د. ناصر كاتوزيان(*)
أـ مفهوم العدالة
تعريف العدالة
إن «العدالة» مفهومٌ عرفه الإنسان منذ بداية الحضارة، وسعى جاهداً إلى تطبيقه. إن مشاهدة الطبيعة وتاريخ الأحداث، والتدبُّر في الخلق منذ القِدَم، يُثبت أن العالم لم يُخْلَق عبثاً، وإنما هناك هدفٌ والعالم محكومٌ للنَّظْم([2]). وإن الإنسان موجودٌ ضمن هذه المجموعة المنظمة والهادفة، وهو منسجمٌ ومتناغم معها. وعلى هذا الأساس فإن كل ما هو موجود ضمن هذا النَّظْم صحيحٌ وعادل. والحقوق بدَوْرها لا تستثنى من هذه القاعدة، والمبنى في ذلك قائمٌ في مشاهدة الكائنات والمجتمعات المتنوِّعة. إذن من خلال ملاحظة «ما هو موجود» يمكن الوصول إلى «ما يجب أن يوجد». وبعبارةٍ أخرى: في المنهج الأرسطي للبحث عن العدالة نشاهد الواقعية، وإن التجربة تمثِّل أساس هذه المشاهدة([3]).
لا تتَّسع هذه المقالة لتفصيل الكلام حول المسار التاريخي للعقائد. ولكنْ يمكن تلخيص التعاريف الهامّة المطروحة بشأن العدالة على النحو التالي:
أفلاطون: العدالة الاجتماعية
لقد تحدَّث أفلاطون([4]) في كتاب «الجمهورية» عن العدالة بالتفصيل([5]). يرى أفلاطون أن العدالة مفهوم لا يناله إلاّ المترعرعون في أحضان الفلسفة، ولا يمكن بلوغه بالتجربة والحواس. إن العدالة الاجتماعية إنما يكتب لها التحقُّق «إذا قام كلّ شخصٍ بما يتناسب وقدرته واستطاعته، واجتناب التدخّل في مهام واختصاصات الآخرين». وعليه لو قام تاجرٌ بأعباء قيادة الجيوش، أو قام العسكري بتولّي مقاليد الحكم والسلطة، سوف يضطرب النظم اللازم لبقاء المجتمع وسعادته، وسوف يحلّ الظلم محلّ العدل.
إن الحكومة لا تليق إلاّ بالحكماء والفلاسفة، والعدل يكمن في وضع هؤلاء في المواضع اللائقة بهم، وأن يكونوا هم قادة المجتمع، بَدَلاً من أصحاب الأموال والقوّة.
لا شَكَّ في أن أفلاطون لم يكن يهدف إلى بناء مجتمعٍ طبقي على شكل حكومات الطوائف؛ إذ في المجتمع المثالي الذي يدعو إليه تكون صفات المقاتل والحكمة والتجارة اكتسابية، وليست ذاتية أو وراثية، وإن المعيار في توصيف الأشخاص يكون عند الاشتغال ومزاولة المهن، وليس منذ الولادة. ومع ذلك أشكل عليه بالقول: لماذا كان الوضع المهني للشخص ومعلوماته تجعله بحكم الطبيعة وحده الجدير بالقيام بعملٍ معيّن، بحيث يكون تجاوز هذا الأمر ظلماً؟ ثم إن تقسيم الناس إلى أحرار وعبيد يندرج ضمن هذا التصنيف. كما ذهب أرسطو([6]) ـ على هذا الأساس ـ إلى الادّعاء بأن بعض الناس عبيدٌ بحكم طبيعتهم، ويجب أن يبقوا عبيداً([7]).
أما الإشكال الآخر فخلاصته: إن أساس الحكومة المثالية عند أفلاطون هي استبداد الحكماء والفلاسفة، الذين هم مجرّد بضعة حكماء جديرين بها، دون سائر الناس([8])، ولا دَوْر للقانون فيها.
كما أن نفس الإنسان تحتاج إلى العدالة، وإنما يمكن الحصول على هذه الفضيلة عندما تكون كلّ واحدةٍ من القوى في مكانها، ويسود نظمٌ خاصّ بين العلاقات التي تحكمها. إن جميع القوى الإنسانية، من قبيل: الغضب والشهوة، يجب أن تخضع لحكم العقل، وأن يقوم كلّ واحدٍ منها بمهامّه ومسؤولياته بتوجيه من العقل([9]).
وقد ورد هذا المعنى والمضمون في الأشعار والحكمة والفقه بكثرةٍ، الأمر الذي يشير إلى مدى تأثير أفكار هذا الفيلسوف الإغريقي. ومن ذلك ما نجده في بعض أبيات مولانا جلال الدين الرومي في المثنوي؛ إذ يقول ما مضمونه: (إن العدل هو وضع الشيء في موضعه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.. ما خلق الله شيئاً باطلاً، سواء في ذلك الحلم والغضب والنضج وعدمه. فليس هناك خير مطلق أو شرّ مطلق، وإنما يكمن ذلك كلّه في وضع النفع والضرّ في موضعه، ومن هنا كان العلم واجباً ونافعاً)([10]).
وعن الشيخ الطوسي في المبسوط قوله في تعريف العدل: «إن العدل في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساوياً»([11]).
وفي تفسير الميزان ورد تعريف العدل بهذه العبارة: «إعطاء كلّ ذي حقٍّ من القوى حقه، ووضعه في موضعه الذي ينبغي له»([12]).
وما إلى ذلك من المضامين التي أثبتت نفوذ أفكار أفلاطون في هذا الشأن.
وكما سبق أن ذكرنا إن أفلاطون، الذي يبحث عن مفهوم العدالة في المجتمع الفاضل، يرى العدالة الاجتماعية في حكم الفلاسفة والحكماء والعقلاء، ويعتبر تجاوز هذا التخصُّص ظلماً.
أرسطو: إعطاء الحقّ لمستحقّه
يذهب أرسطو إلى القول بأن للعدالة معنىً خاصّاً؛ ومعنىً عامّاً([13])، وإن العدالة بالمعنى العامّ تشمل جميع الفضائل؛ لأن كلّ شخص يقوم بعملٍ غير مناسب يكون ظالماً. إن السعادة الحقيقية هي من نصيب الشخص الذي يتحلّى بالفضيلة، ويطيع أوامر العقل. تنطوي فضيلة الإنسان على آفتين كبيرتين، وهما: الإفراط؛ والتفريط، ومن هنا يجب تجنُّب هذين الأمرين معاً. وإن الاعتدال والوَسَطية هي المعيار في تمييز الرذائل من الفضائل. وعليه فإن التهوُّر والخوف كلاهما مذمومٌ، والحدّ الوَسَط بينهما ـ أي الشجاعة ـ فضيلةٌ. كما أن السخاء هو الحدّ الوَسَط بين البخل والتبذير، وعزّة النفس والتواضع يمثِّل الاعتدال بين التكبُّر والذلّ. وأخيراً يمكن القول: إن العدالة بالمعنى العام هي «التقوى الاجتماعية»([14]).
يرى أرسطو أن الإنسان ـ بحكم الطبيعة ـ لا ينشد الفضيلة والكمال، ولا يتهرّب منهما. إن فطرة الإنسان بسيطة، والفضيلة والعدالة اكتسابية، غاية ما هنالك أن طبيعته بحيث يستطيع الانسجام مع ما اكتسبه، ويمكنه أن يتكامل به من خلال التأقلم معه([15]).
وقد تسلَّل هذا المفهوم من العدالة في الأخلاق والحكمة الإسلامية أيضاً. ومن ذلك: ما نجده في كتاب (أخلاق عالم آرا)، لمحسني، حيث قال: «العدالة جامعة للفضائل، ومانعة للرذائل». وقال في توجيه ذلك: «من حيث الوحدة التناسبية التي تتحقق بين الأجزاء المتباينة، وتظهر الكثرة على شكل وحدة، وحيث قال خير الأنام في كلامه البديع: (خير الأمور أوسطها) فقد بيَّن شرف العدالة بشكلٍ بليغ…»([16]).
وقال الشيخ نصير الدين الطوسي في كتابه (أخلاق ناصري): «أما الأنواع التي تكون تحت جنس العدالة، فهي اثنا عشر: الأوّل: الصداقة. والثاني: الإلفة. والثالث: الوفاء. والرابع: الشفقة. والخامس: صلة الرحم. والسادس: المكافأة. والسابع: حُسْن الشركة. والثامن: حُسْن القضاء. والتاسع: التودُّد. والعاشر: التسليم. والحادي عشر: التوكُّل. والثاني عشر: العبادة»([17]).
إن العدالة بالمعنى الخاصّ للكلمة تعني المساواة بين الأشخاص والأشياء. إن الغاية من العدالة ليست هي ضمان التساوي الرياضي دائماً، إنما المهمّ هو مراعاة التناسب والاعتدال بين الربح والخسارة، وبين واجبات الأفراد وحقوقهم. إذن يمكن القول في تعريف العدالة: «إن العدالة فضيلةٌ ينبغي بموجبها إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه»([18]).
يذهب أرسطو إلى تقسيم العدالة إلى: تعويضية؛ وتوزيعية. ومراده من العدالة التعويضية هو الاعتدال بين العوضين في المعاملة، بحيث لا يتمكّن أحد طرفي العقد من الاستغناء على حساب افتقار الآخر، أو أن يأخذ هذا الطرف كلاًّ من العوض والمعوَّض لنفسه. إن هذا المفهوم من العدالة يتحقَّق من تلقائه ضمن العقد، بَيْدَ أن الضمانة التنفيذية له تمثِّل تدراكاً للخسارة، حيث تعيد المتضرِّر إلى الوضع المتعادل، وتضمن له المساواة، خلافاً للعدالة التوزيعية، المرتبطة بتوزيع الثروات والمناصب الاجتماعية، والناظرة إلى الحياة العامّة ودَوْر الدولة([19]).
الرومان: المصالح المشتركة
إن تعريف أرسطو في كتابات ألبينوس([20])، وفي كتاب ديجست، قد حظي بالقبول. وقد أضاف إليه شيشرون([21]) عاملاً آخر، حيث قال: «يجب إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه، بشرط أن لا يضرّ ذلك بـ «المصالح العامة». إن مصطلح «المصالح المشتركة» أو «المصالح العامة»، الوارد في تعريف شيسرون، أخذ يتكرَّر لاحقاً في معظم رسائل الحقوق والأخلاق. ويمكن القول: إن سائر التعاريف ـ مع اختلافٍ يسير ـ هي ما ذكره أرسطو، وقام الحقوقيون الرومان بتكميله([22]).
