أحدث المقالات

حيدر حبّ الله

تمهيدٌ

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللَّخمي الغرْناطي، المعروف بالشاطبي(790هـ)، أحد مشاهير علماء المالكيّة في بلاد الأندلس. يُنسب الشاطبيّ إلى شاطبة، التي تقع في شرق الأندلس، وهي موطنُ آبائه، وعندما سقطت في يد المسيحيّين هاجرت أسرته إلى الجنوب الغربي من منطقتهم، وصولاً إلى غرناطة (Granada)، التي عاش فيها الشاطبي، ورُبَما يكون قد ولد أساساً فيها.

ثمّة في التاريخ اسمان يُعْرَفان بالإمام الشاطبي: أحدهما: أبو إسحاق، الذي نتكلّم عنه هنا؛ والآخر: هو القاسم بن فِيرَّة بن خلف، المعروف بإمام القُرّاء، وهو متوفّى في القاهرة عام 590هـ. ولا ينبغي الخلط بينهما.

يُعْرَف عن الشاطبي أنّه لم يخرج من غرناطة، ورُبَما يكون السبب في ذلك أنّها كانت مدينةً علميّة، تُشدّ إليها الرحال، ويزورها العلماء، فاستفاد منهم. فغرناطة كانت عاصمةً علميّة وسياسيّة في المغرب الإسلامي، ولم تذهب عنها السِّمة هذه إلاّ بعد سقوطها بيد الأوروبيّين في أواخر القرن التاسع الهجري. بَيْدَ أنّ ازدهار غرناطة في عصر الشاطبي لم يكن بتلك المثابة التي كانت عليها مدن الأندلس العلميّة من قبل، بل هو ازدهارٌ يعبِّر عن بقايا التطوُّر العلمي الذي كان المسلمون قد وصلوه في بلاد الأندلس.

والمعروف تاريخيّاً أنّ غرناطة كانت آخر معاقل المسلمين تقريباً في الأندلس، وأنّها حظيَتْ في ظلّ دولة بني الأحمر بقوّةٍ وسلطة ومرجعيّة، وكانت بمثابة العاصمة. لكنّ القرن الثامن الهجري كان قرن اضطرابات أيضاً في بلاد الأندلس، وهجوم المسيحيين بممالكهم نحو ما تبقّى من بلاد المسلمين هناك، وكان تشظّي المسلمين في الأندلس وملوك الطوائف وغير ذلك سبباً في تراجع حالهم، رغم نصرة المغاربة لهم عدّة مرّات.

الحياة الثقافيّة في عصر الشاطبي، بقلم الشاطبي نفسه

اهتمّ الشاطبي بالظواهر الاجتماعيّة والثقافيّة في بلاده؛ إذ تكشف نصوصه أنّه يعتبر أنّ الناس وصلت إلى مرحلة الاعتماد على الرجال وشيوع التقليد والعصبيّة. إنّ بإمكاننا النظر إلى عصر الشاطبي من عيونه نفسه، وذلك حين يقول، وهو يتكلَّم عن اتّباع الهوى والتقليد: «رأيتُ المقلّدة لمذهب إمامٍ يزعمون أنّ إمامهم هو الشريعة، بحيث يأنفون أن تُنسب إلى أحدٍ من العلماء فضيلةٌ دون إمامهم، حتّى إذا جاءهم مَنْ بلغ درجة الاجتهاد، وتكلّم في المسائل، ولم يرتبط إلى إمامهم، رمَوْه بالنكير، وفوَّقوا إليه سهام النقد، وعدُّوه من الخارجين عن الجادّة، والمفارقين للجماعة، من غير استدلالٍ منهم بدليلٍ، بل بمجرّد الاعتياد العامّي. ولقد لقي الإمام بَقِيُّ بن مَخْلَد([1])، حين دخل الأندلس آتياً من المشرق، من هذا الصنف الأَمَرَّيْن، حتّى أصاروه مهجور الفناء، مهتضم الجانب؛ لأنّه من العلم بما لا يدين لهم به؛ إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل، وأخذ عنه مصنَّفه، وتفقّه عليه، ولقي أيضاً غيره، حتّى صنّف المسند المصنّف الذي لم يصنَّف في الإسلام مثله. وكان هؤلاء المقلِّدة قد صمَّموا على مذهب مالك، بحيث أنكروا ما عداه. وهذا تحكيم الرجال على الحقّ، والغلوّ في محبّة المذهب. وعينُ الإنصاف ترى أنّ الجميع أئمّةٌ فضلاء، فمَنْ كان متَّبعاً لمذهب مجتهدٍ؛ لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد، فلا يضرّه مخالفة غير إمامه لإمامه؛ لأنّ الجميع سالكٌ على الطريق المكلَّف به، فقد يؤدّي التغالي في التقليد إلى إنكارٍ لما أجمع الناس على ترك إنكاره»([2]).

هذا النصُّ واضحٌ في شرح الحالة التي كانت قائمةً في عصر الشاطبي: حالة التقليد والدَّوَران حول الموروث، ورفض أيّ تغييرٍ في الآراء والثقافات والعادات. وهو يضعنا في السياق الثقافي والاجتماعي الذي كان الشاطبي فيه؛ لنفهم أكثر مشروعه في المقاصد، وفي نهضة الأصول، والاجتهاد الشرعي كلّه.

إنّه يقول أيضاً: «رأيت نابتةً في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه، والعمل بحَسَبه، ثمّ رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا، الذي هو مظنّةٌ لعدم التثبُّت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ عنه، ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال، ونسبوا إليهم ما نسبوا به من الخطأ أو فهموا عنهم، على غير تثبُّت ولا سؤالٍ عن تحقيق المسألة المرويّة، وردّوا جميع ما نقل عن الأوّلين ممّا هو الحقّ والصواب… فتأمَّلوا يا أولي الألباب، كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال، من غير تحرٍّ للدليل الشرعي، بل لمجرّد العرض العاجل؟! عافانا الله من ذلك بفضله»([3]).

هذه الصورة السكونيّة التي يحكيها لنا الشاطبي عن عصره في بلاد الأندلس يمكنها أن تخبرنا عن همومه وتطلُّعاته، وعن السياق الزمني المحيط به، وهو يشيِّد المقاصديّة بأنضج صورها حتّى زمانه. بل هو في حديثه عن الحِيَل في قسم المقاصد المتعلِّقة بالمكلَّف يصرِّح قائلاً: «كتب الحنفيّة كمعدومة الوجود في بلاد المغرب، وكذلك كتب الشافعية وغيرهم من أهل المذاهب. ومع أنّ اعتياد الاستدلال لمذهبٍ واحد رُبَما يكسب الطالب نفوراً وإنكاراً لمذهبٍ غير مذهبه، من غير اطّلاعٍ على مأخذه، فيورث ذلك حزازةً في الاعتقاد بالأئمّة، الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدُّمهم في الدين، واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه…»([4]). وهذا نصٌّ إضافي شارحٌ لوضع الدراسات الدينيّة في بلاد المغرب عامّة، والأندلس خاصّة.

