ترجمة: علي آل دهر الجزائري
بين يدي الحوار ــــــ
ولد الدكتور شايغان في طهران سنة 1313هـ.ش، وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدرسة سانت لويس التي تديرها عائلة لازاري. قبل إكمال دراسته الإعدادية، وفي سن الخامسة عشرة، سافر إلى إنجلترا ليكمل تلك المرحلة الدراسية هناك، بعدها سافر إلى جنيف ليحقق ما كان يطمح إليه والده، وهو دارسة الطب، لكنه سرعان ما أدرك الشوق الذي في داخله، وأنه محظوظ في إكمال دراسة أخرى، فغيَّر تخصُّصه الدراسي، ودرس في نفس الوقت الحقوق والفلسفة وعلم اللغة. ومع تعرفه على مؤلَّفات رينيه جينو والتعرف على كارل جوستاف يونج، وجان هربر، اهتدى إلى رحاب جديدة. كان جان هربر أستاذه في الأساطير الهندية، فعرفه على النبوغ الثوري للهند. من هنا تعلم اللغة الهندية القديمة «السانسكريتية»، وشرع بمساعدة برهمن إندوشكر بدراسات عميقة في مجال الأدب الهندي، فترجم كتاب «بهـﮕودگيتا» [لحن الآلهة] إلى اللغة الفارسية، وهو الكتاب الذي لم يُنشر إلى الأبد، لكن نشر له في هذا المجال كتاب «الأديان والمذاهب الفلسفية في الهند»([1]) في عام 1346هـ.ش. وفي مطلع عام 1340هـ.ش التحق بمجموعة أصحاب التأويل عن طريق سيد حسين نصر، والتي كان هنري كربون أحد أعضائها أيضاً، وكانت له مشاركة منظمة وحوارات عديدة في حلقة العلامة الطباطبائي. وقد أفضى إعجابه بهنري كربون في النهاية إلى تأليف كتاب «هنري كربون وآفاق الفكر المعنوي في الإسلام»([2]). ودائماً ما كان يجد نفسه متأثِّراً بالجذبات المعنوية للعلامة الطباطبائي.
وكان قد استفاد من بعض حكماء إيران التقليديين، كالعلامة أبو الحسن رفيعي القزويني، والعارف محيي الدين إلهي قمشه إي، وكان حضوره الأكثر عند السيد جلال الدين الأشتياني، الذي عبَّر عنه بأنه كان آخر الشهب النورانية في عالم الحكمة والعرفان.
ولقد اجتاز داريوش شايغان ـ كما قال عن نفسه ـ دورات مختلفة في الدراسات الهندية والإسلامية والمقارنة والنقدية، تلك الدورات التي أثرت في شخصيته الفكرية والروحية ومؤلَّفاته أيضاً. وهنا يمكن أن نشير إلى بعض كتبه المهمة: آسيا في مقابل الغرب، والمذهب الهندي والتصوف والثورة الدينية (باللغة الفرنسية)([3]).
البداية من الهند، مقارنة الأديان ــــــ
^ لو تسمح لنا حضرة الأستاذ، نبدأ من الهند، حيث يقال: إن لديك شغفاً بتلك البلاد.
_ أساساً كنت معجباً بالهند. ولكن ما أثار إعجابي أكثر هو بروز ظاهرة مهمة في زمن الملك أكبر گوركاني، وبعده في زمن جهانگيز، وجهان شاه، وهي ترجمة رسائل عديدة من اللغة السانسكريتية إلى اللغة الفارسية. ففي ذلك الوقت ترجمت إلى الفارسية خمسون إلى ستين رسالة.
^ يقال: إن أطروحتك في الدكتوراه كانت في هذا المجال؟
_ نعم، كان دارا شكوه مهماً جداً بالنسبة لي. فقد ألّف كتاباً بعنوان «مجمع البحرين»، وهو الكتاب الذي أدى إلى موته. فقد حاول دارا شكوه في ذلك الكتاب أن يقرِّب بين الدين الهندي، الذي يعتقد بأنه دين الموحِّدين، وبين الدين الإسلامي. ومنذ ذلك الحين صار تخصُّصي هو المقارنة، ولكن ليس المقارنة بين الأديان، بل المقارنة بين المعطيات والأوضاع الفعلية للأديان في الهند وإيران والصين، وذلك مع ملاحظة علاقتها بالتغيرات في العالم المعاصر. والأمر الذي كان يهمني هنا هو أنه في الوقت الذي نقرأ فيه الحضارات الآسيوية الكبرى، سواء الحضارة الإسلامية أم الحضارة الهندية والصينية ـ طبعاً في ما يخص اليابان فإن الأمر مختلف؛ لأنها كانت في ذلك الوقت دولة فتية ـ، نرى أفولاً لنجوم تلك الحضارات جميعاً في القرن السابع عشر الميلادي تقريباً، ونهاية لدورها الريادي في سيادة العالم. وهذا أمر عجيب، حيث حصل ذلك في جميعها في مقطع زمني واحد. لقد شهد القرن السابع عشر الميلادي ما أُطلق عليه عصر الرجعة، مع ظهور ملا صدرا في إيران، وآخر الأعمال الكبيرة في الهند، وما شهدته الصين في ذلك الوقت أيضاً. وعندما يكون الحديث عن الرجعة يعني أنه لا يوجد هناك مجالٌ للكلام [وليس هناك ما نقدِّمه]، بل يجب الرجوع إلى الماضي. والملفت هنا أن القرن السابع عشر الميلادي كان في الغرب بداية لظهور ديكارت، وكأن حركة توقفت في مكان ووصلت إلى نهايتها، وهناك حركة بدأت في مكان آخر. ولا أريد هنا أن أقيِّم أيّ الحركتين كانت جيدة وأيّهما كانت رديئة. وعلى أية حال فالحضارات الكبرى تصل إلى ذروة قوتها ومجدها، ومن ثمّ تضمحل، ذلك مثل البناء العظيم الذي يضعون آخر لبناته، ثم يجلسون للنظر إليه. ومن ذلك الحين فصاعداً أفرزت تلك الثقافات حالة من الانفعال، وانهمكت في تفسير كتب القدماء وآثارهم، ومن ثم تفسير ما فُسِّر. وعلى هذا المنوال تحصَّل تراث عظيم في التفسير، معظمه يمثل تفرُّجاً، سواء كان في الهند أو في الصين أو في إيران. والذي أثارني هو أنه لماذا حصل كل ذلك؟ طبعاً يمكننا أن نسلك الطريقة التي تبناها هيجل، ونقول: إن روح الزمن تنتقل من مكان إلى آخر. لكنني لا أعتقد بما يقول به هيجل، بل يمكنني أن أقول شيئاً واحداً، وهو أن الحضارت القديمة العظمى التي ازدهرت في زمن واحد، وانهارت تقريباً في زمان واحد أيضاً، كالهند، التي تمتلك تراثاً عظيماً من الماضي، والبلاد الوحيدة التي أعتبرها متحفاً حياً، حيث إنها الحضارة التي بقيت آثارها على مدى ثلاثة آلاف عام بلا أدنى نقص أو تلف؛ إذ إن جميع نصوصها القديمة وكيفية مطالعتها وتفسيراتها متوفِّرة لدينا، كما لو فرضنا أن الإيرانيين في عصر ما قبل الإسلام قد حافظوا على جميع تراثهم وآثارهم، ولم يأتِ الإسلام أساساً، واستمرت تلك الحضارة بهذا النحو، إن هذه الخصوصية تعطي انطباعاً خاصّاً عن الهند، فلو ذهبتم إلى تلك البلاد لوجدتم أنفسكم في متحف حيّ؛ لأنه بغض النظر عن الأقلية التي تدير شؤون الدولة، والتي تبلغ ثلاثة إلى أربعة ملايين هندياً، وبقطع النظر عن طبقة تشكل مئة وخمسين إلى مئة وستين مليوناً يتمتعون بوضع مالي جيد، ودخلوا ميادين التحولات السوقية الجديدة في عالم اليوم، فتطوَّروا جدّاً، فإن هناك ثمانمائة إلى تسعمائة مليون هنديٍّ يعيشون في عالم الأساطير، ولم يتغيَّروا على الإطلاق.
وبعد الفراغ من المقارنة فالقضية التي لفتت انتباهي أيضاً هي سقوط تلك الحضارات وانهيارها إبان القرن السابع عشر الميلادي، ما الذي حصل فيها؟ وأيّ بلاء وقع عليها؟ وما هي التحولات التي مرّت بها؟ ما ينبغي التسليم به هو أن هذه الحضارات كانت ثملة وراكدة حتى القرن التاسع عشر الميلادي، بمعنى أنها كانت غافلة عن كل ما يحصل من تغيرات وتحولات في العالم، وأول صدمة تعرَّض لها العالم الإسلامي هو دخول نابليون بونابرت إلى مصر، عندما دخلها في أواخر القرن الثامن عشر، وجلب معه مئة عالم، وعدداً كبيراً من الكتب العربية المطبوعة في فرنسا. فقد كانت مواجهة هذه الثقافة الجديدة صدمة عظيمة للمسلمين. إن الإيديولوجية التي جاء بها بونابرت لم تكن إيديولوجية مسيحية، بل كانت علمانية. وقد كان دخول الدين المسيحي باعثاً على المنافسة حتماً؛ لأننا نحن المسلمون نعتبر نبينّا خاتم الأنبياء، أي إننا ـ ومن وجهة نظر ميتافيزقية ـ نتقدم على المسيحية بمرحلة، وبالتالي فالذهنية الإسلامية ترى أن المسيحية تليها بمرتبة. من هنا فإن الأيديولوجية البونابرتية هي أيديولوجية لا دينية وعلمانية. ومن جانب آخر فقد وقعت أحداث كبيرة في الغرب، ومنها: الإصلاحات الدينية الكبيرة في القرن السادس عشر، والتي أدت إلى انتصار الحركة اللوثرية، وتحرر الكنيسة من قبضة البابا. وكانت الثورة الفرنسية الصدمة الثانية، ثم ظهور الاستعمار الكولوني (Colonialism)، الذي أسّس له من القرن الثامن عشر، وما تلاها من النهضة الصناعية، ولم يكن أي منها مؤثِّراً في العالم الإسلامي. وقد كان لها تأثير عندما كانت الدول غير الغربية قد وقعت تحت الاحتلال، فسيطر البريطانيون على الهند، وغدت إيران ميدان الصراع بين البريطانيين والروس، وصارت مصر تحت وطأة الاحتلال البريطاني أيضاً. وقد صدمت البلدان الإسلامية صدمة عنيفة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. ومن هنا تصدَّت بعض الشخصيات الاسلامية اللامعة، كالسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، للبحث عن حلّ. والذي أثار انتباهي هو أن الأسئلة التي طرحها السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده لا زالت مطروحة حتى الآن، ولا زال الحديث والجدل قائماً حول الأصالة والتجديد. لقد مضت مئة عام على هذا الجدل وإلى الآن لم نجد حلاًّ مناسباً للمشلكة.