ترجيح كفّة المصالح الأجدر بالتقدير
ذهب بعض الكتّاب إلى القول بأن العدالة نظامٌ يضمن تفوُّق وأفضلية المصالح الأجدر بالتقدير والاحترام. إن المراد من هذا الكلام هو أن لا يقوم النَّظْم الاجتماعي على أساس القوّة والسلطة، وبَدَلاً من المنافع والمصالح الأقوى يتمّ ترجيح المصالح الأجدر بالاحترام.
العدالة الصورية والماهوية
هناك مَنْ قسَّم العدالة إلى: صورية؛ وماهوية([23]). إن العدالة الصورية تعني المساواة، وهو المفهوم الوحيد للعدالة الذي ينسجم مع جميع المعايير المقترحة لتمييز «العدالة» المنسجمة، وقد اتفق عليها الجميع. وذهب بعضٌ إلى اعتبار العدالة الماهوية هي المساواة المطلقة للجميع([24]). وطبقاً لمبنى العدالة الصورية لو أن قاعدة حكمت جميع الحالات والأشخاص الذين يشكِّلون موضوعاً لها بشكلٍ متساوٍ، ولا تمارس المحاباة والتفرقة، كانت عادلةً، سواء أكان مفادها صحيحاً أم غير صحيح.
وبعكس ذلك في العدالة الماهوية، حيث يتمّ الاهتمام بمضمون ومحتوى القاعدة أيضاً، ولا تكفي «المساواة». كما أن الكيفية مطروحةٌ أيضاً، وإن «الاستحقاق» يمثِّل شرطاً لتطبيق العدالة.
ومن ذلك، على سبيل المثال: ليس كلّ قاتلٍ يحكم عليه بالقتل أو أيّ عقوبة أخرى، بغضّ النظر عن حالته النفسية والجسدية وسنّه الخاصّ. إلاّ أن تساوي جميع الأشخاص الذين يتَّصفون بموقعيات وشرائط وظروف واحدة هو من لوازم العدالة. وبشكلٍ عامّ إن العدالة تستعمل بمعناها الكامل، إلاّ إذا كانت مقرونة بقيد «الصوري».
العدالة الطبيعية والحقوقية
عمد أرسطو في كتاب الأخلاق إلى تقسيم «العدالة» إلى: طبيعية؛ وقانونية. ومراده من العدالة الطبيعية هي القواعد العامّة والنوعية التي تنشأ من طبيعة الأشياء، ولا رَبْطَ لها بمعتقدات الأشخاص والقوانين التي تحكم المجتمع. وبعكس ذلك العدالة القانونية، فهي تابعةٌ للأوامر والنواهي، وليس لها ضابطة نوعية. ومن ذلك، على سبيل المثال: إن قيمة شراء عقوبة السجن يتمّ تحديدها من قِبَل القانون، وإن تطبيق العدالة القانونية منوطٌ بدفع تلك القيمة. وعلى هذا الأساس فإن العدالة القانونية ـ خلافاً للعدالة الطبيعية، التي لها صبغة إلهية ومثالية ـ هي مثل الحُسْن والقُبْح الشرعي عند المتكلِّمين وعلماء الأصول في الإسلام، وتستنبط من معطيات القانون.
إن هذا التقسيم قد ألهم الكتّاب الذين سمحوا للحاكم بتطبيق العدالة بشكلٍ مقيَّد وفي إطار القوانين؛ مخافة تجاوزه على الأهداف الوطنية وامتزاج صلاحيات السلطة التشريعية والقضائية، وذلك بأن يقوم الحاكم في مقام تفسير القوانين باستلهام العدالة التي تلقِّنها له مجموعة القوانين، ولا يتجاوز حدود تلك القوانين. وبعبارةٍ أخرى: إن على القاضي أن يحترم القيود والأغلال التي وضعها القانون على أقدامه، ولا يخطو باتجاه «سياسة التقنين». بَيْدَ أن الحقيقة هي أن هذه التوصية لا يتمّ سوى تطبيق جزء منها.
لا شَكَّ في أن الحاكم يخضع لضغط الأفكار والأصول التي فرضت عليه القراءة والتفكير في القوانين. كما تُضاف العادة في تطبيق القانون ورعاية قواعد العدالة والمهنية إلى وجدانه المكتسب، وتصنع منه إنساناً يصعب عليه تحطيم هذه القيود النفسية، والخروج إلى دائرة التفكير بحرّية. ومن هنا تمّ في جميع الأنظمة الحقوقية رصد منطقةٍ حرّة؛ كي يتمكّن الناس فيها من الاحتكام إلى وجدانهم الاجتماعي وذهنهم الصافي، وأن يحلّوا ـ باسم «هيئة المحلفين» ـ محلّ القاضي المحترف.
إلاّ أن الوجدان الحاكم وتطلُّعاته المثالية لا يُسْقَى بمجرّد القوانين والقرارات الحكومية؛ فهو بدَوْره إنسانٌ مستقلّ وعضو في المجتمع، وإن كلا هذين العنوانين من أركان شخصيته، فهو بوصفه إنساناً يتأثَّر بالعرق والعوامل الوراثية والتربية الأسرية والمعتقدات الأخلاقية والدينية والموقعية التاريخية والجغرافية التي ينشأ فيها، كما يتأثَّر تفكيره ـ بوصفه عضواً في المجتمع ـ بوجدان الجماهير التي يرتبط بها ارتباطاً عضوياً واقتصادياً وقومياً أيضاً. إذن فإن ما يراه عدالةً ما هو إلاّ انعكاس لتركيبة من العوامل النفسية والاجتماعية المعقّدة والمتنوِّعة، وعندما يخلد إلى نفسه ويفكّر في العدالة يجد نفسه عاجزاً عن البقاء ضمن الإطار الذي حدّدته له الدولة، وحبس روحه في حصار «العدالة القانونية». قد يتظاهر بأنه لا يطبِّق غير القانون، بَيْدَ أن الحقيقة هي أنه في فرض السكوت ونقض القانون يبدي حساسية تجاه نداء الوجدان أكثر من استجابته لغاية المقنِّن، ويسعى إلى رعاية العدالة التي يحترمها، ما دامت الأدوات المنطقية لانتساب الفكر إلى المقنِّن مجديةً، وأن يراعي جانب الإنصاف أيضاً.
إن التأمُّل في المسالك القضائية([25]) يثبت أن الكثير من آراء المحاكم لا تقبل التوجيه من الناحية المنطقية، ولرُبَما كانت مخالفةً للقانون أيضاً. ولا يمكن نسبة جميع هذه الانحرافات إلى أخطاء وسوء نيّة القاضي. وفي بعض الأحيان يكون الوجدان اليقظ هو الذي يخطو باتجاه العدالة، ويعمل على توظيف النظريات الحقوقية.
وعلى هذا الأساس، بَدَلاً من الحديث عن «العدالة القانونية» ـ التي تقدِّم إلى الذهن مفهوماً عبثياً ـ يجب الحديث عن العدالة القضائية أو الحقوقية؛ لتكون مظهراً لجميع الحقائق القانونية والاجتماعية والنفسية، وأن تعبِّر عن نظمٍ تضفيه سلسلة مراتب المحاكم والأمر بتطبيق القانون. إن القاضي ليس موظَّفاً عند السلطة التي اختارته لهذا المنصب، وإنما هو في خدمة العدالة، ويعمل على توظيف القانون بوصفه وسيلة للوصول إلى أهدافه([26]).
نقد التعاريف: صعوبة تطبيق الضوابط
إن جميع هذه التعريفات صحيحةٌ في بُعْدها الخاص، وهي تجسِّد ناحية من ذلك التوازن المنشود والفضيلة السامية التي يبحث الإنسان عنها؛ وذلك لأنه إذا تمّ وضع كلّ شيء في المجتمع في موضعه، أو إذا أعطي لكل شخص ما يستحقه وتمّت رعاية المساواة، أو تمّ الدفاع عن المصالح التي تحظى بالمقدار الأكبر من الاحترام، سوف يتمّ اجتثاث جذور الظلم والفساد، وسوف يكون العدل وحده هو الحاكم في هذه الجنة الأرضية. ولكنّ المشكلة تكمن في تحديد المكان المناسب لكلّ شخص، وما هو الذي يستحقه؟ وما هي المصالح الجديرة بالاحترام أكثر من غيرها؟ وفي الحقيقة لقد تمّ تعريف العدالة بأمور أضفَتْ إجمالاً على إجمالها، ولم تعرِّف شيئاً. لا يمكن تعيين حدّ العدالة بسهولة، وإن إشكال الحكماء في هذا الشأن كما هو حاصلٌ بالنسبة إلى تعريف «الحقيقة» و«الجمال» أيضاً.
ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: على الرغم من أن تعريف أرسطو مخادع، إلاّ أن تطبيقه من قِبَله يكتسب وجهاً قبيحاً. إن الحكيم العارف في تطبيق هذا التعريف، وبالاستلهام من مؤلَّفات أفلاطون يستدلّ بـ «إن بعض الناس عبيد بحَسَب طبيعتهم، وبالتالي فإنهم جديرون بالعبودية». وفي الحقيقة إنه لم يكن ليشعر بمرارة هذا الاستنتاج؛ وذلك لأنه كان وليد بيئته، وقد حكم على طبق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدةً في عصره.
ليس هناك من كلام هامّ حول المفهوم الكلّي لـ «العدالة»، ولكنْ ما إن يُراد صنع قواعد جزئية من هذا المفهوم الكلّي، وتطبيقه على الوقائع الخارجية، حتّى يبدأ اختلاف الأذواق بالظهور. والسبب الرئيس وراء هذا الاختلاف هو التعارض بين الوجه العام والوجه الخاصّ من العدالة، وهذا الأمر يؤدّي بالقاضي إلى التوسّل بالقانون تارةً؛ وبالإنصاف تارةً أخرى([27]). وهناك مَنْ يرى القانون متطابقاً مع مفهوم «المساواة وإعطاء ذي الحقّ حقّه»؛ وهناك مَنْ يرى في ذلك مفهوماً ظالماً. وكما رأينا إن العدالة ـ في ما يتعلَّق بمبادلة الأموال وتوزيع الثروات ـ تقتضي من وجهة نظر أنصار الحقوق الفردية أن تكون هناك مساواة بين قيمة العمل والبضاعة التي يتمّ تبديلها، وأفضل طريقةٍ لرعاية هذه العدالة هي احترام إرادة الطرفين. بَيْدَ أن أنصار الحقوق الاجتماعية يقولون: إن هذا الأسلوب لا يتطابق مع الإنصاف؛ إذ إنه لا يأخذ الحالة الجسدية والمنزلة الاجتماعية للأفراد بنظر الاعتبار، والعدالة تقضي بأن يتمّ تقسيم جميع الثروات الوطنية بين الناس بحَسَب إمكانياتهم وكفاءاتهم. وهناك اختلافٌ حول كيفية هذه الإمكانات والكفاءات، وهل يجب تقسيم الثروة بين الجميع بالتساوي أم بحَسَب الحاجة أم بحَسَب القيمة ومقدار العمل المُنْجَز؟([28]).
