دراسة تاريخية فقهية تحليلية في وقائع غزوة بني قريظة
(القسم الثاني)
المستند في الحكم على بني قريظة، مبررات القسوة العقابية
لما دخل النبي’ المدينة كان فيها يهود بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير، وكانوا قد أنشأوا معاصر الخمور وبيوت الدعارة، وكانوا يحتكرون صياغة الذهب والفضة وصناعة الأسلحة ويتاجرون بالربا، وبعد استقرار النبي بالمدينة شعروا بالخطر على حياتهم الاقتصادية؛ لأنّ تعاليم النبي التي حرّمت الاحتكار والغش والربا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير قد هدّدت حياتهم الاقتصادية؛ لذا أخذوا يكيدون للنبي’ ويتآمرون عليه مع المشركين، فأخذوا يشكّكون الناس في دينهم ويسعون في إضلالهم. فما أن وطأت قدما النبي المدينة حتى بدأوا يمكرون ويخططون للخلاص منه، فعقد معهم عهداً، ومع ذلك فقد غدروا به.
كان أولهم غدراً يهود بني قينقاع، فأجلاهم النبي’، ثم حاول بنو النضير إلقاء حجر كبير عليه عندما ذهب إليهم يسألهم دية رجلين قتلهما المسلمون خطأ بناء على معاهدة بينه’ وبينهم، فحاصرهم وأجلاهم، ونزلت فيهم سورة الحشر التي سميت بسورة بني النضير. ثم بنو قريظة حين غدروا به في غزوة الخندق وتآمروا مع الأحزاب على رسول الله’ فحاصرهم الرسول بعد هزيمة الأحزاب، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ الذي حكم فيهم بقتل المقاتلة من الرجال وسبي الذراري من النساء. وفي غزوة خيبر دسوا السمّ للرسول للتخلّص منه، فأخبره جبريل× بذلك. ولكن رسول الله واجههم متوكلاً على الله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(البقرة: 97).
لقد نقض اليهود العهد مع الله قبل أن ينقضوه مع أنبيائهم موسى وهارون‘؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في التاريخ والفقه الإسلامي، وناشط في مجال الإعلام الديني، من لبنان.
فطغوا وعصوا أمر ربهم فحلّ عليهم غضبه. كيف لنا بعد ذلك أن نتعجّب من موقفهم مع خاتم الرسل والأنبياء محمد بن عبد الله’ في المدينة؟ حيث عاهدوه في دستور المدينة على التعايش السلمي مع المسلمين، وعلى عدم الغدر والخيانة، وعلى نصرته وعدم نصرة كفار قريش، ولكنهم سرعان ما نقضوا العهد وخانوا الأمانة ونصروا أهل الكفر والشرك وتحالفوا معهم للقضاء على الإسلام.
لقد انتهت حرب الأحزاب([1]) التي كان المسلمون فيها يعانون من الجوع والسهر والخوف، والإشفاق من مهاجمة ذراريهم ونسائهم من قبل أعدائهم. وكان من الطبيعي أن يتنفّسوا الصعداء حين رأوا عدوّهم يغادر أرضهم خائباً خائفاً خاسئاً، وكانوا يتمنون أن يصلوا إلى أهلهم وذويهم وبيوتهم، ليرتاحوا من ذلك العناء الطويل. ولكن هل يمكن لهم أن يطمئنوا على مصيرهم ومستقبلهم وإلى جوارهم أولئك الذين حزّبوا الأحزاب، ورموهم بذلك البلاء العظيم الذي كاد يقضي على الإسلام والمسلمين ويستأصلهم؟
ويتساءل بعضٌ: أليس هذا الحكم في حقّ بني قريظة قد جاء قاسياً وقوياً إلى درجة لافتة للأنظار؟ ألم يكن من المناسب أن يستفيد بنو قريظة من عفو الإسلام وصفح النبي الكريم كما استفاد إخوانهم بنو النضير وبنو قينقاع من قبل، فيكتفي بإجلائهم وتقسيم أموالهم وأراضيهم؟ وقد طلبوا هم أنفسهم أن يعاملهم’ بنفس ما عامل به بني النضير من قبل، فرفض طلبهم وأصرَّ أن ينزلوا على حكمه. وقد انتقد بعض الكتاب الأوروبيين هذا الحكم ووصفوه بأنه وحشي وغير إنساني!([2]). ونحن نسأل هؤلاء: ما هو الموقف الذي يمكن أن يتخذه النبي من يهود بني قريظة الذين كانوا السبب في كل ما حصل؟ ولو افترضنا أن النبي’ جدَّد العهد معهم في تلك الفترة؛ فما الذي يمنعهم من نقضه والخروج على الرسول مرة ثانية كما فعلوا بالأمس؟ في حين أنهم لم يجدوا منه إلاّ الصدق والوفاء كما اعترف بذلك زعيمهم حيي بن أخطب([3]). ثم ما الذي يضمن أن لا يعود بنو قريظة إلى نقض العهد، وتسديد الضربة القاصمة والقاضية، حين تسنح لهم الفرصة بذلك؟! إنّ ظروفاً طارئة خارجة عن حدود اختيارهم أوجبت فشلهم في تنفيذ خطتهم الجريئة، وذلك بسبب الخندق، ثم ضربة علي× القاصمة لقيادة جيش الشرك، ثم التدخل الإلهي بإرسال الريح والجنود.
زد على ذلك الخلافات التي نشأت بينهم وبين الأحزاب، ثم ارتحال الأحزاب وغير ذلك من أُمور. ولولا ذلك لتحقّقت أهدافهم الشريرة، وكان الإسلام والمسلمون في خبر كان. كان منطق الحرب ومنطق الحذر يدعو إلى مهاجمتهم؛ لأنهم العدو القريب الذي يتربّص الدوائر بالإسلام والمسلمين، وحربهم امتداد لحرب الأحزاب وأحد فصولها التي لابدّ من إنجازها. وقد جاء هذا الأمر الإلهي ليظهر أنّ الله سبحانه يأبى أن يمهل الغدرة الفجرة، فربما يجدون أكثر من وسيلة للتخلّص من مواجهة الجزاء العادل لما اقترفته أيديهم. ومع ذلك فإننا سنذكر مباني عديدة لهذا الحكم.
ونتحدّث هنا عن نقض العهد، وهو أمر عظيم وجريمة كبرى، فضلاً عن أهمية الوفاء بالعهود والمواثيق في الإسلام، ونماذج من أقوال النبي’ وسيرته العطرة، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب× ووفائهما بالعهود، ورفض بنو قريظة النزول على حكم الرسول، ووجه الاختلاف بين جريمة يهود بني قريظة وجريمة يهود بني قينقاع والنضير، والحكم عليهم طبقاً لشريعتهم، إضافة إلى أنَّ إلغاء حق العقاب هدم للقوانين، وإلى أهمية القصاص في حياة البشرية، وإلى بعض قوانين العقوبات المعاصرة التي تثبت عقوبة الإعدام لكل خائن لوطنه ومتعامل مع الأعداء.
أولاً: اليهود في القرآن، توصيف المشهد العقدي والتاريخي
اليهود أكثر أمة ذكراً في القرآن الكريم، والسور التي تكلَّمَت عنهم خمسون سورة، بين تصريح وتلميح، وبين إسهابٍ واقتضاب، فقد ذكر اسم موسى× في اثني عشر ومئة موضع، بحدود ضعف ما ذُكر أبو الأنبياء إبراهيم×، الذي ذكر في ستة وستين موضعاً. أضف إلى ذلك أنّ غالب ما ورد في السور المكية كان بالكلام على حالتهم السابقة، من لَدُنْ وجودهم في مصر زمن الفراعنة، مروراً ببعثة موسى×، وتيههم ودخولهم الأرض المقدسة، وما جرى عليهم إلى زمن داوود وسليمان‘. وورد التعبير عنهم في السور المكية بحسب الغالب بلفظ “بني إسرائيل” ولفظ إسرائيل معناه عبد الله، وهو لقب ليعقوب×. أمّا غالب ما ورد في السور المدنية فكان رداً على مجادلاتهم الفكرية، ومحاججاتهم التشريعية، وفضح دسائسهم، وكشف كيدهم مع الأمر بقتالهم أحياناً وبيان الربط بينهم وبين المنافقين. وورد التعبير عنهم في السور المدنية بحسب الغالب بلفظ “أهل الكتاب” إشارة إلى وقوع التحريف في كتابهم السماوي.
أضف إلى ذلك أنّ المتأمل في قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن يجد أنهم قومٌ يتمسّكون بالمادة واللذة الحسية، ولذا كثرت فيهم المعاصي؛ لعدم تأثير العقل على الإنسان بعد استيلاء الشهوة عليه. ويجد أنهم قومٌ يسعون إلى جمع المال، والانكباب على زخارف الدنيا، ولذا كثُر فيهم الأنبياء لإصلاحهم. كما يجد أنهم قوم ذوو غرورٍ وعنادٍ، فكثُر قتلهُم للأنبياء؛ لعدم إرادتهم التخلي عن رذائلهم الخُلُقية. ويجد أيضاً أنهم قومٌ ذوو عصبية استعلائية، حيث يدَّعون أنّ الشأنية والكرامة مختصّتان بمن وُلد من إسرائيل، أي يعقوب، وأنّ الله اختصهم من بين خليقته ليكونوا أولياءه، فهم شعب الله المختار، وهذه كرامة للنسب لا للعمل، وهو شعور إن حدث في الإنسان ماتت الإنسانية في نفسه، ولذا أصبحوا ينظرون إلى غيرهم نظرة ازدراءٍ، وأنّ الغير لا حُرمة له ولا حقّ ولا كرامة ولا اعتبار. إنّ المتأمل في قصصهم المذكورة في القرآن يجد أنهم قومٌ ذوو غدرٍ ومكر وتجسُّس، وأنهم يقتنصون الفرص لإبداء عداوتهم للغير، وأنهم مدّوا يد البغي مع قريش والقبائل العربية ضد النبي، وأنهم أسياد المنافقين يحركونهم للقضاء على النبي والإسلام والمسلمين.
