فستنطلق الأسئلة في: ما هو المقصود من ذلك؟ وأي مجتمع مدني هو المراد؟ فنظام القيم في المجتمع المدني الغربي يكتسب صيغة معينة، على حين يكون بصيغة أخرى في المجتمع الإسلامي. لذلك كلّه اقترح أن نستخدم المجتمع المدني (Civil Society) في معناه الذي ينطوي عليه في مجاله التاريخي (والشيء الطبيعي انه لم يكن على معنى واحد على الدوام) في مقابل مصطلح (المجتمع الإسلامي) الذي يراد به – تحديداً – المجتمع المشيّد على أساس الإسلام، أو بتعبير آخر على أساس (مدينة النبي) كمكان معنوي. ثم نتحوّل بعد ذلك للسؤال عن طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدين، لكي يكون هناك موضوع للبحث.
بعد هذا الاقتراح، يدور هذا البحث حول ثلاثة محاور، يتناول الأول نبذة تاريخية عن السير التاريخي لمفهوم المجتمع المدني في الغرب. ويبحث الثاني في طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدين؛ أما الثالث فينهض بالدفاع عن (المجتمع الإسلامي) إزاء بعض الشبهات التي تُثار حوله.
المجتمع المدني (Civil Society)
يُلف مصطلح (المجتمع المدني) في الفلسفة السياسية الغربية تاريخ طويل. ولا يمكن القول بان جميع الذين استخدموا المصطلح أرادوا به معنىً واحداً ؛ وهذا ما يزيد في التعقيد(4).
استخدم بعض كتاب القرن الثامن عشر مصطلح (المجتمع المدني) للتدليل على نوع خاص من الدولة؛ وهذا المعنى هو الذي ابتغاه (هيجل) أيضاً(5)، على حين جرت العادة الآن على استخدام (المجتمع المدني) كمقابل للدولة (State). وبشكل أدق راح الكثير من الكتاب يطلقون مصطلح المجتمع المدني على ذلك الجزء من الحياة الاجتماعية الذي يخرج عن حيّز التأثير المباشر للدولة.
فهذا الجزء من الحياة الاجتماعية البعيد عن تدخل الدولة والذي يشمل الحياة الأسرية، الدائرة الاقتصادية، الفعاليات الثقافية والمراكز السياسية التي تتحرك بفعل نشاط الأفراد أو الجماعات البعيدة عن التدخل المباشر للدولة، وتنتظم بشكل تلقائي خاص أو من خلال ترتيبات إرادية للأفراد هي التي يطلق عليها المجتمع المدني4. وهذا المعنى للمجتمع المدني كما هو واضح لا يطلق على نوع من المجتمع في مقابل نوع آخر. وإنما يشير إلى أبعاد أو وجه من المجتمع بإزاء أبعاد أخرى منه.
مرَّت الإشارة إلى أنَّ مصطلح المجتمع المدني يكتنفه تاريخ معقد، فقدماء فلاسفة السياسة مثل (هوبز، لوك وروسو) استخدموه في مقابل الوضع الطبيعي (Natural Stat). و(جون لوك وجان جاك روسو) استخدما صراحة تعبير ( Civil Society) و(Civil State)(6).
بيدّ أن (هوبز) كان يستخدم أساساً تعبير(Wealth – Common) الذي يقال أن المراد منه هو المجتمع المدني نفسه (وان كان قد استخدم أحياناً مصطلح المجتمع المدني)(8). أمّا (الوضع الطبيعي ) فهو مصطلح لا يتسم بالوضوح الكافي، وتحليل هؤلاء له يختلف من واحد إلى آخر، وان كان المراد منه إجمالاً هو الوضع الذي كان عليه البشر قبل تشكيل المجتمع الذي ينطوي على النظم السياسية (أو هكذا يفترض).
يعتقد (هوبز) أنَّ الإنسان فردي وأناني بالأصالة خلافاً لبعض الحيوانات التي تعيش حياة جماعية وتنظم أمور اجتماعها عن طريق الغريزة والفطرة. والإنسان بالفردية والأنانية المتأصل بهما لا يفكر بأكثر من استمرار مصلحته. والحالة الطبيعية للإنسان هي حرب الجميع على الجميع بالجميع؛ والحالة الطبيعية هي ذاتها حالة عدم الطمأنينة والهجوم صوب السلطة.
والحق الطبيعي (Right of Nature) للإنسان هو نفسه الذي يُمثل بحرية استخدام السلطة بالشكل الذي يراه من اجل الحفاظ على حياته. وفي هذا السبيل يستطيع أيضاً أن يتعدى على حياة الآخر، إذ الحاكم في هذا المجال هو القدرة الصرفة(9). هذه الحالة من طبيعة الغاب هي التي تلزم الإنسان بتأسيس المجتمع السياسي أو الدولة أو المجتمع المدني (Common – Wealth). فوظيفة الدولة تامين الملكية الخاصة وضمان الأمن، وعلى كل إنسان أن يتنزل عن حقوقه المطلقة، ويعهد بها إلى إنسان لا تتسم سلطته بالمحدودية، وبمقدوره أن يصير سنداً للأمن والحقوق الفردية.