ومع ذلك كلّه يجب الإقرار بأن مفهوم «المساواة» ـ بوصفه جوهر وأساس العدالة ـ يتمّ الحفاظ عليه في جميع أنواع هذه الأذواق المختلفة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: إن الذين يميلون إلى تقسيم الامتيازات والثروات بما يتناسب والكفاءات أو الاحتياجات يرتضون هذه القاعدة القائلة بأن حصص الذين يتمتَّعون بقابليات متكافئة يجب أن تكون «متساوية». كما أطلقوا على المساواة تسمية العدالة الصورية والمجرَّدة أيضاً، لتكون مثالاً لاشتراكها في جميع الآراء([29]). إذن يمكن القول ـ باعتبارٍ ما ـ: إن جميع الاختلافات في كيفية «إدارة العدالة»، وليس في مفهومها.
النتيجة
إن العدالة مفهومٌ أخلاقي. إن التعاليم الدينية والوضع الاقتصادي والسياسي السائد لدى كلّ أمّة يخلق واقعاً أخلاقياً تحكم في ضوئه بشأن التعاطي والتعامل فيما بين أفرادها. إن هذا الإحساس بالعدالة موجودٌ لدى الجميع بشكلٍ وآخر، بَيْدَ أن أكثر الأحكام العُرْفية بسيطة وناقصة، وإن الجميع لا يمكنه تشخيص العدالة بشأن المسائل الحقوقية والاقتصادية. وكما يجب في الأخلاق اعتبار عُرْف الأطهار والأتقياء هو المبنى، يجب التماس مفهوم العدالة في مؤلَّفات علماء الحقوق والأخلاق أيضاً.
وباختصارٍ إن الإنسان يطالب بتطبيق العدالة. وحتّى أصحاب أغلظ القلوب يتظاهرون بأنهم يمتلكون مثل هذا الشَّوْق والتَّوْق إلى العدالة. وإن تاريخ حياة البشر يتبلور في بوتقة السعي من أجل تشخيص العدالة وتطبيقها. ومع ذلك تنشأ النزاعات والحروب في خضمّ البحث عن هذه الضالّة، إلى الحدّ الذي يرتكب معه الجائرون والطغاة جميع أنواع الظلم؛ ليثبتوا أنهم أصحاب طريقة عادلة. إن العدالة تعاني أبداً من هذا الغموض الداخلي، وتذهب ضحية تحرُّرها من التعلُّقات. وعليه فإن الحلّ الأخير يكمن في الارتباط بالأخلاق، والتحوُّل بالتواكب معها.
وبذلك فإن مفهوم العدالة ومصاديقها غير ثابتة، وبَدَلاً من العدالة المعقولة والثابتة يجب البحث عن «العدالة المعاصرة». إن القضاة العدول هم خبراء تشخيص الأخلاق والعدالة، والأقدر على حماية وصيانة هذه القِيَم. وإن تمسُّكهم الوثيق برعاية حرمة القانون وآرائهم المتقدِّمة، وكذلك سلسلة المراتب القضائية التي تؤدّي إلى اتحاد المشارب، من أهمّ عوامل إيجاد النَّظْم في تطبيق العدالة، والحيلولة دون اضطراب الحلول في هذا المجال([30]).
وكما سبق أن ذكرنا إن جوهر العدالة ـ من وجهة نظر بعض المنظِّرين ـ في العالم الراهن هو «المساواة». إن التطبيق العادل للقانون يعني إجراؤه على الغنيّ والفقير، والشريف والوضيع، وفي جميع الأحوال بشكلٍ متكافئ([31]). بَيْدَ أنّه لا بُدَّ من القبول بأن هذا المفهوم الصوريّ والجافّ ليس فيه إمكانية لتطرّق أيّ نوعٍ من أنواع الكيفية، وهذا هو مكمن النقص فيه. لا شَكَّ في أن العدالة لا تستوجب تنفيذ عقوبة متساوية بحقّ أيّ مجرم ـ بقطع النظر عن خصائصه الفردية ـ، ويجب أن تتعلق العقوبات بالأعمال، دون الأشخاص. إن العدالة الصورية والمجرَّدة غير كافية لتطبيق هذا المفهوم الأخلاقي وإدارته، وإن لحكم القلب والإحساس والظروف دَوْراً مؤثِّراً فيها. وعلى حدّ تعبير ديفيد هيوم([32]): «ليس العقل هو مَنْ يحدِّد ويفرض المعيار الأخلاقي، وإنما هو إحساسنا». ثم يجدر بالإنصاف أن يكون وسيلةً لمرونة العدالة، والحدّ من سوء تطبيق وإدارة العدالة، والجمع بين القِيَم المتعارضة.
ومن ذلك مثلاً: في المورد الذي يكون هناك شخصٌ أكثر حاجةً، وآخر هو الأكفأ أو الأنفع، ليس هناك من حلٍّ ـ في توزيع المنفعة العادلة بين هذين الشخصين ـ سوى اللجوء إلى الإنصاف. وهكذا الأمر في تقسيم الخسارة على الغنيّ والفقير إذا اشتركا في ارتكاب خطيئةٍ، وكان الغني قد تسبَّب بضررٍ أقلّ من الضرر الذي تسبَّب به الفقير. وهكذا سائر الأمور الأخرى.
وبعبارةٍ أخرى: إن تطبيق القانون والقواعد العادلة والمجرَّدة التي تحدَّثنا عنها ـ من قبيل: عقوبة الجناية ـ في بعض الموارد الخاصّة لا يقنع أو يرضي ضمير العدالة، فلا يكون هناك مناصٌ من الركون إلى الإنصاف؛ كي نأخذ بالحسبان جميع أطراف الحقيقة القائمة، وخصائصها أيضاً، وأن نقلِّل من تعارض القِيَم. وفي الحقيقة إن الإنصاف هو المنسأة التي تتعكَّز عليها العدالة؛ لتساعدها على المضيّ بشكلٍ مستقيم، وتعيدها إلى التوازن وعدم الانزلاق عند مواجهة خطر السقوط.
ب ـ معرفة العدالة ومصادرها
الاختلاف في تشخيص العدالة
لو تمّ جعل قواعد العدالة ـ بشكلٍ نوعيّ وكلّي ـ مبنىً للحقوق، وتمّ فصل هذه القواعد عن الأحكام الفردية، فإن الإشكال الهامّ يكمن في تشخيص طريقة استنباط وإحراز هذه القواعد، بمعنى أنه يجب أن نرى كيف يمكن التوصُّل إلى الأحكام العادلة؟ وما هو المقام الذي يصلح لتشخيص ذلك؟
لا يوجد هناك جوابٌ قاطع ومسلَّم عن هذا السؤال، وربما أمكن الادّعاء بأنه من أكثر مسائل فلسفة الحقوق صعوبةً وتعقيداً:
1ـ هناك مَنْ قال بأن قواعد العدالة يجب أن تستنبط بحكم العقل، ومن طريق تحليل المسائل الاجتماعية والغايات. لقد تقدَّم في بداية هذا المقال ذكرُنا لهذا الرأي القائم على أساس طبيعة الأشياء والنَّظْم العام في العالم والهَدَف والغاية من الخلق. وقد رأينا كيف يمكن الوصول إلى مفهوم العدالة ممّا هو كائنٌ.
2ـ هناك في المقابل مَنْ لا يرتضي حكم العقل في هذا الشأن، ويرى أن طريق الوصول إلى هذه الحقائق منحصرٌ بالإيمان والإشراق، وأن العواطف الإنسانية وأحكام القلب هي التي تميِّز بين العدل والجَوْر.
وهناك مَنْ اختار إرادة الله والدين لتكون هي الضابط في هذا الشأن أيضاً([33]).
3ـ ومن ناحيةٍ أخرى يذهب علماء الاجتماع إلى الاعتقاد بأن العدالة ناشئةٌ من الوجدان العام. وإن الذين لم يريدوا القبول بالمفهوم المجرَّد لـ «الوجدان العام» يقولون: إن القاعدة العادلة هي التي يرى وجدان جماعة كبيرة من الناس أنها صحيحة([34]). قال برتراند راسل([35]) في تعريف العدالة: «إن العدالة هي ما يراه أكثر الناس عادلاً»، أو بعبارةٍ أخرى: «إن العدالة عبارة عن نظام يُعِدُّ الأرضية ـ بحَسَب رأي عامّة الناس ـ لتقليل امتعاض الناس»([36]).
كما يجب إدراج الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم ضمن هذه الجماعة؛ لأنه يتنزَّل بالعدالة إلى مستوى النفعية البَحْتة. ومن كلماته في هذا الشأن: «إن قواعد العدالة ليست طبيعية، وإنما هي مصطنعة، وهذا لا يعني أنها تفتقر إلى الأسس الصحيحة؛ إذ إن تلك الأسس مفيدة بحَسَب ذواتها»([37]).
4ـ ولكنْ في مقابل هؤلاء يذهب الكثير من المؤلِّفين إلى القول بأن العدالة لا يمكن اعتبارها تابعةً لرأي عامة الناس. وإنهم يقولون: كما أن القواعد الطبيعية لا يمكن تغييرها على طبق رأي الأكثرية؛ حيث إن الحقيقة غير تابعة لآراء الناس، كذلك لا يمكن تعيين العدالة على طبق رأي الأكثرية. قال أرسطو في هذا الشأن: «إن العدالة هي ما يفكِّر به الإنسان العادل». وقد ذهب الأستاذ الفرنسي لوي لوفور في تأييد هذا الكلام قائلاً: بَدَلاً من الالتفات إلى عدد الأشخاص يجب النظر إلى رأي أفضل وأصلح الناس، واعتباره هو المبنى([38]).
وقد استنتج روبييه بدَوْره، في ختام تحليله، أنه للعثور على قواعد العدالة يجب الرجوع إلى مجتمع الحقوقيين الذين يبحثون عن هذه القواعد، وفي مقام الثناء عليها. أما العرف العام والقوانين الحكومية فلا يمكنها أن تشكِّل ضابطة لتشخيص العدالة، ولهذا السبب يحدث في بعض الأحيان أن يقع التعارض بين قواعد الحقوق والعدالة([39]).