مناشئ الاختلاف بين الأديان الشرقية والغربية ـــــــ
^ يبدو أن هناك اختلافاً بين الأديان الشرقية والأديان الغربية من حيث المضمون، ومن حيث الشكل أيضاً. من أين نشأ هذا الاختلاف؟
_ أجل، إن الأديان الإبراهيمية متشابهة جدّاً، سواء كانت اليهودية أم المسيحية أم الإسلام. والأخير يدّعي لنفسه أنه جزء من الدين الإبراهيمي القديم، والمسيحية هي النسخة المهذبة لليهودية؛ لأن (يهوه) يمكن أن يكون عصبياً وقاسياً، لكن المسيح أصبح إنساناً متجسِّداً في الواقع الإنساني. وللفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو طرحٌ لطيفٌ يقول فيه: مع مجيء المسيحية فقد هذب الشكل القاسي للدين. وكذلك فإن المسيحية مهدَّت لمبادئ علمنة المجتمع. وأولى هذه المبادئ أنها قالت: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وذلك يعني اجعل لكل واحد منهما حسابه الخاص، والثانية: إن الإله أصبح بذاته إنساناً، ولبس الصورة الإنسانية، يعني أنه خلع تلك الحالة الانتزاعية الغاضبة، أي إن فاتيمو يعتقد أن المسيحية كانت بداية لانهيار النظم الدينية القاسية. وهذه أطروحة جديرة بالبحث. مضافاً إلى ذلك فإن هناك وجوهاً كثيرة تشترك فيها الأديان الثلاثة، سواء من حيث ثقافي أو من حيث الأصول اللغوية؛ لأن اللغة العبرية قريبة إلى العربية بحسب الفيلولوجيا (philology) (فقه اللغة التاريخي). وكذلك يتشابهان من الحيث الأسطوري؛ لأن كلاهما يعتقد بتاريخ النبوة. ويقع في مقابلهما الأديان الإيرانية، ثم الأديان الهندية. ومما لا شك فيه أن الإيرانيين والهنود كانوا معاً في عصر واحد. فقد كانوا في مجتمع واحد في الألفية الثانية أو الثالثة قبل ميلاد السيد المسيح، حتى كان يقال لهم: الأقوام الهندوإيرانية، وكانوا يشتركون في مجموعة كبيرة من الآلهة. مضافاً إلى أن اللغة السنسكريتية هي التي ساعدت على تداول اللغة الأوستائية، ولا بأس أن نعرف أن الإيرانيين ـ في العصرالساساني ـ لم يكونوا يعرفون اللغة الأوستائية. من هنا كانت ترجمة الأوستا إلى اللغة الپهلوية ترجمة ناقصة. وكان الأوروبيون أول من قرأ اللغة الأوستائية بمساعدة السنسكريتية. وعند ملاحظة لغة الـ «گات»، وهي الأغاني المنسوبة إلى زرادشت، وأناشيد «ريگودا» الهندية نجدهما متقاربتين. فهاتان اللغتان كالأختين في الواقع. هذه العلاقة الوثيقة بين اللغتين تدل على أن الناطقين بهما كانوا في زمنٍ ما معاً. مضافاً إلى ذلك فإن تاريخ ولادة زرادشت صار محلّ جدل بين المؤرِّخين؛ فبعضهم اعتبر ولادته في القرن السادس قبل الميلاد؛ والبعض الآخر جعل ولادته في القرن الثامن قبل الميلاد. يذهب أستاذ الإيرانيات في جامعة هارفرد إلى أن لغة الـ «گات» ترجع ـ بحسب علوم اللغة ـ إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، أي إنها أقدم من طقوس ولغة «ريگودا». فعندما تقرأ أغاني الـ «گات» تواجه فكراً أفلاطونياً، ومنهجاً فلسفياً تجريدياً عالياً. وكانت الرؤية الكونية لهذه اللغة أفلاطونية إلى حدٍّ كبير. ولما لم يستطع مترجمها «دانستر» أن يصدق بوجود الأفلاطونية قبل أفلاطون نفسه ذهب إلى أن زرادشت كان متأثِّراً بأفلاطون. ومن هنا قدّم تاريخ ولادة زرادشت. والحقيقة أن جميع الآلهة الهندو ـ أوروبية التي تقع في النظام الثلاثي، التي بحثها «دومزيل»، قد تحولت في الفكر الإيراني الزرادشتي إلى مفاهيم تجريدية. وكان تأثير إيران والمعتقدات الإيرانية، من قبيل: الاعتقاد بالآخرة، ومفهوم الشيطان (الشر)، والملك، وحتى مفهوم الصراط المستقيم «چينوت»، كبيراً جداً في الفكر اليهودي. وقد أشار اليهود في دراساتهم إلى أيّ حدٍّ كانت اليهودية متأثِّرة بإيران، ويعود ارتباط إيران باليهودية إلى عصر كوروش، وإلى العلاقة الدائمة لليهود بإيران. وأنا أرى أن المسيحية هي الأخرى تأثَّرت بذلك بواسطة اليهود، وهو ما حصل للإسلام أيضاً. إن الفرق الأساسي بين الأديان الإبراهيمية والأديان الأخرى هو أن هذه الأديان أديان توحيدية بالمعنى الأخصّ. وطبعاً الأديان الأخرى هي أديان موحِّدة أيضاً. فلا يقال مثلاً: إن الهنود ليسوا موحدين، لكن إلى جانب توحيدهم هذا لديهم آلهة أخرى يمكن أن يعبِّروا عنها بالأسماء والصفات. فهناك نوع من التعددية في الأديان غير الإبراهيمية لا توجد في الأديان الإبراهيمية. ففي تلك الأديان [غير الابراهيمية] تسامح أكثر؛ لأن في هذه الأديان سبلاً متعدّدة، وتقبُّلاً لتعدُّد المعتقدات والآراء. فالهندوية لما كانت رحبة، وفيها حالة من التقبل، إلى حدّ تحمَّلت البوذية فيها، بالنحو الذي اعتبر بوذا أحد فروع فيشنو، والذي جاء للتضليل، لهذا السبب تجد في هذا الجانب اعتقاداً بتكثُّر الآلهة، والتعددية في الاعتقاد. وفي الجانب الآخر حصرٌ دينيٌّ، يتجلى بإله الموحِّدين، إلى حدّ الادعاء أن جميع الأنظمة التوتاليتارية (Totalitarisme) (الشمولية) منبثقة من الأديان الإبراهيمية، سواء كانت المسيحية أم غيرها؛ لأن شمولية تلك الأديان تنسجم مع هذه الحالة. ويجب الاعتراف أن الإمامة في التشيع تلعب دوراً مؤثِّراً، حيث إن الامامة في الإسلام تؤدي دور المهايانة في البوذية؛ لأن البوذية تنقسم إلى قسمين: الأول: البوذية القديمة، وهي أسطورية؛ والثاني: القسم المسمى بالمهايانة (بالسنسكريتية: المركبة الكبرى)، وطريقة الـ «ساتوا». فعندما يصل البوذيون إلى مرحلة الـ «نيرفانا» يقومون بدور الوساطة، حيث إن البوذية تنكر الوجود ولا تعتقد بشيء سوى استمرار اللحظات التي تظهر بشكل متعاقب، واستمرار هذه اللحظات هو الذي يوهم الوجود، مثل: أمواج البحر التي تتالى واحدة بعد الأخرى، أو الجمر الذي إذا دورته يبدو كحلقة مشتعلة. إن البوذية في الحقيقة تعتقد أن الدنيا ليست إلا وهماً و«سماسارا» (samsara)، أو بحراً متعاقباً، وسوف يكون مقابل ذلك تحرُّر تامُّ، وهو ما يعرف بـ «نيرفانا». الظريف في الأمر أن العالم الغربي اليوم يهتم أكثر من ذي قبل بالبوذية؛ لأن الميتافيزيقيا اليوم أصبحت بوذية في الحقيقة، ولا توجد فيها أية حقيقة مطلقة. والأمر الذي سأتناوله في كتابي القادم هو أن الرؤية الكونية في عالم اليوم تنحو منحى الرؤية البوذية. فعالم اليوم هو عالم تكثُّر اللحظات، وعالم مبعثر، ولاتوجد فيه أية حقيقة مطلقة. والعلم هو الآخر يضاعف من ذلك أيضاً: قانون النسبية وقانون كوانتم وغيرها. وهذا يفضي إلى أن الإنسان لا يعرف هل أن قانون العلية موجود أم لا؟ وأن شيئاً ما يمكن أن يحدث أو لا؟ يكون أو لا يكون؟ إن جميع الأفكار الرائجة في عالم اليوم تجعل البوذية مستعذبة من قبل الغربيين.
الأديان بين الوحدة في الجوهر والاختلاف في التمظهرات ــــــــ
^ لو سلَّمنا بأن هناك نوعاً من الوحدة الجوهرية بين الأديان فمن أين ينشأ التفاوت في الأديان حينئذ؟
_ في الحقيقة لا أدري. لكنني أعتقد ـ وقد اهتم العرفاء بهذه النقطة أيضاً ـ أن هناك فرقاً بين مفهوم الألوهية والربوبية، فإن الثاني يتضمن معنى ثقافياً، بخلاف الأول، فإنه مطلق بلا تعين. وهذا ما يقول به العرفاء أيضاً. وقد فرق مايستر اكهارت بين (دئي تاس) و(دئوس (deus)، فالأولى هي الألوهية بالمعنى العام، لكن الثانية تعني المسيح. ويقبل ابن عربي هذا التمييز أيضاً. وقد التفت جميع العرفاء إلى هذا التفاوت. وكذا فرَّق شانكارا بين (برهمن)، وهو الإله الخنثى، الذي لا تعيُّن له، وبين (فيشنو) الإله العيني. وفي رأي الألمان يدل «Gottheit» على الإلوهية و«Gott» على الإله المتعيِّن. إن ميدان الاختلاف في الآلهة العينية صراع عنيف. كل واحد يعتبر إلاهه هو الأفضل. ويمكن للحوار بين الأديان أن يتحقَّق إذا كان الجميع يتحلى برؤية يتعالى فيها عن هذا التمايز الحاصل في موضوع الألوهية. وهي بالتأكيد حاصلة لدى العرفاء. فلو جلس مايستر اكهارت وابن عربي وشانكارا وأمثالهم جنباً إلى جنب لكانوا متوافقين ومتوائمين. ولكن لو هبطنا عن هذه الرؤية درجة لحصل الجدل والنزاع دون أدنى شكّ. فهناك صراع بين المسيحيين من الكاثوليك والبروتستانت، وبين المسليمين من الشيعة والسنة، وهذا الصراع قائم بين أتباع الديانات الأخرى. وليس الحال كذلك في الهند. لقد أحيي الفكر الهندوسي مرة أخرى في القرن الثامن على يد شانكارا ورامانوجا وكوماريلا. وقد هزم الهنود آنذاك البوذيين بالجدال والمناقشة. كان البوذي يأتي مع تلامذته ويجلسون عند الهندوسي، ويبدأون بالبحث والنقاش. وإلى المقدار الذي قرأته من تاريخ الهند لم يحصل صراع وخشونة في تلك البلاد. فالهند بلاد رحبة.
من مظاهر الاختلاف ـــــــ
^ إن التمايز في الأوصاف، مثل: التعددية، وقبول الآخر، والتسامح، هو مستوى من مستويات التمايز بين الأديان. ولكن توجد هناك مميزات أساسية، كالاتصاف بقوة الرؤية التجريدية، والإله غير المتعين، وعدم وجود نبيّ ولا نص سماوي ثابت، وتاريخية النص في الأديان الشرقية، ومن جهة أخرى وجود النبي والنص القاطع الذي لم يترك شيئاً، والإله الشبيه بالإنسان في الأديان الغربية أو الإبراهيمية. لماذا كل هذا الاختلاف الشاسع؟ هل يعود ذلك إلى العوامل الجغرافية أو الثقافات غير الدينية التي تسود تلك المجتمعات؟ من أين نشأ ـ حقاً ـ هذا الاختلاف الكبير؟
_ الحقيقة لا أدري. لابد من دراسة جميع الأديان، حتى مثل أديان ما بين النهرين، وأديان السومريين. وهي قديمة جدّاً، تجد فيها أساطير مشابهة. السبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله تفسير هذا الاختلاف بأسلوب عصري هو الاستعانة بنظرية كارل يونج، الذي يقول بضرورة العودة إلى النماذج والطرز الأولية، أو ما يسمّى بـ «الآركيتيب» (archetype) لدى الأقوام والشعوب القديمة، فيلزمنا إذاً الرجوع إلى تلك النماذج لنرى ما هي العقلية التي كانت حاكمة على العرب أو اليهود؟ وما هي الذهنية السائدة آنذاك؟ فلو رجعنا إلى حضارة سومر وبلاد ما بين النهرين نرى أن تلك الحضارات أقدم من الحضارة الهندو ـ أوروبية. يبدو أن الهندو ـ أوروبيين كانوا يعيشون في القرن الثاني قبل الميلاد، ما يعني أنهم شعوب جديدة، كالبربر، في مقابل الحضارات الأقدم منها، مثل: الهند، حيث إن ثقافة الـ«موهنجو دار وهرابا» تصل إلى ألفي سنة قبل الميلاد. فلو لاحظنا هذه الحضارات من جهة، ولاحظنا حضارة سومر وإيلام في إيران القديمة من جهة أخرى، لرأينا أن بين هذه الحضارات وجوهاً عديدة مشتركة لا نجدها في ثقافة شعوب الهندو ـ أوروبية.
جوهر الدين ـــــــ
^ لو سمحتم، حبّذا لو نرجع إلى الرؤية الوحدوية للأديان. فبغض النظر عن وجوه الفرق ما هي حقيقة الوحدة الموجودة في جوهر الدين؟ وهل يوجد أساساً هكذا جوهر واحد؟
_ أجل، حتى في الدين الشامني «Shamanism»([4])، وهو أقدم شكل نعرفه من الأديان. فقد كشف عن تاريخ كهوف في جبال جنوب فرنسا قبل عشرين ألف سنة، أي إنها تعود إلى العصر الجليدي. وقد عثر في تلك الكهوف على رسوم رائعة جداً، وكانت هذه الرسوم موجودة في عمق تلك الكهوف، وحتماً كان فيها مفاهيم دينية، وشمنية على وجه الخصوص. إن للشمنية علاقة مباشرة بالأمر المقدس، ولكن ليس فيها إله، حيث إن مفهوم الإله ظهر بعد المنعطفات التي مرت بها الأديان، فإن مفهوم الـ «Sacred» أو الأمر المقدس لا عينية له. وأعتقد أن خصوصيات الإله الثقافي ومزاياه، سواء كان إله المسلمين أم غيرهم، هو السبب في الاختلاف بين الأديان، فإن سبب كون البوذية بهذه الجاذبية هو عدم وجود الإله في معتقداتها، طبعاً لا يعني عدم وجود الإله عدم وجود شيء مقدس، بل قد يكون موجوداً بشكل أقوى. أنا أعتبر هذه الآلهة آلهة ثقافية ترتبط بثقافة كلّ قوم. لكل قوم إلههم الخاص.
^ بناء على ذلك يمكن أن نستنتج أن الاعتقاد بالأمر المقدس هو الجوهر المشترك بين الأديان؟
_ نعم، ولكن بمعناه الأعم.
^ مع التأكيد على «الأمر المقدس» المشترك بين الأديان هل يمكن أن نطلب من الذين يعتقدون بالإله الثقافي أن يهملوه؟ ألا يثير ذلك إشكالاً؟
_ أظن أنه لو كتب لهذا القرن التوجه لأمر لكان في حركة نحو المعنوية فقط. لا أدري هل انتبهتم إلى أن عدد الجماعات الدينية الموجودة في العالم المعاصر ازداد بشكل كبير. مما لاشك فيه أن الانسان في كل عصر وزمان لا يمكن أن يعيش بدون أمر مقدس، وبما أن الأديان التاريخية في وضعها الحالي أصبحت قديمة، وليس لديها الحلول لحاجة الإنسان هذه، اتجه الإنسان إلى سبل أخرى، وبعضها خطر جدّاً.