مثل هذه الدعوى تستند إلى العقد (Contract – Covenants). عقد بين الأفراد كي يتنزلّوا على أساسه عن قدرتهم، ويفوضونها إلى شخص واحد من اجل ضمان الأمن الشخصي والمالي(10).
يذهب (جون لوك) إلى ما ذهب إليه (هوبز) وهو يعدّ المجتمع المدني في مقابل الوضع الطبيعي. بيد أنَّ الوضع الطبيعي عند (لوك) ليس هو تنافس الغاب الذي تصوّره (هوبز). وإنما يشمل الوضع الطبيعي علاوة على تساوي البشر وحريتهم، هيمنة قوانين العقل؛ وان البشر يعملون على أساس الأوامر والنواهي العقلية(11).
وبتعبير آخر يسعى كل إنسان لحفظ منافعه على أساس ضوابط عقله، بل ويعمد على أساس الضابطة نفسها إلى إنزال العقوبة على المعتدي. بيد أن ذلك كلّه يتحرك في المدار الشخصي. على حين لا يتصرف البشر هكذا في المجتمع المدني أو في المجتمع السياسي (Political Society) – وقد كان (لوك) يستخدم هذين الاثنين بمعنىً واحد فيما يبدو – على نحو شخصي، فالبشر يعيشون وفق الغريزة الإلهية الموهوبة، بشكل اجتماعي، وهذا يستلزم أن يكون لهم قانون يحكم الجميع على نحو متساو، ثم إن رعاية هذا القانون أو عدم رعايته تحتاج إلى منفذين يتولون الحفاظ عليه.
والمجتمع المدني يتحقق – في رؤية (لوك) – عندما يتنازل الأفراد عن حقوق وضعهم الطبيعي، ويعهدون إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص مهمة تعيين القوانين نيابة عن عامة المجتمع، لأجل تنظيم المجتمع ورعاية المصالح العامة(12).
والنقطة التي يؤكدها (لوك) هي أن ما يقوّم المجتمع المدني أو الاجتماع السياسي هو إيجاد حاكم أو قاض يفصل في النزاعات باقتدار (ومشروعية) ويعوّض الأفراد ما يصيبهم من خسارة وضرر.
وكلما افتقر الاجتماع الإنساني لوجود سلطة مؤثرة مثل هذه يرجع إليها في فصل المنازعات والتعويض عن الأشخاص، فلن يحظى بوجود المجتمع المدني بل سيبقى في الوضع الطبيعي، مهما بلغ الترابط بين أفراده ومهما كانت آصرة الاجتماع فيما بينهم(13).
في هذا الضوء يقدم (لوك) بحثاً تفصيلياً مفاده أن المجتمع المدني غير منعقد في ظلال الحكومات الاستبدادية، وانَّ الناس في إطار هذه الحكومات ما يزالون في الوضع الطبيعي. لأنه لا وجود في هذه المجتمعات لمرجعية يمكن العودة إليها في إزالة جميع النواقص والإضرار؛ أي مرجع يمكنه الفصل حتى في النزاعات التي يكون فيها الحاكم المستبد طرفاً(14)، بحيث يكون حكمه (المرجع) عادلاً وبملء إرادته. يطرح (جون لوك) في الفصل التاسع من رسالة الحكومة المدنية، بحثاً طريفاً مفاده: إذا كان البشر يحظون في الوضع الطبيعي بالحرية الكاملة، فسينظرون إلى أنفسهم أصحاب حق، وهم المعنيون بتنفيذ هذا الحق، من دون أن يكونوا تحت سلطة أي إنسان؛ وعندئذ يكون السؤال: لماذا إذاً يبادرون لتشكيل المجتمع السياسي أو المدني(15)؟
يسوق بعدئذ ثلاثة أدلة لهذا الأمر؛ أهمها عدم استقرار الوضع الطبيعي وثباته، وذلك في المعنى الذي يفيد إن حقوق وأموال وممتلكات البشر تكون في الوضع الطبيعي عرضة لظلم الآخرين وعدوانهم. ولذلك لا تعيش الإنسانية حياتها باطمئنان، بل تحتمل على الدوام فقدانها لأموالها. وبذلك تكون واحدة من أهم وظائف المجتمع المدني ومسؤولياته ضمان الملكية الخاصة Property)) بديهي ان (لوك) يستخدم مصطلح (Property) في معنىً موسّع بالكامل، يشمل الحياة، الحرية، والممتلكات الإنسانية. ومن ثمَّ يكون المراد من (Property) هو (كل ما يملكه) الإنسان بالمعنى العام لذلك(16).
يذهب (روسو) كما هو الحال بشأن (هوبز ولوك) إلى أنَّ المجتمع المدني هو بازاء الوضع الطبيعي، وان كان يختلف مع (لوك) في بيان الوضع الطبيعي. فهو يعتقد أن تخطي الوضع الطبيعي إلى الوضع المدني Civil State)) هو تعبير عن تغيير أساسي في حياة البشرية. لانَّ الذي يحصل في هذا التحوّل هو أن تأخذ العدالة مكانها بدلاً من الغريزة، وتسبغ البشرية على أفعالها وجهة أخلاقية كانت تفتقدها في حالة الوضع الطبيعي.