5ـ وقد ذهب هيجل([40]) وأتباعه إلى القول بأن الدولة وحدها هي الجهة الصالحة لتشخيص العدالة. يذهب هؤلاء إلى الاعتقاد بأن إرادة الدولة هي مبنى العدالة، ولا فرق بين «ما هو موجود» و«ما يجب أن يكون». ويجب تتبُّع جذور عدم الثقة بهذه العدالة في عقائد السفسطائيين الإغريقيين، حيث كانوا يقولون: «إن العدالة هي المفيدة بحال الأقوى»([41]). وكذلك عند باسكال([42])، حيث كان يقول: «من الخطير القول للناس: إن القوانين ليست عادلة».
الجانب الأخلاقي للعدالة، وفنّ معرفته
إن ما تقدَّم بشأن مبنى الحقوق والأخلاق يغنينا عن الدخول في هذا البحث، بَيْدَ أن التذكير بنقطتين لا يخلو من فائدة:
1ـ إن العدالة مفهومٌ أخلاقي، وعليه فإن جميع العوامل المؤثِّرة في أخلاق كلّ قوم تؤثِّر في التمييز بين العدل والظلم. إن قواعد العدالة ليست فطريةً أو ثابتة، ولكنْ يجب في تشخيصها عدم الاعتماد على قوّة العقل فقط؛ إذ هناك سهمٌ كبير من التأثير في هذا الشأن للمعتقدات الدينية والعواطف أيضاً.
2ـ صحيحٌ أن كلّ إنسانٍ متحضِّر يشعر في نفسه بالعدالة عند مواجهة الأحداث الاجتماعية، وصحيحٌ أن الأحكام الخاصّة والمبعثرة تشبه بعضها أحياناً، بحيث يمكن استخراج قواعد نوعية من مجموعها، ولكنْ يجب عدم اعتبار الأفكار العامة معياراً لتشخيص العدل والظلم. إن الذهن العرفي البسيط لا يستطيع تحليل جميع المسائل الاجتماعية، ويبتلي أحياناً بالأحاسيس والمشاعر البعيدة عن العقل. يجب سقي قوّة العقل بماء التجربة والقراءة. وإن الأذهان القادرة على تشخيص العدالة هي تلك التي حصلت على رؤيةٍ وتجربة كافية في ما يتعلَّق بالأمور الاجتماعية. فكما يتمّ الرجوع إلى أصحاب الأذهان المستعدّة للتمييز بين القبح والجمال في ما يتعلَّق بتقييم الأعمال الفنّية، يجب في البحث عن العدالة الرجوع إلى الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على التمييز بين الصحيح والخطأ. يمكن لأحكام العوامّ أن تكون صحيحة بشأن بعض الأمور البسيطة والابتدائية، ولكنْ لا يمكن الاعتماد عليها دَوْماً وأبداً.
ومن ذلك، على سبيل المثال: إن الصحف تنشر خبراً مفاده أن رجلاً قتل امرأةً عاجزة بشكلٍ وحشي؛ وعند قراءة الناس لهذا الخبر تهتزّ مشاعرهم، ويشجبون جريمته في وجدانهم، إلاّ أن القاضي الذي يدرك تأثير البيئة على إرادة الأفراد، ويعلم أن فوضى واضطراب المجتمع يمثِّل عاملاً أساسياً في وقوع الجرائم، لا يصدر حكمه بنفس السرعة التي يصدر فيها الناس أحكامهم. فهو، قبل أن يكون بصدد الانتقام والثأر وإطفاء نائرة غضبه وشعوره الآني، يفكِّر في إصلاح المجرم ومعالجته. هناك الكثير من الأمور المؤثِّرة في طبيعة الحكم الذي يصدره القاضي، ومن تلك الأمور: وضع حياة المجرم، وارتباطه وعلاقته بالقتيل، والأوضاع والأحوال المحيطة بالجريمة والقتل، وسبق الإصرار والترصُّد من قِبَل المجرم والقاتل، ومقدار سوء عمله ونواياه، وشخصية القاتل والقتيل، وما إلى ذلك من الأمور الكثيرة الأخرى. إن العدالة التي يراها رجل القانون تختلف عن العدالة التي يراها عوامّ الناس، كما أن نظرة الفنان إلى الفنّ تختلف عن رؤية الآخرين.
يضاف إلى ذلك أن العدالة المحترمة من قِبَل مجتمع الأشرار والمجرمين تختلف عن العدالة في مجتمع الأتقياء والحكماء. وهذا الاختلاف في المشارب هو الذي دفع بعض المحقِّقين إلى إحلال «العدالة والأخلاق الدينية» محلّ «العدالة الاجتماعية»([43]). وعلى هذا الأساس فإن حكم العامة ليس هو الملاك في تشخيص العدالة، وإنما يجب في هذا الشأن استخراج مجموع عقائد علماء الاجتماع ومشاربهم القضائية في جميع المراحل.
ج ـ دائرة الحقوق والعدالة
اتجاه القواعد والحقوق نحو العدالة
إن الحقوق والعدالة توأمٌ سيامي تاريخي. وقد اكتشف الإغريق هذا الاتحاد بينهما قبل غيرهم، وسار الرومان في ذلك على آثارهم([44]).
يُعرِّف جستينيان([45]) الحقوق بأنها فنُّ بسط العدالة وحُسْن الظنّ([46]). ويذهب المشهور إلى القول بأن الدولة التي يكتب لها البقاء هي تلك التي تقيم العدل، وتراعي الإنصاف في سلوكها. أما العدالة اليوم فهي ـ بالنسبة إلى الحقوقي المثالي ـ تلك التي يجب أن تُسْتَلْهَم منها القوانين، بمعنى أن مفهومي الحقوق والعدالة ينفصلان عن بعضهما، رغم الارتباط الوثيق بينهما. وبعبارةٍ أخرى: إن النَّظْم الذي يقوم على أساس الحقوق في حالة تحرُّك وتحوُّل مستمرّ، ويتّجه نحو الكمال، وهو الكمال الذي تكون غايته العدالة والصلاح.
إن القاعدة التي لا يراها الناس متطابقة مع العدل والإنصاف لا يقومون بتطبيقها برغبتهم، ويلجأون إلى أنواع الوسائل والحِيَل للتهرُّب منها. وعليه يتعيَّن على الدولة أن تعمل ـ في حدود الإمكان، ومن أجل الحفاظ على النَّظْم العام وإحلال الاستقرار الاجتماعي ـ على المواءمة بين قواعد الحقوق والعدالة التي تحظى بالاحترام من قِبَل الناس.
يمكن مشاهدة الارتباط الوثيق بين الحقوق والعدالة في الكثير من القواعد. فإن النَّظْم في المعاملات ـ على سبيل المثال ـ يقتضي أن لا يشكِّك الناس في اعتبار ونفوذ العقود، وأن يطمئنّوا إلى أن الدولة تحترم مضامين عقودهم، وأنها عند الضرورة تجبر المدين على تطبيق واحترام تلك العقود. وعلى هذا الأساس فإن المقنِّن لم يتجاهل ضرورة تطبيق العدالة أيضاً، وسمح للحاكم بأن يعطي لـ «المدين مهلة عادلة أو دفع المستحَقّ عليه بالتقسيط» (المادة 277 من القانون المدني)، ويعيد النظر أحياناً في مفاد عقود الطرفين (المادة 4 من قانون المالك والمستأجر)([47])، وفي مقام تنفيذ الحكم يمنع من مصادرة عدّة العمل وثياب المدين وحاجاته الضرورية له ولأسرته (المادة 65 من قانون تنفيذ الأحكام المدنية). تستمر الدعاوى حول الصكوك في الأمور التجارية على مدى خمس سنوات، إلاّ أن مالك الصكّ يستطيع مطالبة الذي استخدم الصكّ للإضرار به اعتباطياً حتّى إلى عشر سنوات (المادتان 318 و319 من قوانين التجارة). وهكذا إذا كانت الوثيقة التجارية؛ بسبب افتقارها إلى بعض الشروط الأساسية لاعتبار الصكّ، تقبل دعوى مالك الصكّ على المستفيد منه اعتباطاً (تفريع عن المادة 319 من قوانين التجارة).
إن رعاية التناسب في العقود الضريبية تؤدّي إلى إعفاء الأرباح من الضرائب إلى حدٍّ معيّن، ومن ثمّ يتمّ حساب قيمة الضريبة بشكلٍ تصاعدي. وكذلك في الحقوق الجنائية ينشأ إعفاء الشخص من العقوبة ـ إذا كان إضراره بالآخر بسبب الدفاع المشروع عن النفس ـ من مفهوم «العدالة» أيضاً.
ثم إن من بين أوصاف الحقوق أن تكون مجرَّدة من الخصائص الفردية، وأن تظهر على شكل «قاعدة» كلّية. إن القاعدة تحكم المصاديق الخارجية بشكلٍ متساوٍ. وعليه ففي صلب كلّ قاعدةٍ حقوقية يتجلّى جوهر العدالة (أي المساواة)، وهذا يمنع من الامتيازات الاعتباطية. لا شَكَّ في أن هذا النوع من العدالة صوريّ، ويُحتَمل أن تكون ماهية القاعدة الحقوقية ظلماً مَحْضاً. ولكنْ في الحدّ الأدنى تظهر صورة العدالة في كلّ قاعدةٍ، ومن هنا يُقال: «التسوية في الظلم من العدل أيضاً»([48]).
وعلى الرغم من ذلك ذهب بعض الكتّاب، من أمثال: ديفيد هيوم وكارل ماركس([49]) ـ؛ من منطلق أن العدالة مفهومٌ غامض ومثالي وخيالي، ولا يصلح أن يكون موضوعاً للتحقيقات العلمية ـ إلى اعتبار العدالة مفردة جوفاء، ولا محتوى لها. وقد سعى كولسن إلى تنقيح الحقوق من العدالة.
ونقل عن توماس هوبز([50]) أنه يرى أن القانون هو المعيار في تمييز العدالة. وعلى أساس هذا المبنى يكون القانون عادلاً دائماً، وإن العدالة إنما تكتسب اعتبارها من القانون. إن هذه المقولة تذكّرنا بنظرية الذين أنكروا الحُسْن والقُبْح العقليين، وأحلّوا محلّه الحُسْن والقُبْح الشرعيّين. وعلى أيّ حالٍ فإن هذا الاتحاد إنما يكون مقبولاً في حال أُخذت العدالة بمعناها الصوري بنظر الاعتبار.