وكيف كان فإن هذه علامة وجود خلل وحاجة قطعية لدى الإنسان، وحتى المجتمع الغربي مع كل هذا التطور الهائل هو في الحقيقة مجتمع أجوف. صحيح أنه أبتكر حلاًّ لمشكلة الحرية الفردية، والجميع يتمتع بالحدّ الأدنى من الضمان الاجتماعي، ولكن حياتهم فارغة، وهي بحاجة إلى المعنوية. ولما عجزت المسيحية عن تأمين هذا الغذاء المعنوي فمن الطبيعي أن يتجه الإنسان الغربي إلى مدارس اليوغا والبوذية وطقوس المعرفة الباطنية، وإلى كتب كارلوس كاستاندا. لاحظوا مدى الجاذبية التي يتمتع بها «دون خوان». هذه الكتب تتحدث عن نحوٍ من الشامنية، أي دين أمريكا اللاتينية وسكانها الأصليين. وتوجد الشامنية كذلك في سيبيريا والقارة الأمريكية، وكذا هو دين سكان أستراليا الأصليين. ويعتقد سكان أستراليا الأصليين أن الكلام جيد للغناء فقط، ولابد أن ينتقل الفكر عن طريق التخاطر وذبذبات الروح. إن تعاليم بوذا واليوغا وفنون الحرب اليابانية التي لها تلك الجاذبية في الغرب كلها شواهد على الحاجة الروحية للغربيين.
الدين والمعنوية، معالم رؤية جديدة ــــــ
_ أنتم تؤكدون دائماً على أن المستقبل للمعنوية. ويبدو أن مرادكم من المعنوية ليس هو الدين المؤسساتي، فإذا كان كذلك كيف تفرقون بين الدين والمعنوية؟ وبعبارة أخرى: ما هي المعالم المميِّزة للرؤية الكونية المعنوية؟
^ أعتقد أن المعنوية هي ذلك الجانب من الدين الذي يتمتع بالأبدية، ولا يتغير، ولا يتبع تغيرات الزمان، كمفهوم المبدأ والمعاد وغيرها، الموجودة دائماً، وتتعلق بـالحياة الوجودية للإنسان، وتتشابه في كافة الأديان. فلو استقرأنا جميع العرفاء الكبار في العالم، سواء كانوا من الشرق أم من الغرب، من اليهود أو من المسيحين أو من المسلمين، للاحظنا أن فهمهم وتفسيرهم للقضايا الأساسية متقارب جدّاً، ولكن ما إن ندخل إلى مسائل الفقه والقانون والقضايا التاريخية والزمانية حتى تطفح الخلافات، ويسود الجدال.
في المعنوية جنبة عرفانية أكبر من اللحاظ الديني بالمعنى التاريخي للكلمة. مضافاً إلى ذلك فإن هناك شعور بنوع من الحاجة للمعنوية في دول مثل أمريكا وأوروبا بعد الثورة الصناعية، إلا أنهم أشبعوا هذه الحاجة بطرق منحرفة عوجاء؛ لأن المسيحية ـ وهي الدين الرسمي، والذي صار اجتماعياً جدّاً ـ لم يشبع تلك الحاجات. إن لدى الشعوب هناك رغبة وعلاقة بالأديان الأخرى، سواء كانت تلك الأديان الشرقية، مثل: الدين البوذي أو الأديان الهندية، أم الأديان والجماعات العجيبة الغربية، التي اتخذت أشكالاً خطرة، كأن ينتحر مجموعة من الأفراد بشكل جماعي، وينتظرون أناساً من كواكب أخرى ليأخذوهم، وهناك أوهام وخيالات كثيرة. فلو اعتبرتم تلك علامات على الحاجة فستجدون قطعاً الكثير منها لدى الإنسان الغربي؛ لأنه وصل إلى أكثر ما يتمناه. يقول أحد الكتّاب البرتغاليين في حوار أجري معه حول الأدب الفرنسي: لم يتبقَّ لفرنسا أدب جيد بعد؛ لأن الفرنسيين لم تبقَ لديهم قضية.
إن لدى الدول الفقيرة أدب قوي؛ لأن عندهم قضايا ورهانات صعبة. لقد حلت الكثير من القضايا لدى المجتمع الغربي، فهي دول يسودها القانون، وأصبحت فيها الأمور واضحة، ويتقاضى فيها المواطنون رواتب جيدة، وقد حُلَّت الكثير من قضاياها الدنيوية، ولكن مشاكلهم الروحية لم تحلّ بعد. حياتهم جوفاء، وهم أناس يعانون الوحدة. لا توجد لديهم أسر متماسكة كما هو موجود عندنا. علاقاتهم الإنسانية والعاطفية محدودة جدّاً. ومن جهة أخرى فإن شعورهم بالوحدة وإحساسهم بالفراغ والوحشة جعلهم يتشبَّثون بشتى الطرق والحلول التي لا يمكن اعتبارها حلولاً معنوية. إنهم ـ بشكل عام ـ يسلكون كل طريق يعلِّمهم الفرار والهرب. في البلدان مثل بلدنا لم تحلّ الكثير من القضايا، ولم نصل بعد إلى المجتمعات المتحضِّرة، ولكن من جهة أخرى بما أن التعاليم العرفانية والدينية قوية لدينا صارت قضايانا على عكس قضاياهم بالضبط. نحن نحاول تدريجاً أن نؤسِّس لما عندنا، في حين قد أصبحت هذه الأمور عندهم متداولة، وحوَّلوها إلى أمور ذاتية، لا نقول بأنها ذاتية مئة بالمئة، بل عليهم رعايتها والمحافظة عليها. وعلى أية حال عندما نقارن نجد أن قضايانا غير قضاياهم، ومشاكلنا غير مشاكلهم. إن مشكلتهم هي افتقارهم إلى المعنوية والأديان النوعية، ومشكلتنا هي تفكيك المسائل وحلّ عقدها. نحن نعيش في واقع اختلط فيه كل شيء، ولا ندري حقيقة أين يجب أن يكون مكان كل واحد من الأشياء؟ وما الذي يريده كلّ واحد منا؟
إن تنظيم أوضاعنا يستهلك منا الكثير من الطاقة، وعلينا أن نستهلك طاقة عظيمة لحلّ هذه المشاكل؛ لأننا دخلنا عالماً جديداً. فمنذ القرن التاسع عشر غصنا في واقع جديد وعالم آخر، لم يكن لنا في صناعته وتطويره أيّ دور، فقد انهال هذا التقدم على رؤوسنا كالسقف. ولهذا السبب كان مشكلة كبيرة بالنسبة لنا. لقد ولج الغربيون العالم الجديد بشكل تدريجي، ودائماً ما يتطابق مستوى الوعي لديهم مع التغييرات الاجتماعية والعلمية الجديدة، لكننا دخلنا على حين غرّة إلى صخب عالم غريب لم نكن على استعداد لاستقباله والتعامل معه. يسألني الشباب غالباً: بالتالي ما هو الدين؟ ما هي الأصالة؟ ماذا يعني التجديد؟ كيف لنا أن نتعايش مع كل ذلك؟ إن حل هذه العقد صعب جدّاً؛ لأن شطراً من وجودنا لا زال حتى الآن يسير في قالب آخر، وشطره الثاني ولج التغيرات الهائلة التي حدثت في العالم. وغالباً ما لا يتطابق هذان الاثنان، بل إن بينهما قطيعة، وهي مؤلمة بلا ريب. أعتقد أن المعنوية هي ذلك الشطر من الأديان، سواء كان الإسلام أم غيره، الذي لا يتأثر بتحوُّلات الزمن، وفيه جانب أزلي وأبدي.
الدين والعالم الحاضر ــــــ
^ هناك مجموعة من الحاجات الوجودية، وهي أزلية وأبدية. وإلى جانب ذلك هناك مقولات ميتافيزيقية يبدو أن لها نوعاً من البقاء والخلود أيضاً. مثلاً: يحصل أن نشعر في بعض الأحيان بالوحدة، ويقال: إن هذا الشعور بالوحدة، أو كيفية التأقلم مع الموت، قد كان مع الانسان من أول وجوده، وسيبقى معه، وهو في الحقيقة من الحاجات الوجودية. ولكننا نتحدث أحياناً عن أصل المبدأ والمعاد أو أصل أن العالم لاينحصر بعالم الطبيعية. فهذه مجموعة من المقولات والقضايا الميتافيزيقية. فهل مرادكم من المعنوية تلك الحاجات أو تلك المقولات؟
_ إن هذين الأمرين مترابطان. نحن لا نعلم جواب أسئلة من قبيل: ما معنى الحياة؟ وما معنى الموت؟ وأمثالها. وقد أجيب عن هذه الأسئلة في الأديان. إن الإنسان المتدين كالإنسان الذي لديه عنوان وخارطة، لكن الإنسان غير المتديِّن ليس لديه عنوان، وعليه أن يبحث عن الطريق بنفسه. فمثلاً: الطريق الذي تقترحه المدرسة الرواقية هو أنها تعتمد رياضة خاصة. وأنا أرتضيه كثيراً. ومذهب الخيام شبيهٌ جداً بهذه المدرسة أيضاً. وكيف كان فإن مثل هذه الأجوبة موجودة. والإنسان يحتاج إليها ما دام إنساناً، وإن كان تفسيرها والتعبير عنها يختلف من شخص إلى آخر. هذه الأجوبة جاءت بها الأديان. واللطيف أنها متشابهة ومتوافقة، فكلها تتفق على أن هناك عالماً آخر، وأن هذه الدنيا ستتغير، وكلها تؤمن ببقاء الروح، وبآخر الزمان، وبما بعد الموت، حتى أن كل قضية الأديان القديمة ـ مثل: ديانة مصر القديمة ـ هي الحياة بعد الموت. وإن مفاد كل الرسوم في مصر القديمة عبارة عن عبور من غروب الشمس والوصول إلى الساحل هناك، حيث يأخذ الإله «أوزيريس» قلب الإنسان ويزنه، ليتضح بعد ذلك هل أن فيه ملكات الخير أو الشرّ؟ جميع الأديان تواجه مثل هذه القضايا، وجميع البشر بحاجة إليها. ربما يكون ذلك بسبب التركيب السيكولوجي للإنسان، أي إن الإنسان ما دام إنساناً سيبقى يصنع تلك الصور الأزلية.
لا شك أن الأجوبة السطحية للأديان لا تجدي نفعاً بالنسبة لإنسان القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، وهي ليست كافية ـ بطرحها الموجود على الأقل ـ. إن عالم اليوم عالم مفتوح، ويختلف عن عالم الأمس، حيث كان كل إنسان يعيش في عالمه الخاص، وله هويته المتميزة. فعندما ابتدأ «ماركوبولو» حركته في القرن السادس عشر الميلادي من فنيسيا شمال إيطاليا، ومرَّ بإيران، ثم ذهب إلى الصين، كان كلما وصل إلى منطقة وجدها عالماً متكاملاً بذاته، لا تربطها أية علاقة مع العوالم والمجتمعات الأخرى، وكأنّ هناك شمساً وتدور حولها مجموعة من الأقمار، ويكون لكل واحد منها زمان وتاريخ خاص به. ففي تلك العوالم أحدها ينفي الأخرى، ولابد أن تكون وقتئذٍ كذلك. ففي الوقت الذي تكون كل بلاد قائمة بذاتها ومستقلة فمن الطبيعي أن لا تتقبل البلدان الأخرى. ولكن عالم اليوم ليس كذلك. فاليوم رفعت الأستار، وازدادت فرص الاختيار، كما في عالم الفن، حيث تأخذ أنواعاً وعناصر فنية من ثقافات مختلفة، وتؤلف بينها، لتخلق منها أشكالاً جديدة. ففي المعتقدات تفعلون ذلك أيضاً. تأخذون شيئاً من هذا المذهب، وفكرة من ذاك، ثم تكوّنون منهما عقيدة تنسجم معكم. كما تصنعون ذلك تماماً مع الخياط، عندما تودعونه قماشاً ليخيطه على قياسكم. لإنسان اليوم الحرية في الاختيار، وقد اختلطت الثقافات والأفكار أيضاً، وامتزجت الرؤى أيضاً. فمن الطبيعي أن يكون لي حق الاختيار باعتباري ابن هذا العصر. وبسبب انفتاح العالم وعولمة المعلومة فأنا أمتلك معلومات واسعة. اليوم يمكن أن نكون في آن واحد في كلّ مكان، ولا سيما مع ثورة المعلومات التي اختزلت الزمان والمكان. في هذا الزمن يمكنني أن أكون في مؤتمر أرتبط من خلاله بلندن ونيويورك وباريس. في الماضي لا يمكن أن يفعل ذلك إلا ذوو الكرامة، أما في عالم اليوم فالجميع يمكنه ذلك. في هكذا عالم لا تنفع الهويات القديمة لإشباع الحاجات المعاصرة، وليس السبب في ذلك أن حاجات الإنسان قد تغيرت أيضاً، فنفس تلك الحاجات التي كانت عند الإنسان البدوي قبل عشرة آلاف سنة هي عندنا الآن. إن حاجاتٍ مثل: الخوف من الموت، والخوف من العاقبة، موجودة منذ أن وعى الإنسان نفسه، بل حتى في عصر النيادرتال ـ الذي يعد في مرحلة سابقة عن «هومو ساپيانس sapiens Homo» من حيث التحول البيولوجي ـ فكانت لديهم طقوس معينة لدفن الموتى، وكانوا يدفنون معهم بعض الأشياء أيضاً، وهذا يدل على أنهم كانوا يعتقدون بأمور نحن لا نعرف كنهها بالضبط.