لكنّ الشاطبي لم يكن شخصاً يرفض فينزوي، بل كانت له مواقف مشهودة من البِدَع والانحرافات في زمانه، وواجه الكثير جدّاً من المشاكل، حتّى تعرّض للكثير من المضايقات. إنّه يشرح لنا في بدايات كتاب الاعتصام، الذي خصَّصه لمواجهة الزَّيْغ والانحراف في الأمّة، يشرح لنا الأوضاع التي كان يعيشها على المستوى الشخصي هذه المرّة.

إنّه يقول: «وكنتُ في أثناء ذلك قد دخلتُ في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها، فلمّا أردْتُ الاستقامة على الطريق وجدتُ نفسي غريباً في جمهور أهل الوقت؛ لكون خططهم قد غلبَتْ عليها العوائد، ودخلَتْ على سننها الأصليّة شوائب من المُحْدَثات الزوائد، ولم يكن ذلك بِدْعاً في الأزمنة المتقدِّمة، فكيف في زماننا هذا؟!… فتردَّد النظر بين أن أتّبع السنّة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس، فلا بُدَّ من حصول نحوٍ مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيَّما إذا ادّعى أهلُها أنّ ما هم عليه هو السنّة، لا سواها، إلاّ أنّ في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل؛ وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنّة والسَّلَف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال، عائذاً بالله من ذلك، إلاّ أنّي أوافق المعتاد، وأعدّ من المؤالفين، لا من المخالفين. فرأيتُ أنّ الهلاك في اتّباع السنّة هو النجاة، وأنّ الناس لن يغنوا عنّي من الله شيئاً. فأخذتُ في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفَوق إليَّ العتابُ سهامَه، ونُسِبَتْ إلى البِدْعة والضلالة، وأُنزلْتُ منزلة أهل الغباوة والجهالة. وإنّي لو التمسْتُ لتلك المُحْدَثات مخرجاً لوجدْتُ، غير أنّ ضيق العطن والبُعْد عن أهل الفطن رقى بي مرتقى صعباً، وضيّق عليّ مجالاً رحباً… فتارةً نُسبْتُ إلى القول بأنّ الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يُعْزَى إلى بعض الناس؛ بسبب أنّي لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنّة وللسَّلَف الصالح والعلماء؛ وتارةً نُسبْتُ إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم؛ بسبب أنّي لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص؛ إذ لم يكن ذلك من شأن السَّلَف في خطبهم، ولا ذكره أحدٌ من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب… ونصّ أيضاً عزّ الدين بن عبد السلام على أنّ الدعاء للخلفاء في الخطبة بِدْعةٌ غير محبوبة؛ وتارةً أُضيف إليَّ القول بجواز القيام على الأئمّة، وما أضافوه إلاّ من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرُهم فيها مُحْدَثٌ لم يكن عليه مَنْ تقدَّم؛ وتارةً أُحْمَل على التزام الحَرَج والتنطُّع في الدين، وإنّما حملهم على ذلك أنّي التزمتُ في التكليف والفُتْيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعدّاه، وهم يتعدّونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإنْ كان شاذّاً في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمّة أهل العلم على خلاف ذلك…؛ وتارةً نُسبْتُ إلى معاداة أولياء الله؛ وسبب ذلك أني عادَيْتُ بعض الفقراء المبتدعين، المخالفين للسنّة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلّمت للجمهور على جملةٍ من أحوال هؤلاء، الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفيّة، ولم يتشبَّهوا بهم؛ وتارة نُسبْتُ إلى مخالفة السنّة والجماعة؛ بناءً منهم على أنّ الجماعة التي أُمر باتّباعها، وهي الناجية، ما عليه العموم، ولم يعلموا أنّ الجماعة ما كان عليه النبيّﷺ وأصحابه والتابعون لهم بإحسانٍ، وسيأتي بيان ذلك بحول الله. وكذبوا عليَّ في جميع ذلك أو وهموا، والحمد لله على كلّ حالٍ»([5]).

هذا النصّ يؤكِّد معاناة الشاطبي مع زمانه، ويشرح لنا المخاصمات العنيفة بينه وبين خصومه الذين واجهوه، وقد عُرِف من أبرزهم شيخُه أبو سعيد بن لُب التغلبي(782هـ)، الذي كان مفتي غرناطة وخطيب مسجدها الجامع، وكان يُعْرَف بالتساهل في الإفتاء والتيسير، وهي نقطةٌ اختلف معه الشاطبي فيها كثيراً.

هذا الفضاء الذي نتعرَّف من خلاله على الشاطبي، ومطالعة كتاب الاعتصام، يُفهمنا أنّ التوجُّه المقاصدي للشاطبي لم يكن يريد التحرُّر من الدين، على خلاف الصورة التي تُحاك للمقاصديّين في عصرنا الحديث، أو يستعين بالمقاصد بعضُهم اليوم لتحصيل ذلك. بل بالعكس من ذلك تماماً، يبدو لنا الشاطبي وهو يصوغ كتابَيْ: الموافقات والاعتصام معاً أنّه يريد إعادة إحياء الدين، وتحريره من الشوائب والشكلانيّات، أكثر من كونه يريد التسهيل، ومجرَّد التيسير أو الفرار من التشريعات. وهذه نقطةٌ يجب أن تظلّ في بالنا ونحن نطالع جهود المقاصديّين، الذين وجَدْناهم إلى الآن أكثر حِرْصاً على الشريعة من بعضٍ من غيرهم.

الشاطبي بين الموافقات والاعتصام

برز الشاطبي في مجال علوم العربيّة والشعر، وكان له سبقٌ في هذا المضمار، وقد صنّف سلسلةً من المصنَّفات في هذا المجال. وترك الشاطبي كتباً عدّة في العلوم الإسلاميّة، لكنّ أهم كتبه على الإطلاق كتابان، هما:

1ـ الموافقات، والاسم الذي وضعه الشاطبي لهذا الكتاب هو (عنوان التعريف بأسرار التكليف)، لكنّه اعتاد على إطلاق اسم (الموافقات) عليه. وهو أهمّ كتبه وأشهرها وأعمقها، وهو حجر الزاوية في نظريّته في المقاصد، وسيأتي الحديث عن مشروعه الذي طرحه فيه.

يبدو الكتاب في بعض زواياه غامضاً، ويحتاج إلى جهدٍ نسبيّ في فهم بعض بحوثه، وربطها ببعضٍ أحياناً. ولم يَجْرِ الاهتمام بهذا الكتاب بعد الشاطبي حتّى نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. نعم، كتب تلميذ الشاطبي، وهو القاضي أبو بكر بن عاصم، تلخيصاً لهذا الكتاب أطلق عليه اسم «نيل المُنى في اختصار الموافقات»؛ فيما قام أخوه أبو يحيى بن عاصم ـ على ما يُقال في نسبة الشعر لأخيه ـ بنظم كتاب الموافقات على شكل شعرٍ تضمَّن ستة آلاف بيتٍ، وأسماه: «نيل المُنى من الموافقات».

مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عاد هذا الكتاب للظهور، فظهرت له عدّة طبعات وتحقيقات؛ بدأت بالطبعة الأولى عام 1884م بتونس، تلَتْها الطبعة الثانية عام 1909م في مدينة قازان عاصمة جمهورية التتار (تتارستان)، تلَتْها الطبعة الثالثة عام 1922م بمصر، وعلّق عليها شخصيّتان مهمّتان، هما: الشيخ محمد الخضر حسين؛ والشيخ محمد حسنين مخلوف، ثم جاءت الطبعة الرابعة بتحقيق الدكتور عبد الله درّاز(1932هـ)، وطُبعت في مصر، ثمّ تلَتْها طبعةٌ أخرى في مصر بتحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد(1972م)، لتكون الطبعة السادسة محقَّقةً بيد الباحث المعاصر أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان.

كما أنّه مع بداية القرن العشرين برزت بعض الأعمال ذات الصلة بهذا الكتاب، وأهمُّها:

أـ «المرافق على الموافق»، وهو اختصارٌ للموافقات مع نظمٍ، كتبه مصطفى بن محمد فاضل بن مامين(1910م). وقد طُبع أوّل ما طُبع في تونس بدايات القرن العشرين.

ب ـ «توضيح المشكلات في اختصار الموافقات»، لمحمد يحيى بن عمر المختار الشنقيطي(1912م).

ج ـ «اختصار الموافقات»، ومؤلِّفه إبراهيم بن طاهر بن أسعد العظم(1957م).

2ـ الاعتصام، وهو من الكتب المهمّة للغاية. وقد ألَّفه الشاطبي بعد الموافقات، واستخدم فيه منهج الموافقات. وهو كتابٌ يقع في جزءَيْن. وقد حقَّقه أحمد عبد الشافي. ويصنَّف هذا الكتاب بأنّه من أهمّ الكتب التي درست البِدْعة. وجميع أو أغلب الذين كتبوا في البِدْعة وتفاصيل بحوثها العميقة أخذوا منه أو رجعوا إليه أو استفادوا منه، فهو يمثِّل أحد أهمّ المصادر الإسلاميّة إلى يومنا هذا في دراسة البِدْعة وعلاقاتها وتفاصيلها.

 

لماذا أُهملت فكرة المقاصد بعد الشاطبي؟

يُعَدّ هذا السؤال من الأسئلة المثيرة للجَدَل والنقاش بطبيعتها، فإذا كان الشاطبي قدّم نظريّةً موسّعة في المقاصد فلماذا لم تتواصل الدراسات حولها، بل أُهملَتْ إهمالاً؟

ثمّة فرضيّاتٌ تفسيريّة لهذه الظاهرة، رُبَما يكون اجتماعُها هو السبب:

أـ العامل الجغرافي؛ فالشاطبي كان يعيش في منطقةٍ تُعَدّ نائيةً نسبيّاً عن العالم الإسلامي، فهي في الأطراف، وكان ظهوره في فترةٍ غير نَشِطة جدّاً لبلاد الأندلس. وقد اجتمع ذلك مع عدم وجود حركةٍ للشاطبي نفسه خارج الأندلس، حتّى تخدم حركتُه هذه مشروعَه في المقاصد، رغم أنّ بعض نصوصه تفيد أنّه كانت بينه وبين بعض علماء المغرب وأفريقيا مراسلاتٌ([6]). ولم تكن الأندلس محجّةً لطلاب العلوم الدينية من المشارقة في ذلك الوقت. فهذا كلُّه عزل نظريّته، وجعلها في زاويةٍ.

ب ـ الحرب والعُزْلة اللتان كان يعيشهما الشاطبي مع خصومه، وخاصّة أنّ خصومه لم يكونوا ضعفاء، بل كان لهم نفوذٌ في الفُتْيا والصلاة والقضاء وغير ذلك. ومن المتوقّع في حالةٍ من هذا النوع أن تنعزل أفكاره، ويقلّ حجم التلمُّذ على يدَيْه، ويضعف عن نشر نظريّاته. ولهذا لم نجِدْ عدداً كبيراً ممَّنْ تلمَّذ على يد الشاطبي.

ج ـ الحالة السياسيّة والأمنية لبلاد الأندلس في عصر الشاطبي، وما أعقب عصره من زوال الحكم الإسلامي تماماً من شبه الجزيرة الآيبيريّة؛ فإنّ لهذه الأوضاع تأثيراً على حجم حضور أفكار تلك البلدان وتراثها العلميّ.

د ـ لم يقُمْ الشاطبي بتدوين مشروعه في الاجتهاد على طريقة المصنَّفات التي كانت سائدةً في أصول الفقه الإسلامي، بل أعاد صياغة مناهج الاجتهاد على طريقته، فغيَّر مواضع البحوث وبدّل، وترك الكثير من البحوث الأصوليّة؛ إمّا لعدم الفائدة منها من وجهة نظره؛ أو إحالةً على تقريرها وبحثها في المصادر الأخرى. ولهذا لم يشكّل كتابُه مادّةً مُغْرية لطلاب العلوم الدينيّة كي يكون بديلاً عن النصّ الأصولي الرسمي؛ وذلك أنّ الشاطبي ركَّز أكثر في هذا الكتاب على النواقص في أصول الفقه من وجهة نظره، ولما كانت المصنَّفات الأصوليّة في الحواضر العلميّة تُعَدّ بمثابة الكافية للاجتهاد لم يشعر الفضاء الإسلامي بالحاجة لمكمِّلاتٍ.