1ـ الانحراف العقائدي لليهود
إن العقائد والصفات اليهودية، تؤكدها آيات كثيرة وردت في كتابهم المقدس “التوراة”، وكذلك في “التلمود”. إنّ التعرف على التلمود الذي يشكل جزءاً من الأدب اليهودي أمر مفيد، فهو يدخلنا في مدارس فلسطين وبابل، حيث كانت تجري مناقشة التوراة وشرحها. لكن هناك شروحات أُخرى كانت تهتم بتثقيف الجمهور، أُطلق عليها اسم “ميدراشيم” أو التعليم في الكنيست، وهو بيت العبادة عند اليهود، حيث كانت تلقى الخطب حول المعتقدات الأخلاقية والدينية لليهودية. أضف إلى ذلك أن معرفة الآخر الذي يتمتع بالكثير من نقاط القوة، تقتضي معرفة التعاليم التلمودية التي نجحت في تأمين البقاء والاستمرار للديانة اليهودية، حيث سعت وتسعى لتجنيد كل يهود العالم في خدمة مشاريعها. زد على ذلك أنها تعتبر أنّ رسالتها أغنت الكنز المشترك للإنسانية، وخصوصاً >ابنها الناكر للجميل العالم المسيحي<([4]).
إنّ الإله في العقيدة اليهودية كالبشر، يأكل ويشرب ويتمشى في الأرض ويغضب ويضلّ ويكيد ويتشاجر مع بني إسرائيل، فتارة يغلبهم وتارة يغلبونه! ويعلّق أحد الباحثين على ذلك كله بقوله: >عندما ننظر في سفر التكوين فقط كمثال من التوراة الرسمية، نجد أنها تسم الذات الإلهية بالتعب والعناء كأيّ مخلوق! ولذا فقد احتاج بعد إكماله خلق السموات والأرض وما فيهما ومن فيهما إلى الراحة؟!..كما تنسب إلى هذا الإله الكذب والخداع..كما أنّ هذه التوراة الرسمية تنسب إلى الله الجهل..كما أنّ هذا الربّ الإله هو جسم يمشي في الجنة ولمشيه وقع أقدام البشر. وتصور التوراة الرسمية هذا الرب الإله بأنه جبان يخاف من بني الإنسان فينتقم، ضعيف يجبر ضعفه باتخاذ حرّاس لما يخشى أن يصل إليه أحد منهم.. وإله التوراة الرسمية أيضاً يحزن ويتأسف ويندم على فعله فينقده بالانتقام والتدمير.. كما أنّ هذا الإله، وهي المزعوم يأمر بالفحشاء والمنكر.. هذا غيض من فيض مما حفلت به هذه التوراة الرسمية من صفات للرب الإله، وهي كفيلة بأن تسقطه عن مقام الألوهية، وتجعل منه مخلوقاً له كل صفات المخلوق الحادث من الجهل والغضب والندم والحزن والتعب والخوف والانتقام بلا حدود، فهل بعد هذا ـ يا ترى ـ يصرّ أصحاب هذا الكتاب على أنه كتاب سماوي موحى به من عند الله؟!<([5]).
كما أننا لا نكاد نلحظ في التوراة ذكراً حقيقياً للقيامة واليوم الآخر والثواب والعقاب، وإنما اقتصرت على ذكر الترغيب والترهيب في عالم الدنيا من نعم وخيرات أو محن وبلاءات، ولم نجد في العهد القديم سوى النزر اليسير([6]). والتوراة كلمة عبرانية تعني الشريعة والتعليم، وهي عبارة عن خمسة أسفار تُنسب إلى موسى، وهي: سفر التكوين وسفر الخروج وسفر اللاويّين وسفر العدد وسفر التثنية. وليست التوراة إلاّ جزءاً من العهد القديم، أما الجزء الثاني من العهد القديم فهو أسفار الأنبياء، وأما الجزء الثالث فهو الكتب. وأمّا الأنبياء فهو قسمان: الأنبياء الأوّلون والأنبياء الأخيرون. ويُقسَّم الأنبياء الأوّلون إلى أربعة أسفار هي: سفر يشوع وسفر القضاة وسفر صموئيل وسفر الملوك. وأمّا أسفار الأنبياء المتأخرين فهي: إشعياء، إرمياء، حزقيال، الاثنا عشر. وأمّا الكتب فتحتوي على مزامير داود وأمثال سليمان وتاريخ أيّوب والمجلات. ويلاحظ على العهد القديم أنّ الفترة الزمنية الممتدة بين زمن التنزيل المفترض على الأنبياء وزمن التدوين، الذي بدأ في عصر متأخر جداً عن زمن النزول، طويلة جداً. أضف إلى ذلك وجود الكثير من التناقضات بين الأسفار، بل إنّ التناقض واقع بشكل فاضح بين نصوص السفر الواحد. كما وقع التناقض بين النسخة العبرية للعهد القديم والنسخة اليونانية في كثير من المفردات([7]).
ويعتقد اليهود أنّ الجنة لهم، كما يعتقدون أنّ النار لغيرهم([8]). ويزعم اليهود أنهم الشعب الذي اختاره الله تعالى من بين سائر المخلوقات فاختصهم بالكرامة وجعلهم أسياد الأرض، وسخر لهم كل الناس (الأميين)، لذا أجازوا أكل الربا من الأميين وأكل أموالهم وغشهم وخداعهم وخيانة أماناتهم، ونسبوا ذلك كله إلى الدين على لسان أحبارهم في كتابهم المقدس الثاني التلمود. والتلمود هو عبارة عن مجموعة من أنظمة وتعاليم وقواعد وحكايات وروايات، تشمل كل نواحي الحياة اليهودية في العقيدة والشريعة والسلوك، وتدور حول تاريخ بني إسرائيل، بل تخطّط لمستقبلهم السياسي والاجتماعي بشكل عام. ولابد من التنبيه على أنّ محتويات هذا الكتاب قبل تدوينها،كانت مجرّد قصص وروايات وأقوال تتناقل مشافهة من جيل إلى جيل مدة طويلة من الزمان، إلى أن تنبَّه بعض أحبار اليهود إلى ضرورة كتابتها خوفاً من ضياعها، وقد ابتدأ أمر تدوينها منذ بدايات القرن الأول للميلاد([9]). ونخلص من ذلك إلى أنّ أقدم نسخة خطية للعهد القديم قد وُضعت بعد عصر التنزيل المفترض بألفي سنة على الأقل. وهذا يعني أن ما يسمّى بالكتاب المقدس لليهود كان قبل أن يُدَوَّن تراثاً شعبياً لا سند له إلا الذاكرة، وهي العامل الوحيد الذي اعتمد عليه في نقل الأفكار([10]).
ولإلقاء الضوء بإيجاز على ذلك نستند إلى ما كتبه فيلسوف يهودي عريق هو باروخ اسبينوزا (1677م) الذي ألَّف رسالة في اللاهوت والسياسة، ضمَّنها آراء نقدية لأسفار العهد القديم، كانت سبباً لرميه بالهرطقة والزندقة والضلال من قبل كبار رجال الكنيس اليهودي بهولندا، حيث كان يقيم سنة 1656م. ويبحث اسبينوزا في رسالته بحثاً علمياً مستنداً إلى نفس نصوص أسفار الأنبياء في العهد القديم، ليستخلص منها الأدلة الدامغة على أنّ من نسبت إليهم هذه الأسفار من الأنبياء المزعومين أو الحقيقيين بريئون منها، فيقول عن سفر يشوع مثلاً: >إنّ هذا السفر كُتب بعد يشوع بقرون عديدة..”. وعن سفر القضاة يقول: “لا أظنّ أن شخصاً سليم العقل يعتقد أنّ القضاة أنفسهم قد كتبوه؛ لأنّ نهاية الرواية تكشف بوضوح أنّ مؤرخاً واحداً هو الذي كتبه كله من أوله إلى آخره..<([11]).
ويقول إسرائيل شاحاك: >ينبغي أن يكون مفهوماً بوضوح أنّ مصدر ومرجع كل الممارسات في اليهودية الكلاسيكية والأرثوذوكسية اليوم والقاعدة التي تحدّد شرعيتها، هو التلمود، وبتحديد أدق ما يُدعى بالتلمود البابلي، أما باقي الأدب التلمودي فهو مراجع إضافية.. فإنّ باقي التلمود والأدب التلمودي، مكتوب بخليط من العبرية والآرامية.. ومن دون أي سبب ظاهر، يمكن أن يُقاطَع البحث الشرعي بما يُدعى حكاية، وهي قصص مركّبة عن نوادر الحاخامين، أو الناس العاديين، أو الشخصيات التوراتية، أو الملائكة، أو العفاريت، أو السحر، أو الأعاجيب والحكايات”([12]). ويعطي شاحاك أمثلة عديدة لمثل هذا التأويل العنصري لنصوص التوراة، فالوصية الثامنة من الوصايا العشر: لا تسرق، فسِّرت كنهي عن سرقة شخص يهودي([13]). ويؤكد شاحاك فكرة أنّ اليهودية ليست ديانة توراتية قائلاً: “وهناك فكرة أخرى خاطئة عن اليهودية، وهي شائعة بين المسيحيين أو المتأثرين بالثقافة والتراث المسيحي، هي الفكرة المضلّلة القائلة بأنّ اليهودية ديانة توراتية، وأن العهد القديم يحتل في اليهودية المركز نفسه والسلطة الشرعية نفسها التي هي للتوراة لدى البروتستانت أو حتى الكاثوليك<([14]).
2 ـ الانحراف السلوكي
أ ـ معاناة الأنبياء مع اليهود
إنّ معاناة الأنبياء معهم تختصرها الآية التالية: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}(المائدة: 70)، والمستفاد من الآية أنهم اتبعوا مع الأنبياء أحد أسلوبين: قتل الشخصية (فريقاً كذبوا). وقتل الشخص (وفريقاً يقتلون). وهذان الأسلوبان بعينهما اتبعهما المشركون مع النبي’وتعلموهما من اليهود: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين}(الأنفال: 30).