يضع الإنسان في المجتمع المدني المسؤولية في مكان الدوافع الجسدية والمادية؛ والقانون بدلاً من الأهواء. وبذلك تتبدّل رؤيته فيدرك أن عليه بدلاً من النظر إلى نفسه وحسب أن يعمل على وفق أصول أخرى ؛ وان عليه أن يصغي لنداء عقله بدلاً من أن يخضع لميوله ويتبعها.
والإنسان وان كان يفقد في الوضع المدني الكثير من الحريات، بيد انه يحصل على كمالات كثيرة أيضاً. ثم ينتقل (روسو) بعد ذلك لتأكيد أنَّ الحريات الطبيعية للبشر تختلف عن الحرية الموجودة في المجتمع المدني. فالحرية الطبيعية لا يحدها سوى سلطة الأفراد وقدرتهم، على حين تقيّد الحريات المدنية بواسطة إرادة عامة(17).
من الفلاسفة الآخرين الذين بذلوا عناية وافرة بمسألة المجتمع المدني (هيجل). ولكن من الصعب رصد نظريته على نحو دقيق، لأنها اندرجت في إطار أعم من النظريات العقلانية والمجردة، داخل نظامه الفلسفي.
يذهب (هيجل) إلى أنَّ الحياة الأخلاقية تتجلّى في ثلاثة أمور أو ثلاث مراحل، هي:
1. العائلة (Family).
2. المجتمع المدني (Civil Society).
3. البلد ( الدولة) ( State 18).
ولا يقصد (هيجل) أن لهذه الأمور الثلاثة أو المراحل الثلاث، وجوداً بذاته مستقلاً عن الآخر، بل الدولة هي الوجود الحقيقي والاثنان الآخران موجودان تبعاً لها(19).
ينتج تصوّر المجتمع المدني منطقياً بنظر (هيجل) من انحلال الأسرة. فما دامت الأسرة موجودة بصيغة كيان واحد، فلا استقلال لأفرادها مقابل البعض للبعض الآخر. ولكن بانحلال الأسرة واضمحلالها يبلغ أعضاؤها الاستقلال. وعندئذ وعلى اثر اضمحلال الأسرة، سيظهر أشخاص مستقلين ومتعددين، يتواصل بعضهم مع بعض من الخارج مثل الذرات المنفصلة(20).
والذي يذهب إليه (هيجل) أن الأفراد في المجتمع المدني يكونون وراء منافعهم الخاصة، ويعدّون الآخرين واسطة لتحصيل هذا الهدف(21).
وفي مكان آخر يذكر أن الأصل الأول للمجتمع المدني هم الأفراد الحقيقيون الذين يتشكلون من أهداف جزئية وخصوصية ومجموعة من الميول والرغبات وليشكلوا مركباً من الضرورات الطبيعية والأهواء والميول(22).
يعد (هيجل) المجتمع المدني ساحة لتصارع مصالح كل فرد ضدَّ بقية الأفراد(23). وهذه الوضعية ناشئة عن النظرة الجزئية للأفراد التي تبرز بعد اضمحلال العائلة. ولا تعود النظرة الكلية العامة إلى الوجود مجدداً إلاّ مع الدولة (State ) فقط، حيث يتم حسبان المصالح الفردية ويتم التفكير بالكل وحسب(24).
على هذا المنوال هناك فرق اساسي بنظر (هيجل) بين المجتمع المدني والدولة، وان كان هذان الوجودان لا يمكن أن يتحققا دون أن يكونا معاً(25).
يذهب بعض قرّاء (هيجل) إلى أنه كان يميل إلى الليبرالية الاقتصادية وانه يعتبر المجتمع المدني مجتمع السوق الحرّة التي يظن فيها الأفراد أنهم يستطيعون فيه التعبير عن حرياتهم الفردية والحقيقية وإبرازها إلى الوجود. فالأفراد في هذا المجتمع يبادرون إلى العمل والتبادل ويمارسون مختلف المعاملات. بيد انهم يمارسون ذلك وكأنهم يفعلونه من اجل أهدافهم دائماً؛ وان الإرادة الفردية هي الإرادة العقلية في حدّ ذاتها(26).
المجتمع المدني والمجتمع الإسلامي
يصرّح الكثير من الكتاب إلى إن المجتمع المدني ظاهرة لها صلة وثيقة مع مسار الليبرالية في الغرب(27). ويمكن الإشارة إلى هذه الصلة بطريقين:
الأول: التأكيد الذي ذهب إليه بعض فلاسفة السياسة في تفكيك (المجتمع المدني) عن الدولة والتمييز بينهما. فالمجتمع المدني وان لم يكن متعارضاً مع الدولة مضاداً لها، ولكنه يشير إلى بعد من المجتمع يكون خارج السيطرة المباشرة للدولة. وربما كان (هيجل) في طليعة الفلاسفة الذين أكدوا تفكيك المجتمع المدني عن الدولة؛ وان كان قدم تعريفاً معقداً وصعباً عن طبيعة العلاقة بينهما.