إنّ الشاطبي يعتبر في المقدّمة الرابعة من القسم الأوّل من كتاب الموافقات أنّ علم أصول الفقه قد غرق في القضايا التي لا صلة لها بعمليّات الاجتهاد الفقهيّ، وأنّه يجب تشذيب علم الأصول وحذف الزوائد منه، ممثِّلاً بنظريّة الوضع اللغوي وبدايته، مؤكِّداً على أنّه علمٌ يخدم مسيرة الاجتهاد، وليس قائماً بنفسه. ولهذا يرى أنّ الكثير من المباحث الأصوليّة يجب حذفها، بل يذهب الشاطبي أبعد من ذلك هناك، حين يؤكِّد أنّ المسألة الأصوليّة إذا كان الخلاف فيها لا يترك أثراً على البحوث الفقهيّة، حتّى لو كان أصل المسألة الأصوليّة يقع في صراط تناول القضايا الفرعيّة الفقهية، فإنّه يلزم ترك البحث في هذه المسألة؛ لأنّ الخلاف فيها والنقاش لن يغيِّر من النتيجة شيئاً. وهو بهذا لا يعتبر أنّ التناول البحثي للمسائل الأصوليّة واقفٌ عند حدود ارتباط أصل المسألة بالفقه، بل يتعدّاه إلى حدود ارتباط النتائج المتوقَّعة للمسألة في التأثير على النتائج الفقهيّة. ولعلّه من هذا القبيل الكثير من البحوث التحليليّة في أصول الفقه، مثل: حقيقة الوجوب التخييري، وهو مثالٌ أعطاه الشاطبي نفسه هنا؛ إذ يعتبر أنّ تحليل حقيقة الوجوب التخييري إلى أنّه وجوبٌ واحد أو متعدِّد، واضحٌ أو مُبْهَم، أو غير ذلك، ليس له أيّ نتيجةٍ مؤثِّرة في الاجتهاد، فلا ينبغي بحثه في أصول الفقه أيضاً، مُوحِياً أنّ بعض بحوث أصول الفقه أتَتْ من علم الكلام، بل هو يعتبر أنّ بعض القضايا التأثيريّة لا ينبغي أن تصير مسألةً أصوليّة؛ لأنّ كلّ قضايا علم الكلام لها تأثيرٌ في بناء الموقف من الآخر الديني والمذهبي، فهل ندرج علم الكلام في أصول الفقه؟!([7]).

هـ ـ رغم البنية العربيّة القويّة لنصّ الموافقات، إلاّ أنّ مواضع عديدة منه تبدو غامضةً، وتحتاج للكثير من الأُنْس بالكتاب؛ بغية فهمها. ورُبَما يكون هذا الأمر قد أعاق وصول بعض الأفكار للآخرين. بل نحن نجد في هذا الكتاب المناخ الجَدَلي الذي يطيل في القيل والقال أحياناً. كما يواجه هذا الكتاب سلسلة الاستطرادات التي خاض فيها، وهذه العناصر تفرض تراجع الكتاب مادّةً منضبطة ومختصرة.

و ـ إنّ طبيعة العصر الذي عاش فيه الشاطبي لم يكن عصر الترحيب بالأفكار الجديدة أو بالمشاريع العلميّة الكبرى، بل كان عصر الانحطاط والتقليد، ومن الطبيعي في ظلّ عصر من هذا النوع أن تُهْمَل مشاريع بهذا الحجم، بل كلّما كان المشروع أعظم وأكبر كان الإهمال أقوى ومتوقَّعاً أكثر.

نظريّة المقاصد في الموافقات، عرضٌ وتحليلٌ مُوجَزان

لكي ندرك الأفكار الرئيسة التي طرحها الشاطبي في الموافقات مشكِّلةً نظريّة المقاصد لا بُدَّ لنا من وقفة استعراضٍ وتبيين.

في مقدّمة الكتاب يعلن الشاطبي بوضوحٍ ـ وكأنّه يشرح المسيرة التاريخية لتكوُّن مشروع الموافقات عنده ـ أنّه توصّل إلى أفكاره هذه، ثمّ عمد شيئاً فشيئاً إلى جمع المزيد من الشواهد والعواضد، وأنّه اعتمد في ذلك على الاستقراءات الكلِّية، وليس على الأفراد الجزئيّة. وهو من البداية يعلن منهجه الواضح في طريقة العمل في هذا الكتاب. إنّه منهج الاستقراء الكلِّي، وليس بناء القواعد على أيّ تتبُّع أو تقرٍّ كيفما كان. ويبيِّن الشاطبي أنّ عمليّة الاستقراء هذه لم تقف عند هذا الحدّ، بل تلاها محاولةُ الإتيان بنصوصٍ نقليّة تدعم النتيجة الاستقرائيّة هذه، وهي نصوصٌ نقليّة قال الشاطبي بأنّها ذات طرفٍ عقلي، وكأنّه يريد أن يشير إلى أنّ النتائج التي أوصله إليها الاستقراء عُزِّزت بشواهد من النصوص والعقول معاً.

ويعلن الشاطبي وضع كتابه على خمسة أقسام:

القسم الأوّل: وهو مجموعة من المقدّمات التمهيديّة التي يعتبرها ضروريّةً، وهو يصفها بالمقدّمات العلميّة.

القسم الثاني: وهو يدور حول الحكم الشرعي نفسه وتقسيماته وما يلحقه من خصائص، فيدرس الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة.

القسم الثالث: مقاصد الشريعة التي بُنيَتْ عليها.

القسم الرابع: حصر الأدلّة الشرعيّة ومصادر الاجتهاد، واتّخاذ مواقف منها ومساحات معطياتها، وآليّات التعامل معها.

القسم الخامس: الاجتهاد والتقليد والتعارض وما يتّصل بهذه البحوث من موضوعات.

ينتهي المؤلِّف من المقدّمة هذه، موضِّحاً توقُّعاته في استغراب القارئ من هذه البحوث، ورُبَما تكون غريبةً عليه وغير مألوفة، لكنّه يطلب منه التروّي والتأمُّل. وهو ما يكرِّره في غير موضعٍ([8]).

بعد هذه المقدّمة يشرع الشاطبي بالقسم الأوّل، وهو قسم المقدّمات العلميّة، فيضع فيه ثلاثة عشر مقدّمة.

الشاطبي وقطعيّة البِنْية التحتيّة للشريعة عبر الاستقراء

يفتتح الشاطبي المقدّمة الأولى بالتأكيد على قطعيّة أصول الفقه وقواعد الشريعة الأصليّة، وأنّه لا مجال للظنّ فيها؛ لأنّ أصول الفقه عنده تأتي من الاستقراء المفيد لليقين، ومن العقل المنتج له أيضاً، ولو أنّ أصول الفقه بنيناها على الظنّ للزم إمكان بناء أصل تصديق الشريعة على الظنّ، بل الشكّ!

يستهدف الشاطبي هنا جعل القواعد التي يُراد أن تُبْنَى عليها الفروع يقينيةً، والكلِّيات العامّة في الشريعة متيقَّنة، ويريد أن يزيح عنها شبح الظنّ، ومن ثمّ فالبِنْية التحتيّة للاجتهاد والفقه يجب أن تكون محميّةً من كلّ شكٍّ أو ظنٍّ. ويفصّل الشاطبي في هذه القضيّة ويأخذ فيها جواباً ونَفْياً.

يكمل الشاطبي رحلة قطعيّة النتائج الأصوليّة عبر القول بأنّ مقدّمات البحث في هذه الأصول يجب هي الأخرى أن تكون قطعيّةً. وهذا استنتاجٌ واضح منه؛ لأنّ الوصول إلى الأمور القطعيّة ينبغي أن يكون من مقدّماتٍ تحتوي خاصّية القطع. ويعتبر الشاطبي أنّ وسائل التوصُّل إلى النتائج الأصوليّة والكلِّية إمّا عبر العقل أو العادة أو السمع، وأنّ من طرق السمع المعتبرة هنا التواتر والاستقراء المفيد لليقين([9]).