الفصل بين الدائرتين
لضمان العدالة المعوّضة في العقود نلاحظ بعض القواعد والأحكام التي تظهر المَيْل الطبيعي للحقوق نحو العدالة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: إن القانون في العقود المعوّضة يشترط مالية كلّ واحد من العوضين في صحّة العقد؛ كي يتحقق التعادل المنشود من قِبَل الطرفين المتعاقدين. كما أن المقنِّن لم يتجاهل ضرورة تعادل قيمة العوضين أيضاً؛ ومن هنا فقد أعطى المغبون حقّ فسخ العقد غير المتعادل (المادة 416 ق. م). كما يعطي الخيار لشاري البضاعة المعيبة بين جبران النقص بأخذ «الأرش» أو يفسخ العقد من رأسٍ (المادة 422 ق. م). كما أن المنع من امتلاك المعوضين يمثِّل قاعدة أخرى في إطار ضرورة الحفاظ على التوازن بين العوضين. وقيل في الطلاق الخلعي: إن الزوجة إنما يجوز لها الرجوع إلى الفدية فيما لو أمكن للزوج الرجوع في الطلاق، وأن لا تتمكَّن الزوجة دون دفع الفدية من حرمان الزوج من حقّ الرجوع، ولا تقوّض التعادل المعهود في الطلاق الخلعي([51]). كما ذهب بعض المحقِّقين ـ خوفاً من اجتماع العوضين في ملك أحد طرفي العقد ـ إلى تصوُّر أن الشرط الذي يضع تلف المبيع قبل التسليم إلى المشتري في عهدة البائع مخالفٌ لمقتضى المعاوضة([52]).
وفي ما يتعلَّق بالقواعد المرتبطة بالتكافل الأُسَري أدرك بعض الكتّاب ـ بحقٍّ ـ أن تكليف الابن بالإنفاق على والدَيْه يأتي كتعويضٍ متعادل عن التكاليف التي اضطلع بها الوالدان تجاه الولد عندما كان صغيراً([53]).
وفي ما يتعلَّق بالحقوق الانتقالية (تعارض القوانين في الزمان) قيل: إن القانون الجديد ليس حاكماً على العقد الجاري؛ وذلك لغاية عدم الإخلال بالعقد المتعادل والمنشود للطرفين([54]). وهكذا في المسؤولية المدنية فإن وجوب حفظ العقد المتعادل يحول دون حرّية المتضرِّر في اختيار مبنى الادّعاء، وفي ما يتعلَّق بعلاقته بالطرف الآخر بغضّ النظر عن العقد، والاستناد إلى قواعد المسؤولية القهرية([55]).
وفي مورد الحوادث غير المتوقَّعة، التي تخلّ بطبيعة العوضين والعقد المتعادل في تاريخ إجراء العقد، تميل القوانين والأفكار الحقوقية إلى جبران هذا الأمر، وإمكان الفسخ، وتقلِّل من الحرمة التقليدية للعقد في مقابل العدالة([56]).
وبالتالي فإن الإخلال في توازن موقعيات البائع والمشتري، في المورد الذي لم يتمّ فيه تسليم المبيع، وتأخّر دفع الثمن النقدي، يُعطي الحقّ للبائع في فسخ العقد من خلال إعمال «خيار تأخير الثمن»، وبذلك يعمل على تخليص نفسه من هذا المأزق (المادة 402 ق. م)([57]).
إذا أمكن تعميم هذا الاستقراء على الموارد التي يمكن فيها تعديل شرائط العقد بحكم القانون؛ لغرض إيجاد التعادل بين العوضين (من قبيل: تعديل ثمن الإجارة في حالة التراضي على أن أجرة المثل تساوي قيمة الإجارة)([58])، سوف ندرك بوضوحٍ أن أحد الأهداف الأصلية للحقوق هو تطبيق العدالة. قد يصبّ المَيْل الطبيعي للحقوق نحو العدالة في بعض الأحيان، وبالتالي يؤدّي ذلك إلى الإخلال في ضرورات حفظ النَّظْم والأمن الحقوقي، إلاّ أن هذه الموارد الاستثنائية يجب أن لا تُحْدِث تشكيكاً حول القاعدة.
وعلى الرغم من ذلك تختلف دائرة الحقوق عن دائرة العدالة من جهتين، وهما:
1ـ إن الهدف من الحقوق في الدرجة الأولى هو إيجاد النَّظْم الاجتماعي. إن فنون التشريع تقتضي في بعض الأحيان قواعد ليس للعدالة حكمٌ بشأنها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: إن العدالة لا تقتضي حكماً خاصّاً بشأن الجانب الذي يجب أن تسير عليه السيارات في الشوارع، أو أين يجب أن تتوقَّف؟ وأن إجازة المُكْرَه هل هي كاشفة عن انتقال مورد المعاملة أو ناقلة له؟ وما إذا كان ضمان تلف المبيع قبل التسليم يقع على البائع أو المشتري؟ وأن المحكمة الصالحة للنظر في الدعوى يجب أن تكون في محلّ إقامة المدّعي أو المدّعى عليه؟ وإن الحقوق هي التي تقرِّر ذلك؛ استناداً إلى أدلة خاصة أخرى. إن العدالة تقتضي أن يتساوى الجميع أمام القانون، وأن تحكم قاعدة واحدة على جميع الموارد المشابهة، إلاّ أن ذات القاعدة لا يمكن اعتبارها نتيجة لتطبيق العدالة أو مخالفة لها.
كما لا يمكن للقانون أن يتنبّأ بجزئيات وخصائص كلّ مورد من الموارد، ويضطرّ إلى تعيين أحكامه على مبنى المصالح والمفاسد النوعية، في حين أن إجراءها في بعض الموارد لا يتّفق مع «العدالة». كما أن المساواة بين الأولاد في الميراث يعتبر عين العدل من الناحية النوعية، إلاّ أن ذات هذه القاعدة تبدو في مورد الأخوين اللذين يكون أحدهما صالحاً ومحتاجاً، والآخر فاسداً ومستغنياً، غير عادلة. وإن إجبار المدين على دفع مالٍ تعهَّد به يُعَدّ من ناحية المصالح النوعية صحيحاً، إلاّ أن إلزام شخصٍ تكفّل بدَيْنٍ باهظ بسبب الاضطرار، أو تضاعف ما تعهّد به بفعل الأحداث الاجتماعية أضعافاً مضاعفة، يُعَدّ ظلماً.
2ـ قد يستدعي حفظ النظام قاعدة مخالفة للعدالة. كما أن عدم الاستماع إلى طلب الدائن الذي لم يُقِمْ الدعوى في المدّة المعيّنة، أو في ظرف المدّة المعيّنة لم يطالب باستئناف الحكم الخاطئ الابتدائي، غيرُ عادل، إلاّ أن القانون يقرِّر ذلك؛ من أجل الحفاظ على نَظْم المحاكم والتقليل من عدد الدعاوى. كما تقتضي العدالة فيما لو انخفضت قيمة النقود بشكلٍ فاحش؛ بسبب اندلاع الحرب أو ظهور الأزمات الاقتصادية، تمكين المحاكم وجعلها قادرةً على تعديل تعهُّد الأشخاص بذات النسبة، إلاّ أن أكثر الدول لا تجيز هذا الأمر.
تقتضي العدالة بأن يتحمَّل المجرم نتيجة أفعاله الإجرامية، ولا يمكن معاقبة أيّ شخص بجريرة غيره. إن الولد الذي يُولَد من سفاحٍ لا يتحمَّل أيَّ ذنبٍ، وعليه فمن غير العدل حرمانه من حماية القانون، وعدم اعتباره واحداً مثل سائر الأولاد. إلاّ أن مساواته في الحقوق مع الأولاد الشرعيين مخالفٌ للحفاظ على سلامة الأسرة؛ إذ في مثل هذه الحالة لا تعود هناك حاجةٌ إلى بناء الأسرة وإجراء عقد النكاح، ويمكن لكلّ شخصٍ ـ بَدَلاً من قبول التعهُّد الناشئ من عقد الزواج ـ أن يعاشر مَنْ يشاء، وهذا هو عين الخطر الذي يحذِّر منه المشرِّع، ويدعوه حرصه على حماية الأطفال إلى التزام جانب الحَذَر والاحتياط([59]).
إن هذا النوع من الأمثلة كثيرٌ. ولكنْ علينا الالتفات إلى أن ترجيح المصالح العامة على الحقوق الفردية إذا لم يقترن بالقسوة واللاإنسانية يُعَدّ نوعاً من العدالة. ويجب الجمع بين هاتين المصلحتين: عدم تجاهل شخصية الإنسان وحرمة دمه وحرّيته؛ وعدم اتخاذ المجتمع ساحةً للأهواء الاعتباطية والمصالح الشخصية. ومن خلال رعاية التناسب بين الحقوق الفردية والمصالح العامّة يتمّ ضمان «العدالة الاجتماعية» بالمعنى الحقيقي للكلمة.
د ـ العدالة والنظام الأخلاقي
معيار الحُسْن والقُبْح في الحقوق
يُذعِن الجميع حالياً ـ بشكلٍ وآخر ـ بأن قواعد الحقوق وليدة إرادة الدولة، وفي بعض الأحيان تؤدّي هذه الإرادة ـ سواء عن رغبة أو اضطرار ـ إلى خلق الحقوق، وقد تعمل في بعض الأحيان على ضمان واستقطاب القواعد التي يخلقها العُرْف أو الوجدان العام، صراحةً أو عبر الأساليب القضائية. وعلى أيّ حالٍ إن التشريع والتقنين يُعَدّ عملاً معقولاً وإرادياً وهادفاً. إن الذي يمنح الحقوق القدرة المادية ـ طبقاً لهذه الرؤية الواقعية ـ هو إرادة الدولة، وإنْ كانت منحرفة عن الصراط المستقيم للعدالة. وبعبارةٍ أخرى: إن القانون السيّئ ـ مثل القانون الجيِّد ـ يؤدّي إلى الإلزام الاجتماعي.
ولكنْ يجب التذكير بهذه النقطة، وهي أن هذه الرؤية الواقعية الاجتماعية لا تعني الثناء على سلطة الدولة، وغضّ الطرف عن المعيار الأخلاقي لحُسْن وقُبْح القوانين. إن العدالة إذا لم تكن وصفاً جوهرياً للحقوق فلا شَكَّ في أنها ميزانٌ للتقييم، ومن أهمّ أوصافه الكمالية. إن الناس المخاطَبين بالأحكام الحكومية أو القضاة المخوَّلين إجراء قواعد الحقوق يعملون في مقابل وجدانهم ـ أي المحكمة التي لا سلطة للدولة عليها ـ على تحديد القِيَم والاعتبار الواقعي للقوانين بميزان العدالة. إن هذا الحكم وأثره وانعكاسه على نفوذ واعتبار القوانين واقعية أخرى يجب القبول بها إلى جانب سلطة الدولة. لو أسمَيْنا الواقعية الأولى (الحكومية) صورية، والواقعية الثانية (الأخلاقية) ماهوية، رُبَما سنكون أقرب إلى الحقيقة في بيان المراد.