وتنسب التوراة إلى الأنبياء أفعالاً لا يجرؤ على ارتكابها الفرد العادي من الناس، فضلاً عن المؤمن والصالح، فكيف بالنبي؟ فهي تقول: إنّ نوحاً× شرب الخمر، وإن إبراهيم× أمر امرأته سارة بالكذب، وإنّ لوطاً× سكن في المغارة في الجبل هو وابنتاه فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، وإن داود× فتى رعى الغنم ثم شكل عصابة من حوله، كما زنى ببشتبع بنت أليعام زوجة أحد قواده العسكريين، وإن سليمان× لم يكن قلبه كاملاً مع الرب، وإنّ هارون× ارتدّ عن عقيدة التوحيد إلى الشرك وعبادة العجل، وزعموا أنّ إبراهيم الخليل كان يتعاطى السحر ويُعلِّمه، وهم يصفون عيسى× بالملك الكذاب وغشاش بني إسرائيل وابن الزنا، زد على ذلك أنّ اليهود ينكرون نبوة سليمان([15]).
ب ـ معاناة موسى× مع قومه
إنّ ذكر معاناة موسى مع اليهود أمر مهم، وفيه الكثير من الدروس والعبر التي تخدم بحثنا، حيث يتبين لنا أنّ اليهود عاثوا في الأرض فساداً ونكثوا العهود والمواثيق مع أنبيائهم، بل ومع الله تعالى قبل أن ينكثوها مع الرسول الأكرم. لقد التفّ بنو إسرائيل حول موسى× وهم في مصر، لا كرسول، ولكن كقائد وزعيم يرجى على يده الخلاص من استعباد المصريين، ولذلك لم يكادوا يتحققون من نجاتهم من فرعون حتى انقلبوا عليه. وهذا ما ترويه التوراة: mفتذمّرت جماعة بني إسرائيل كلها على موسى وهارون في البرية، وقال لهما بنو إسرائيل: ليتنا مُتنا بيد الرب في أرض مصر، حيث كنا نجلس عند قدر اللحم ونأكل من الطعام شبعنا، في حين أنكما أخرجتمانا إلى هذه البرية لتميتا هذا الجمهور كله بالجوعn([16]). فكلم الرب موسى قائلاً: mإني قد سمعت تذمر بني إسرائيل فكلّمهم قائلاً: بين الغروبين تأكلون لحماً، وفي الصباح تشبعون خبزاً، وتعلمون أني أنا الرب إلهكمn([17]).
وفي بعض أماكن البرية أثناء رحيلهم، لم يكن هناك ماء يشربه الشعب: mوعطش هناك الشعب إلى الماء وتذمّر على موسى، وقال: لماذا أصعدتنا من مصر؟ لتقتلني أنا وبنيّ ومواشيّ بالعطش؟ فصرخ موسى إلى الرب قائلاً: ماذا أصنع إلى هذا الشعب؟ قليلاً ويرجمني، فقال الرب لموسى: مر أمام الشعب وخذ معك من شيوخ إسرائيل وعصاك التي ضربت بها النهر، خذها بيدك واذهب. ها أنا قائم أمامك هناك على الصخرة، فتضرب الصخرة فإنه يخرج منها ماء فيشرب الشعب، فقال موسى كذلك على مشهد شيوخ إسرائيلn([18]).
وتستمر رحلة عذاب موسى ومعاناته مع قومه الجاحدين الناكرين للمعروف، ففي الطريق إلى فلسطين ترك موسى بني إسرائيل بناءً على أمر ربّه ليصعد إلى جبل الطور، ويمكث ثلاثين ليلة صائماً ليتلقى من الله الوصايا والتعليمات التي يسير عليها هو وشعبه، فعهد سيناء هو الحدث الرئيسي في تاريخ بني إسرائيل وشريعتهم؛ حيث أمر الله اليهود بالتوحيد وأن لا يكون لهم آلهة أُخرى لا منحوتاً ولا صورة شيء يسجدون لها ويعبدونها، وأن يكرموا الوالدين وأن لا يقتلوا النفس التي حرم الله قتلها، وأن لا يزنوا ولا يسرقوا ولا يشهدوا شهادة زور ولا يشتهوا نساء غيرهم. لكن هل طبق اليهود تعاليم الرب؟!!
ورد في التوراة أنّ الرب قال لموسى: mاصعد إليّ إلى الجبل وأقم هنا حتى أعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصيّة التي كتبتها لتعليمهمn([19]). وأقام موسى هناك عند الرب أربعين يوماً وأربعين ليلة، لا يأكل خبزاً ولا يشرب ماءً، فكتب على اللوحين سلام العهد، الكلمات العشر. mوقال الرب لموسى: اكتب لنفسك هذه الكلمات؛ لأنني بحسب هذه الكلمات قطعت عهداً معك ومع إسرائيل. وكان هناك عند الرب أربعين نهاراً وأربعين ليلة لم يأكل خبزاً ولم يشرب ماءًَ. فكتب على اللوحين كلمات العهد، الكلمات العشرn([20])، وهي وصايا إلهية تشكل قاسماً مشتركاً بين الأديان السماوية، وهو ما يبرز أهميتها.
لقد رأى الشعب أن موسى قد تأخر في النزول من الجبل، فاجتمع الشعب على هارون وقالوا له: mقم فاصنع لنا آلهة تسير أمامنا، فإنّ موسى ذلك الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر، لا نعلم ماذا أصابهn([21]). إنّ ما ورد في سفر الخروج، يتهم النبي هارون بالكفر وعبادة الأصنام بعد صعود موسى إلى الجبل ليكلّم ربه، وهذا دليل آخر على أنّ اليهود لا يتوقفون عن التعرض للأنبياء والأوصياء!
mفقال الرب لموسى: هلمّ انزل؛ فقد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر، فسرعان ما حادوا عن الطريق الذي أمرتهم به، وصنعوا لأنفسهم عجلاً مسبوكاً، فسجدوا له، وذبحوا له وقالوا: هذه آلهتك بإسرائيل التي أصعدتك من أرض مصرn، وقال الرب لموسى: mقد رأيت هذا الشعب، فإذا هو شعب قاسي الرقاب، والآن دعني ليضطرم غضبي عليهم فأفنيهم، وأما أنت فأجعلك أمة عظيمةn([22]). فاسترضى موسى الرب فعدل عن الإساءة التي قال: إنه ينزلها بشعبه. نعم، لقد نكثوا عهد الله وخانوا الأمانة فكيف يفون بعهودهم مع الناس؟ إنّ من ينقض عهده مع الله يسهل عليه أن ينقض عهده مع رسوله.
وها هو القرآن الكريم ينبؤنا بهذه الحادثة: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} (طه: 85 و86)، وبذلك يؤكّد القرآن أنّ الذي أضلّ قوم موسى هو السامري، وليس النبي هارون، كما ورد في سفر الخروج أعلاه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 90ـ94)، وقد ورد في آية أخرى: {وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ}(البقرة: 92)، فبمجرَّد أن ذهب موسى لميقات ربه برزت ملامح الشرك الكامنة في نفوسهم فعبدوا العجل. ومن المحتمل أنّ قضية ذبح البقرة التي أُمروا بها كانت لأجل أن يبين لهم أمر البقر إذا كان يُذبح ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فلا يستحق أن يكون إلهاً.
إنّ هذه الحادثة تعرّفنا على نفسية اليهود وكيفية تعاملهم مع الأنبياء ونكرانهم للجميل وكفرهم بالنعمة التي أنعمها الله عليهم: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (طه: 80 ـ 81)، فقد أنعم الله على بني إسرائيل بشرط أن لا يطغوا في الأرض، ولكنهم أصرّوا واستكبروا استكباراً، والمهم هو العبرة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف:111).
ثانياً: نقض العهد في الثقافة الدينية والعقلائية
الكلام في المقام في العهد الذي لم يختص باسم خاص، كعقد البيع والنكاح وغيرهما من عقود المعاملات، فهي خارجة من غرضنا ولها في المجتمعات الإنسانية أحكام، بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الإنسان لغيره من الإعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية، وهو نوع من إحكام وإبرام لا ينتقض إلاّ بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معاً. وربما زيد على إحكام العهد بالحلف، وهو أن يقيّد المعاهد ما يعطيه من العهد بأمر عظيم يُقَدِّسه ويحترمه. والعهود والمواثيق كما تمسُّها حياة الفرد،كذلك تمسُّها حياة المجتمع الذي يحتاج إلى الأمن والسلام، ولذلك يعاهد غيره في بعض شؤون حياته السياسية والاقتصادية أو الثقافية أو غيرها، فلا يصفو الجو للإقدام على شيءٍ من مقاصد الحياة أو التقدم إلاّ بالأمان والتعاضد بين الناس في داخل المجتمع الواحد، بل بين المجتمعات المتجاورة على الأقل.
أ ـ الإسلام وجريمة نقض العهود
إنّ اهتمام الإسلام بإصلاح حياة الفرد الخاصة، لا يقلّ عن اهتمامه أيضاً بأمر المجتمع وإصلاح حياة الناس العامة، بل إنّ اهتمامه بشؤون الحياة الاجتماعية كالجهاد والدفاع ومقاتلة أهل البغي والنكث والصلح والسلم والعهود والمواثيق أبلغ وأقوى. والعهد الذى نتكلم فيه قد اعتبره الإسلام اعتباراً تاماً وأحكمه إحكاماً، ولذا يعدّ نقضه من طرف أهله من أكبر الإثم، إلاّ أن ينقضه المعاهد الآخر فيقابل بالمثل، فإنّ الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود والعقود، وذم نقض العهود والمواثيق ذماً بالغاً في آيات كثيرة جداً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1)، وقال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 34)، وقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد:20)، وقال: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 25)، إلى غير ذلك.