وبهذا صارت هناك أصولٌ للشريعة يلزم اليقين بها، وصار الوصول إلى أصول الشريعة عبر طرقٍ ينبغي أن تكون متيقَّنةً أيضاً.

وينتبه الشاطبي إلى مرجعيّة العقل في استنتاج الكلِّيات والقواعد الأصوليّة للشريعة، فيعقد المقدّمة الثالثة لتفادي هذه المشكلة؛ إذ يعتبر أنّ المراد من مرجعيّة العقل في أصول الشريعة والفقه ليس العقل المستقلّ؛ لأنّنا لا نبحث في أحكام العقل هنا، بل نبحث في نظر الشارع، والعقل ليس بشارعٍ. وبهذا يبدو الشاطبي لا يوافق على قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، ويرفض جعل العقل مصدراً مستقلاًّ لمعرفة الشريعة، ومن ثمّ فعندما نتكلَّم عن مرجعيّة العقل فهي مرجعيّةٌ مساعِدة للنصوص والأدلّة الأخرى.

وإذا كانت الأدلّة الشرعيّة هي الأساس في بناء القواعد الأصوليّة والكلِّيات الشرعيّة فإنّ الشاطبي يواجه هنا معضلة الظنِّية مرّةً أخرى؛ فالنصوص إنْ لم تكن آحاديةً، ومن ثمّ فهي ظنِّية تلقائيّاً، فهي ليست قطعيّةً في السند والدلالة معاً؛ لأنّ اللغة ليست يقينيّةً. وهذه زاويةٌ مهمّة في تفكير الشاطبي؛ لأنّه يعتبر أنّ اللغة تقوم على قدرٍ كبير من العناصر المتواشجة والمتداخلة، التي تفتح الاحتمالات الدلاليّة، بل نقل معاني المفردات إلينا ليس أمراً بسيطاً في نفسه. ولكي يفضّ الشاطبي هذه المشكلة ـ بعد أن حيَّد العقل المستقلّ، وقضى على يقينيّة المرجع النصّي الشرعي ـ عاد والتجأ إلى الاستقراء مرّةً أخرى، فاعتبر أنّ اليقين لا يمكن أن يحصل إلاّ بالتئام العناصر، وليس بالنصوص المفردة وما شابه ذلك، فمَنْ يريد أن يحصل على يقين بالقواعد الكلِّية للشريعة فعليه أن يلجأ إلى الاستقراء والجمع وتعضيد الشواهد، وبحَسَب تعبيره: «فإنّ للاجتماع من القوّة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواترُ القطعَ».

يضعنا الشاطبي هنا أمام حقيقةٍ مهمّة من وجهة نظره، وهي أنّنا لو أرَدْنا إثبات وجوب الصلاة بآيةٍ واحدة تأمر بإقامة الصلاة لكان اليقين في ذلك عسيراً، إنّما نشأ اليقين بوجوب الصلاة من عمليّات المراكمة الهائلة للنصوص والأحكام والمعطيات والمواقف والشواهد التاريخيّة. وبهذا يُفهمنا الشاطبي أنّ اليقين في عالم فهم الشريعة قائمٌ بالدرجة الأولى على عمليّات الاستقراء. وهو يضعنا في مثالٍ لطيف جدّاً، حين يقول بأنّ أصل دلالة كلمة: «أقيموا الصلاة» على الوجوب راجعٌ إلى الإجماع على ذلك، والإجماع هذا ـ كالقياس وخبر الواحد ـ ليس له منشأٌ يجعله حجّةً سوى حضور هذه العناصر في مواضع كثيرةٍ للغاية، بحيث يتركَّب من ضمِّها إلى بعضها اليقين.

من هنا يأخذ الشاطبي على جمهور العلماء أنّهم اعتمدوا طريقة مراجعة النصوص بشكلٍ منفرد، فلمّا لم يجدوا فيها ما يثبت حجِّيته تركوها؛ في حين يلزم أخذ النصوص منضمّةً إلى بعضها. وهو يعتبر أنّ هذا الأمر هو الذي سبَّب غَلَبة الظنون في فهم الشريعة، ولو أننا عُدْنا إلى منهج الاستقراء هذا لأمكننا توسعة نطاق اليقين في الشرعيّات، بَدَل حالة الظنّ، التي لا يمكن الخروج منها دون الاستقراء والتجميع.

ومن هذا الباب مرجعيّة الضروريات الخمس؛ فإنّ هذه المرجعيّة ليست منصوصةً في الكتاب أو السنّة، بل ليس لها منشأٌ إلاّ عمليّات المراجعة الموسَّعة للشريعة. وبهذه الطريقة ميَّز الشاطبي أصول الشريعة عن فروعها؛ فاعتبر أنّ الفروع الجزئيّة الصغيرة يمكن أن تكون ظنيّةً، بينما الخطوط الكلِّية والقواعد الكبرى المهمّة في الشرع تُبنى على اليقين، وهو يقينٌ لا يمكن الوصول إليه من تتبُّع مفردات النصوص على حِدَة، بل عبر عمليّات التقرِّي المُضْنِي هذه.

بهذه الطريقة عينها يقوم الشاطبي بتبرير نظريّة المصالح المرسلة؛ إذ المصلحة المرسلة ليست سوى جعل تشريعٍ معين في موضعٍ محدَّد انطلاقاً من جنسٍ عالٍ عُلِم من الشرع إرادته، فبدل أن يشهد للحكم في مورد المصلحة المرسلة حكمٌ فرعيّ شهد له أصلٌ كلِّي، وهذا الأصل الكلِّي ليس نصّاً، بل هو عبارةٌ عن توليفةٍ متعاضدة من التشريعات التي أفضَتْ بالناظر إلى اليقين ببناء الشريعة على ذلك. وهو بهذه العمليّة يؤكِّد أنّ اعتبار الأصل الكلِّي لا يعني أنّه لا يمكن تنزيله على الحالة الجزئيّة؛ بحجّة أنّ الجزئيّة فيها ما في الأصل وزيادة؛ إذ يعتبر الشاطبي أنّ الأصل الكلِّي عامٌّ، وكأنّي به يريد أن يؤكِّد على نفي التخصيصات في القواعد الكلِّية أو تضاؤل احتمالها([10]).

من هنا، يتبيَّن معنا الفرق الكلِّي بين الشاطبي ونجم الدين الطوفي؛ فالطوفي أراد تشييد المقاصديّة والمصلحيّة على حديثٍ واحد، هو: حديث نفي الضَّرَر، رغم محاولته مساندته بأصل فكرة قيام التشريعات على المصلحة ونحو ذلك؛ بينما هذه العمليّة لا قيمة لها فيما يبدو عند الشاطبي، ما لم يكن مضمون حديث نفي الضَّرَر قد تمّ استخراجُه من عمليّة متابعةٍ شاملة لموارد الشريعة؛ للوصول إلى نتيجةٍ قاطعة بهذا الأمر. وهذا فرقٌ ليس بالبسيط في مناهج تكوين نظريّة المقاصد.