ما هو الحل، الدين الرسمي أم العرفان الروحي؟ ـــــــ
^ في ما يتعلق بالعودة إلى المعنوية يوجد في العالم المعاصر نوع من الفوضى، والتعدد العبثي، ونوعٌ من عدم المسؤولية. أليس من الأفضل إحياء الأديان القديمة وطرحها بشكل عصري؟ لأن التكثُّر والتفرُّق يؤدي إلى مشاكل أخرى، من قبيل: سحق الثقافات، والخصومة، واضمحلال الثقافات المحلية للمجتمع، وجعل الدين والثقافة بحسب الأفراد والأشخاص. فالعالم من جهة يصبح قرية واحدة، ومن جانب آخر يأخذ الدين الطابع الشخصي. أليس من الأجدى السعي إلى ترميم وإحياء تلك الثقافات الدينية القديمة؟
_ ذلك شيء جيد بالتأكيد. لكنني أعتقد أن علينا نحن المسلمين أن نهتم بأمر واحد فقط، وهو أن ما يطرح اليوم بوصفه ديناً ليس هو السبيل لحلّ مشاكل الإنسان المعاصر. فالحل الوحيد الذي يمكن أن نساهم فيه في النهضة العالمية هو العرفان، والذي تتوافر عليه إيران. فلعل إيران من أغنى البلدان في هذا المجال. فلو اعتبرتم الفلسفة بمعناها العام صوراً وأشكالاً رمزية، كما يذهب إلى ذلك «كاسيرر»، فإن إحدى الثقافات المشرقة والغنية هي ثقافة إيران الإسلامية. ولكن لاتوجد طرق أخرى نموذجية أفضل من الجمهورية الإسلامية، حيث يكون فيها الدين حاكماً، وتسعى أن تضفي على المجتمع قدسية جديدة. ولكنها ابتليت بمشاكل العالم المعاصر. مضافاً إلى ذلك فإن أية ثقافة في العالم اليوم لا يمكنها منفردة إشباع حاجات الإنسان المعاصر. في الواقع نحن لسنا هوية واحدة، كلنا متعدِّدو الهوية. لا يمكنكم بالأدوات التي تمدكم بها الثقافة الهندية أو البوذية أو الإسلامية بمفردها أن تفهموا القضايا المعاصرة. لا يمكن أن تفهموا ما معنى السوق الحرّة؟ وماذا تعني العولمة globalization؟ وإلى أية جهة تنحو العلوم الجديدة؟ وهل أنتم مضطرون للاستعارة من ثقافة أجنبية؟ فبمجرد أن تأخذوا الأدوات من ثقافة أخرى فإنكم ستأخذون أيضاً مفاهيم وأفكار تلك الثقافة أيضاً. وبالتالي لايمكننا أن نكتفي ذاتياً، أي لا يمكن لأي شخص أن يصل إلى الاكتفاء الذاتي. وبما أننا كذلك، واضطررنا إلى العيش جنباً إلى جنب في دنيا متنوعة، على شكل فسيفسائي، فنحن إذاً مجبورون على الاختلاط، وإنْ لم نُرِدْه. نحن نعيش اليوم في عالم متعدِّد ومطرز بألوان مختلفة، فلو أخذتم مقطعاً عمودياً من الأرض لشاهدتم كل طبقاتها مترتِّبة واحدة فوق الأخرى، ولكن لو جعلناها بشكل أفقي لأصبحت إحداها في عرض الأخرى. بالضبط هكذا حصل في دنيا اليوم، أصبح الدين الشامَني في عالم اليوم وحتى أحدث النظريات الجديدة لعصر المعلومات كلّها إلى جنب بعضها. وهذا التحول يحصل لأول مرة. ولم تعُدْ للفلسفة الغربية هي الأخرى كلمة الفصل، بحيث تقدَّم على كل شيء. نحن اليوم نعيش في دنيا يتحاور فيها كلٌّ مع الآخر. وهذا مدعاة للاضطراب؛ لأنه ليس واضحاً ماذا سيقول. نحن نعيش الآن في ساحة لتصنيع الهجائن والزخارف، حيث امتزجت جميع الأفكار مع بعضها، ولا مفرّ من التعايش مع بعضنا. فهذا من جهة مضلٌّ جداً؛ إذ لا يُعلم مَنْ هو الذي يقول الصواب، ومن جهة أخرى هو مثير للاهتمام. ولأضرب لكم مثالاً: إن أكثر آداب العالم جاذبية اليوم هي آداب الأطراف، التي تكتب باللغات الإسبانية والإنجليزية. والآداب التي يكتبها الهنود بالإنجليزية فيها جاذبية كبيرة؛ لأنها آداب أناس يعيشون بين ثقافتين. والموسيقى أيضاً كذلك. وآدب أمريكا اللاتينية فيه متعة أيضاً؛ لأن هناك ثلاث ثقافات امتزجت ببعضها في هذا الأدب: 1ـ الثقافة الإسبانية، وهي الثقافة السائدة، 2ـ الثقافة المحلية؛ 3ـ ثقافة العرق الأسود، فتجد في هذا الأدب الواقعية الساحرة المأخوذة أساساً من حياتهم. ومن نماذج ذلك: رواية «مئة عام من العزلة»، لغابريل ماركيز. لا داعي أن نذهب بعيداً فإن الأمور التي تحدث في مجتمعنا اليوم غريبة وعجيبة جداً. فلو اقتطع أحدنا اليوم فترة من أوضاع إيران، ووضع ما تكتبه الصحف وما يقوم به الشباب من أعمال، لواجه مشاهد عجيبة. نحن أمام عالم ما وراء الواقعية، عالم اختلطت فيه جميع مجالاته ومكوِّناته. إن وجود هذا العدد الكبير من المعجبين بالمولوي اليوم إنما حصل بسبب الجذبة العرفانية في أشعاره، والتي هي حاجة العالم المعاصر. وبالتأكيد فإن الدور التاريخي للأديان كان حاضراً وسيبقى، بشرط أن تبقى الأديان تعمل في مجالها. فالدين الذي يخرج من حيِّز اختصاصه، ويريد أن يحل كلّ قضايا الدنيا، سوف يتحول بلا أدنى شك إلى أيديولوجيا، وبمجرد تحوله إلى أيديولوجيا سيكون عرضة للآفات؛ لأن كافة الأيديولجيات معرضة للإصابة، وسيقع حتماً في صراع الأيديولوجيات، حيث لا توجد أيديولوجيا حاكمة. والحقيقة أن ما بعد الحداثة تعني انتهاء عصر الأيديولوجيات والخطابات المهيمنة والمحتكرة. ولما كان كذلك فمن حق الجميع التمتع بحرية التعبير.
^ هل الأفضل هذا التشظي والانقسام، الذي أفضى إلى أن يتكلم كل فرد بلغته الخاصة، أم أن التقارب والانسجام هو الأفضل؟
_ لقد اختلطت الأوراق بحيث لا أستطيع القول ما هو الأمر الصحيح وما هو الخاطئ. فقد تجد أشياء قبيحة جدّاً، ولكنها تحصل الآن بشكل قسري. فمثلاً: الهندسة الوارثية خطرة جداً، وخلال سنتين سيظهر الأطلس الوراثي للإنسان، الذي يسمى بـ (جينوم =Genom ). أطلس الجينوم هذا يمكنه فهرسة جميع الجينات في الإنسان. ذلك الكشف العلمي الذي يمكنه أن يشخِّص المرض والإنسان في الرحم، ويعالجه، وأيضاً يستطيع أن يتصرف في الجينات الوراثية للإنسان، ولربما ألّفوا منها عملاقاً، فأنتم مضطرون إلى مواجهة هذه القضايا بحسن ظنّ وبلا خوف.
إيران وطاقة الانتقال إلى العصر الحديث ـــــــ
^ رغم وجود التعددية الثقافية في الغرب من كل جانب، لكن لما كان العمل بالقانون راسخاً هناك لم تؤدِّ تلك التعددية والحرية إلى انحلال المجتمع وتفسُّخه، وكأن هناك عروة وثقى (أي جامعاً) تشكّل قوام المجتمع. أما في البلاد التي لم يؤسَّّس فيها للقانون حتى الآن، مثل: بلادنا، فلو وصلنا إلى مرحلة التعددية ألا ينحل ـ برأيكم ـ الانسجام الاجتماعي تماماً؟
_ كانت هناك فجوة دائماً بين المواطن والسلطة. ودائماً ما تكون هناك حكومات سلطوية قاهرة. كان إيزوتسو يقول لي: لقد فرضت أمريكا علينا الديمقراطية. نحن ـ بالأصل ـ لم نكن ديمقراطيين. كان في اليابان نظام ديكتاتوري قوي، وهي الإمبراطورية السابقة. وكانت سلطة انفعالية للغاية، وهي التي قادت اليابان إلى الحرب. وفي النهاية نشبت الحرب مع أمريكا، والتي خسرها اليابانيون. وعلى أية حال لابدّ من الشروع من مكان وزمان ما. والمجتمع الإيراني اليانع مستعدٌّ لنوع من التعددية، ويمكنهم أن يتفهموا قواعد اللعبة. علينا أن نفهم أن الديمقراطية لم تَعُدْ أمراً كمالياً وتجميلياً. إنها حاجة، أي بدون الديمقراطية لا تسير الأمور، ولا تنتظم الأعمال. نشهد اليوم زوالاً للنظم الاستبدادية. انظروا إلى الاتحاد السوفياتي، فقد كان بلداً غنياً، وكانت نهايته مأساوية. الاتحاد السوفياتي كان يمدّ أوروبا والعالم بالحبوب، ولو لم تقع الثورة الشيوعية فيه لكانت روسيا أكثر تطوراً ممّا هي عليه الآن. كان الروس يعيشون لسبعين عاماً في الأوهام. كانوا يريدون تغيير الإنسان، والواقع أن الإنسان لا يقبل التغيير. روعة الديمقراطية أنها تتوافق مع التغيرات. أنتم لاتستطيعون أن تقوموا بالإصلاح من دون الديمقراطية؛ لأن الشعب لابد أن يشارك، وحينما يشارك ويبدع في المجالات المختلفة يجب أن تتوفر لديه الحرية وحقّ الانتخاب، فلو كان عليهم قَيّمٌ فإنهم لا يعملون. على الإنسان أن يشعر بالمسؤولية. ومسؤولية العمل ثقيلة جدّاً. ينقل دوستويفسكي في روايته «الإخوة كارامازوف» عن لسان إيفان، في ما يرتبط بالمفتش الأعظم، أن المسيح يعود مرة أخرى، فيعرفه المفتش، لكنه يقول: اقبضوا عليه، وأوثقوه، ثم يأتي ويتحدث معه، فيقول له: أنا عرفتك، لقد جئت مرة أخرى لتثير الفوضى، أنت علمت الناس التفرعن وحق الانتخاب، الناس يريدون اللهو واللعب، ولا يريدون الانتخاب، نحن نمتطي هؤلاء الناس، ونعطيهم وسائل اللهو واللعب حتى يلعبوا. ولكن الاختيار والمسؤولية عمل شاقّ، والإنسان غالباً ما يريد قيِّماً. لكن لا مفر من ولوج العالم الجديد، وإن كان صعباً بالطبع، لكن يجب الشروع من مكانٍ ما. وكلّما تأخرنا في الانطلاق فهو أسوأ. ومن المسلّم أن هذا العمل يتطلب ثمناً باهظاً. ألم يكن ثمن نفس هذه الثورة الإسلامية في إيران الحرب؟ فكل نمو له فرقعة عظم. فالمجتمعات التي تأخَّرت في تعاطيها مع هذه التحولات كانت خسارتها جسيمة. لكن يمكنها الوصول. أنا أعتقد أن إيران لا مشكلة لديها في تبنّي الديمقراطية؛ لأن أكثر شعبها من الشباب، وعندهم جهوزية عالية في القبول والتفاعل معها.
سؤال التوفيق بين التقليد والحداثة ــــــــ
^ كيف يمكن المحافظة على الميراث الثمين للأسلاف في خضم التغيُّرات الحاصلة في العالم الجديد؟
_ ظهر اليوم في العالم تصوُّر تبناه كثيرون. فهم من جهة يريدون الحفاظ على الطبيعة؛ لأن التلوث الحاصل أضرّ بكل شيء، ومن جهة أخرى يرون ضرورة المحافظة على الأديان والثقافات القديمة والتقاليد المحلية. فقد سعَوْا مثلاً للحفاظ على سكان الأَمازون المحليين، أو الشعوب التي تعيش في الجزر البعيدة، وحاولوا جاهدين الإبقاء على بضعة مئات آلاف من السكان المحليين لأستراليا؛ لأن ذلك يؤدي الى إثراء الطبيعة وإثراء الثقافات. لقد تبلورت مثل هكذا رؤية، وهي جيدة جداً؛ لأن الثقافة الشاملة تعمل على احتواء جيمع الأشياء وحفظها في محيط واحد. في مثل هكذا أجواء نحن أيضاً يمكننا أن نحافظ على كثير من الأشياء المتبقية. فقبل مئة عام لم تكن مثل هذه الرؤية موجودة. ففي ذلك الزمن كان العمل على محو كل قديم. أتذكر قبل خمسين أو ستين عاماً كان الناس يرمون كل قديم، وكانوا يقولون: إنه غير نافع، ولكن تبيَّن الآن أن لذلك القديم قيمة. وإذا استطعتم أن تعمِّموا ذلك على المعطيات الفكرية والثقافية والدينية يمكنكم حفظها أيضاً؛ لأن الرؤى قد اختلفت.