وعلى هذا الأساس إن النظام الذي أعدَدْناه للحقوق ليس بالمعنى المرسوم لهذا المصطلح «التحقُّق الحكومي أو الاجتماعي»، بل هو ممتزجٌ بالأهداف والتطلُّعات الأخلاقية والدينية والسياسي وأحكام القلب أيضاً. وإن لفنّ العدالة والمطالبة بالحقوق مكانةً لائقة فيه. وفي الحقيقة قد سعَيْنا إلى أخذ الإنسان ـ الواقع في مركز هذا النظام ـ بنظر الاعتبار كما هو، وأن نصل إلى المصادر الكامنة للحقوق أيضاً.
العدالة: القيمة الأولى في الحقوق
يذهب الحكماء إلى القول بأن «الحرّية» و«المساواة» و«العدالة» من أسمى القِيَم الأخلاقية. إن المقارنة بين هذه القِيَم، وتمييز القيمة الأسمى، يعتبر من أعقد الأحكام؛ وذلك لأن كلّ واحد من هذه المفاهيم الثلاثة من الفرادة والقيمة والانسجام مع الروح الإنسانية، بحيث يصعب ترجيحه على غيره، كما يصعب على الأديب أن يقارن بين امرئ القيس وطرفة بن العبد، أو بين المتنبي والبحتري، وتحديد مَنْ هو الأفضل منهم. ولكنْ مع ذلك يمكن للمتأمِّل في النظام الأخلاقي أن يعمل على تعيين القيمة الأخلاقية الحاكمة والأفضل من غيرها:
1ـ يذهب الكثير من الحكماء إلى القول بأن «الحرّية» تمثِّل مركز وقطب جميع القِيَم الإنسانية الأخرى، إلى الحدّ الذي يذهب معه (إيمانوئيل كانْت)([60]) إلى القول في تعريف الحقوق: «هي القواعد التي بموجبها يمكن الجمع بين حرّية كل شخص مع حرّيات الآخرين». ويبدي (جان جاك روسو)([61]) تذمُّره من القيود التي فرضتها الحضارة على الحرّيات الطبيعية للإنسان، واعتبر ذلك منشأً لجميع الآلام والمآسي، ويرى أن بناء المجتمع يكمن في قبولها بشكلٍ حُرّ. كما ذهب (فريديش هيجل) ـ رغم ثنائه على السلطة ـ إلى اعتبار الحقوق أمراً ضرورياً لضمان الحرّية لإرادة الإنسان.
إن التحليلات والتبجيلات بشأن الحرّية كثيرة، وتبلغ ذروتها في الوجودية عند (جان پول سارتر)([62]). وعلى الرغم من ذلك فإن الحرّية مقيَّدة من الداخل، أو إنها كذلك في دائرة الحقوق في الحدّ الأدنى؛ إذ عندما يتمّ القبول بالحياة الاجتماعية بوصفها أمراً ضرورياً لا يكون هناك مناصٌ من العمل على تقييد حرّيات الأفراد من أجل الحفاظ على حرّيات الآخرين؛ لكون ذلك من لوازم بناء المجتمع.
وبعبارةٍ أخرى: إن النَّظْم والأمن الضروري في المجتمع يعمل ـ شئنا أم أبينا ـ على حبس الحرّية في قفصٍ ذهبي. ومن هنا يذهب إيرينغ (الحقوقي الألماني الكبير) إلى اعتبار العدالة أفضل من الحرّية([63]).
ومن ناحيةٍ أخرى قد أثبتت التجربة والتاريخ أن الحرّية المنفلتة والزائدة عن الحدّ تصبح في حدّ ذاتها حصاراً يضيِّق الخناق على الحرّيات. فالأذكياء يستحوذون على جميع المزايا، وكلما أصبحوا أكثر قوّةً عملوا على فرض المزيد من القيود على حرّيات الآخرين. ومن هنا تمسّ الحاجة إلى المساواة، ويأخذ الجميع يطالبون بها، حيث يسير الاتجاه نحو تحديد الحرّيات من أجل ضمان وتوفير المساواة.
ثم إن الثناء المطلق على الحرّية يبلغ حدّاً يرى فيه كلّ شخصٍ نفسه عالماً مستقلاًّ لا يقبل النقد والملامة، وتتّخذ جميع المباني الأخلاقية والدينية شكلاً نسبياً، الأمر الذي يؤدّي إلى الفوضى والهرج والمرج. وهناك الكثير من المعارضين لهذا الأمر([64]).
2ـ قيل: إن عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية يؤدّي إلى الشعور بالحاجة المبرمة إلى مفهوم «المساواة» بوصفها قيمة سامية ومفضّلة، وأن تكون حاكمة على «الحرّية». وقد اضطر (روسو) في العقد الاجتماعي إلى التضحية بالحرّية من أجل المساواة، واقترح بأن على الجميع إذا أرادوا بناء الدولة الديمقراطية أن يتنازلوا عن حقوقهم وامتيازاتهم الخاصّة، ووضعها تحت تصرُّف الدولة؛ لتحقيق «المساواة».
كما أن الغاية الرئيسة من الحكم والقانون ـ في الفلسفات الاجتماعية ـ تكمن في إحلال المساواة الاقتصادية والاجتماعية. وإن الحرّية إنما تكون محترمةً ما دامت لا تضرّ بهذه الغاية. وإن نفوذ هذه الفلسفات قد أدّى إلى أن يعمل القانون على تحديد الحرّيات في المجتمعات الحُرّة؛ كي لا ينفرط عقد المساواة.
وفي الحقيقة إن الحاجة إلى المساواة هي حاجة إلى «العدالة»؛ وذلك لأن المساواة والاعتدال موجودٌ وكامن في ذات وجوهر العدالة، وهو الذي يتمّ التعبير عنه بـ «العدالة الصورية». وإن ضمان المساواة بين الناس أمام القانون يمثِّل واحداً من وجوهه الواضحة.
وعلى الرغم من ذلك فإن المساواة المطلقة والرياضية ليست مطلوبةً دائماً. وإن لهذا المفهوم قيوداً في صلبه، وهو في حصارٍ خاصّ من «القِيَم». إن الناس من حيث الحاجة والنفع الذي يقدِّمونه إلى المجتمع ليسوا متساوين. وعليه يبقى هذا السؤال مطروحاً دائماً: هل حجم انتفاعهم بالمزايا الاجتماعية والاقتصادية يجب أن يكون متناسباً مع حاجتهم أو مع مقدار عملهم وفائدتهم الاجتماعية؟ ومن هنا يتمّ الحديث عن التناسب والاعتدال. ويُقال على سبيل المثال: في مقابل العمل المتساوي يجب دفع أجرٍ متساوٍ. وعلى هذه الشاكلة تبرز العدالة الماهوية، وتأمر بإعطاء كلّ شخص الحقّ الذي يستحقه.
3ـ إن العدالة ـ خلافاً لـ «الحرّية» و«المساواة» اللذين يخضعان للقيود الناشئة من طبيعتيهما، والتعاطي مع سائر القِيَم الأخرى ـ كلّما كانت مطلقةً ومجرّدة من القيود كانت أسمى وأرقى. وإن الإنسان إذا لم يتمكَّن من تحقيق العدالة الإلهية فإنه في الحدّ الأدنى لا يريد فقدان الصورة الأرضية لهذه العدالة، والتضحية بها على مذبح الحرّية أو النظام.
في النظام الحقوقي يتمّ في بعض الأحيان التضحية بالعدالة من أجل إحلال النظم والأمن الحقوقي. وهناك مَنْ انبهر بهذا الأمر، وأصبح مولعاً بالسلطة، متصوِّراً أن قواعد الحقوق تهتمّ في المرحلة الأولى بإقامة النظام. إلاّ أن هذا الأمر يُعَدّ في مجال القِيَم بوصفه «شرّاً لا بُدَّ منه». يقال: إن إيجاد النَّظْم يعتبر مقدّمة لتطبيق العدل، ويكون النَّظْم مقبولاً على هذا الأساس. وإلاّ لا يمكن في نظام القِيَم الأخلاقية ترجيح كفّة النَّظْم على العدالة أبداً. ومن هنا فإن (إيمانوئيل كانْت) ـ وهو أكبر فيلسوف مدافع عن النَّظْم والحرّية ـ يقول في آخر تحليلٍ له: «إذا لم تكن هناك عدالة فإن الحياة لن تستحقّ كل هذا العناء».
وفي القرآن الكريم يحتلّ العدل المرتبة الأولى من بين أوامر الله في مقام الحكم بين الناس([65])؛ وذلك لأنه هو الأقرب إلى التقوى (بوصفها معياراً للتفاضل بين الناس عند الله)([66]).
ومن هنا، رغم أنه لا يمكن التخلّي عن القِيَم السامية لـ «الحرّية» و«المساواة»، ولكنْ في التحليل الأخير يجب اختيار «العدالة» بوصفها القيمة الأخلاقية الأولى، واعتبارها هي المعيار في تحديد القوانين الصالحة والطالحة([67]).
ولا بُدَّ لنا من إضافة أن بعض الفلاسفة قد توصَّلوا ـ من طريق الواقعية ـ إلى نتيجةٍ مفادها أن الحقوق تمثِّل فنّ بسط العدالة، بمعنى أن تطبيق العدالة ليس مجرّد هدف غائيّ للحقوق، وإنما هي موضوع ومسؤولية الحاكم العادل. وعلى حدّ تعبير (ميشيل فيلي): إن مهمة الحاكم العادل في الدعاوى تكمن في تعيين السهم المناسب لكلّ واحدٍ من طرفي النزاع في الملكية والحقوق والتعهُّدات أو الصلاحيات، وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه. وإن المشرِّع وسائر علماء الحقوق والمساعدين والعاملين في سلك القضاء يسهمون في تحقيق هذا التوزيع العادل([68]). وعليه يجب اعتبار الحقوق «فنّ التوزيع».
الهوامش
(*) حقوقيٌّ بارز، وأستاذُ جامعة طهران. شارك في وضع مسوّدات دستور الدولة بعد الثورة. صاحب مؤلَّفات قانونيّة معروفة. توفّي عام 2014م.