وينتبه الشاطبي لليقين الاستقرائي الذي ينادي به، ويحاول مقارنته باليقين العقلي البرهاني؛ لكي لا يُبقيه في دائرة الضعف أمام ذلك النوع من اليقين. ولهذا عندما يتكلَّم عن المقاصد بأنواعها الثلاثة، ويعتبرها معلومةً بالاستقراء، ويصنِّفها من صُلْب العلم ـ في مقابل مُلَح العلم المبنيّة على الظنّ، وفي مقابل ما ليس بظنٍّ ولا قطع أيضاً ـ، يؤكِّد أنّ الوضعيّات يمكن لها أن تساوق العقليّات وتجاريها في العلم القطعي. والشريعة من الوضعيّات؛ والسبب في ذلك هو الاستقراء التامّ العامّ الناظم لأشتات أفرادها، حتّى تصير في العقل مجموعة في كلِّياتٍ مطَّردة عامّة ثابتة، غير زائلة ولا متبدّلة، وحاكمة غير محكوم عليها، فتحظى بتمام خصائص الكلِّيات العقليّة([11]).

ويبدو لي الشاطبي مرّةً أخرى وكأنّه يريد جعل النتائج المقاصديّة بمثابة قواعد غير قابلة للنقض أو التخصيص. وهو قد عقد المقدّمة الأخيرة من مقدّمات القسم الأوّل ليؤكِّد أنّ أصول الشريعة يجب أن تكون مطَّردة لا تُفضي إلى خللٍ أو نقضٍ أو حَرَج لو استقيم لها([12]). إنّه يريد ـ في تقديري ـ للنتائج المقاصديّة والأصول الكلِّية أن تكون الناظم للفروع الجزئيّة، ولا تكون مختَرَقة هنا وهناك، أو رُبَما يكون شاعراً بأنّ هذه هي خاصّيتها، وأنّه لم يجِدْ لها اختراقاً أو تخصيصاً أو ما شابه ذلك، بل لا تكون أصولاً إلاّ بعد إحراز هذا الأمر.

إنّ هذه القضية تظلّ الأكثر أهمِّية عند الاجتهاد المقاصدي؛ لأنّ من سِمَات أو أشكال نزوع هذا الاجتهاد الرغبةُ في الضمّ والتوحيد وإحداث التناسق والتناغم، في مقابل مشروع الاجتهاد التجزيئي الذي يقوم على الاعتراف بالبعثرة في النتائج الفقهيّة، وأنّ هذه البعثرة أو تفريق المؤتلفات وتأليف المفترقات ليست أمراً غريباً ينبغي القلق منه، بل هو واقعُ الاجتهاد الذي نُقْهَر عليه قهراً. وقد وجدنا حضور هذه الفكرة (الكلِّية الثابتة للمقاصد) عند الشاطبي أيضاً، وعند آخرين بعده، ليس انتهاءً بالعلاّمة محمد مهدي شمس الدين(2001م).

منظومة العلم والعمل في رؤية الشاطبي للغة الدين وفهمه

يعبر الشاطبي في المقدّمة الخامسة الحديث عن الفكرة التي يؤمن بها، ويستدلّ لها مفصّلاً أيضاً بالاستقراء، ويجيب عن الشواهد المعارضة لها، وهي الفكرة التي تقول بأنّ كلّ ما لا يرتبط بأمرٍ سلوكي جوانحي أو جوارحي، ومن ثمّ كلّ ما لا ينتهي إلى عملٍ، فإنّ الخوض فيه لم يثبت استحسانه شرعاً. وهو يتوسّع في هذه الفكرة ولواحقها في المقدّمة السابعة، ليؤكِّد أنّ الغاية هي التعبُّد والعبوديّة العمليّة لله سبحانه. فروح العلم ليست سوى العمل، والعلم بما هو علمٌ ليست له قيمةٌ ذاتيّة. وهذا لا يمنع أن تكون للعلم فوائد تَبَعيّة أخرى، لكنّها ليست المقصودة بالذات. بل هو لتكريس فكرته هذه في الربط بين العلم والعمل يعقد المقدّمة الثامنة، فيجعل العلاقة بين العلم والعمل على ثلاثة مستويات: مستوى طلب العلم، وهو مستوى التقليد؛ ومستوى وَعْي العلم ذهنيّاً، وهو مستوى معرفة البراهين؛ ومستوى صيرورة العلم صفةً ثابتة في النفس، وهو مستوى الخشية، حاشداً الشواهد والنصوص، ولهذا لا يخشى الله من عباده إلاّ العلماء، بمعنى أنّ المعرفة المُفْضِية إلى العمل تصبح لديهم صفةً ذاتيّة، دون أن يصبحوا معصومين بالضرورة([13]).

وكأنّي بالشاطبي يثور على واقع زمنه الذي تحوَّل فيه العلم إلى قيمةٍ ذاتيّة، فيما لم يترك تأثيراً على واقع الحياة. فالعلوم الدينيّة وغيرها عندما تتنامى في داخلها دون أن تترك تأثيراً سلوكياً وعملانيّاً لا تكون لها قيمةٌ عند الشاطبي؛ لأنّ العلم وسيلةٌ للتغيير والعمل، وليس مجرّد قضايا ذهنيّة ومعلومات إضافيّة. وهذه فكرة يمكن لنا أن نضعها أيضاً في سياق رؤيةٍ نهضويّة للشاطبي، وكأنّه ناظرٌ بها إلى عصره وزمانه وما آلت إليه أوضاع العلوم النقليّة والعقليّة من تَرَفٍ فكريّ في ما يُسمّى بعصر الانحطاط والتراجع عند المسلمين.

لكنّ الشاطبي في المقدّمة السادسة يخوض في موضوعٍ مهمّ، وهو طرائق الوصول إلى الأمر الذي له بُعْدٌ عملي. وهنا يركِّز الشاطبي على أنّ المنهج الصحيح المستفاد من النصوص والسَّلَف هو الابتعاد عن تفكيك الحدود والتعريفات بالطريقة المنطقيّة الفلسفيّة؛ لأنّ الوصول إلى حقائق الأشياء عسيرٌ باعتراف المشتغلين بالفلسفة والمنطقيّات، ومن ثمّ فلتصوُّر الأشياء؛ تمهيداً لتصديقها المفضي مباشرةً أو بشكلٍ غير مباشر إلى أثرٍ عملي خارجاً، لا ينبغي الذهاب خلف التفكيكات المنطقيّة الهادفة للكشف عن حقائق الأشياء، بل يُفضَّل الذهاب خلف تعريفاتٍ بسيطة سلكَتْها الشريعة في تناول الأشياء، ويغلب فيها بيان العناصر التأثيريّة للشيء. ويمثِّل الشاطبي هنا بتعريف المَلَك؛ فتارةً نعرِّفه بأنّه خلقٌ من خلق الله يتصرَّف في أمره؛ وأخرى نعرِّفه بأنّه ماهيةٌ مجرّدة عن المادّة أصلاً… لا يفضِّل الشاطبي التعريف الثاني، بل يميل لسلوك سبيل الشريعة في التعريفات والبيانات؛ لأنّ التعريف الثاني لا يوصل إلى نتيجةٍ، بينما التعريف الأوّل يقرِّبنا أكثر من الشيء وجوانبه التأثيريّة. وهكذا الحال في التصديقات، فإنّ التصديق العُرْفي هو الذي ينطلق مباشرةً من أمور واضحة، بينما التصديق الفلسفي والدقيق يمكن أن ينبني على سلسلةٍ طويلة من الأمور المعقّدة. وبهذا ينتصر الشاطبي لسلوك السبل غير المعقّدة في الإثبات والتصوُّر معاً، ليتوصَّل في النهاية إلى أنّ هذا هو منهج النصّ الديني في عرض الأفكار([14]).