إن التفكيك بين العام والخاص (Public , Private ) والتقليل من دور الدولة في المجتمع المدني وتقوية المؤسسات التي يمارس الأفراد نشاطاتهم من خلالها في المجتمع المدني، هي من أهم مقولات الليبرالية وتعاليمها.
طبيعي إذا نظرنا إلى المجتمع المدني من زاوية معينة، فهو لن يكون مفصولاً عن الدولة أبداً، لان الدولة هي التي تحدّد الإطار القانوني لفعاليات المجتمع المدني. ولكن مع ذلك فان تأكيد اصل وجود دائرة من المجتمع تكون بمأمن عن التدخل المباشر للدولة، هي من أهم مقولات الفكر الليبرالي(28).
الثاني: صحيح أن كتابات الفلاسفة السياسيين المتقدمين مثل (هوبز ولوك وروسو) أكدت دور القانون في المجتمع المدني ودور الدولة في تطبيق القوانين. ولكن المجتمع المدني عند هؤلاء الفلاسفة لم ينفصل عن الدولة تماماً، بل كان يعد أحياناً متوحداً مع الدولة في الظاهر عندما يدرج تحت عنوان المجتمع السياسي أو الدولة المدنية، و ذلك في المعنى الذي يكون فيه المجتمع المدني هو المجتمع الذي يكون فيه وجوداً للدولة التي تحفظ منافع الأفراد ومصالحهم.
ومع ذلك كله فان الحقيقة تتمثل في أن تأكيد القوننة ودور القانون في المجتمع هو مؤشر أكيد على الليبرالية، بالذات في كتابات (لوك). لذلك يمكن أن يعدّ (جون لوك) من مؤسسي الفكر الليبرالي الجديد27.
بديهي لا نريد القول أن صدق شعار القوننة ورعاية القانون يكفي كمقوّم لليبرالية. وإنما المراد أن (لوك) ومن تابعه عرضوا للقانون وخصلة النزوع القانوني بصيغة خاصة بحيث يكون مرتكزاً لليبرالية. فهؤلاء يعتقدون أن دور الدولة سلبي محض.
وظيفة الدولة أن تدع المواطنين يتمتعون بالحدّ الأعلى من الحرية، وان يسعوا وراء مصالحهم ومنافعهم كما يشاءون. فليس من مهمة الدولة التوصية بأهداف وغايات ومصالح، ولا ينبغي أن تتدخل في مثل هذه الأمور مطلقاً، وان تمارس العمل خلافاً لإرادة المواطنين. مسؤولية الدولة إيجاد الأرضية المناسبة لتمارس المجموعة الإنسانية التي تعيش في إطار المجتمع المدني، حرية الاختيار.
يقول (لوك): ( يبدأ الاستبداد من النقطة التي ينتهي فيها القانون). بعبارة أخرى تعدّ الممارسة السياسية عند (لوك) أداة، وهي شأن آلي. فدور الفعاليات السياسية يتمثل في أنها تحقق إطار وشرائط حرية الأفراد في السعي وراء أهدافهم الشخصية28.
مرادنا أن نوضح إنَّ المجتمع المدني والقوننة (حاكمية القانون) التي تراد فيه لها معنىً خاص، بحيث لا ينبغي أن تعدّ في معنىً واحد مع (الالتزام بالقانون) بمعناه الاصطلاحي. وهذا بحث مهم جداً، وهو بنظرنا نقطة افتراق المجتمع الإسلامي عن المجتمع المدني.
ليس هناك شك في أن وجود القوانين والالتزام بها وتساوي جميع الأفراد أمام القانون، والتطبيق العادل للقوانين هي من الأمور التي ينبغي أن يُسعى وراءها في المجتمع الإسلامي كما في أي مجتمع آخر يريد أن يعيش بعقلانية. لذلك فان الذي يعارض المجتمع المدني لا يريد أن يخالف حاكمية القانون والالتزام به (القوننة) بهذا المعنى الذي ذكر.
ولكن وجود القوانين في المجتمع المدني له معنىً آخر، فالقانون في هذا المجتمع ينبغي أن يكون محايداً إزاء القيم ومصالح الأشخاص وكمالاتهم. فالقانون الذي يدوّن ويُدفع من قبل الدولة لا ينبغي أن يحتوي على اتجاهاته الخاصة، بل ينبغي فقط أن يكون أرضية لإرضاء ما يبتغيه المواطنون وممهداً لتحقق أهدافهم الخاصة.
فلا يحق للدولة أن تسن باسم الالتزام بالقيم قوانين لا تتسق مع الإرادة العامة أو الرضا العام (وهما مبنيان من المشروعية)، بل الدولة محايدة (Neutral ) في الأيديولوجية الليبرالية.