وقد اعتبر الإسلام العهد وسيلة لإيقاف الحروب والمنع من نشوبها، يتوافر للإنسان المسلم في ظلّه حرية التعبير، وحرية العمل والحركة. فالإسلام قد أولى العهود والاتفاقاتِ أهميةً بالغةً، فرسم لها حدودها وبيَّن بوضوح تام مختلف الأُصول والأهداف التي لابدّ من رعايتها والحفاظ عليها، وإليكم بعض التفصيل:
1 ـ لم يبح الإسلام نقض العهود والمواثيق، إلاّ أن ينقضه المعاهد المقابل نقضاً بالبغي والعتو، أو لا يُؤمَن نقضه فيسقط عن درجة الاعتبار، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (الأنفال: 58)، فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة، لكنه لم يرض بالنقض من غير إخبارهم به، فأوجب أن يخبروهم بالنقض المتقابل احترازاً من رذيلة الخيانة. وإذا كان عقد العهد مع العدو لا يعني أنّ العدو قد تنازل عن كل طموحاته، وصرف النظر عن كل مراداته وخططه، فإنه ربما يكون قد قارب ليجد الفرصة للوثوب، وتوجيه الضربة القاصمة. فقد جاء النهي عن الاطمئنان لهذا العدو، فإنّ الشرط الأساس فيه هو أنه لا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه: فإذا رأى أنّ العدو لا يعمل بشروط الصلح ومقتضيات العهد، وإنما هو يتآمر ويعدُّ العدة للغدر، فإنّ هذه الأعمال نفسها تكون نقضاً منه للعهد وتخلياً عن شروطه، فلا معنى حينئذ للالتزام بهذا العهد من طرف واحد، وإنما لابدّ من نبذ العهد إليه ومعاملته معاملة الخائن المجرم. وعن علي×: mالوفاء لأهل الغدر غدر عند اللهn. ومسألة بني قريظة ليست مسألة خوف من نقض العهد، بل هي نقض للعهد في أبشع صوره وفي أحرج لحظة وفي أخطر مصير.
2ـ وقال تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (التوبة: 1و2)؛ فلم يرض بالبراءة دون أن يوسِّع عليهم أربعة أشهر حتى يكونوا على مهلٍ من التفكر في أمرهم والتروّي في شأنهم، فيرون رأيهم على حرية من الفكر، فإن شاؤوا آمنوا ونجوا، وإن لم يشاؤوا قتلوا وفنوا. قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6).
3ـ والله تعالى يَعِدُ الكافرين بعذاب أليم، إلاّ المعاهدين الملتزمين بعهدهم: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 4)، وبنو قريظة انقضوا على المسلمين ولم يقفوا إلى جانبهم في اللحظة التاريخية الحرجة، ولم يعينوهم بالأموال ولا بالأنفس، بل أعانوا عدوهم عليهم وحاربوا المسلمين، ولم يستسلموا إلاّ بعد أن يئسوا من النصر ومن معونة المنافقين لهم.
4ـ وفي آية أُخرى يلقي الله التبعة على المشركين، فحذّر من غدرهم بالعهود، بتساؤل العارف بحقيقة السرائر، فيقول: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين} (التوبة: 7)، وقد علل الاستقامة لمن استقام بأنه من التقوى، وأنّ الله يحب المتقين. كما أن الأمر بالاستقامة ما داموا كذلك يؤكد على أنّ النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد لا مجوِّز له في هذا الدين الحنيف أصلاً.
5ـ ونقض العهد جريمة سواء على المستوى الفردي أم الاجتماعي، ولابدّ من معاقبة الجاني، سواء كان فرداً أم جماعةً، والانتقام الاجتماعي، الغرض الداعي إليه مطلوب عقلاً، وهو حفظ النظام من الاختلال وسدّ طريق الهرج والمرج، فلولا أصل الانتقام ومؤاخذة المجرم الجاني بما أجرم، اختلّ الأمن العام وارتحل السلام من بين الناس؛ ولذا كان هذا النوع من الانتقام حقاً من حقوق المجتمع.
6ـ وقد روي عن الإمام الصادق× قوله: mلا دين لمن لا عهد لهn([23])، وعلى ذلك جرى عمل النبي’ أيام حياته؛ فقد عاهد بني قينقاع وبني قريظة وغيرهم من اليهود، ولم ينقض إلاّ بعد ما نقضوا، وعاهد قريشاً في الحديبية ولم ينقض حتى نقضوا. وأمّا النقض من غير نقض فلا مبيح له في الإسلام، وإن كان الوفاء مما يفوّت على المسلمين بعض منافعهم، ويجلب إليهم بعض الضرر، وهم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس والقوّة.
7ـ وها هو أمير المؤمنين× يقول في عهده لمالك الأشتر: mولا تدفعنَّ صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإنّ العدو ربما قارب ليتغفَّل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحطّ عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء، الناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلاّ جاهل شقي. وقد جعل عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه. ولا تعقد عقداً يجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق؛ فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله طلبته، فلا تستقيل فيها دنياك وآخرتكn([24]). فالشرط الأساس في كل عهد هو أن يكون mلله فيه رضاn. وواضح أنّ رضا الله سبحانه إنما هو في حفظ مصلحة الإسلام العليا، وكرامة المسلمين، وحريتهم في الدعوة إلى الله سبحانه بأمن ودعة واطمئنان. وحين يكون الداعي للصلح هو العدو، فإنّ معنى ذلك هو أنّ العدو قد اعترف بك وبموقعك، وأصبح على استعداد لأن يقبل شروطك العادلة، ومعنى ذلك هو أنك تكون قد سجلت نصراً من أقرب طريق وأيسره. وأمّا إذا دعاك هذا العدو إلى صلح ظالمٍ وفيه ذل للمسلمين ووهن على الإسلام، فإنّ من الطبيعي أن ترفض صلحاً كهذا؛ لأنه تسجيل انتصار للعدو من أسهل طريق.
وثمة شرط آخر لابد من توفره في أيّ عهد، وذلك من أجل أن يحتفظ بقيمته وبفعاليته في حسم الصراع، وأن لا يوجد في العهد ضعفاً في موقف المسلمين، وفتح باب التشكيك في حقهم، أو إعطاء فرصة المناورة للباطل، وهو أن mلا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقةn. أي أنه لابدّ أن لا يكون في العهد إبهامات يمكن التشبّث بها من قبل العدو، فإنّ ذلك يوجب وهناً في العهد نفسه، وفيه فتح باب النقض والخيانة، وذلك يعتمد على نباهة من يتصدى لعقد العهد ودقّته، وهو يتحمل مسؤولية أيّ تقصير في هذا المجال.
8ـ الغدر عجز وعدم ورع، وقد ورد عن الإمام علي× أنه قال: mأيها الناس! إنّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّةً أوقى منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيْساًونسبهم أهل الجهل فيه إلى حُسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين<([25]). فالعهود لا تنقض، وهي ملزمة للجميع مما يقطع أيّ عذر ويمنع من أي محاولة خداع. وهذا مطلب عادل وسليم، فإنّ كل الأُمور التي تمس حياة المجتمعات لا يمكن أن يعتمد فيها مبدأ موافقة كل فرد منها مع اختلاف المصالح وتشتت الآراء وتباين الأهواء.
9ـ وحين يكون المعاهدون يتمتعون بحماية دولة الإسلام، فإنّ أموالهم كأموال المسلمين لا تمسّ، بل تبقى لهم ويمارسون حريتهم التجارية بصورة تامة.
قال علي×: mولا تَمَسُّنَّ مالَ أحدٍ من الناسِ، مُصَلٍّ ولا معاهد، إلاّ أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام، فيكون شوكةً عليهn([26]).
وقد كتب× إلى بعض عماله: mأما بعد، فإنّ دهاقينَ أهلِ بلدكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وقسوةً، واحتقاراً وجفوةً، ونظرتُ فلم أَرَهُمْ أهلاً لأن يُدْنَوا لِشِرْكِهِم، ولا أن يُقْصَوا ويُجْفَوا لِعَهْدِهم، فَالْبَسْ لهم جلباباً من اللين تشوبُهُ بطرفٍ من الشِّدَّةِ، وداول لهم بين القسوةِ والرأفةِ، وامزُجْ لهم بين التقريبِ والإدناءِ والإبعادِ والإقصاءِ إن شاء اللهn([27]).
10ـ أما نتائج الصلح والعهد، فعديدة منها: دعة الجنود، والراحة من الهموم، والأمن لبلاد المسلمين. وذلك معناه أنك أصبحت قادراً على التخطيط للمستقبل و تنفيذ خططك؛ لأنك قد ارتحت من همومك وتملك الوقت الكافي والطاقات الفاعلة المهيئة للعمل الجاد والدائب دونما مانع أو رادع. كما أن هذا السِّلم والأمن لسوف يجنب بلادك التعرض للأزمات الاقتصادية الحادة، ويحفظ مرافقها الاقتصادية والحيوية من التدمير أو التعطيل أو صرفها في مواجهة متطلبات الحرب. هذا عدا ما ينشأ عن ذلك من آثار اجتماعية لا تجهل. ويجب أن لا ننسى أنّ حالة عدم الاستقرار والخوف وعدم الأمن من شأنها أن تشلّ حركة المجتمع وتمنعه من أن يقوم بدوره على النحو المطلوب والمؤثر. ثم هناك الحالة الفكرية والنفسية السلبية التي تنشأ عن ظروف الحرب، وكل ذلك يمثل هموماً حقيقية لأيّ حاكم يشعر بمسؤولياته الإلهية والإنسانية تجاه مجتمعه وأمته.
11ـ إنّ عواقب الغدر وخيمة بكل المعايير الأخلاقية والعقلية، فمن يبخس بعهده ويغدر بذمّته ويجترئ على الله، فإنه يكون قد جرَّ على نفسه الكثير من المصائب والبلايا نتيجةً لسياساته الخاطئة هذه.