ولكي نحلِّل هذه الفكرة جيّداً، ولماذا أقحمها الشاطبي هنا؟ يبدو لي أنّه يريد أن يبتعد عن التدقيقات التصوُّرية والتصديقيّة ونحن نتعامل مع الشريعة ونصوصها، فكيفيّة تعبير الشريعة عن الأشياء وكيفيّة إثباتها للأمور ليست متطابقةً مع كيفيّات الإثبات العقلي الفلسفي المركَّب من مقدّمات وأقيسة، والمعقَّد في لغته وبنيته البرهانية. ورُبَما من هنا لا نكاد نجد تعبير البرهان وأمثاله بما له من معنىً خاصّ مستخدماً في كتب الشاطبي، بل لو تركنا فكرة الاستقراء عنده فإنّ أدواته الاستدلاليّة تكاد تكون عُرْفيّةً بسيطة.

يبدو لي الشاطبي هنا يقارب موضوعاً متّصلاً أيضاً بلغة الدِّين ونصوصه، ويحاول أن يضع تمييزاً بين اللغة الدينيّة واللغة الفلسفيّة والعلميّة، ويعتبر أنّ فهم لغة الدين يساعد أكثر في كيفيّة استخراج الفكرة التي يريد الدين إيصالها. وسوف نرى كيف أنّ الشاطبي ـ في لاحق بحوثه ـ يستفيد من هذه البِنْية التحتية حتّى لو لم يُشِرْ لاحقاً إليها، كما في حديثه عن مفهوم السببيّة وغير ذلك. ورُبَما يكون الشاطبي في هذا الموضوع مُستَهْدِفاً أيضاً القول بأنّ الشريعة غير مضطرّةٍ دَوْماً للنطق بموجبات كلِّية؛ لأنّ هذه هي طريقة الفلاسفة، بينما العُرْف واللغة البسيطة تكتفي لفهم القاعدة من بعض الشواهد المتعاضدة غير المعارضة لشواهد أُخَر، وهذه العمليّة تسهِّل ـ في تقديري ـ على الشاطبي بناء اليقين العُرْفي على الاستقراء في النصوص والأحكام.

موقع العقل وشبكة علاقته بالنقل في تفكير الشاطبي

يتوقَّف الشاطبي في المقدّمة العاشرة عند موضوعٍ مهمّ جدّاً بالنسبة إليه، وهو العلاقة بين النقل والعقل. فرغم أنّ الصورة النمطيّة المعاصرة عن المقاصديّين تذهب إلى اعتبارهم عقلانيّين جدّاً في تناول البحوث الفقهيّة، لكنّ عقلانية مقاصديّة الشاطبي لا تعني أنّ العقل يستبدّ بمعرفة الأحكام الشرعيّة؛ فهو يرفض التحسين والتقبيح تماماً، ويرى أنّ العقل تابعٌ، والنقل متبوعٌ، حتّى لو توافقا، ومن ثمّ فحركة العقل عنده تقع في حدود ما تسمح له به الشريعة والنصوص، وليس حركةً مطلقة. بل يعتبر أنّه لو فسحنا المجال للعقل فسوف يحقّ له إزالة الشريعة! بل يذهب ـ في موضعٍ آخر([15]) ـ أبعد من ذلك في تقديم الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة، على مبدأ «خير القرون قرني» وأمثال ذلك، في نزعةٍ واضحة في التَّبَعية التي لا تسمح كثيراً بإطلاق سراح العقل ليعمل لوحده.

لكنّ الشاطبي ـ وهو بصدد ردّ الإشكاليّات على فكرته هذه ـ يميِّز بين العقل والقياس، دافعاً تهمة المَيْل للتفكير الظاهريّ عن نفسه. وهو في موضعٍ آخر يبدو عليه التلميح إلى أنّ ابن حزم الظاهري فرقةٌ زائغة أو مخالفٌ للسنّة([16]). فالمعقوليّة والتماس المعنى في القياس ليسا نقضاً لكلامه؛ لأنّ القياس عنده ليس من تصرُّفات العقول مَحْضاً، بل هو موجَّهٌ بالأدلّة الشرعيّة التي تحدِّد له حركته، وتسمح به في نطاقه، كما ثبت في علم أصول الفقه بالتفصيل. وبهذا يصوِّر لنا الشاطبي أنّ المعقولية القياسية ليست تحريراً للعقل من النصّ، بل هي تحريكٌ للعقل في دائرة توجيهات النصّ، وبهذا نكتشف أنّ الشاطبي لم يرفض حركة العقل في الدين، بل هو يرفض الاستقلال العقلي بالحركة في القضايا الدينيّة.

لكنّ الشاطبي واجه مشكلةً أخرى هنا، وهي مشكلة تخصيص النصوص بالعقل، والتي مارسها التفكير الكلامي. فعلم الكلام كثيراً ما تصرَّف في النصوص بالعقل، وتأوّلها به، فماذا يفعل الشاطبي هنا؟

إنّه يعتبر أنّ التخصيص بدليلٍ منفصل عن الدليل الشرعي باطلٌ؛ ومن ثمّ فلا يمكن لغير الشريعة أن تقوم بتخصيص الشريعة أو تضييق النصوص. ولكي يجمع ويوفِّق بين الآليّتين (الكلاميّة والشرعيّة) اعتبر أنّ العقل هنا لا يقيِّد النصّ، بل يكشف عن كون النصّ غير عامٍّ، عبر أدلّةٍ شرعيّة دلَّتْ على ذلك([17]). ورغم أنّ المثال الذي يقدِّمه الشاطبي لا يبدو مقنعاً كثيراً في قضيّة إطلاق القدرة الإلهيّة، لكنّ الفكرة التي يطرحها رُبَما يكون قصده منها ـ أو بعض قصده ـ أنّ العقل يقوم بتنبيهنا إلى الأدلة الشرعيّة التي تقوم بدَوْرها بتخصيص النصّ، فعمليّة التخصيص كانت علاقةً بين النصوص نفسها، والعقل كان دَوْره الكشف عن عمليّة التخصيص هذه.