وهذه فكرة لا تتسق في ظننا مع الفكر الإسلامي. ملخص الكلام أن المجتمع المدني والليبرالية هما شقيقان توأمان؛ والمجتمع المدني إلى ذلك هو واحدة من أهم أطروحات الليبرالية. والمجتمع المدني في هذه الأطروحة يعني حياد الدولة، وأطروحة الحياد(Neutrality )ليست بالفكرة التي تتسق مع الأفكار الإسلامية الأصيلة، إلاّ أن يكون الإنسان قد صار أسير الليبرالية بشكل بحيث لم يعد يعتني بعدم الاتساق هذا، وهذه مسألة أخرى.
خلافاً لما يتصوره بعض المثقفين السطحيين، ليست الليبرالية لا تتوافق مع الأصول والمرتكزات الدينية بعامة والدين الإسلامي بخاصة، وإنما تجعل الإنسان ضحية مشكلات ومعضلات فلسفية أساسية. فمن لوازم الفكر الليبرالي يصبح أي قانون غير أخلاقي مشروعاً وقابلاً للتطبيق إذا ما حظي بالرضى العام، والدولة مسؤولة عن بيانه وتطبيقه. وذلك لأنه ليس للدولة – في إطار هذا الفكر – مبان تسمح لها بتعيين الصواب والخطأ وإعطاء الوصفات العلاجية، بل وظيفتها الحفاظ على الحريات فقط.
فإذا ما اختار الناس الحرية في إسقاط الجنين أو اللواط وغير ذلك، فعلى الدولة أن تذعن لذلك، وتطابق قوانينها مع هذه الرغبات. فعندما لا نعطي للدولة مرتكزاً تقوم على أساسه بتشخيص الصواب والخطأ الأخلاقيين، والمصالح والمفاسد الحقيقية، فلا يمكن انتظار غير هذه النتيجة. لقد امتزج الفكر السياسي الغربي وتواشج مع الليبرالية وأطروحة حياد الدولة، بحيث قلما يوجد الآن فيلسوف سياسي يؤمن بان على الدولة أن تسعى لإشاعة القيم الثابتة والمندرجة في سياق الاجتماع السياسي ( أما أمثال (ماركوز وفروم) فهم نوادر واستثناء حقاً).
لقد بادر فلاسفة سياسيون معروفون مثل (ماك اينتاير – A. Mac lntyre ودوركين – R.Dworkin ورولز – J.Rawls) وغيرهم لتقديم خطابات متعددة عن حياد الدولة والتعددية الأخلاقية في السياسة. وقد اضطر هؤلاء لتفسير حرية الإنسان التي ينبغي للدولة أن تحافظ عليها وتتبعها، تفسيراً سلبياً، بحيث تكون خالية من أي تصوّر قيمي وأخلاقي، وألاّ ينافى ذلك مع أطروحة حياد الدولة29.
ومثل هذا التصوّر ليس باطلاً وحسب من وجهة نظر الإسلام، فعلاوة على كل شيء وكحد أدنى لا تتوافق التعددية الأخلاقية مع الإسلام وإنما لأنه يواجه أيضاً من وجهته الفلسفية والعقلانية معضلات لا تنحل، لهذا السبب بالذات ذهب أمثال (ريموند بلانت ـR. Plant ) إلى أن الأصولية الإسلامية Funduwientalkm تعارض الليبرالية والفكر السياسي الغربي. لان الحكومة الإسلامية مشيدة على أساس أوامر وإرادة الحق تعالى، وهي تنهض على أساس الأهداف الإلهية المعينة للبشر(30).
والذي أراه أن فهم هذه المعاني الفارقة بين الإسلام والليبرالية هو كلام محق تماماً، وان كان الدفاع غير محق.
وكاتب آخر مثل (السيد هيوود ـA. Heywood ) يعد فتوى الإمام الخميني (رض) ضدَّ سلمان رشدي منافية لروح الليبرالية والفكر السياسي الغربي(31).
اجل الأمر كذلك، بيد أن المسألة تكمن في طبيعة بُنانا الاعتقادية والبنى الليبرالية. فالإنسان الذي آمن بمرتكزات الإسلام وأصوله وأذعن إلى القيم الدينية، لا يمكن أن يكون محايداً بإزائها. والمجتمع الذي آمن بهذه القيم والدستور الذي جعل الإسلام معيار الحكومة، لا يمكن أن يكونا لا أباليين إزاء هذه القيم.
من جهة ثانية إنَّ معقولية تلك الليبرالية التي صارت كعبة آمال الغربيين، هي موضع سؤال بالنسبة للمفكرين بالأخص المسلمين. ينبغي لهذا البحث أن يطرح في دراسة الأصول والمرتكزات الفلسفية والنظرية الليبرالية؛ وهو يعدّ من أصعب مسائل الفلسفة السياسية وفلسفة الأخلاق(32).