وخلاصة الأمر: إنّ العهد في الإسلام ليس وسيلة للمكر والخداع بهدف الإيقاع بالعدو، وإنما هو أمانة ذات قاعدة إيمانية أساسية؛ فلابد من رعايتها والوفاء بها، ولا يسوغ نقض العهد بغير حق حتى ولو كان فيه ما يوجب الضيق. وقد مدح الله من يفي بعهده: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (البقرة: 177).
ب ـ نقض اليهود لدستور المدينة، ردّ مزاعم المستشرقين
كان ميثاق يثرب ـ أو دستور المدينة ـ منهاجاً عملياً واقعياً، وقد أقام الرسول’المجتمع على أساس الأُخوة والعدل والمسؤولية الفردية والتكافل الاجتماعي وحفظ الحقوق والدماء. فهذه الوثيقة بمثابة دستور عمل لتنظيم علاقات المسلمين فيما بينهم، وعلاقاتهم مع اليهود في ظلّ الدولة الإسلامية الناشئة. وقد تضمنت هذه الوثيقة أو الصحيفة قواعد كلية وأسساً عملية في الحقوق والعلاقات أهمها:
1 ـ إنّ المسلمين أمة واحدة من دون الناس رغم اختلاف قبائلهم وانتماءاتهم.
2 ـ إنّ رسول الله’ هو قائد الأمة، وهو المرجع في حلّ المشكلات التي قد تحدث.
3 ـ إنّ مسؤولية دفع الظلم تقع على عاتق الجميع، ولا تختص فقط بمن وقع عليه الظلم.
4 ـ منحت الوثيقة المتهوّدين من الأنصار حقوقهم العامة، كحق الأمن والحرية والمواطنة، بشرط أن يلتزموا بقوانين الدولة، وأن لا يفسدوا ولا يتآمروا على الإسلام والمسلمين؛ فقد شعر اليهود الأصليون ـ قينقاع والنضير وبنو قريظة ـ بأنهم قد عزلوا عن أنصارهم من المتهودين من قبائل الأنصار بعد توقيع الصحيفة، فجاءوا إلى رسول الله وطلبوا الهدنة، فكتب لهم النبي بذلك على أن لا يعينوا عليه أحداً، ولا يتعرّضوا لأحد من أصحابه بلسان ولا يد، ولا بسلاح، لا في السرّ ولا في العلانية، فإن فعلوا فرسول الله في حلّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم. وكتب لكل قبيلة كتاباً على حدة. فكانت هذه الكتب حجة عليهم، حيث نكثوا العهد واتخذوا قرارات أودت بهم إلى الخسران المبين.
أما المستشرق مونتغمري وات، فيشير إلى أنه لم تكن هناك أيّة مفاوضات مباشرة بين محمد واليهود قبل الهجرة؛ حيث لم يكن بين يهود يثرب سوى وحدة متزعزعة، وكانوا في علاقاتهم السياسية يتصرفون تقريباً كالقبائل العربية أو الجماعات الصغيرة الشأن. ولكن النبي أدرك الدور المهم الذي يقوم به هؤلاء في سياسة المدينة، وحدّد الموقف الذي يجب عليه اتخاذه نحوهم([28]).
وينقل وات عن الواقدي أن محمداً حين قدومه إلى المدينة عقد جميع اليهود اتفاقاً معه يقول في أحد بنوده: إنه يجب على اليهود أن لا يؤيّدوا عدواً لمحمد، وأن كعب بن أسد قد وقّع هذه الوثيقة عن قبيلة قريظة، وظلت هذه الوثيقة في حوزته حتى حصار المدينة حين مُزِّقت، ولكنه يعود ويشكك في هذه المعاهدة التي فسخت أو أنها لم توجد قط([29]). كما يعترف وات بأنه بالرغم من الخطوات الإيجابية الكبيرة التي خطاها الرسول باتجاه اليهود، إلاّ أنهم لم يغيّروا موقفهم منه، بل على العكس اشتدّت عداوتهم له، وكانوا يعلنون على الملأ انتقاداتهم اللاذعة لنبوّة محمد، وأنّ لذلك أسباباً دينيةً عقائدية وسياسية؛ لأنه لو نجح مخطّط محمد لفقد اليهود كلّ أمل في السيطرة([30]).
والحقيقة أنّ خلاف الرسول’ مع اليهود انطلق من نقضهم للعهود والمواثيق المصيرية، التي لا غنى عنها؛ لكي يعيش المسلمون واليهود في وحدة وطنية وفي أمن واستقرار، بعيداً عن التناحر الداخلي والعمالة لكفار قريش. فهو قد أقرّهم على دينهم وعلى أموالهم، كما دعاهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يخيّرهم بين الإسلام والسيف كما أراد بعضٌ أن يصوّر ذلك.
وقد نقض بنو قريظة العهد مرتين، حيث كانوا في عهدٍ مع النبي’ عند مجيء الأحزاب، وكان هذا العهد يلزمهم أن يكونوا أعواناً للمسلمين على أعدائهم، لكن حيي بن الأخطب زعيم بني النضير، الذي سبق أن حرَّض قريشاً وقبائل العرب على غزو المسلمين، جاء إلى كعب بن أسد القرظي يحثه على نقض العهد، ويغريه بقوّة الأحزاب، ويمنّيه بالقضاء على المسلمين، ويطمئنه بأنه سيدخل معه حصنه ـ إن رجع الأحزاب ـ وما زال به حتى نقضت قريظة عهد رسول الله، ولم يتعظوا مما نزل ببني النضير ومن قبلهم بني قينقاع، فهذه طبيعة اليهود التي لا ينفكون عنها، ولا يستطيعون التخلّص منها، فهم يراعون المواثيق متمشيةً مع أطماعهم ومكاسبهم وشهواتهم، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (الأنفال: 55 ـ 58)([31]).
إنّ يهود بني قريظة كانوا قد تعهَّدوا للنبي’ بأنّهم لو تآمروا ضدّ المسلمين وناصروا أعداءهم أو أثاروا الفتن والقلاقل، فإنّ للمسلمين الحقّ في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم. ومع ذلك فقد وجَّه النبي إليهم سعد بن معاذ وآخرين، فذكَّروهم العهد، ولكنهم أساؤوا الإجابة. وبذلك يكون الرسول قد أعطاهم فرصة إضافية ليرجعوا عن قرارهم المجرم والغادر، والذي سيترتب عليه عواقب وخيمة. ويذكر المؤرخون: أنّ عمرو بن سعدي اليهودي، قد صارح قومه بأنهم قد عاهدوا محمداً ألاّ ينصروا عليه أحداً، وأن ينصروه على من دهمه، فغدروا ولم يشاركهم ابن سعدى في غدرهم، وقال لهم: فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية، فواللهِ ما أدري يقبلها أم لا؟ قالوا: نحن لا نقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به، القتل خير من ذلك. قال: فإني بريء منكم. وخرج في تلك الليلة مع بني سعية، حتى أتى مسجد رسول الله، فبات فيه([32]).
إنّ كل تصريحات زعمائهم والوثائق التاريخية التي أشرنا إليها فيما سبق تشير إلى أنّ بني قريظة خانوا الوعد ونقضوا العهد وخانوا وطنهم ومواطنيهم في المدينة، وتآمروا عليهم مع الأعداء. ولو كان بنو قريظة غير مجرمين ولم يخونوا العهد فلماذا حصروا أنفسهم في قلاعهم؟ ولماذا خاضوا مواجهات مع المسلمين طوال خمسة وعشرين يوماً؟ لماذا لم يواجهوا الرسول بالقول بكل جرأة وشجاعة وحكمة، فيدفعوا عن أنفسهم الشبهة ويثبتوا بأنهم لم يخونوا العهد ولم يتآمروا على المسلمين؟ بل نسأل: لماذا لم يتعاونوا مع الرسول ولم يحاربوا الأحزاب معه كما تنصّ صحيفة المدينة ودستورها؟ لماذا لم يدافعوا عن وطنهم ـ المدينة المنورة ـ من الغزاة الزاحفين؟
زد على ذلك أننا وجدنا فيما بين أيدينا من نصوص تاريخية ما يدلّ على تكرار نقض العهد من بني قريظة، فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: mحاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير وأقرّ قريظة ومن عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم وقسَّم نساءهم وأموالهم وأولادهم بين المسلمين، إلاّ بعضهم لحقوا بالنبي’ فآمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهودي بالمدينةn([33])، ورواه أبو داود بنحوه، إلاّ أنه قال: mحتى حاربت قريظة بعد ذلكn([34]) (يعني بعد محاربتهم الأولى وتقريرهم). وهذا يعني ـ إن صحّت الرواية ـ أنّ بني قريظة قد نقضوا العهد أول مرة، فصفح عنهم النبي ولم يقتلهم. ولكنهم أعادوا الكرَّة ثانيةً وفي أحلك الظروف وأخطرها على النبي والذين آمنوا معه، فكيف لا يحاسبهم الرسول ولا رادع لهم ولا واعز عن ارتكاب الخيانة العظمى في كل حين يرون فيه الفرصة مناسبة والظروف مؤاتية؟! ونسأل هل يلدغ العاقل من نفس الجحر مرتين؟ وإذا كان في جسدك غدِّةً سرطانيةً، ألا تعمل على استئصالها من خلال عمليةٍ جراحية؛ لكي يستمرّ جسدك نابضاً بالحياة؟!
ج ـ رفضهم النزول على حكم الرسول’
لقد رفض بنو قريظة النزول على حكم رسول الله وقبلوا بالنزول على حكم حليفهم سيِّد الأوس سعد بن معاذ، الأمر الذي يشير إلى أنهم كانوا يسيئون الظنّ بحكم رسول الله عليهم، ولا يثقون به ولا يعتمدون على كرمه وحلمه وسماحته، وإمكانية صفحه عنهم. ويرون أن سعد بن معاذ زعيم الأوس ـ وهم حلفاؤهم في الجاهلية ـ أقرب إلى أن يعاملهم بالصفح والعفو والكرم، وذلك حسب منطقهم الجاهلي، الجاهل بحقيقة الإسلام، وبما أحدثه في عقلية الناس ونفوسهم من تغيير. يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11).