^ بنفس المقدار الذي تكون الغفلة عن التغيرات خطيرة فإن لفقدان التراث القديم كذلك أضراراً فادحة. ما الذي يجب فعله للحدّ من تكرار أخطاء الآخرين؟
_ أرى أن الاطلاع على التغيرات التي حدثت في الغرب في أواخر القرون الوسطى وبداية الإصلاح الديني مفيدٌ جدّاً؛ لأن الغربيين قد اجتازوا هذه المراحل. يقول فرويد: إن الإنسان دخل العصر الحديث بثلاثة شكوك كبيرة: الأول: هو الشك في علوم الفلك، وهو أن هذه الكواكب لا تدور حول الأرض؛ والثاني: هو شك بيولوجي، وهو أن آباءنا وأجدادنا لم يكونوا آلهة؛ والثالث: هو أن الانسان غير عالم. هذه الشكوك الثلاثة هي التي أنتجت الإنسان الحديث. وكل واحد منها بمفرده يكفي لجنونه. في علم النجوم (الهيئة) البطليموسي يعتبر الإنسان مركز الكون والعالم، ثم يصبح بعد ذلك حبة رمل في مرمية في هذا الكون الواسع الذي لا بداية له ولا نهاية، عندها شعر الإنسان بالغربة، وظهر من الشك الثاني أن أجداده كانوا قردة، وكانت نتيجة الشك الثالث أن هذا العقل الإنساني لا شيء في بحر من المجهولات. فكانت هذه شكوك مخيفة، جعلت الإنسان أجنبياً عن نفسه، وأوجدت فيه شعوراً بالكآبة. يقول باسكال: «إن السكوت الأبدي للفضاء الشاسع يخيفني». في الواقع يشعر الإنسان فجأة بالرعب. كنا نعيش في ثقافات لم نتعرف فيها على هكذا لون من الشكوك، ونعيش بهدوء وسلام. كان آباؤنا وأنبياؤنا معروفين، وكانت دورنا معلومة أيضاً، ولكن هذه الشكوك أطاحت بها جميعاً. حياتنا تبدأ بآدم وحواء، وتمتد إلى هذا اليوم، وكل زواياها واضحة. وجاء عصر التجديد غالباً ليوسِّع دائرة المجهولات. فكان الإنسان القديم يعلم بكل شيء. في الكتب القديمة توجد الأجوبة كلها. وفجأة تَلِجُون في عالمٍ كلّه أسئلة، وليس لديكم أيّ جواب. تغيرت كلّ القيم، واضطر كل واحد منا أن يصنع له عالماً لوحده، وأن يعطي معنى لنفسه. التجدد يعني العناء والغربة والابتداء من الصفر.
^ قد يسوغ لي القول: إن عصر الحداثة ظهر منذ أن رسخت إرادة الإنسان، حتى يتمكن من تغيير محيطه الخارجي، دون نفسه. فلاحظ الإنسان أن ما يراه لا يريده، وما لا يريده يراه. وكان أمامه أحد طريقين: الأول: ماذهب إليه الرواقيون، فكانوا يقولون: إن الخارج ليس تحت تصرفك، لذا عليك أن تغيِّر نفسك كي تريد ما تراه، وما لا تريده لا تراه؛ والثاني: تغيير الخارج. ومن هنا بدأت الحداثة، عندما قالت: بدلاً من أغيّر ذاتي سأغيّر الخارج؛ كي أصنع ما أريده، وما لا أريده أعدمه. فلو كان ذلك صحيحاً ألا يمكن القول: إن روح الإنسان الحديث روح غير دينية؟
_ أجل، ما تقوله صحيح جداً. وأضيف: إن الإنسان الحديث يصل إلى هذه النتيجة، وهي أن المؤسِّس لكل شيء هو نفسه، ولا وصي عليه. يقول كانْت: لا وصيّ دينياً عليّ، ولا أريد سلطاناً، ومن الطبيعي أن أكون مَنْ يقيِّم الأمور. إذاً فهو الذي أفرغ نفسه في النظام الذي صنعه بيده. يزداد الإنسان دهشة بما يجري في العالم الغربي. فما أكثر المؤسَّسات التي ابتدعت. فالإنسان أفرغ نفسه، ووقع في شبكة عظيمة من الارتباطات والتصنُّعات. ومن الطبيعي أن يفرغ نفسه، ولكن بما أنه مسؤول فقد قبل بهذه المجازفة، وهو أن يكون وحيداً. لقد أصبح «كريستوف كولمبوس» ولا يدري إلى أين يذهب، لكنّه اتجه إلى البحر، وسافر. وهذا ينطبق على الروح الغربية تماماً. ولكن لم يأتِ على الإنسان الشرقي زمان يفكر بأن يكتشف قارّة جديدة؛ لأنه لا يرى ضرورة لذلك. أجل، هذا نوع من الفكر المغامر. وهذا النوع من الحرية الذي يمكِّنني من القيام بكل ما أقدر عليه نشأ من تلك المجازفات والمغامرات، إلى أن ظهرت كثقافة عالمية، وليس فقط أمريكية، بل كما يقول أحدهم: إن أمريكا هي التي ستصبح عالمية، لا أن العالم يصبح أمريكياً. في داخل تلك الشبكة العظيمة يمكن أن تعثر على أعشاش، أو أن تحفظ أشياءً، ولكن لايمكنك الفرار منها أبداً. ولكي نواجهها علينا أن نعرفها جيداً. ولهذا كلّما كان علمنا أكثر كانت مواجهتنا أفضل، ولكن كلما غلقنا أبواباً أكثر وقعنا في فخها أكثر. وكلما دافعت أكثر فستصبح أضعف بذلك المقدار. عليك أن تذهب وتتعلَّم مثلما تعلَّم هو، لا أن تكفِّره وتقول: إنه سيّئ؛ لأنك بهذا العمل تجعل نفسك أكثر عرضة للإصابة؛ لأنه يملك ألف وسيلة، وسيدخل عالمك بلطائف الحيل.
^ أتصور أنه يمكننا أن نعرض تصويراً لطيفاً ومقبولاً عن ذلك الإله المتعيِّن، إلا أن يكون سبب عدم التوفيق أموراً أخرى، نعجز الآن عن حلّها.
_ في جميع الأديان هناك مجالٌ أو عالمٌ، ترجمه الأستاذ كوربن (Imaginal). وهذه الكلمة لا توجد في اللغة الإنجليزية والفرنسية من قبل. وقد وضع كوربن هذه المفردة ليشير إلى عالم المثال. ففي سلسلة عالم الوجود هناك عالم الملكوت، وعالم المثال، الذي توجد فيه الأرواح، لا بشكلها المادي والمرئي، بل بشكلها المثالي. وعلى ما أفهم فهذا العالم الوحيد ـ عالم التصاوير المعنوية ـ الذي يمكن للأديان من خلاله أن تفهم بعضها، ونموذجها هو قصة حي بن يقظان، أو القصص الهندية المشابهة. في هذا الفضاء، وهو فضاء التخيُّل الخلاق، يمكن للثقافات أن تتصل. فالدين البوذي ـ مثلاً ـ إنما تطور وانتشر دائماً عن هذا الطريق. أعتقد أن فضاء الارتباط الموجود هو عالم الخيال وعالم المعنى، ففي ذلك المستوى يكون الارتباط بين الثقافات أمراً ميسوراً، ولكن ما إن نَرِد الشريعة، وما هو الحسن، وما هو القبيح، حتى ينشب الصراع، ويبدأ الانقسام.
جدل الأنا والآخر ــــــ
^ لا يعيش الإنسان في عالم المثال، بل هو في عالم الناسوت، وحتى عندما يبدأ من نقطة الوحدة من الإله غير الثقافي والإله غير المتعين فإنه يرتسم في فهمه بلا شك تصويرٌ ثقافيٌ عن هذه الآلهة، فلا يمكن أن يُلزم الإنسان بالاعتقاد بإله عالم المثال.
_ أجل، الأمر كذلك، ولابد أن يكون كذلك. ولكن هنا تتَّحد ثلاثة دوائر في نقطة واحدة: الأولى: آلهتكم؛ والثانية: آلهة الآخرين؛ والثالثة: الإله الذي هو للجميع. وكما يقولون: إن الولاية والنبوة والرسالة ثلاث دوائر، وتعتبر الولاية مركزها، أي إن كل نبي هو ولي أيضاً، وكل رسول هو نبي وولي في نفس الوقت، لكن الأصل هو الولاية. فهنا يطرح هكذا أمر أيضاً. فلا يمكن تجاوز الإله الأساسي. فلو أدركني الخطر لا أقول: يا عيسى المسيح؛ ولو رأيت مناماً فسوف لن أرى بوذا في منامي، بل أرى الموروثات الثقافية لي. ولا شك في ذلك؛ لأن الدين في حدّ بعيد هو ثقافة، ولهذا لا يمكن انتزاعه من الناس؛ لأنه هويتهم، ولكن في دائرة أخرى يمكن أن يشمل غيره، وتلك هي الدائرة الثالثة.
^ إذاً ذلك العالم هو الذي يبوح بحقيقة الدين وروحه، لكن السؤال هنا: ألا يؤدي إلى إيجاد خلل ما مع شخصيتنا ومؤشراتنا الثقافية؟
_ كلا، لا يوجد أيّ خلل. برأيي إن تغيير الدين أغبى عمل يرتكب في العالم. أنا معجب جداً بالبوذية، لكنّني لست بوذياً؛ لأن الاسم والدين والوطن هو كالمصير بالنسبة لي، ولا أستطيع أن ألغي ذاتي، وأبدل اسمي بـ (جان) (John) مثلاً، وأدين بالمسيحية، فالدين والثقافة جزء لا يتجزّأ من هويتي ووجودي. وتوجد في عالم آخر هويات أخرى، وإذا لم أكن متمسِّكاً بهويتي فلا يمكنني أن أرتبط بالهويات الأخرى. هناك مقولة رائعة لهايدغر، وهي: كلما كانت جذور الشجرة أكثر عمقاً كانت غصونها وأوراقها أكثر وأكبر. فالإنسان كلما كان متمسكاً بثقافته كان فهمه للآخر أفضل، بشرط أن لا يكون اختزالياً، وأن لا يقول: أنا صحّ، وأنت خطأ.
^ أجبتم عمّا يتعلق بمنشأ التفاوت الشكلي بين الأديان أن هناك اختزالية في الأديان الغربية، وهذا لا يوجد في الأديان الشرقية. فهل هناك فوارق أخرى بين الأديان؟
_ التفاوت الآخر بينها هو في الشريعة والقانون اللذين لهما أهمية كبيرة في اليهودية، ولكن ليس لهما تلك الأهمية في الأديان الشرقية. فالبوذيون يعتبرون الـ «وداها» أو الـ «سوتراها» تساعد على التأمل. وطبعاً تلعب الآلهة المتعدِّدة لدى عوام الهند دور القانون والشريعة. ولكن منشأ هذا الاختلاف الاهتمام الذي توليه الأديان الإبراهيمية للشريعة، ونص الكلام الإلهي أو الوحي؛ لأن هذه الشرائع استوعبت كل شيء. ولا شك أن هذا الشمول والاستيعاب هو سبب الاختلاف والتمايز.
المنهج الأفضل في مقارنة الأديان ـــــــ
^ ما المنهج الذي تقترحونه من بين المناهج الموجودة في مجال دراسة الأديان؟
_ بما أني كنت أواجه الكثير من الصعوبات عند دراستي المقارنة فيمكن الإشارة إلى بعض النقاط المهمة في هذا المجال: الأولى: هي وجود الشبه والتناسب الكبير بين العناصر الأساسية للثقافات القديمة. لقد ألّف الكاتب الفرنسي سن أوسل في عام 1926 كتاباً مختصراً، أسماه «الفلسفة المقارنة» وقال فيه: يمكن أن تكون هناك نسبة تشابه كبيرة بين الأديان والمفاهيم. فمثلاً: العارف بالله الإيراني المسلم يتعامل مع الحق بنفس النحو الذي وضعه «جيوانكوتي» الهندي مع برهمن. فالعارف بالله الذي وصل إلى القيامة الصغرى، وشاهد قيامته في هذه الدنيا، في نفس الحال التي وصل إليها «جيوانكوتي» الهندي في الانحلال (پالايا). طبعاً هذا لا يعني أن برهمن والله، أو العارف وجيوانكوتي، قد اتحدا، بل إن بينهما وجوه تناسب وتشابه. ولكن ما إن ندخل إلى الثقافة الجديدة لا تجد أثراً لهذه الوجوه المشتركة؛ لأننا وقعنا في تقاطعات معرفية.
^ هل أن التناسب غير تامّ في الثقافات القديمة أيضاً؟
_ في كثير من المواطن تجد هذا التناسب حاضراً. فإننا وإن واجهنا بعض المصاعب عند المقارنة في بعض الموارد، لكنها فعالة في ثمانين أو تسعين في المئة من الحالات. ولكن ـ كما قلت ـ ما إن نضع هذه الموارد المقارنة في إطار الرؤية الجديدة تختلط كل الأشياء؛ لأنه لا مجال لتلك التركيبة وذلك الانسجام أساساً. إن هذه الأديان القديمة تعمل على نظام الـ «آنالوژي» (Indology)، حيث يقارن بين العالم الصغير والعالم الكبير، وهيكلة البعد الثلاثي في الإنسان، والعالم و…. ففي الحقيقة لدينا نوع من المشتركات الأساسية تعمل كالمفتاح، سواء كان في الإسلام أو في المسيحية أو في اليهودية. طبعاً هذه المشتركات لا دور لها في المنظومة البوذية، حيث ينقل العارف السويدي سدنبورگ ـ ومن المناسب أن تترجم مؤلَّفاته ـ بعض مشاهداته في عالم المثال كثمرة للسير والسلوك. ونفس هذه المشاهدات يمكن أن تجدوها في كتاب «گوهر مراد» ورسائل السهروردي، لماذا يتشابه كل هؤلاء؟ لأن هناك تجانساً ميتافيزيقياً بين هذه الأديان. وبتعبير فوكو: إنها في إبستيمة episteme([5]) واحدة، وتعمل بنظام الآنالوژي Indology. المعرفة تعني تأويل كتاب مدوَّن، وعمل العرفاء هو تأويل نثر العالم، وكشف المستور منه، سواء كان ذلك بواسطة عرفاء الهند، مثل شانكارا، الذي يعبر بمفهوم «أدنا أُسا»، وربما أطلق عليه بالإنجليزية supper imposition، ويترجم إلى الفارسية «برنهادن»، وهذا المفهوم يعني أن العالم توهُّم وضع على الحق. والمعرفة حركة معكوسة، حيث تفكِّك ذلك التوهُّم وتبدِّده. وكشف المستور من هذا القبيل أيضاً؛ لأن السير فيه من الظاهر إلى الباطن، وتزال الأستار عن الأشياء المحجوبة. ولكن في إطار الرؤية الجديدة لا يمكننا أن نفعل ذلك؛ لأن القواعد التي كانت تسيطر على هذه الثقافات انهارت. الحقيقية أننا دخلنا عوالم انفصلت وتشظت. وهذا التشظّي مهمٌّ جدّاً، حيث تغير مفهوم الإنسان، ومفهوم الوجود، وحتى مفهوم علاقة الإنسان بالعالم. ولذا فإن الرؤى الهندية التي تطرح في الغرب كثيراً لا تتطرق البتة إلى القضايا الميتافيزيقية الكلية، بل يعالجون القضايا التي تخصّ تكامل الروح الإنسانية، ويقولون: إن الإنسان بحاجة إلى التكامل من الداخل، وعليه أن يصل إلى سكون داخلي، ويقطع علاقاته الخارجية. والخلاصة أنهم يطرحون نفس رؤية العرفاء في السير والسلوك. وطبعاً إن الذين يخاطبونهم بحاجة إلى إرشاد، وكما يقول بوذا: يحبون مَنْ ينجّيهم من ألم الدنيا. وكذا فإن تعاليم كريشنا مورتي أو رين پورچه في التبت تصب في هذا الوادي أيضاً. إن التبت في الوقت الحاضر يتمتعون بنجاح لافت، فهم يعيشون في مناطق عديدة في فرنسا وأمريكا وغيرها من الدول، حتى أنهم يملكون صومعات ودير، والكثير من الناس تهرع إليهم للإفادة منهم، حيث توجد عندهم سنة حية أيضاً. ولهذا السبب فإن الناس يبحثون عن علاج، وهؤلاء هم الذين يوفِّرونه لهم.