المجتمع الإسلامي
يتضح مما ذكر في الفقرات السابقة أن كاتب هذه السطور يدافع عن المجتمع الإسلامي في مقابل المجتمع المدني؛ والنقطة الأساسية التي تدعوه إلى نفي المجتمع المدني تعود إلى بنيته الليبرالية. نحن ندافع عن مجتمع منبثق من روح الإسلام والإيمان، تشيع فيه القيم الإسلامية والإيمانية، وتتحكم فيه قوانين الإسلام وتعاليمه وإرادة الحق تعالى، ويطبق فيه القرآن سطراً سطراً وكلمات النبي وأئمة الهدى وهم المفسرون الحقيقيون للقرآن.
نحن ندافع عن مجتمع تتجلى في كل مكان فيه روح العبودية للحق، ولا تسعى فيه الجماعة الإنسانية لمواجهة اللّه بطلب حقها، وإنما تسير تلقاء العمل بتكليفها وتؤدي مسؤولية العبودية.
إن (الهيجليين) المهزومين الذين يتنكرون لـ (أخلاق المولى والعبد) لم يدركوا كنه مقولة (العبودية جوهرة كنهها الربوبية).
وليس مرادنا من ذلك نفي حاكمية القانون، أو الالتزام بالإسلام الشكلي الظاهري، والعمل المحض بالقواعد الحقوقية والفقهية الجافة، نحن نسعى إلى الإسلام والدين في جميع مجالاته، على مستوى الروح وعلى مستوى الجسد؛ وعلى صعيد المعنى والإطار معاً؛ وأنّى للأمر أن يكون غير ذلك؟
وهذا الاستدلال ينطبق بتمامه على (المجتمع الإسلامي).فإذا ما كان للمجتمع ذات بنفسه، فلن يكون عندئذ إسلامياً ولا غير إسلامي، وإنما سيكون (المجتمع ) هو المجتمع، تماماً كما أن الماء هو الماء.
اجل يمكن الحديث عن (مجتمع المسلمين) كما يمكن الكلام عن (فلسفة المسلمين) أيضاً.
يعتبر صاحب الاستدلال هذه النقطة علّة علل العلمانية. ولذلك هو لا يرى إمكان الجمع بين الذاتية اليونانية والنزوع الديني. وعلى هذا الأساس يفسّر معارضة أمثال أبي حامد الغزالي والسهروردي للفلسفة اليونانية.
لقد أجبنا عن هذه الشبهة في كتاب (الأصول الفلسفية – الكلامية للحكومة الدينية). واستعادة الجواب مفصلاً يبعدنا عن مساق البحث الأصلي، لذلك نكتفي بالإجابة المختصرة التالية:
أولاً: يتصوّر صاحب الاستدلال أن الأشياء إذا ما كان ينبغي أن تكون دينية، فيجب أن تكون كذلك ذاتاً، وإلاّ فان (دينيتها) هي بالعرض والمجاز، في حال أن هذا خلط كبير. فالأوصاف التي تُحمل على الأشياء تكون من مقومات الذات أحياناً، وعندئذ يكون الحمل حملاً أولياً، بحيث يمكن القول أنَّ لذلك الشيء ذاتاً هذا الوصف. أما إذا ما كان الاتحاد بلحاظ صرف الوجود الخارجي، فعندئذ يكون الموضوع والمحمول مختلفين ذاتاً، واتحادهما يكون بوجود خارجي واحد، وهذا ما يطلق عليه بالحمل الشائع الصناعي.
في الحمل الشائع الصناعي يكون الموضوع متحداً مع المحمول حقيقة، ولكن غاية الأمر أن ملاك الاتحاد هو الوجود الخارجي. وهذا الضرب من الاتحاد ليس مجازاً، بل هو حقيقة. فعندما يقال ( الهواء بارد) فهذا حمل شائع لا حمل أولي. ولكن لا ينبغي الشك في أن (الهواء بارد حقيقة) وان (برودة الهواء) ليست أمراً مجازياً. صحيح أن (البرودة) هي أمر عارض على (ذات) الهواء، بيد أنَّ الحمل الواقع في تلك القضية ليس بالعرض والمجاز.
والآن نعود إلى أصل المسألة التي نحن فيها، فإذا ما أريد لـ (المجتمع) أن يتصف بـ (الإسلامي) فليس من الضروري أن يكون هناك اتحاد بين ذات المجتمع وذات الإسلام. بل يكفي على هذا الصعيد تحقيق الوجود الخارجي، وان يكون بين المجتمع والإسلام اتحاد خارجي، وهذا الاتحاد لا يعني أبداً أن اتصاف المجتمع بالإسلامي هو اتصاف بالعرض والمجاز. تماماً مثلما أنَّ البرودة للهواء هي أمر عرضي، إلاّ أن حمل البرودة على الهواء لا يعني حملاً بالعرض والمجاز.
على إن هذا الكلام برمته يساق على تصوّر يذهب إلى إن للمجتمع والدين (أو الإسلام) ماهية حقيقية، على حين أن هذا أول الكلام، والمسألة تحتاج إلى توضيح أكثر ينبغي تقصيه في موضعه.