لقد ذكرت النصوص أنّ اليهود نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وأنّ النبي’ وافق على ذلك: mفحاصرهم النبي’ حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه، فحكم أن تُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهمn([35]).
وفي نص آخر: mفلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله’ فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله! إنهم كانوا موالينا دون الخزرج..فقال رسول الله’: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال رسول الله’: فذاك إلى سعد بن معاذn([36]). ونشير أيضاً إلى أنه كان من الممكن أن لا يقبل النبي بتحكيم سعد بن معاذ أو غيره، وأن يصرّ على أن ينزلوا على حكمه وهو المنتصر عسكرياً، وأن يصدر فيهم حكم الإعدام مباشرةً، ولكنه لم يفعل، وقَبِلَ معهم بتحكيم سعد بن معاذ.
إنّ جريمة بني قريظة لا تقاس بجريمة بني النضير وقينقاع في حجمها وفي خطورتها على الإسلام والمسلمين، فقد تحرك بنو قريظة في خط الخيانة، وتوغلوا فيها إلى درجة أصبح معها أساس الإسلام في خطر أكيد وشديد، فما بنوا عليه كل مواقفهم هو إبادة الوجود الإسلامي بصورة تامة وحاسمة. ولم يكن بنو النضير ولا بنو قينقاع قد توغلوا في أمر الخيانة إلى هذا الحد. مع الإشارة إلى أنّ هدف بني قريظة كان قريب المنال في مستوى الحسابات العملية التي اعتمدوا عليها، وقد خطوا خطوات عملية لإنجازه، حتى على مستوى التحرك العسكري الذي يستهدف تمكين الأحزاب ـ وهم معهم ـ من اجتياح الوجود الإسلامي وخصوصاً النبي’ وبني هاشم. أما نقض بني النضير للعهد، فقد بقي في حدود الإصرار على إظهار التمرد والغطرسة والطغيان. فلا يمكن أن تتساوى عقوبة بني قريظة مع عقوبة بني النضير.
زد على ذلك أنه يمكننا أن نعتبر أنّ بني قريظة قد نقضوا العهد أكثر من غيرهم، حيث إنهم لم يعتبروا بما جرى على بني قينقاع وبني النضير، إذا صحَّت الرواية التي تقول بأنهم اشتركوا مع بني النضير في نقضهم للعهد وتآمرهم على الرسول سابقاً. أضف إلى ذلك أنّ التساهل في مواجهة الأعمال الخيانية، التي بهذا الحجم لسوف يسهّل على الآخرين خيانات قد تكون أشد خطراً وأعظم أثراً، ولو كان’ تركهم ثم عادوا إلى الخيانة، فإن استئصالهم والحالة هذه قد يكون أصعب، بل قد يصبح متعذراً بعد أن تلقى الناس صفحه عنهم في المرة الأولى بالقبول، وقد يفهم الكثيرون أنه قد جاء عن استحقاق منهم للعفو، وأنه لا يحق له أن يتخذ في حقهم أيّ إجراء آخر.
ولا شك أنها جريمة القيادات المنحرفة أيضاً، التي تدمر كل شيء ولا تشكر النعمة الإلهية على حدّ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم: 28 و29)، إن التسليم لقرار القيادة في الأُمور المصيرية دليل على ثقة كبيرة متبادلة بينهم ومصير مشترك سيحلُّ بالجميع. وقد كان حيي بن أخطب وكعب بن أسد يتوقعان هذه الحرب، فقد أخذوا العهد على حيي أن يدخل معهم في حصنهم ويصيبه ما أصابهم. ولكن قاعدة اليهود تتحمَّل المسؤولية أيضاً، إنّ زعيم بني قريظة كعب بن أسد قد عرض عليهم خيارات عديدة قبل نزولهم على حكم سعد بن معاذ، كان من بينها الإسلام، ليحفظوا نساءهم وأولادهم وأموالهم. ولكنهم أبوا إلاّ أن يصلوا إلى سوء القرار. فبعد أن فشلت مفاوضة نباش بن قيس مع النبي، قال كعب بن أسد: يا معشر بني قريظة! والله، إنكم لتعلمون أنّ محمداً نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلاّ الحسد للعرب، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل، فهو حيث جعله الله، ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد. ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس (يعني حيي بن أخطب) علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منا. لا يستبقي محمد رجلاً واحداً إلاّ من تبعه. أتذكرون ما قال لكم ابن حواس حين قدم عليكم؟ فقال: تركت الخمر والخمير والتأمير، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير؟! قالوا: وما ذلك؟ قال: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حيّ اتبعته ونصرته. وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه، فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر. قال كعب: فتعالوا فلنتبعه ولنصدقه ولنؤمن به، فنأمن على دمائنا ونسائنا وأموالنا، فنكون بمنزلة من معه. قالوا: لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة ونكون تبعاً لغيرنا؟! فجعل كعب يرد عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا: لا نفارق التوراة، ولا ندع ما كنا عليه من أمر موسى. قال: فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج في أيدينا السيوف إلى محمد وأصحابه، وإن ظفرنا فلعمري لنتخذن النساء والأبناء([37]).
إنّ يهود بني قريظة، ورغم اعتراف عدد من كبارهم بالحقّ، وتأكيدهم على أنّ ما جاء به الرسول’ هو محض الصدق، وأنه هو النبي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فإنهم أصروا على رفض الاعتراف به والتسليم له، برغم أنّ نبوة محمد هي من التوراة! فليس في اتّباع محمد ترك للتوراة ولا لموسى، بل هو التزام بهما بنحو أتم وأكمل وأدق وأشمل. وقد روى القمي في تفسيره ما يؤكّد ما نقول: mفأخرج كعب بن أسد مجموعة يديه إلى عنقه.. فلما نظر إليه رسول الله’ قال له: يا كعب! أما نفعك وصية ابن الحواس الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر والخنزير، وجئت إلى البؤس والتمور لنبي يبعث مخرجه بمكة ومهاجرته في هذه البحيرة يجتزي بالكسيرات والتميرات، ويركب الحمار العري، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر؟ فقال: قد كان ذلك يا محمد، ولولا أنّ اليهود، يعيروني أني جزعت عند القتل لآمنت بك وصدَّقتك، ولكني على دين اليهود، عليه أحيا وعليه أموت. فقال رسول الله’: قدِّموه واضربوا عنقه فَضُرِبَتn([38]). كذلك يعترف حيي بن أخطب بأنه خذل الله عندما خذل نبيّه قائلاً: mما ألوم نفسي في عداوتك..ولكن من يخذل الله يُخذلn([39]).
ثالثاً: الحكم على اليهود طبقاً لشريعتهم
جاء حكم الرسول’ عليهم بمثل ما في شريعتهم، بل أقلّ مما ورد في شريعتهم بكثير، حيث ورد في نصوص كتبهم المقدسة: mحين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكَّلُ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبدُ لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرَّبُّ إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرّب إلهكn([40]).
كما جاء أيضاً في سفر آخر: mوكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بني إسرائيل، لا أحد يخرج ولا أحد يدخل، فقال الرب ليشوع: انظر، قد دفعت بيدك أريحا وملكها جبابرة البأس، تدورون دائرة المدينة جميع رجال الحرب، حول المدينة مرة واحدة، هكذا تفعلون ستة أيامn([41])، وتكمل القصة: mفتكون المدينة وكل ما فيها محرّمةً للرب، راحاب الزانية فقط تحيا هي وكل من معها في البيت؛ لأنها قد خبأت المرسلين اللذين أرسلناهماn([42])، راحاب، المرأة المشهورة بالزنا التي آوت إليها جواسيس اليهود هي التي تبقى على قيد الحياة، أما باقي الناس في المدينة فيتم قتلهم. وأما الذهب والفضة والماشية وكل شيء ذو قيمة فيأخذ كغنيمة: mوكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدساً للرب وتدخل في خزانة الربn([43])، mوحرَّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير، فقتلوهم بحدّ السيفn([44])، وهنا يأتي صُلْبُ الموضوع، حيث إنهم يزعمون أنّ الله ـ تعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ قد أمرهم ليس فقط بقتل الرجال المحاربين، بل كل الرجال، وليس فقط الرجال، بل أمرهم أيضاً بقتل النساء والأطفال وكبار السن. ومن ثمّ فإنّ الرسول’ لم يلزمهم حتى بما يعتقدون به في دينهم الذي يؤمنون به بالرغم من تحريفه. ولو ألزمهم بذلك لم يكتف بقتل المحاربين منهم فقط، بل لكان قتل كل رجالهم وشيوخهم ونسائهم وأطفالهم أيضاً. زد على ذلك قول التوراة: mواحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها، أما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد فاجعلوها في خزانة بيت الربn([45]).
ونقرأ كثيراً في نصوص التوراة من أعمال العنف والعدوان، وهي ـ كما يزعم اليهود ـ بطولات قام بها أسلافهم التزاماً بأوامر الرّب يهوه. كما نقرأ أوامر وأحكاماً تؤكد على التسلّط والتوجّس والاحتراز والعدوان والعزلة وعدم الاختلاط بالشعوب والأمم الأخرى؛ نظراً لنجاستها ودونيتها بحسب زعمهم، ونجد الروح العدوانية واضحة تماماً في السلوك والأفكار. ونورد أيضاً مجزرة تقشعرّ لها الأبدان، وسببها أنّ رجلاً من بني إسرائيل تزوّج بامرأة مديانية، فاعتبر موسى أنّ هذا العمل بمثابة خرق للشريعة والقوانين التي تحرّم الزواج بأجنبيات وتحضّ على العزلة وضرورة الحفاظ على الزرع المقدّس. وعلى الرغم من أنّ الكاهن الشاب فينحاس بن ألعاز بن هرون وثب على الرجل الإسرائيلي وعلى المرأة المديانية وقتلهما فوراً، إلاّ أنّ هذا لم يشف غليل موسى ولا يهوه، فأمر أن تحرق مديان وأن تسبى النساء وتقتل، وأن يقتل كل ذكرٍ وكلّ طفل: mفتجنّدوا على مديان كما أمر الربّ، وقتلوا كل ذكرٍ وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم آوي وراقم وصور وحور ورابع، خمسة ملوك مديان وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف، وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكلّ أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار. وأخذوا كلّ الغنيمة وكلّ النهب من الناس والبهائم، وأتوا إلى موسى وألعازر الكاهن وإلى جماعة بني إسرائيل بالسبي والنهب والغنيمة إلى المحلّة إلى عربات موآب التي على أردن أريحا، فخرج موسى وألعازر الكاهن وكلّ رؤساء الجماعة لاستقبالهم إلى خارج المحلّة، فسخط موسى على وكلاء الجيش ورؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب، وقال لهم موسى: هل أبقيتم كل أنثى حيّة؟ إنّ هؤلاء كنَّ لبني إسرائيل حسب كلام بلعام سبب خيانة للرّب في أمر فغور، فكان الوباء في جماعة الرّب. فالآن اقتلوا كلّ ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكرٍ اقتلوها..n([46]).