^ ولكن ألم يكن وصف هذه العلاجات، التي ليس لها رصيد فكري وفلسفي، آفة ومرض؟ يعني إذا استطاعت الديانة الهندية أن تقدم علاجاً، وتوفِّر سكينة، فقد كانت تستند إلى نظرة فكرية وفلسفية، ولكن الآن لا يظهر للناس منها سوى الجانب العملي، الذي يبدو أن مداه قصير.
_ أجل، فهي من جانب ساذجة، ولكن لابد من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن الغربيين أساساً أناس جدّيون، لكنهم في نفس الوقت بسطاء، ويصدِّقون بسرعة، وليسوا صعبين مثلنا. نحن لا نصدق بكل شيء. كنت قد سافرت أخيراً إلى مصر، وكان السواح الأوروبيون هناك يكتبون كلّ ما يقوله المرافق، كما يفعل أطفال المدارس تماماً، أما نحن فلم نكن نصغي إليه، ولو استمعنا إليه لم نكن نصدِّقه بسهولة.
بين العرفان الحقيقي والعرفان الكاذب ــــــ
^ في هكذا أوضاع كيف يمكن تمييز العرفان الحقيقي من الدعاة الكاذبين؟
_ إن تمييز ذلك صعب. فإنني لا أعرف بأية ملاكات نميّز ذلك. فالوعّاظ المزيَّفون كثيرون، أمثال: هؤلاء الذين يأتون من الهند، حيث تشتمل مثل هذه الأعمال على تحايل وخداع عظيمين.
^ هل رأيتم شخصاً كان ـ برأيكم ـ صادقاً حقّاً؟
_ رأيت صادقاً، ولكنْ لم أرَ متبحِّراً. شاهدت في مدينة بنارس الهندية مجموعة من الأشخاص قد جلسوا في بيت ينتظرون حتفهم، فلم يكونوا يزاولون أي عمل آخر. تكلمت مع واحد أو اثنين منهم فوجدتهم أناساً نقيّين وصادقين، ولكن لم أجد ما يقنعني في كلامهم. طبعاً قد يبلغ الشخص مرحلة عالية من صفاء الباطن لكن هذا لا يدلّ على أن قدرته الذهنية عالية، بل قد يكون إنساناً بسيطاً. ورأيت عدة أشخاص صادقين، لكنّي لم أنجذب إليهم. فقد رأيت أحدهم في إيران، وكانت لديه قدرة عالية، لكنه كان محتالاً. إن العثور على أناس صادقين حقّاً صعب جداً. إذا كانوا أصلاء حقّاً فلا يمكن معرفتهم، وهم لا يعرّفون أنفسهم، وما إن يتداولوا كثيراً يصبح متَّجِراً.
حكاية عرفانية مع العلامة الطباطبائي ـــــــ
^ ذكرتم في كتاب «تحت سماوات العالم»([6]) حكاية لمشهد معنوي في حضور العلامة الطباطبائي، هل يمكن أن توضِّحوا أكثر في هذا الشأن؟
_ هذه الحكاية يسأل عنها الكثيرون. لكني لم أستطع الإجابة؛ لأنها كانت حادثة غير متوقَّعة. وبعدها صمت كلانا إزاء هذه الحادثة،وكأنّ شيئاً لم يحدث؛ وسبب ذلك هو عدم حضور أيّ شخص ذلك اليوم. كان حينها وقت الغروب، فكنت أنا والعلامة الطباطبائي جالسَيْن، وكان جوّاً خاصّاً، حيث لم يكن هناك نور كثير سوى مصباح نفطي وضع على الرفّ، وكان هناك شبح مضيء، فكان جالساً، وسألته سؤالاً غريباً، وشرع هو في الإجابة. بعد ذلك طرأت حال لم أفهمها، وحين انتهت لم يَقُلْ شيئاً، وأطرق برأسه إلى الأرض، وأدركت أن عليّ المغادرة، كانت حالته تشبه الإنسان الذي لم يحبّ أن ينكشف أمره، وكأنّها خرجت من يده، لكني أعتقد أنه كان يعيش حياة معنوية، فكان لا يتكلم كثيراً إلا أن يُسأل، وكان كلامه بهدوء وسكينة باللغة التركية. يحاول أن لا يتكلم كثيراً. يحب أن يبقى ساكتاً. كذلك لم يكن يحب البحث والجدل. وأحياناً لو طلبنا منه توضيح مسألة ما كان يجيب عنها، أما أخيراً فلا. رجال الدين يحبون البحث والنقاش فيما بينهم، لكنّه لم تكن فيه تلك الصفة.
^ ألا يمكن أن تصفوا لنا تلك الحالة؟
_ في تلك الحالة المعنوية كان لديّ شعور بالبهجة، كما لو أنّني كنت في سفر. كنّا يوماً في الشمال فعرضتُ عليه شرح السيد الأشتياني على مقدمة القيصري على الفصوص، وقلت له: ما رأيك بهذا الكتاب؟ فقال: هو كتاب جيد، لكن العرفان ليس هذه المفاهيم، العرفان مشاهدة، كل ما نقوله مجرّد كلام، لابد أن نشاهد. إنني أعتقد أنه كان مؤمناً بذلك، وكان أهلاً له.
هل فهم الدين متوقف على هجران التعقّل؟ ـــــــ
^ أي الأبحاث الدينية تحبه أكثر؟
_ الشيء الذي أعتمد عليه هم العرفاء. أنا أحب العرفاء كثيراً. أنا أعشق التائوئزم الطاوية، وأحب «جوانگ زي» كثيراً. في الدورة التي قضيناها مع العلامة الطباطبائي كان يحب أن يتعرَّف على كتب هؤلاء. وبما أنها لم تكن مترجمة نحاول أنا والدكتور نصر أن نترجم له، فكان يفسِّرها تفسير أستاذ «شانكارا». وكنا نتعجَّب من ذلك. مثلاً: كانت هناك جملة متناقضة في إحدى نصوص «الأوپانيشاد» تقول: «إن الشخص الذي يفهم هو لا يفهم، والشخص الذي لا يفهم فهو يفهم». وقد فسّر هذه الجملة بحيث كنّا نذهل لكلامه. بعد ذلك ترجمنا أنا والدكتور نصر كتاباً مختصراً لـ «لاوتسه»، اسمه «دائود جينگ»، وهو كتاب مختصر جداً، وكلّه متناقضات، من الإنجليزية إلى الفارسية، وعندما قرأه العلامة الطباطبائي قال: «هذه أهم رسالة قرأتها في حياتي». وأصبح من المحبين لـ «دائود جينگ»، أنا أحب مثل هؤلاء العلماء كثيراً، كـ «مايستر إكهارت»، وهو من العرفاء الغربيين، أو عرفائنا الراسخين، أو مثل المفكِّرين الكبار الذين يتعاطون مع الجانب اللطيف للدين. أنا أحبهم كثيراً؛ لأن جميع هؤلاء كانوا متديِّنين.
^ هل يعني ذلك أن علينا إذا أردنا أن نفهم الدين أن نخرج من عالمنا التعقلي، ونلج ذلك الفضاء التمثيلي للأديان؟
_ أجل، لابد أن ننظر إلى الدين بهذه الطريقة، وأن تكون لدينا بصيرة، وأن نعلم أن التجربة المعنوية التي خاضها أولئك الأشخاص في الضفة الأخرى متشابهة. لكل واحد منّا وجهٌ واحدٌ من المرآة. يقول حافظ: «في الوجه الآخر للمرآة كانت عندهم خصلتي الببغائية». في وجه المرآة الآخر تتشابه التجارب المعنوية للأفراد، وبعبارة أخرى: إن هذه الصور المتكثِّرة لها مثال واحد هناك. توجد هناك لغة توحِّد الجميع، لغة قديمة جداً يرجع تاريخها إلى أول تجربة عرفها الإنسان، ومن ثم جاءت الثقافات لتغطيها تحت القوانين، ولكن لو ذهبنا إلى عمق المسائل نجد تشابهاً كبيراً، ولا سيما أن العرفان النظري الإسلامي ـ في رأيي ـ غنيٌّ جداً. لا أدري هل أن العرب أغنياء إلى هذا الحد أو لا؟ لأن العرب ليس لديهم شعراء مثل حافظ ومولوي. نعم، عندهم ابن الفارض لا غير. لكن اللغة الفارسية مملوءة بهذه الأشعار، بحيث إن كل إيراني ـ حتى من لا يعتقد أيضاً ـ يعتبر نفسه صوفياً؛ لأنه يعرف بعض تلك الأشعار، ومفاهيم مثل: الشمع والفراشة والورد والغلام الفارسي وديرمغان و… بهذا القدر ذهنيتنا قوية، ولها ذلك الثقل العاطفي، بحيث إننا بمجرد أن ننشد شعراً يصبح الجميع عرفاء.
^ إن المنهج الذي تسلكه جذّاب جداً، بحيث لو أردنا أن نتعرَّف على الدين علينا أولاً أن نتعرف على مثاله، ثم ننظر كيف هو في دين آخر، أما لو أردنا على أية حال أن نعتمد الأسلوب العلمي فلا يمكن أن نقتصر في دراسة الأديان على البعد العرفاني للدين. فلو أردنا أن نتعرف على معالم الأديان الأخرى ما الذي يجب أن نفعله؟ إذا أردنا أن نبحث في كلام الأديان أو أخلاق الأديان ما هي المعايير غير الدينية التي تنفعنا في هذه الدراسة؟
_ أولاً: يجب التعرف على الهيكلية العامّة للأديان، والأجزاء الأساسية والمصيرية لها. فمثلاً: لابد أن تلاحظوا القواعد الأساسية للمسيحية، والعلاقة بينها وبين التجسيم وتجسد المسيح. والقضية المهمة الأخرى: هي قضية التاريخ التي لا توجد في الإسلام؛ لأنه إذا كان في الإسلام تاريخ فهو منحصر بتاريخ النبوة، ثم تاريخ الغيبة، أما في الغرب فالتاريخ مهم جداً. فمن نقطة هي مجيء المسيح، أو كما يقال: تجسُّد المسيح، فهذه نقطة تحوُّل في التاريخ، ومنها فصاعداً يبدأ تاريخ المسيحية. عندما ذهبت أول دفعة من المبشرين البلجيكيين في القرنين السادس والسابع عشر إلى الصين؛ سعياً منهم إلى تنصير الصينيين، ولكنهم لم يفلحوا في إقناعهم، أول ما قاله الصينيون لهم: لِمَ كان إلهكم شابّاً إلى هذا الحد؟ وماذا عن الألفَيْ عام؟ أيّ إله هذا الذي سقط في يوم، ولم يمكنه الدفاع عن نفسه؟ لم يفهم الصينيون أيّ إله هذا الذي صلب ولم يستطع فعل شيء؟ للشريعة في الإسلام أهمية كبيرة، ولكن في الدين المسيحي لا توجد شريعة، ولا كلام منزل. فمن حيث المبدأ لا نعلم بأية لغة كان المسيح يتحدث؟ هل كانت العبرية أم الآرامية أم كانت لغة أخرى؟ وكان أول إنجيل قد كتب باليونانية واللاتينية. وهذا بخلاف الإسلام، الذي لديه كلام الله، ولحظة نزول الوحي. إن المقارنة بين هذه الأشياء مهمٌّ، مقارنة مفهوم الزمان، ومقارنة مفهوم النبوة، والغيبة اللذين تفتقدهما المسيحية، ونعتقد بهما نحن. كذلك الأمر بالنسبة إلى الهنود، حيث يفهمون الزمان بشكل آخر، حيث يعتقدون بالزمان الأبدي. فإذا كان العرفاء يفهمون أنّ علة الخلق هو العشق، حيث «كنت كنزاً مخفياً…»، فإنها تكون بالنسبة إلى الهنود مسألة بلا دليل، ولا داعٍ، وتستمر بنحو دائم في دوائر تكرارية، أي إنها تسير بشكل منظم، فتأتي إحداها وتذهب الأخرى، ولدينا عصر ذهبي. فجميع ذلك جدير بالدراسة والتحليل. وغالباً ما تكون هناك نقاط افتراق. وأما من ناحية شكل الأديان فهناك وجوه للتفاوت بينها. فمثلاً: أنا أظنّ أن بين التشيع والدين الزرادشتي وجه تقارب كبير، بل هو أكبر من الإسلام السني؛ لأن المهدوية تشترك مع مفهوم «سوشيانت» في الدين الزرادشتي، أو مفهوم آخر الزمان الموجود عندهم أيضاً. فالشبه موجود، والمراحل الزمنية بينهما فيها شبه كبير أيضاً. أتصور أن تشيُّع الإيرانيين تأثَّر بالزرادشتية كثيراً. وطبعاً فإن التشيُّع لا يرتبط بإيران، ولكنّ قالب التشيع الذي تشكل في إيران كان ذا تأثير كبير، ولعبت الخلفية الثقافية الموروثة عن الزرادشتية دوراً كبيراً. لابد أن يلاحظ ذلك الهيكل الذي يميِّز هذا الدين عن غيره، ما هو؟ وما الذي يميِّزه عن دين آخر؟ طبعاً الدراسات التاريخية مؤثِّرة وضرورية. مثلاً: ما هو دور الكنيسة؟ وكيف وجدت؟ فقد وقعت المسيحية في بدايتها في قالب الفكر اليوناني؛ لأن آباء الكنيسة كانوا يونانيين وأفلاطونيين، ومن جهة أخرى فقد تأثَّرت المسيحية أيضاً بالفكر الروماني. وهذا يعني أن للمسيحية ميراثين، هما: الميراث اليوناني؛ والميراث الروماني. أما نحن فلا يوجد لدينا هكذا ميراث. صحيح كان لدينا نهضة في الترجمة أيضاً، ولكنها لم تؤثِّر في الإسلام ذلك التأثير الذي لحق بالمسيحية، ودائماً ما بقي تأثيرها هامشياً. كما أنّها لم تؤثِّر على حياة الناس بشكل كبير. ظهر الفكر الفلسفي المشّائي، ثم ظهر بعده الإشراقي، الذي كان يونانياً وإيرانياً أيضاً. لقد كان شيخ الإشراق أعجوبة؛ لأنه حينما يريد أن يبين نسبه يجعله بين قوسين: أحدهما اليونان؛ والآخر الإيرانيون الخسروانيون، ويعتبر نفسه نقطة التقائهما. فقد كانت لديه الأنفة (التكبُّر) التي لدى الإيرانيين أيضاً، وفكره الفلسفي كان فكراً ملوكياً. الأمر الآخر الذي تجدر العناية به هو الفكر السياسي للأمم. فكل أمّة كانت تعيش في مخيِّلتها فكراً سياسياً. ففي إيران تربَّعت الملكية على السلطة ألفين وخمسمائة عام، ولذا تجد الجميع يسلك النهج الملوكي. كانت الإمبراطورية دائماً في إيران، والآن كذلك أيضاً. فالدين ـ الآن ـ هو الذي جمع الشعوب المختلفة إلى جنب بعضها بشكل فسيفسائي، والسبب في تسمية ملوك إيران «شاه شاهان = ملك الملوك» أنه كان هناك ملوك صغار، ويوجد ملك أكبر يحكمهم. فالبناء الذهني عندنا لا زال شاهنشاهياً (ملوكياً). وهذا ما أثَّر في طبيعة فهمنا للأمور.