ثانياً: لقد سلمنا في الجواب الأول على أن علاقة (الإسلام والمجتمع) أو (الإسلام والحكومة) هي علاقة عرضية. والكلام هنا: صحيح إنَّ المجتمع مستقل بذاته (على وفق ما سلمنا به) عن الإسلام، إلاّ أن للإسلام في ذاته صلة وعلاقة وارتباطاً مع مجتمع معين.وذلك بالمعنى الذي وصّى فيه الإسلام في ذاته بمجتمع خاص، ومنع من صيغ مجتمعية كثيرة أخرى.
المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي تسود وتتحكم به الأحكام والقوانين الإلهية، وليس الأحكام والقوانين البشرية. ومن اجل تقريب المسألة إلى الذهن يمكن تشبيه الأمر بالعلاقة بين الكلّ والجزء، فالجزء وان كان مستقلاً عن الكل ذاتاً، ولكن للكل ذاتاً ارتباط وصلة مع الجزء، بل ليس الكل سوى الأجزاء مجتمعة.
إن الإسلام في ذاته يتواشج مع ضرب خاص من المجتمع.
ثالثاً: المسألة بالنسبة للمتدينين هي اكبر من ذلك بكثير، فليست المشكلة الأصلية للمتدينين تتمثل بالقضية التي تقول: هل من الممكن أن يتصف المجتمع بالإسلامي أم لا؟ وهل لدينا مجتمع إسلامي حقيقي أم لا؟ المسألة الأساسية بالنسبة للمتدينين، هي: هل يمكن أن يكون هناك مجتمع قائم على أساس أحكام الدين وتعاليمه أم لا؟
لا أظن أن هناك باحثاً يشك في أن للدين في نهاية المطاف وصايا وتعاليم في مجال الحقوق، الوضع المعيشي، المعاملات، العقوبات، العلاقات الاجتماعية والأخلاقية.
إن المجتمع الذي يقوم على أساس هذه الوصايا والتعاليم هو المجتمع الإلهي المطلوب، وليس بمقدور أي مؤمن بالإسلام أن يفر منه. سواء حمل اسم المجتمع الإسلامي حقيقة أم لا.
أجل للعلمانيين كلام طرحوه في نفي تدخل الدين في الشؤون البشرية المختلفة، قد اجبنا عليه في محله تفصيلاً.
ثمّة جماعة لا تطيق أصل فكرة المجتمع الإسلامي وتذهب أنه ليس لدينا (مجتمع إسلامي) وإنما هناك (مجتمع المسلمين). وعلى المنوال ذاته ليس هناك (حكومة إسلامية) بل ما هو موجود هو حكومة المسلمين وهكذا.
سنمر على هذه الشبهة لاحقاً ونجيب عليها إجمالاً، ولاسيما إنّا كنّا قد تناولنا الرد عليها مفصلاً في كتابنا (الأصول الفلسفية – الكلامية للحكومة الدينية). ولكن قبل ذلك كلّه من الجدير أن ننبّه إلى أن الشبهة أعلاه لا تختص بنماذجنا (المجتمع الإسلامي، الحكومة الإسلامية، السياسة الإسلامية وهكذا) ومن ثم فهي لا ترتبط بدفاعنا عن (المجتمع الإسلامي) بإزاء (المجتمع المدني) وحسب.
فالتيار الذي يتحدّث عن صيغة (المجتمع المدني الإسلامي) ينبغي أن يدفع الشبهة أعلاه، لانَّ الإشكال مشترك الورود على الاثنين معاً. على سبيل المثال دافع رئيس الجمهورية المحترم حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد خاتمي عن أطروحة (المجتمع المدني الإسلامي) المنبثق من مدينة النبي صلى الله عليه وآله. وينبغي له أيضاً أن يعالج الشبهة المذكورة أعلاه ويجيب في ضوئها عن إمكانية (المجتمع المدني الإسلامي). فهل المراد هو المجتمع المدني الإسلامي أم (المجتمع المدني للمسلمين)؟ ولذلك كان ما فعله مثيراً للدهشة عندما تحدَّث في ثنايا كلامه (في الكلمة الافتتاحية لقمة منظمة المؤتمر الإسلامي التي عقدت في طهران) عن (الحضارة الإسلامية)، على حين عاد على هامش حديثه ليصحّح ذلك بالكلام عن (حضارة المسلمين ). والسؤال: لا ندري إذا ما كان – سيادته – قد قبل بالشبهة أعلاه أم أنَّ له رأياً آخر في المسألة؟
وأياً ما كان الأمر فالإشكال يبقى قائماً إذ كيف يمكن الجمع بين مفاد الشبهة وبين أطروحة (المجتمع المدني الإسلامي)؟
لقد استدل البعض على الشبهة التي ذكرناها آنفاً في بحث (معنى العلمانية واصلها)(33)، وذهب على أساسها إلى انه ليس لدينا حكومة دينية. ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى انه ليس لدينا ذات سياسة وعلم أخلاق ديني، بل ولا حتى فقه ديني، وبذلك اعتبروا الفلسفة الإسلامية تعبيراً غير صحيح، وكل ما موجود هو فلسفة المسلمين.