لقد نجح موسى في أُسلوب الحضّ على العدوان والقتل والإبادة، وتمكّن جماعته من سحق سيحون وجماعته، فقتلوا ونهبوا وحرقوا وسبوا النساء والأطفال، كما ورد في سفر التثنية: mفخرج سيحون للقائنا هو وجميع قومه، وأخذنا كلّ مدنه في ذلك الوقت، وحرَّمنا([47]) من كل مدينة الرّجال والنّساء والأطفال، لم نبق شارداً. لكنّ البهائم نهبناها لأنفسنا، وغنيمة المدن التي أخذنا من عروعير التي على حافّة أرنون، والمدينة التي في الوادي إلى جلعاد، لم تكن قرية قد امتنعت علينا، الجميع دفعه الرب إلهنا أمامناn([48])، وغيرها الكثير من النصوص التوراتية التي يزعمون أنها نصوص مقدسة أنزلها الله تعالى على نبيه موسى×. هذه هي أخلاق اليهود يُسَفِّهون إذا آمنوا، ويقتلون إذا قدروا، ويذكِّرون الناس بالمُثل العليا إذا ضُيِّق عليهم.
رابعاً: جزاء الأعمال ونتائج الأفعال
تؤكّد السُّنَة الجارية بين الأمم والأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود أنّ الأمتين أو القبيلتين إذا تحاربتا وتقاتلتا ثم غلبت إحداهما الأخرى واستعلت عليها، فإنها ترى من حقها المشروع لها فى الحرب أن تضع في عدوها السيف حتى يُسَلِّمَ لها الأمر تسليماً مطلقاً من غير شرط، والخضوع التام لما تحكم فيهم وتتصرف في نفوسهم وأموالهم. أمّا تقييد هذه السيطرة بقيد، فإنه يفسد أثر هذا التسليم المطلق ويبطل حكمه، ويمهد الطريق للعدو في الرجوع إلى كيده ومكره. وكيف يسوغ للأمة الغالبة ذلك وقد فدت عن استقلال مجتمعها المقدس عندها بالنفوس والأموال؟ وهل ذلك إلاّ ظلمٌ لنفسها واستهانةٌ بأعزِّ ما عندها، وتبذيرٌ للدماء والأموال والمساعي؟! ويمكن لبعضٍ أن يتساءل عن ذنب الصغار من الذراري المتولّدين بعد ذلك، ولم يحملوا سلاحاً، ولا سلُّوا سيفاً، ولا دخلوا معركةً؟ فهل يكفي أنهم ضحايا آبائهم؟!
ويكفي في الجواب على ذلك قول النبي نوح× لربِّه شاكياً له قومه: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكافرين ديَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلا يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} (نوح: 26 و27).
أضف إلى ذلك أن هناك نوعاً من المماثلة بين العمل وبين جزائه، وعلى ذلك يجري كلامه تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31)، وكذلك قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39 و40)، وهذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} (البقرة: 178)، وقال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة: 194)، ولازم هذه المماثلة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل، فلو قتل نفساً مثلاً بغير نفس أو فساد في الأرض وفي المجتمع الإسلامي، ملك وليّ أمر المقتول من المجرم نفسه، حيث نقصهم نفساً محترمة. ولو سرق ما يبلغ ربع دينار، فقد أضرّ بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العام الذى أسدلته يد الشريعة وحفظته يد الأمانة، ملك وليّ أمر المال من السارق بإزاء ما أتى به، فيتصرف فيه بسلب ما له من الحرية بمقدار ما اقترفه من فعل قبيح، وقس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع والسنن المختلفة، فيتبين أنّ الإجرام يستجلب نوعاً من الرِّق والعبودية.
أ ـ ولكم في القصاص حياة
صحيح أنّ المجازاة على المعصية حق، وأنه ليس من الواجب إعمال الحق دائماً، غير أنه كما يجب ألاّ نُنفذ حق العقاب دائماً كذلك لا يجوز تركه دائماً، ولا معنى لثبوت شيء لا أثر له ولا في وقت من الأوقات. زد على ذلك أنّ إلغاء حق العقاب من رأسه هدم للقوانين الموضوعة الحافظة لبنية المجتمع. فجواز العفو عن الذنب ثابت في الجملة، إن كان هناك سبب مسوِّغ بحسب الحكمة من العفو، وإلاّ وجبت المجازاة احتراماً للقوانين الحافظة لبنية المجتمع وسعادة الإنسان. قال تعالى: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 18)، ويوجد في القرآن الكريم موارد متفرقة يذكر فيها العفو من غير ذكر سببه، وإنّ كان التدبر فيها يهدي إلى إجمال ما روعي فيها من مصلحة الدين. ثم إن للعفو مراتب وللجزاء مراتب مختلفة([49])، والفكر والعقل الإنساني، يحكم بأنْ يكون الجزاء على قدر الفعل، قال تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام: 151)، أضف إلى ذلك أن في القصاص حياة للإنسان الذي لا يزجره عقله عن فعل المنكر ولا تؤنبه نفسه على فعل القبيح، ولا يتعظ من تجارب الآخرين، وللمجتمع الذي لابد له من كبح جماح المجرمين فيه والمعتدين على حقوق الآخرين. ولولا عقاب المجرمين وضبطهم لازدادوا طغياناً، ولكان ذلك تشجيعاً لغيرهم على الفوضى والظلم والفساد، ولانهار المجتمع. قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، صحيح أنّ الآيات تشير إلى أنّ المصلحة التي في العفو هي نشر الرحمة وإيثار الرأفة، وأنّ العفو أحبُّ إلى الله تعالى، وأن الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم ورحمة، وأنه ليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو، فيكون اعتداء، فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم، إلاّ أنّ في قوله تعالى إشارة إلى حكمة التشريع، وبيان أنّ المصلحة العامة قائمة بالقِصاص، فإنّ الحياة لا يضمنها إلاّ القِصاص دون العفو والدية. وقوله {لعلكم تتقون}، أي تتقون القتل، وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص، والآية مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحياة.
وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص، كقولهم: mقتل البعض إحياء للجميعn، وقولهم: mأكثروا القتل ليقل القتلn، وقولهم: mالقتل أنفى للقتلn. كما كانت العرب أوان نزول آية القصاص وقبله تعتقد بالقصاص بالقتل، لكنها ما كانت تحدُّه بحد، وإنما يتبع ذلك قوة القبائل وضعفها، فربما قتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي، وربما قتل العشرة بالواحد والحر بالعبد والرئيس بالمرؤوس، وربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قُتِلَ منها.
وكانت اليهود أيضاً تعتقد بالقصاص، وقد حكاه القرآن حيث قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45)، وسائر الشعوب والأمم على اختلاف طبقاتهم([50]) ما كانت تخلو من القصاص في القتل في الجملة، وإن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة. أمّا الإسلام فقد سلك في ذلك مسلكاً وسطاً بين الإلغاء والإثبات، فأثبت القصاص وألغى تعيُّنه، بل أجاز العفو والدية. ولكنه ضبط القصاص بالمعادلة بين القاتل والمقتول، فالحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبدِ، والأنثى بالأنثى.
وقد اعتُرض على القصاص مطلقاً وعلى القصاص بالقتل خصوصاً، بأنّ القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازه وإجراءه بين البشر اليوم. وقد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه([51]) بكلمة واحدة، وهي قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 32)، فليس بين الواحد من الإنسان والألوف المجتمعة منه فرقٌ من حيث الوجود النوعي. وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالإنسانية، فما كل رأفة بمحمودة ولا كل رحمة فضيلة، ففي الاستعمال المطلق للرحمة في مورد الجاني القاسي والمتمرد العاصي والمتعدي على النفس والعرض، اختلال النظام وهلاك الإنسانية وإبطال الفضيلة. وما الانتقام للمظلوم من ظالمه إلاّ استظهار للعدل والحق، على أنّ تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام، بل فيه ملاك التربية العامة وسدّ باب الفساد. وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج مرتكبها في المستشفيات، فهو من الأعذار الموجبة لشيوع القتل والفحشاء.
وقد يقول قائل: إنّ الرسول’ قتل المحاربين من بني قريظة؛ لأنهم كفار لا يؤمنون بالإسلام.
ويرد عليه أنّ الكفر ليس مبيحاً للقتل؛ قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29)، حتى في الآية الكريمة تتبيّن الغاية من القتال، وهو إعطاء العهد والأمان وحمايتهم في ظلّ الدولة الإسلامية مقابل مشاركتهم في نفقات الحرب من خلال الجزية. وفي ذلك يقول أحد الباحثين: mلو كان الكفر مبيحاً للقتل لما قبل الرسول’ التحكيم في بني قريظة، ولكان الإكراه على الدين جائزاً، ولما جاز قبول الجزية من أهل الكتاب.. فلو كان القصد قتالهم لكفرهم أو مخالفتهم في الدِّين، لجُعلت غاية القتال إسلامهم، ولما قُبِلت منهم الجزية وأُقِرّوا على دينهمn([52]).