حوار الأديان والحضارات، الدور والأمل ـــــــ
^ ما هو الدور الذي يلعبه حوار الثقافات والأديان؟ وما الذي يجب فعله لتفعيل حوار حقيقي بين الأديان؟
_ إنّ قصة حوار الحضارات طرحت منذ عام 1355 ـ 1356هـ.ش، في إيران، عبر تأسيس مركز لدراسة الثقافات. وقد قُرِّر آنذاك فتح فرع في الهند، وفرع في اليابان، وفرع في مصر. ففي اليابان وافق إيزوتسو على إدارة الفرع في بلاده. وفي مصر تعهَّد عثمان يحيى بذلك أيضاً. وأما الهند فبقيت. وكانت قضيتنا هي أن في تلك الحضارات وجوهاً مشتركةً مقابل التحولات الكبيرة التي حصلت في العالم. وبما أنه لم يسبق لنا أن تحاورنا فيما بيننا ـ حيث لم يكن في ذلك الحين حوار بين إيران والهند والصين ـ، وكانت إيران ترى نفسها بنظرة غربية، أي إنها كانت تنظر إلى جيرانها من خلال وجهة نظر الغرب إليهم، في حين لم يكن الأمر هكذا في السابق، حيث كانت هناك علاقات واسعة مع تلك الدول، لذا كنتُ قد طرحت هذا السؤال: ما الذي ينبغي فعله حتى نرى بعضنا البعض ونطرح قضايانا فيما بيننا دون دخالة الغربيين؟ لأن بيننا قضايا مشتركة وتاريخاً متشابهاً. أما اليوم فلا نعلم ما هي أطروحة حوار الحضارات المقترحة اليوم؛ لأن الشرط الأول في حوار الحضارات هو قبول الآخر. لا يمكن أن تطلبوا من الآخر أن يقول ما تقولوه؛ لأن ذلك سيكون قمعاً للحضارات. فأوّل قدم أنه لابد أن يكون هناك تسامح. والسيد خاتمي يقبل بهذا الطرح. والسيد فريد زاده المتصدي لهذه المهمة هو رجل كفوء، ويحب هذا العمل. لكن المهم هنا هو وجود نظرية لحوار الحضارات، وهي في ثلاثة مستويات: المستوى الأدبي؛ والمستوى الثقافي، وعلى مستوى الأديان والفلسفة. وعلى أية حال فهي قضية شائكة. وقبل كل شيء علينا أن نتقبَّل سلفاً أننا هويّات متعددة.
^ يعني أنكم ترون أن رؤيتنا ـ نحن الآسيويون ـ تختلف عن التقدير التاريخي لبقية الأمم، فلو أردنا أن نؤسِّس لحوار بنّاء علينا أولاً أن نتحاور فيما بيننا؛ لأن لنا قدراً تاريخياً مشتركاً؟
_ كلا، يمكن أن تكون هذه الأمور سويّةً، أي يمكن في نفس الوقت الحوار مع طائفتين. أنا صرت أعتقد أكثر من ذي قبل أننا أناس نعيش في أكثر من ميدان وثقافة، مضافاً إلى هوياتنا المتعددة، تجعلنا أغنى وأجدر من غيرنا. فلو اطَّلعنا على تعدُّد هوياتنا لأصبحنا أفضل من الغربيين؛ لأننا سنحيا حياتين: في الماء؛ وفي اليابسة. أما الإنسان الغربي فيعيش فقط في ثقافته، بينما نستطيع أن نرى عالمنا وعالم الآخر.
هل يمكن أن تتعايش الثقافات؟ ــــــــ
^ هل يمكن ذلك حقّاً، بأن نعيش في ثقافتين في آن واحد؟ بحيث تكون لدينا ثقافتنا، ونأخذ ثقافة غيرنا؟
_ نعم، ولكن مفاتيحها مختلفة. المشكلة أن الناس يريدون أن يصبوا الجميع في قالب واحد. ولكن هذا لا يحصل؛ لأنه لا يوجد عندكم المفتاح الذي يفتح كل الأبواب، بل عندكم مفاتيح مختلفة. لابد أن نقبل بأن لدينا صندوق واحد، ولكن بمفاتيح مختلفة. وهذه اللعبة صعبة جداً، بأن يمكنك العيش في أكثر من ميدان، وكأنك أكثر من إنسان واحد، ويكون لديك أكثر من هوية، وهذا ما يغنيك. نعم، مثل ذلك كما لو أردتم أن تعزفوا موسيقى إيرانية على آلة البيانو، فعليكم أن تغيِّروا أوتاره، وعليكم أن تغيِّروا ذهنكم أيضاً. هو مفتاح واحد لابد أن تغيِّر به تلك الأوتار. وذلك عمل صعب، وهو العزف على أكثر من وتر. وهذا العمل يجب أن يفعله الإنسان من تلقاء نفسه. ولا إشكال في أن نكون متعدِّدي الشخصية؛ لأننا في الواقع هكذا، فلِمَ الإنكار؟ والحياة لا تكون صعبة أيضاً بشرط أن نعرف موضع كل شيء. فمثلاً: نعرف أن هناك تفاوتاً بين لغة السهروردي ولغة هيجل، ولا يمكننا المزج بينهما، تماماً كالدهن الذي يطفو على سطح الماء، إذاً علينا أن نتقبَّل الفوارق.
^ ما تفضَّلتم به صحيحٌ تماماً، بأنه لا يمكن أن نصل إلى مركَّب جديد، بل لابد من العمل مع مواد مختلفة، لكن يبدو أن الإنسان ينزع إلى العيش بثقافة واحدة.
_ فهم القضية هو الكفيل بحلّها.
^ بمناسبة الكلام هنا فإن هذه العملية تحصل في حالة اللاوعي، وهذه الحالة يصحبها نوع من الاحتيال والانفعال، أو شيئاً من الانفعال إزاء الثقافة التي يتبنّاها الفرد، وبالتالي يقع في فخّ الازدواجية، فتنشطر شخصيّته، وتنبو عنه تصرُّفات غير متَّزنة.
_ أجل، الموضوع صعب جداً. من هنا تجد الناس قلقين مضطربين، وإلا فإن مثل شريعتي جامع للضدّين، فماذا فعل شريعتي؟ إنه أخذ القواعد الماركسية، ولونّها بألوان دينية إسلامية. كل قواعده ومبتنياته ماركسية، ولم تكن أطره إسلاميّة أبداً. من أين للإسلام بنية فوقية superstructure وبنية تحتية infrastructure؟ أساساً لا يوجد في الإسلام مفهوم تاريخي بالمعنى الذي أورده شريعتي، ونسبه إلى الإسلام؟ لا يوجد في الإسلام أساساً مفهومٌ اسمه الثورة. أجل، فيه مفهوم المعاد، لكن لا يوجد مفهوم الثورة. الثورة مفهوم جديد ظهر مع الثورة الفرنسية، ويعني بعثرة وإرباك المجتمع. نفس هذه الكلمة تناولها أساساً علم الفلك، ومع الثورة الفرنسية ظهر أيضاً مفهوم «الزمن أو الوقت الخطي»، وبالمناسبة فهو نقيض المعاد، أي إنه يتخطّى مكانة المعاد والآخرة. إذاً حينما تتكلَّموا عن الثورة عليكم أن تفهموا أن لا علاقة له بالمعاد من جهة اللحاظ المفهومي. هذه المفاهيم يجب أن تفسّر. من هنا أقول: إن الفرد الجامع للضدين الذي يمكنه هضم جميع هذه المفاهيم وعجنها نادرُ الوجود.
^ يفهم من حديثكم أنكم قد جرَّبتم التعدُّد والتنوُّع، وتعدد المجالات في حياتكم.
_ في ما يرتبط بي شخصياً فإني بحثت كثيراً عن ذاتي، وكانت علاقتي مع زوجتي وأقاربي وأولادي علاقة تقليدية (بحسب التقاليد) دائماً. عشت في عالم كان لي فيه صراع مع قضايا كثيرة، ونزاع مع نفسي أيضاً، ولكن بمرور الزمن قلتُ لنفسي: إن مجالات تلك القضايا متفاوتة، وكل واحدة منها لها لون وشكل خاص يختلف عن الآخر. عليّ أن أتمكن من الانتقال من هذه الدائرة إلى تلك، وأن لا أخلط تلك القضايا وأختزلها. قد تكون الفكرة اختزال تلك الأمور، ويدخل بعضها في بعض، ويختزل مفهوماً، ويسهل العمل. ولكن لما كانت تلك القضايا غير متجانسة فإنني لا أستطيع اختزالها. لا بد أن نقبل بالفواصل. أنا أقول: لابد أن نقبل الانقسام باعتباره حقيقة في أعماقنا، ونعلم أيضاً أننا نعيش في العصر الحجري، ونعيش في العصر الحديث أيضاً.
^ ولكن هذه صورة المسألة. صحيح أننا لو سلَّمنا هذه الصورة للمسألة لقطعنا شوطاً كبيراً، ولكن النقطة هي أننا لابد أن نجد حلاًّ لها، فإن هذا التذبذب سيّئ جدّاً.
_ لو أردتم الدخول في إطار الدين فعليكم أن تفهموا ذلك الدين بلسانه وأدواته، لا أن تخوضوا غماره من خلال الفلسفة الوضعية (Positivism).
^ المسألة هنا. فأنا لا أريد أن أتعلم فقط، بل أريد أن أعيش أيضاً. فلو كنت طالباً في درس الرياضيات فإني أستمع إلى القواعد والاصطلاحات الرياضية، وفي درس الأدب أستمع الشعر واللغة..، لكني أريد أن أعيش. لايمكن أن أقول: في الفضاء الديني أعيش متديِّناً، وفي محيط الحداثة أعيش حداثوياً؛ لأن الدين والحداثة اختزاليّان [ومنطويان على نفسيهما].
_ الحداثة تقول: افعل ما تشاء، ولكن دينك يجب أن يكون خاصّاً بك؛ لأنّني أعتبره مسألة شخصية، أي هو موضوع يخصّ علاقتك بالله، وأنا لا دخل لي في عملك هذا.
^ الحداثة تقول لا دخل لي في ما تعمل، ولكنها في الحقيقة تتدخَّل كثيراً، فعندما تغيّر الحداثة معنى العقل والدنيا فمن الطبيعي أن يكون كل شيء عرضة للتغيُّر والتبدُّل.
_ ولكنْ هي لا تقول: فكِّرْ مثلي تماماً. الحداثة شيء عجيب، فهي في حين كونها شاملة، إلاّ أنها لا تبالي أيضاً، مثل الشيء الذي استوعب كل الفضاء، إلا أنّ في داخله حفراً وثقوباً. فالحداثة تعلِّمك على قواعد اللعبة، كما يقولون في كرة القدم: يجب أن تضربوا الكرة، ويمنع أن تركلوا الخصم. الحداثة تبيِّن القواعد، ولكنْ لا تقول لك كيف تملأ تلك المجالات، لا تقول لك كيف تكون علاقتك مع الله، لا تقول لك كيف تعيش، فهي تركت تلك المجالات حرّة. يمكن تحقيق مفاهيم الحداثة والدين معاً، وفصل بعضهما عن البعض.