وهذا الاستدلال يمكن تطبيقه بحذافيره على (المجتمع الإسلامي).
وملخص ما استدل به هؤلاء على دعواهم أننا عندما نذهب إن الذوات لا تكون في مرحلتها الذاتية لا دينية ولا غير دينية، فالماء – على سبيل المثال – هو الماء، وليس لدينا ماء ديني أو ماء غير ديني، لان ذاتية الماء انه ماء. وكذلك الحال إذا ما ذهبنا أنَّ للعلوم والسياسة والحكومة والأخلاق ذوات، فعندئذ لن تكون هذه دينية ولا غير دينية.
فهذه جميعاً أمور مستقلة في ذاتها، وبذلك لا يمكن أن توصف أيضاً بأنها دينية.وهكذا انتهى هؤلاء إلى أن الحكومة الدينية هي مقولة غير معقولة، وهكذا الحال بشأن (الأخلاق الدينية) و (الفلسفة الإسلامية).
خلاصة البحث
أولاً: ينبغي أن يستخدم مصطلح (المجتمع المدني) Civil Society)) في مجاله الاصطلاحي الخاص به، وفي هذا الضوء لا يبدو مصطلح (المجتمع المدني الإسلامي) تعبيراً مناسباً تماماً.
بديهي أن هذا البحث يرتبط بكيفية استخدام الألفاظ والمصطلحات، وليس له جذر فلسفي.
ثانياً: لا يمكن للمجتمع المدني بلحاظ ماله من أصول وأسس فلسفية ونظرية خاصة به (الليبرالية) أن يجتمع مع المجتمع الإسلامي. فهذان المجتمعان هما في الحقيقة مختلفان ومتضادان…
ثالثاً: يمكن الدفاع عن ظاهرة باسم (المجتمع الإسلامي) لذلك من الأفضل أن تتم الاستفادة منه بدلاً من مصطلح (المجتمع المدني).
الهوامش:
(1) باحث إسلامي، أستاذ في جامعة طهران.
(2) نقلها إلى العربية جواد علي كسار.
(3) صحيفة سلام، 9 آذر / 1997م، ص 2.
(4) Helde David. The Develo- pnment of the Modern state, in sotstuart Hall (ed) Formations of Modernity, P. 73.
(5) Vincent, Andrew . Theories of the State . PP. 112-113 .
(6) Held, David . The Development of the Modern State . PP.
112 – 113.
(7) Lock, John. Treatiise of Civil Government. pp. 56 – 61 . J.Rousseau, the Social Contract, p. 22.
(8) تاك، ريجارد. هوبز، ترجمة: حسين بشيرية.
(9) Hobbes, thomas. levia- than. p. 189 [penguin Books, 1968].
(10) Ibid. pp. 223 – 228 .
(11) Lock. John. Treatise of Civil Government.pp. 5 – 12 [Meredith Corporation New Yoyk, 1965].
(12) Ibid, pp. 56 – 61 .
(13) Ibid. p 58 .
(14) Ibid , p. 58 .
(15) Ibid , p. 82.
(16) Ibid, p. 82 .
(17) Rousseau , The Social Contract. pp. 22 – 33 [Pocket
Book, New York, 1977].
(18) Hegel : Philosophy of Right . p.124 .
(19) سيتس، و. ت، فلسفة هيجل، ترجمة: الدكتور حميد عنايت، طهران، سلسلة الكتب الجيبية،
1973م،
2، ص 534 – 573.
(20) المصدر نفسه.
(21) Hegel : Philosophy of Right, p. 124 .
(22) Ibid , p. 122
(23) Ibid, p. 189 .
(24) سيتس، و. ت. فلسفة هيجل، مصدر سابق، ج 2، ص 574 – 575.
(25) المصدر نفسه، ص 576.
(26) المصدر نفسه.
(27) Vincent Andrew, Theor- ies oF State. pp. 112-114, Stuart
Hall [ed], Formation of Modernity, p. 73.
(28) Held , David, political theorg and modern state . pp. 180 – 181.
(27) Held , David , states Societeis, p. 15 [New York U. press]
(28) Held, David, states Societeis, p. 15 . [New York U. press]
(29) Plunt, R.Modern political Thought . pp. 34 – 77 [
Blackwell . 1991 ].
(30) Plunt. R.Modern political Thought . p. 75 .
(31) Heywood , A. political Ideologies, pp.25 – 26 [Macmi- llan, 1992].
(32) بحث القانون في المجتمع المدني هو بحث أساسي ومصيري. فأسئلة مثل: هل يمكن إجراء القوانين في المجتمع المدني؟ وما هي صورة ذلك ومحتواه؟ لها صلة بالكثير من المسائل الأخرى.
واحد من أهم الكتب الجديدة في هذا المجال هو (Law in Givil Society) الذي تناول المسألة من جوانبها المختلفة. ينظر:
university , press of kansas , 1995 Richard D.Winfield, Law in Civil Society .
(33) الدكتور عبد الكريم سروش، معنى العلمانية ومبناها، مجلة كيان، العدد 34.