([1]) للقراءة حول العلاقة بين الحقوق والعدالة يمكن الرجوع إلى المصادر التالية (باللغة الفارسية): الجزء الأول من كتاب مباني حقوق (أسس الحقوق)، لمؤلِّفه: الدكتور موسى جوان، طهران، 1336هـ.ش. ومن بين المصادر الفرنسية ننصح بكتابين، وهما: 1ـ نظريه عمومي حقوق (النظرية العامة للحقوق)، لمؤلِّفه: روبيه، ط2، باريس، سنة 1951م؛ 2ـ مقام حقوق در زندگي اجتماعي (منـزلة الحقوق في الحياة الاجتماعية)، لمؤلِّفه: بيل إسمن، (مقدّمة لدراسة الحقوق 1، باريس، سنة 1951م).
([2]) قال تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً﴾ (الروم: 8). وانظر أيضاً: العنكبوت: 44، الرحمن: 3، التغابن: 3، الأنبياء: 16، ص: 27.
([3]) إن القرآن الكريم يأمر بهذا الأسلوب التجريبي لهداية الأفكار في إطار البحث عن العدالة. انظر: يوسف: 109، فاطر: 44.
([4]) أفلاطون أو أرستوكليس بن أرستون (427 ـ 347ق.م): فيلسوف يوناني كلاسيكي. كاتبٌ لعدد من الحوارات الفلسفية. يعتبر مؤسِّساً لأكاديمية أثينا، التي كانت أوّل معهد للتعليم العالي في العالم الغربي، وقد وضع الأسس الأولى للفلسفة الغربية والعلوم. المعرِّب.
([5]) انظر: أفلاطون، جمهور (الجمهورية): 38 فما بعد، ترجمه إلى اللغة الفارسية: فؤاد روحاني. اشتمل هذا الكتاب على مناقشة بين سيفالوس وسقراط بشأن ماهية العدالة، فهل هي بمعنى أداء الدين أو الإحسان في حقّ الأصدقاء والإساءة للأعداء، أو أن أساسها الإحسان، أو أن مآل العدالة هو العمل لمصلحة الطبقة الحاكمة؟
([6]) أرسطو أو أرسطوطاليس (384 ـ 322ق.م): فيلسوفٌ يوناني. أحد عظماء المفكِّرين. تغطّي كتاباته مجالات عدّة، منها: الفيزياء والميتافيزيقا والشعر والمسرح والموسيقى والمنطق والبلاغة واللغويات والسياسة والحكومة والأخلاقيات وعلم الأحياء وعلم الحيوان. المعرِّب.
([7]) انظر: دنس لويد، مفهوم حقوق (مفهوم الحقوق): 118 ـ 119؛ إيان بوبر، جامعه باز ودشمنانش (المجتمع المفتوح وأعداؤه): 100 فما بعد، ترجمه إلى اللغة الفارسية: علي أصغر مهاجر.
([8]) انظر: د. بهاء الدين پازارگاد، تاريخ فلسفه سياسي (تاريخ الفلسفة السياسية) 1: 109.
([9]) انظر: دنس لويد، مفهوم حقوق (مفهوم الحقوق): 118؛ الإمام محمد الغزالي، إحياء العلوم 3 (الجزء الثامن): 98 فما بعد.
([10]) انظر: مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي، الكتاب السادس، رقم الأبيات: 2560 ـ 2563.
([11]) نقلاً عن: الشيخ مرتضى الأنصاري، رسالة العدالة (المكاسب: 326).
([12]) العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 371.
([13]) انظر: ميشيل فيلي (Villey)، فلسفه حقوق (فلسفة الحقوق) 1: 30 فما بعد (معاني وأهداف الحقوق).
([14]) انظر: المصدر السابق: 31.
([15]) “Neither by nature. Then, nor contrary to nature to the virtues arise in us; rather we are adapted by nature to receive them, and are made perfect by habit”. Etics, Ross trans, 1942, BK. II. 1103 a: Patterson, Jusrisprudence, Page. 338.
([16]) آصف محسني، أخلاق عالم آرا: 34.
([17]) نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري: 172.
([18]) في ما يتعلَّق بمفهوم العدالة عند أفلاطون وأرسطو انظر: جورج دل فيكيو، العدالة ـ الحقوق ـ الدولة، مطالعات فلسفه حقوق (دراسات فلسفة الحقوق): 8 فما بعد؛ ميشيل فيلي (Villey)، فلسفه حقوق (فلسفة الحقوق): 35، حيث يذهب طبقاً لهذا التعريف إلى الاعتقاد بأن الحقوق تعني فنّ التوزيع، وهو الفنّ الذي يعطي كلّ شخص حصّته التي تليق به من الأموال.
([19]) انظر في هذا الشأن الصفحتان 168 و173. وانظر أيضاً: ناصر كاتوزيان، مقدّمه علم حقوق (مقدمة في علم الحقوق): 23، 27 (مصدر فارسي).
([21]) ماركوس توليوس سيسرو (شيشرون) (106 ـ 43ق.م): كاتبٌ وخطيب روماني مميَّز. أثارت شخصيته الكثير من الجَدَل، وخاصة في الجانب السياسي من حياته. وكان يعتبر بحقّ أب الفلسفة السياسية في روما. المعرِّب.
([22]) نقلاً عن: روبيه، نظريه عمومي حقوق (نظرية الحقوق العامة): 213 ـ 216. قال الخواجة نصير الدين الطوسي في تعريف العدالة: إن لفظ العدالة مبنيّ على معنى المساواة. وتعقّل المساواة ممتنع بدون اعتبار الوحدة. (أخلاق ناصري: 72).
([23]) دنيس لويد، مفهوم حقوق (مفهوم الحقوق): 117 فما بعد.
([24]) انظر في هذا الشأن: إتش بيريلمان (Ch. Perelman)، آرمان عدالت ومسأله بحث واستدلال درباره آن (مفهوم العدالة ومسألة البحث والاستدلال بشأنها): 12.
([25]) انظر: ناصر كاتوزيان، توجيه ونقد رويه قضائي (توجيه ونقد المسالك القضائية)، انتشارات يلدا (مصدر فارسي).
([26]) يذهب أرسطو بدَوْره إلى اعتبار الانصاف عدالةً أسمى، حيث تغدو وسيلةً لتصحيح وتعديل مسار العدالة القانونية، وتصبح حاكمةً عليها. انظر: بير بوليه (Bellet)، قاضي وإنصاف (القاضي والإنصاف)، مقالة في مذكرة رودير: 9.
([27]) لا ينبغي الخلط بين العدالة ذات المفهوم النوعي وبين الإنصاف الذي يمثِّل إحساساً عن الوجه الأكثر لطافة من العدالة في الموارد الخاصّة. إن الرجوع إلى الإنصاف إنما يكون له ما يبرِّره إذا كان تنفيذ القاعدة العادلة ينطوي ـ في فرضٍ خاصّ ـ على نتائج غير مطلوبة، ويميل الوجدان الأخلاقي إلى إصلاحها. كما كان أرسطو يصف الإنصاف بأنه عدالة أفضل من العدالة القانونية. وذهب جيني إلى تسميته بالشعور والإحساس الغريزي الذي يضع طريقة حلّ أفضل من العقل المتعارف. (شيوه هاي تفسير (أساليب التفسير) 2: 488). وانظر أيضاً: بير بوليه (Bellet)، قاضي وإنصاف (القاضي والإنصاف)، مقالة في مذكرة رودير: 9.
([28]) للوقوف على مفاهيم العدالة والاختلافات الموجودة في هذا الشأن انظر: إتش بيريلمان (Ch. Perelman)، آرمان عدالت ومسأله بحث واستدلال درباره آن (مفهوم العدالة ومسألة البحث والاستدلال بشأنها): 7 فما بعد، تقديم: (A. Hart).
([29]) انظر: المصدر السابق: 16، حيث نجد في تعريف العدالة ما يلي:
A Principle in accordance with which beings of one and same essential category must be treated in the Same Way.
([30]) انظر: ناصر كاتوزيان، مقدّمه علم حقوق (مقدمة في علم الحقوق): 166 (مصدر فارسي).
([31]) انظر: إتش بيريلمان (Ch. Perelman)، آرمان عدالت ومسأله بحث واستدلال درباره آن (مفهوم العدالة ومسألة البحث والاستدلال بشأنها): 7 فما بعد، تقديم: (A. Hart)؛ دنيس لويد، مفهوم حقوق (مفهوم الحقوق): 119.
([32]) ديفيد هيوم (1711 ـ 1779م): فيلسوفٌ واقتصادي ومؤرِّخ اسكتلندي. يعتبر شخصية هامة في الفلسفة الغربية وتاريخ التنوير الاسكتلندي. المعرِّب.
([33]) قال رينار في كتابه (الحقوق، المنطق، الذوق السليم): إن مفهوم العدالة مطبوع في وجدان كل شخص. وللعثور على هذا المفهوم يجب البحث في الذات وفي نفوس الآخرين، وفي التاريخ أيضاً. ومن هنا يكون مفهوم العدالة نتاج وحصيلة التكامل الاجتماعي. فكما أن فكرة الكاتب مطبوعةٌ في كتابه، كذلك الحقوق الطبيعية منقوشة في ضمير الإنسان. (انظر: مباني حقوق (أسس الحقوق) 1، العدد 115: 190، ترجمه إلى اللغة الفارسية: د. موسى جوان)؛ وانظر أيضاً: جاستن وغوبو، رساله حقوق مدني (رسالة الحقوق المدنية)، المقدّمة، العدد 12، حول عقائد سان توماس داكن في التلفيق بين حكمة أرسطو والدين المسيحي.
([34]) انظر: دوغي، رساله حقوق أساسي (رسالة الحقوق الأساسية) 1: 126 فما بعد.
([35]) بيرتراند أرثور ويليام راسل (1872 ـ 1970م): فيلسوفٌ وعالم منطق ورياضيات ومؤرِّخ وناقد اجتماعي بريطاني. قاد الثورة البريطانية ضدّ المثالية. يُعَدّ أحد مؤسِّسي الفلسفة التحليلية، إلى جانب سلفه (كوتلب فريج) وتلميذه (لودفيغ فتغنشتاين). كما يعتبر من أهمّ علماء المنطق في القرن العشرين. المعرِّب.