تجربة في الجمع بين الحداثة والتقليد ــــــ
^ ذلك يعني أنه ليس لها أوامر معينة. ولكن هذا هو السؤال: هل يمكن أن تعيش حداثوياً بصورة حسنة، وأن تعيش تقليدياً بصورة جيدة جدّاً أيضاً؟
_ لا أدري.
^ ماهي تجربتك أنت في هذا المجال؟
_ شخصياً لا توجد لديّ أية مشلكة، فقد توصَّلتُ إلى حلّ هذه العقدة، حيث فهمت أن المجالات منفصلة. فمثلاً: لي في بيتي ساعة فراغ وخلوة مع نفسي ـ ولا أقول: إني من أهل الباطن، فهذا ادّعاء كبير ـ لكنّي عندما أتكلَّم مع أي شخص أتكلم معه بلسانه ومستواه، وأمتلك أدوات كثيرة لا أخلط بينها. هكذا صنعت مع نفسي. في إحدى المهرجانات العالمية في جنيف رأيت يوماً «إتيان جيلسون»، وهو شخص عارف، وكان إدنبورگ الشيوعي الروسي هناك أيضاً، وكان دائماً ما يناقشه ويضايقه، فالتفت إليه جيلسون قائلاً: «دعني وشأني»! وعندما وصل البحث إلى ما يتعلق بإيمانه، اعترض، وقال: «دعني مع إلهي»، ثم صمت أيضاً، أي إن إدنبورگ تعدّى إلى مجالٍ بحيث تضايق منه. كلّ فرد لديه خصوصياته وحرمته، أي إنه على كلّ فرد في عالم اليوم أن يحافظ على خصوصياته. وكلما تريدون أن تغيِّروا الدنيا يحصل العكس. فلو أردت أن أجعل الدنيا دينية فسأكون أنا دنيوياً. لاحظوا الوضع الذي نمرّ به منذ عشرين عاماً، كلما حاولوا أن يجعلوا من الدنيا فردوساً أعلى فإنهم أصبحوا دنيويين، بحيث لم يكن الإسلام دنيوياً بهذا النحو، ولا أدري هل يعدّ ذلك صحيحاً أم لا؟ نحن أمام نوع من البروتستانتية الحديثة في حالة تكوُّن، في حين أن الإسلام يصارع قضايا لم تكن في ميدانه، وعندما تدخلون هذه اللعبة لا تدرون متى تنتهي، وكيف ستكون الخاتمة. في الحقيقة عليكم نوعاً ما أن تكافحوا الأساطير. أضرب لكم مثلا بسيطاً: قصة كربلاء وعاشورء الإمام الحسين× يمكن أن تؤثِّر في زمن خاص، أي كل سنة مرّة واحدة، فلو كانت تتكرَّر كل يوم لذهب أثرها، ولأصبحت كرنفالاً؛ لأن ذلك سيفقدها قدرتها على التأثير. ومفهوم الشهادة من هذا القبيل أيضاً، فلو أبدلنا الشهيد إلى ثائر سياسيّ لم يعُدْ شهيداً. إن هذه المفاهيم دقيقة للغاية، فعندما نخرجها من مجالها سوف تفقد خصوصيتها، وذلك من قبيل: أن نقول: إن في الوضوء جنبة صحية. هذا صحيح، ولكن أولاً: إن هذه الجنبة ضعيفة في الفقه الشيعي؛ وثانياً: الوضوء في الحقيقة أمر عبادي بالكلية، فسكب الماء على بعض أعضائك بهذه الطريقة الخاصة ليس أمراً صحياً، بل هو أحد الطقوس الرمزية. وبمجرد أن تعدّوه ممارسة صحية فقد أسقطتم منه ذلك البعد الرمزي الشعائري مباشرة. يقول البعض أيضاً: إن الإسلام مساوٍ للديمقراطية، بينما تاريخ الديمقراطية غير تاريخ الإسلام، فالديمقرطية أمر جديد حادث. أما ما يتعلق بسؤالكم فأقول: إن ديننا تناول هذا الموضوع أيضاً. فتجد أن النبي الأكرم| يتحدث مع العرفاء السالكين بلسانهم، ومع الأطفال بلهجة أخرى، ومع الآخرين بلحن وخطاب آخر. أعتقد أن هذا الأسلوب علمي، وموصى به أيضاً.
^ الحقيقة أن الحداثة أنكرت الغيب. والدين مليء بالغيبيات. أنا لا أدري كيف يمكنكم أن تجمعوا بينهما في مقام العمل. فالفرد الذي ينظر حقّاً إلى جميع أبعاد الدين برؤية عقلية كيف يواجه مجموعة من الأحكام والعقائد المليئة بالجوانب الغيبية ونفحات عالم القدس؟ فالجمع بين تلك الجوانب أمر صعب. تارةً يكون بحثكم في أنني أعيش في مجتمع متكثر القوميات والثقافات والأديان فمن الطبيعي أن أتمتع بروح التعدُّدية والتسامح، وأتعامل بحيث تكون إسلاميتي زمزماً، وهنديتي تحترق؛ وتارة يكون البحث في أنني أريد أن أكيِّف المجالات المختلفة لحياتي مع كافة الظروف والمناسبات، فأكون في الإدارة والعمل الوظيفي حداثوياً تماماً، وأسافر عبر الوسائل الحديثة (كان الإمام الخميني& قد قال: إنكم تقولون عنا رجعيين، أَوَلَمْ نسافر إلى مكة بالطائرة؟)، ولكن ماذا يصنع الإنسان في خلوته، ذلك الجزء الذي لا يتجزأ من شخصيته الإنسانية؟ في ذلك الوقت ينظر إلى الدين بصفته أمراً قدسياً إلهياً، وهو الذي يقوم بوصلنا بالعالم الغيبي. ربما تقول بصفتك عارفاً بالدين أنه يواجه أسطورة، لكنه يرى نفسه يواجه حاقّ حقيقة الوجود. فلو قلتَ: إنها أسطورة فسوف لن يكون هذا شعوره بذلك الشيء. فمن المعروف أن بائع الحلوى لايأكل منها أصلاً، والطباخون لا يأكلون من الطعام الذي يطبخونه؛ لأن بائع الحلوى أتخم برائحتها، فلا يشتهي أكلها. أنا أشعر أن العارف بالدين، الذي حلَّل وفهم كل الأشياء الجميلة، وبالتالي لا يمكنه أن يبقى متديناً، يشعر عندما يختلي مع نفسه أنه لم يبقِ شيئاً لخلوته، فكم حلَّل القضايا حتى أصبحت غباراً وفتاتاً وذهبت أدراج الرياح. عندما ينظر شخص إلى آثارك يدرك أنك لست إنساناً غافلاً، إنك تدري ما تقول، بخلاف البعض، حيث يظهر من كلامه أنه لا يدري ولا يعلم ما حوله. ولكن هناك أناس يعلمون ما يحصل، وإن كانوا لا أباليين، ولا يحملون الأمور محامل الجدّ. بهذا القدر الذي يريد الفرد أن يعي حياته ويكون جدياً فيها في النهاية ما الذي يجب عليه فعله؟ أنت تقول: أنا أعيش بيني وبين نفسي حياة باطنية. كيف تعيش هذه الحالة؟ أنت تحيا في عالم الناسوت، وعالم الباطن يلزمك بأن تنسلخ عن هذا العالم، وتتلبس بأشكال وأثواب عالم المثال. بالتأكيد أنت لا يمكنك القول بأن لديك نفقاً يؤدّي بك إلى ذلك العالم، وتلتقي بالسيد المسيح ـ مثلاً ـ في السماء الرابعة، حيث إن هناك فرقاً كبيراً بين أن تنتشر في الدنيا الحداثة والفوضوية Anarchism ومحيط الجمهورية الإسلامية، فأنت تعيش الآن في هذه الدنيا، كيف تتلبس بهذه الأشكال والتماثيل؟!
_ الآن ما الذي يجب فعله؟
^ على أية حال «ماذا تفعل إزاء هذه المسألة؟». هي مسألة جدّية، وهي الهمّ الذي نحمله. عندما يقرأ أحدنا كتاب «زير آسمان هاي جهان» يشعر باللذة ـ طبعاً لا شأن لي ببعض الأمور التي لم تكن تحت اختيارك، كأن تكون أمك گرجية وأبوك تركاً و.. ـ ولكن في أبعاده الاختيارية نواجه إنساناً مثل اللحاف المؤلَّف من أربعين قطعة. أنا عندما أقرأ كتب الأستاذ شايغان أُصاب بالجنون؛ تاره يبلغ الذروة مع العلامة الطباطبائي؛ وأخرى تنفتح قريحته لرقّة فنّ رقّاص باليه؛ وثالثة يبحث عن عوالم القدس ثم يتركها بالمرّة. أقول: أنت الذي ذهبت إلى السماء مع السيد الطباطبائي لماذا رجعت إلى الأرض مرة أخرى؟!
_ لقد اصطحبني معه برهة، ثم تركني فجأة، ثم ندم على ذلك، فهو لم يصنع ذلك في أيّ وقت من الأوقات، ولا أدري ما الذي فعله. الجميع أصبحوا يتوقون لسماع هذه القصة، ولكني لم أدرِ ما الذي حصل بالضبط.
^ الآن كيف يمكن الجمع بين تلك؟ في بعض الأحيان أشعر بالخوف إذا فكرت بقراءة تلك المسائل، وأحسب أني لو فعلت ذلك لخفق قلبي؛ لأن قلبي يريد واقعاً أن يرتبط بذلك الأمر القدسي، وأعيش حياة معنوية.
_ سأُجيبك الآن بجوابي الشخصي، وهو الجواب الذي ـ حقاً ـ أعتقد به. إن جوابي بوذيّ جدّاً، حيث يقول بوذا: كل شيء فيه ألم، وكل شيء زائل. والطريق الوحيد للنجاة من هذا الألم هو إطفاء غريزة الرغبة. فقد جعلتُ ذلك أساساً وقانوناً في حياتي، بأن أكون متوكِّلاً، وأحاول أن أسلِّم بما يجري عليَّ من ظروف. أسعى دائماً إلى أن أكون قنوعاً، ولا أكون حسوداً، ولا أذكر غيري بقبيح، وأكون كثير الشكر. لأنني أتصور أنني إنسان محظوظ أقول لنفسي: لو قُسِّم جميع ما في الدنيا فقد حصلت على أكثر من حصتي من كل جهة. طريقتي هذه عمليّة جداً. والآن إذا شئت أن تسمي ذلك ديناً أو شيئاً آخر. المهم أني أتعامل بهذا النحو.
^ في الواقع لم تجيبوا عن البعد النظري للسؤال.
_ الجواب النظري لايمكن عرضه؛ لأنه معقَّد جدّاً. أنا أرتضي جميع النظم الميتافيزيقية، وهي رائعة وخلابة في الواقع، سواء النظم الميتافيزيقية للهنود أم للإيرانيين، لكن المهم في النهاية هو أن يشعر الإنسان بالسكينة، وأن يعيش مرتاحاً من الهواجس.
^ تهجم الاسئلة المختلفة على ذهن الإنسان، فيشعر الفرد من جهةٍ بشغف لتعلُّم هذه المعارف والمعلومات؛ ومن جهة أخرى يشعر بوجود حقيقة أصيلة أروع من كلّ ذلك، لا يمكنه أن يغضّ الطرف عنها، لكن يمكنه بنحو من الأنحاء أن يصل إليها. فلو أراد أن يبحث فيها فقد يحصل له كما يحصل للطبّاخ الذي لا يأكل مما صنعت يمينه.
_ ولكنكم تعلمون أنها تترسَّب إلى القعر. إن هذه الأشياء التي يقرأها الفرد يكون لها أثرها في وقتٍ ما بصورة لا شعورية، من دون أن يفهم هو ما الذي حصل. ذات مرة كنت جالساً بجانب السيد أشتياني، الذي أحبه كثيراً، فهو يتمتَّع بتأثير مغناطيسي يجذب الآخرين نحوه. كنت أنظر إليه، فرأيت أنه حتى لو لم يتفوَّه بشيء فإن لديه حضوراً ملفتاً جدّاً. أنا لا أدري هل هو من أهل الباطن (العرفان) أم لا؟ ولكن هذا الحضور والحفاوة ناتج عن الممارسة. فكم قرأ من المتون القديمة، وتبحَّر فيها، حتّى أوجدت حوله هذه الهيبة والهالة، التي من خلالها يجذب الآخرين، بحيث لا يلزمه الكلام لكي يجذب الناس إليه. أنا أعتقد أن القراءة تصبح تدريجاً مثل أوراق الدفتر، وتضرب على الإنسان خيمة، فتؤثِّر عليه، وتكسبه حضوراً، وقد تكون هذه هي الحكمة والفلسفة.
الهوامش
([1]) أديان ومكتب هاي فلسفي هند.
([2]) «هانري كربن وآفاق تفكر معنوي در اسلام» [بالفارسية].
([3]) نقلاً عن كتاب: زير آسمان هاي جهان (حوار رامين جهانبغلو مع داريوش شايغان).
([4]) [دين بدائي في شمال آسيا وأوروبا يتميز بالاعتقاد بوجود عالم محجوب هو عالم الآلهة والشياطين وأرواح السلف] (المترجم).
([5]) [يقصد فوكو بالإبستيمي épistémé الإطارات الفكرية التي تشكل قاعدة الخطابات حول المعرفة لدى جماعة بشرية في حقبة معطاة] (المترجم).