ب ـ قانون العقوبات الوضعي، نموذج من القوانين اللبنانية
إنّ نقض العهد والتآمر على الوطن والمواطنين خيانة عظمى ترفضها الشرائع السماوية، وتعاقب عليها أشدّ العقاب، وكذلك تفعل الشرائع والقوانين الوضعية حتى في عصرنا الحديث. ومن باب المثال نذكر فيما يلي بعض المواد القانونية اللبنانية التي تتناول هذا الموضوع في المرسوم الاشتراعي رقم 340 ـ صادر في 01/03/1943م: إنّ رئيس الجمهورية اللبنانية، بناء على تصريح 26 تشرين الثاني سنة 1941، وبناء على اقتراح وزير العدلية، وبناء على قرار مجلس الوزراء تاريخ 27 شباط، سنة 1943، يرسم ما يأتي:
المادة 273: كل لبناني حمل السلاح على لبنان في صفوف العدو عوقب بالإعدام. كل لبناني وإن لم ينتمِ إلى جيش معادٍ، أقدم في زمن الحرب على أعمال عدوان ضدّ لبنان عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. كل لبناني تجند بأيّ صفة كانت في جيش معادٍ، ولم ينفصل عنه قبل أيّ عمل عدوان ضدّ لبنان عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، وإن يكن قد اكتسب بتجنيده الجنسية الأجنبية.
المادة 274: كل لبناني دسَّ الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها إلى مباشرة العدوان على لبنان ليوفر لها الوسائل إلى ذلك عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. وإذا أفضى فعله إلى نتيجة عوقب بالإعدام.
المادة 275: كل لبناني دسّ الدسائس لدى العدو أو اتصل به ليعاونه بأيّ وجه كان على فوز قواته عوقب بالإعدام.
المادة 276: يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كل لبناني أقدم بأيّ وسيلة كانت ـ قصد شلّ الدفاع الوطني ـ على الإضرار بالمنشآت والمصانع والبواخر والمركبات الهوائية والأدوات والذخائر والأرزاق وسبل المواصلات، وبصورة عامة بكل الأشياء ذات الطابع العسكري أو المعدة لاستعمال الجيش أو القوات التابعة له. وعليه يُقضي بالإعدام إذا حدث الفعل في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها أو أفضى إلى تلف النفس.
الهوامش
([1]) تسمى أيضاً بمعركة الخندق.
([2]) وات، مونتغمري، محمد في المدينة: 327.
([4]) راجع: آ. كوهن، عرض شامل للتلمود وتعاليم الحاخاميين حول: الأخلاق، الآداب، الدين، التقاليد، القضاء: 3 ـ 7، ط1، ترجمة جاك مارتي، نقله إلى العربية د. سليم طنوس، بيروت، دار الخيّال، 2005م.
([5]) شمس الدين، محمد جعفر، اليهودية ليست ديانة توراتية: 83 ـ 88.
([7]) راجع: اليهودية ليست ديانة توراتية: 31 ـ 52.
([9]) اليهودية ليست ديانة توراتية: 111.
([11]) أسبينوزا، باروخ، رسالة في اللاهوت والسياسة: 276، ترجمة د. حسن حنفي، الهيئة العامة للكتاب، 1972م.
([12]) شاحاك، إسرائيل، التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية وطأة ثلاثة آلاف سنة: 62 ـ 63، ترجمة صالح علي سوداح، ط1، بيروت، بيسان للنشر والتوزيع، 1995م.
([15]) انظر سفر التكوين: الإصحاح 19، وسفر صموئيل: 11، 12، وسفر الملوك الأول: 11، وسفر الخروج: 32.
([16]) سفر الخروج، الإصحاح: 16، الآية: 302.
([17]) سفر الخروج، الإصحاح: 16، الآية: 11 ـ 12.
([18]) سفر الخروج، الإصحاح: 17، الآية: 3 ـ 6.
([19]) سفر الخروج، الإصحاح: 24، الآية: 12.
([20]) سفر الخروج، الإصحاح: 24، الآية: 27 ـ 28. أما الوصايا العشر فهي مكتوبة في سفر الخروج الإصحاح: 20، الآيات 1 ـ 7 وهي: 1 ـ ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلاً. 2 ـ أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. 3 ـ لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. 4 ـ لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مّما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. 5 ـ لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ؛ لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيّ. 6 ـ وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبيّ وحافظي وصاياي. 7 ـ لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً؛ لأن الرب لا يبرِّئ من نطق باسمه باطلاً. 8 ـ أذكر يوم السبت لتقدّسه. 9 ـ ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. 10 ـ وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك.لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. 11 ـ لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. واستراح في اليوم السابع؛ لذلك بارك الرب يوم السبت وقدّسه. 12 ـ أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الربّ إلهك. 13 ـ لا تقتل. 14 ـ لا تزن. 15 ـ لا تسرق. 16 ـ لا تشهد على قريبك شهادة زور. 17 ـ لا تشته بيت قريبك.لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك.
([23]) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة 2: 949، ط1، إيران، دار الحديث، 1416هـ.
([24]) نهج البلاغة: 625 ـ 627.
([28]) وات، مونتغمري، محمد في المدينة: 298.
([31]) وقد يقال: إنّ هذه الآيات نزلت في بني قينقاع، فهي لا تنطبق على بني قريظة؛ لأنهم قد نقضوا العهد وخانوا بالفعل، والآية إنما تتحدث عن خوف النبي’ من خيانة قوم ما، وأما بنو قينقاع فقد يكون له وجه، إذ إنّ ما فعلوه لا يصل إلى درجة ما فعله بنو قريظة، ولأجل ذلك جاء عقابهم أخفّ من عقاب أُولئك. ونجيب على ذلك بأنّ الآية الكريمة وإن كانت قد نزلت في هذه المناسبة، إلاّ أنها أرادت أن تعطي قاعدة عامة صالحة للانطباق في كل زمان.
([32]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم 11: 105.
([33]) يُفهم من هذه الرواية أيضاً أن إجلاء من بقي من طوائف اليهود بالمدينة كان بعد قتل بني قريظة. راجع: البخاري، صحيح البخاري 5: 22، ط1، بيروت، دار الفكر، 1401هـ.
([34]) صحيح مسلم 5: 159، بيروت، دار الفكر.
([36]) السيرة النبوية لابن هشام: 508.
([37]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم 11: 111.
([38]) القمّي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي 2: 191.
([40]) سفر التثنية: الإصحاح: 20، الآية: 35.
([41]) سفر يشوع: الإصحاح: 6، الآية: 1 ـ 3.
([42]) سفر يشوع: الإصحاح: 6، الآية: 17.
([43]) سفر يشوع، الإصحاح: 6، الآية: 19.
([44]) سفر يشوع، الإصحاح: 6، الآية: 21.
([45]) سفر يشوع: الإصحاح: 6، الآية: 24.
([46]) ونشير إلى أنّ مديان كانت الملجأ الذي التجأ إليه موسى عندما هرب من مصر بعد أن قتل مصرّياً دفاعاً عن عبراني من بني جلدته، حسب ما يروي كاتب سفر الخروج، وقد أمضى في مديان مدة تترواح بين أربعين إلى خمسين سنة، تزوّج خلالها من ابنة كاهن مديان “صفّورة” وأنجب منها ولديه: جرشوم وأليعازر.
([48]) سفر التثنية، الإصحاح: 2، الآية: 37.
([49]) تفسير الميزان 6: 358 ـ 364.
([50]) باستثناء النصرانية التي كانت ـ على ما يحكى ـ لا ترى في مورد القتل إلا العفو والدية.
([51]) المنكرون لتشريع القصاص بالقتل قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان، وينفر عنه طبعه، ويمنع عنه وجدانه، وقالوا: إذا كان القتل الأول فقداً لفرد، فالقتل الثاني فقدٌ على فقد، وقالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة وحب الانتقام، وهذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة، ويؤخذ في القاتل أيضاً بعقوبة التربية، وذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن والأعمال الشاقة. وقالوا: إن المجرم إنما يكون مجرماً إذا كان مريض العقل، فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية ويعالج فيها. وقالوا: إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، ولما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك، فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد. ومن الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة والنتيجة، كالحكم عليه بالحبس المؤبد، وفيه الجمع بين حقين: حق المجتمع وحق أولياء الدم. فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل. ولكن لا يوجد إنسان لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله إن لم ينتهِ عنه إلا به، وهذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعاً عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها. بل إن من يدّعون التمدن والحضارة يتوسّلون إلى حفظ منافعهم بالحرب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل. فهم يجوّزون القتل الذريع والإفناء والإبادة لحفظ مصالحهم المادية، بل يستعمرون الشعوب وينهبون ثرواتها ويلقون عليها القنابل الذرية، فيبيدون البشر والحجر وكل الكائنات الحية، ليفرضوا إرادتهم على الناس وسيطرتهم على العالم. ثم يأتون إلينا ليعلِّمونا حقوق الإنسان والحيوان!! وما بال حضارتهم تجِّوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوِّزه في من هَمَّ وفعل؟ وما بال حضارتهم تعدّ القتل في مورد القتل ظلماً وتنقض حكم نفسها. وللنظر في نتيجة تطبيق آرائهم، هل أنّ المجرمين والفاسدين يخافون من حبس أو عمل شاق؟ وهل يصدهم وعظ ونصح؟ وهل لهم ثبات على حق إنساني، والحياة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى من المعيشة الردية الشقية التي يعيشونها خارج السجون. فلا يوحشهم لوم ولا ذم، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب؟ وأخيراً فإننا نسألهم: كيف تفسرون ما نشاهده من ازدياد عدد الجرائم في الإحصاءات يوماً بعد يوم؟!
([52]) الزحيلي، وهبة، العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث: 26.