([36]) برتراند راسل، أخلاق ورسالت در جامعه (الأخلاق والرسالة في المجتمع): 43، ترجمه إلى اللغة الفارسية: د. محمود حيدريان. ومع ذلك فقد ذكر برتراند راسل في موضع آخر: «وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق لا تنحصر في هذا الحكم، ويقول: افعل ما يرتضيه مجتمعك، وارتدع عمّا لا يرتضيه مجتمعك». (المصدر السابق: 54). ولو اعتبرنا العدالة على أساس كلا هذين الحكمين فإن الأمر سيبدو متعارضاً.
([37]) انظر: ديفيد هيوم، رساله طبيعت إنساني (رسالة في الطبيعة الإنسانية): 601، ترجمة: ليروي (Leroy)، 1945م، نقلاً عن: باتيفول، مسائل مبنائي فلسفه حقوق (مسائل مباني فلسفة الحقوق): 401، الهامش رقم 333.
([38]) لوئي لوفور، حقوق وساير قواعد زندگي اجتماعي (الحقوق وسائر قواعد الحياة الاجتماعية)، أرشيف فلسفة الحقوق، عام 1935م، العددان 3 ـ 4: 19؛ هدف حقوق (غاية الحقوق)، أرشيف فلسفة الحقوق، عام 1937م، العددان 1 ـ 2: 11.
([39]) انظر: روبييه، نظريه عمومي حقوق (نظرية الحقوق العامة): 221.
([40]) جورج فيلهلم فريدريتش هيجل (1770 ـ 1831م): فيلسوفٌ ألماني. مؤسِّس المثالية الألمانية في الفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. طوّر المنهج الجَدَلي الذي أثبت من خلاله أن مسار التاريخ والأفكار يتمّ من خلال الطريحة والنقيضة ثمّ التوليف بينهما. المعرِّب.
([41]) انظر: المصدر السابق: 90.
([42]) بليز باسكال (1623 ـ 1662م): فيزيائيٌّ ورياضي وفيلسوف فرنسي. اشتهر بتجاربه على السوائل في مجال الفيزياء، وبأعماله الخاصّة بنظرية الاحتمالات في الرياضيات. إليه يعود المبدأ المعروف بـ (قانون باسكال)، الذي أثبت فيه أن للهواء وزناً، وأن ضغطه يمكن أن ينتج فراغاً. المعرِّب.
([43]) انظر: ريبر، قاعده أخلاقي در تعهُّدات مدني (القاعدة الأخلاقية في التعهُّدات المدنية)، العددان 16 ـ 17؛ نيروهاي سازنده حقوق (قوى الحقوق البنّاءة): 414. إن العدالة الدينية ذات ملاك واضح وثابت؛ لأن العادل هو الذي لا يرتكب معصية كبيرة، ولا يصرّ على المعصية الصغيرة. انظر: الشيخ مرتضى الأنصاري، رسالة العدالة، ملحق المكاسب: 326. وفي ما يلي واحد من تعريفات العدالة في الفقه، حيث يقول المشهور في هذا الشأن: «إنها كيفية نفسانية باعثة على ملازمة التقوى أو عليها مع المروءة»، حيث يرى مفهوم «التقوى» و«المروءة» من لوازم العدالة، وبذلك يزيد من غموضها. وعن كتاب الوسيلة لابن حمزة قوله: إن العدالة تحصل بأربعة أمور، وهي: الورع، والأمانة، والوثوق، والتقوى. (المصدر السابق نفسه).
إن مصطلح «العدالة الاجتماعية» من مصطلحات علماء علم الاجتماع، الذين يرَوْن أن جميع القواعد الحاكمة على الأفراد يجب البحث عنها في الوجدان العام، وإن الذين يتحدثون عن العدالة يجب عليهم من الآن فصاعداً أن يجعلوا من «العدالة الاجتماعية» مبنى للقواعد الحقوقية.
([44]) في ما يتعلَّق بالعلاقة بين مفهومي (Jus) و(Justitia) في الحقوق الرومية والإغريقية، وفضيلة العدالة عند أرسطو، انظر: ميشيل فيلي (Villey)، فلسفه حقوق: معاني وهدفهاي حقوق (فلسفة الحقوق: المفاهيم وأهداف الحقوق)، العددان 25 ـ 36: 51 فما بعد، ط2؛ غوستن وغوبو، المقدّمة، العدد 10. إن سانت أوغسطين (الحكيم المسيحي) يسمّي الدولة من دون عدالة بحكومة القراصنة. دنيس لويد، أنديشه حقوق (مفهوم الحقوق): 79.
([45]) جستينيان الأول (482 ـ 565م): كان إمبراطوراً رومانياً شرقياً (بيزنطياً). اشتهر بإصلاحه الرمز القانوني المسمّى بـ (قانون جستنيان). يُعتبر قدّيساً في الكنيسة الأورثودوكسية. المعرِّب.
([46]) وقد عمد رينارد (Renard) انطلاقاً من هذا التعريف، في كتاب «الحقوق، العدالة، الإرادة»: 68 فما بعد، إلى القول في تعريف الحقوق: «نظم يراد منه تفعيل العدالة والصلاح». (نقلاً عن: مباني حقوق (مباني الحقوق) 1، العدد 112: 187، ترجمه إلى اللغة الفارسية: د. موسى جوان).
([47]) يشتمل هذا الأمر في حقوقنا على صبغة استثنائية، ولا يحقّ للحاكم أن يُعيد النظر في العقود تحت ذريعة رعاية العدالة. (دوره مقدّماتي حقوق مدني (الدورة التمهيدية للحقوق المدنية): 168، ط1).
([48]) انظر: دنس لويد، مفهوم حقوق (مفهوم الحقوق): 131.
([49]) كارل هانريك ماركس (1818 ـ 1883م): فيلسوفٌ واقتصادي وعالم اجتماع ومؤرِّخ وصحفي واشتراكي ثوري ألماني. لعبت أفكاره دَوْراً هامّاً في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير الحركات الاشتراكية. نشر العديد من الكتب خلال حياته، ومن أهمها: (بيان الحزب الشيوعي)، و(رأس المال). المعرِّب.
([50]) توماس هوبز (1588 ـ 1679م): أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر الميلادي في إنجلترا، ولا سيَّما في المجال القانوني؛ إذ كان ـ بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ ـ فقيهاً قانونياً، ساهم بشكلٍ كبير في بلورة الكثير من الأطروحات التي تميَّز بها القرن السابع عشر على المستوى السياسي والحقوقي، كما عرف بمساهمته في التأسيس للكثير من المفاهيم التي لعبت دَوْراً كبيراً على مستوى الفعل والتطبيق، وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي. وقد وضع كتابه (لوياثان) الأساس لمعظم الفلسفة السياسية الغربية من منظور نظرية العقد الاجتماعي. المعرِّب.
([51]) انظر: ناصر كاتوزيان، حقوق مدني، خانواده (الحقوق المدنية، الأسرة) 1: 265.
([52]) انظر: الميرزا النائيني والشيخ موسى الخوانساري، منية الطالب 2: 190.
([53]) انظر: كاربونيه، حقوق مدني (الحقوق المدنية) 1، المقدّمة، العدد 1: 6.
([54]) انظر: ناصر كاتوزيان، حقوق انتقالي: تعارض قوانين در زمان (الحقوق الانتقالية: تعارض القوانين في الزمان): 149 (مصدر فارسي).
([55]) انظر: ناصر كاتوزيان، ضمان قهري ومسؤوليت مدني (الضمان القهري والمسؤولية المدنية) 1: 52 ـ 53 (مصدر فارسي).
([56]) انظر: ناصر كاتوزيان، قواعد عمومي قراردادها (القواعد العامة للعقود) 3: 534 فما بعد (مصدر فارسي).
([57]) انظر: ناصر كاتوزيان، عقود معيّن (العقود المعيّنة) 1: 152 (مصدر فارسي).
([58]) انظر: المصدر السابق: 343 ـ 382.
([59]) انظر: ناصر كاتوزيان، حقوق مدني، خانواده (الحقوق المدنية، الأسرة): 311 (مصدر فارسي).
([60]) إيمانوئيل كانْط (1724 ـ 1804م): فيلسوفٌ ألماني. يعتبر آخر الفلاسفة المؤثِّرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، وأحد أهمّ الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية، وهو آخر فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، والذي بدأ بجون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم. من أشهر أعماله: (نقد العقل المجرّد)، و(نقد العقل العملي). المعرِّب.
([61]) جان جاك روسو (1712 ـ 1778م): كاتبٌ وأديب وفيلسوف وعالم نبات جنيفي / فرنسي. يُعَدّ من أهمّ كتاب عصر التنوير. ساعدت فلسفته على تشكيل الأحداث السياسية التي أدَّتْ إلى الثورة الفرنسية، حيث أثَّرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة. المعرِّب.
([62]) جان بول شارل إيمارد سارتر (1905 ـ 1980م): فيلسوفٌ وروائي وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي. اشتهر سارتر بكونه كاتباً غزير الإنتاج؛ ولأعماله الأدبية وفلسفته المسمّاة بالوجودية، وانتمائه السياسي إلى اليسار المتطرِّف. من أعماله: (الوجود والعدم)، و(الوجودية مذهب إنساني)، و(نقد العقل الجَدَلي). وله مجموعة من الروايات والمسرحيات، ومنها: (الغثيان) و(الحائط)، و(الذباب) و(العاهرة الفاضلة) و(الغرفة المغلقة). كان سارتر يرفض التكريم، مكتفياً بلقب الدكتور، وإخلاصاً لهذا المبدأ رفض استلام جائزة نوبل للآداب. المعرِّب.
([63]) انظر: باتيفول، مسائل مبنائي فلسفه حقوق (مسائل المباني الفلسفية للحقوق): 401، الهامش رقم 333.
([64]) انظر: دايس (Dias)، علم حقوق (علم الحقوق): 112.
([65]) قال تعالى: ﴿…وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ…﴾ (النساء: 58)؛ وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ…﴾ (النحل: 90).
([66]) قال تعالى: ﴿…اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى…﴾ (المائدة: 8)؛ وقال تعالى: ﴿…إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ…﴾ (الحجرات: 13).
([67]) في ما يتعلَّق بترجيح العدالة على جميع القِيَم الأخرى انظر: باتيفول، مسائل مبنائي فلسفه حقوق (مسائل المباني الفلسفية للحقوق): 401 فما بعد؛ غونو (Gounot)، أصل حكومت إراده در حقوق خصوصي (أصل حكومة الإرادة في الحقوق الخاصة): 388.
([68]) انظر: ميشيل فيلي (Villey)، فلسفه حقوق: معاني وهدفهاي حقوق (فلسفة الحقوق: المفاهيم وأهداف الحقوق) 1: 206؛ 2: 131.