غير أنّ الشاطبي في موضعٍ آخر يبدو مناقضاً لنفسه، لو صحّ فهمنا له هنا؛ إذ في مباحث العموم والخصوص يتحدّث عن ضرورة تأويل النصوص القرآنية المخالفة للعصمة؛ نتيجة إجماع أهل السنّة على العصمة عن الكبائر([18]). وهذه طريقة لا تبدو لي هنا متّسقةً مع ما يقوله في هذا الموضع، ما لم نقُلْ بأنّه يتحدّث تارةً عن التشريعيّات؛ وأخرى عن غيرها.

وعبر هذا كلّه يعيد الشاطبي فهم عمليّة النشاط العقلي في الاجتهاد، بوصفه نشاطاً اكتشافيّاً قائماً على التوسُّع في الفهم اللغوي أو على الرخصة الشرعية في نشاطٍ هنا أو هناك، أو على دَوْر العقل في توجيه الإنسان لفهم النصّ، من خلال تنبيهه إيّاه إلى العناصر ذات الصلة بهذا النصّ، بما يفرض فهمه بشكلٍ أعمق وأفضل.

الشاطبي وكتاب الأحكام

ينهي الشاطبي مقدّماته التي تضمَّنها القسم الأوّل، ليشرع في الحديث عن الحكم الشرعي، فيقسِّمه إلى: التكليفي؛ والوضعي، ثمّ يقوم بفتح بحوثٍ متّصلة بكلّ واحد من الاثنين.

أمّا على مستوى الحكم التكليفي فيفصّل الشاطبي في الأحكام التكليفيّة الخمسة. فيشرع بالمباح، ويشير فيه إلى إمكان صيرورته ذا حكمٍ آخر لو كان ذريعةً لحرامٍ أو واجب. وهو يُلمح هنا إلى مفهوم سدّ الذرائع وفتحها. لكنّ المهم هنا أنّ الشاطبي يخوض حواراً طويلاً حول إمكانيّة فرض المباح، وذلك انطلاقاً من معطيات كثيرة، من نوع: طول الحساب على المباح، ووقوع المباحات في سياق أمور أُخَر عادةً، وترك السَّلَف الكثير من المباحات وتورُّعهم عنها. كما أنّ الحثّ على الزهد في الدنيا أشبه بالمحرّك نوعاً نحو ترك المباحات. وهو في هذا كلّه يدافع عن وجود المباح من حيث المبدأ، ومن دون مجرّد القياس والنسبة، وكأنّه يخوض حواراً مع تياراتٍ روحيّة وأخلاقيّة وصوفيّة في موضوعٍ من هذا النوع، دون التخلّي عن مقاصديّته وذرائعيّته.

ويربط الشاطبي موضوع المباح بتفصيلٍ موسَّع بقضيّة المقاصد والضروريّات والتحسينيّات والحاجيات، من حيث وقوعه في صراطها، ويعيد فهم المباحات الواقعة في صراط أحد أنواع المقاصد؛ لأنّ المباح من تمام الجهات يلزم أن يخرج عن هذه الثلاثة، ولا يقع في طريقها. وهو ينوِّع بين المباح بالمعنى الأعمّ والأخصّ، وبين ما تساوى طرفاه وما كان مجرّد «لا حَرَج فيه»([19]).

ويكمل الشاطبي رحلته في دراسة المندوب والمكروه، ثمّ يفصّل في الواجبات والمندوبات الوقتيّة وغير الوقتيّة، متحدِّثاً عن القضاء وغيره، ثمّ يخوض في مسألة حقوق الله وحقوق الإنسان، ثمّ مسألة العفو، ثمّ الوجوب الكفائي، وعوارض المباح وغير ذلك([20]).

وبهذا يُنهي الشاطبي القسم المتعلِّق بالأحكام التكليفيّة الخمسة، لينتقل إلى الأحكام الوضعيّة، من السببيّة والشرطية والمانعيّة والصحّة والبطلان والرُّخَص والعزائم وغير ذلك.

الشاطبي ولبّ نظريّة مقاصد الشريعة، مرحلة مقاصد الشارع في ذات الشريعة

ينهي الشاطبي القسم الثاني من كتابه، والذي تناول فيه بتوسُّعٍ فكرةَ الحكم الشرعي وأنواعه وعلاقاتها ببعضها، ليشرع في لبّ لباب نظريّة المقاصد في القسم الثالث من الكتاب، فيقسِّم المقاصد إلى قسمين:

1ـ مقاصد الله سبحانه وتعالى بما هو شارعٌ.

2ـ مقاصد المكلَّف.

وبهذا ينقسم القسم الثالث إلى هذين القسمين الكبيرين.

ويبدأ الشاطبي بمقاصد الشارع؛ ليمهّد بمقدّمةٍ مهمّة جدّاً بالنسبة إليه، لكنّه يمرّ عليها سريعاً، رُبَما لوضوحها أو لإحالةٍ منه لها إلى مواضع أُخَر، مع أنّ مشروعه يستدعي التوقُّف مليّاً عندها، وخاصّة في وَسَطٍ أشعريّ! وهي مسألة التعليل وتَبَعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، حيث يعتبر أنّ هذا الأمر واضحٌ ظاهر، ويستند في وضوحه وقوّته إلى الاستقراء الشامل للشريعة، والذي يؤكِّد لنا أنّها وُضعَتْ لأجل مصالح العباد في العاجل والآجل. فالنصوص القرآنية العامّة ونصوص التعليل في الكتاب والسنّة تتعاضد عبر الاستقراء لتؤكِّد القاعدة([21]). فالشاطبي هنا ينتقل من التقرّي الواسع نحو تكوين قاعدةٍ كلِّية.

وبَدَل أن يهتمّ الشاطبي لأصل تقرير هذا المبدأ اشتغل في موضعٍ لاحق بنسبة هذا المبدأ إلى نظريّة التصويب، واعتبر أنّ مبدأ المصالح يجري على القول بالتخطئة والتصويب معاً، كما يجري في مسائل الوفاق والخلاف كذلك([22]).

وعلى أيّ حالٍ يشرع الشاطبي في طرح نظريّته من التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع، والذي بنى شريعته عليه. وهو في هذا يتابع مَنْ سبقه، ولا يضيف جديداً. وهو في تعريف الضروري لا يقتصر على ما لا تقوم الحياة إلاّ به، بل يعتبر أنّه ما لا يقوم الدين والدنيا إلاّ به.

وحفظ الضروريات عند الشاطبي تارةً عبر تشييدها وتكريس وجودها؛ وأخرى عبر حمايتها من العَدَم. وكأنّ الشاطبي يغمز من قناة الملاحظة النقديّة التي طرحها ابن تيمية في أنّ الضروريّات كأنّها جاءت للحيلولة دون العَدَم. فهو يؤكِّد أنّها جاءت لتكريس الوجود تارةً؛ وللحيلولة دون العَدَم والخَلَل تارةً أخرى.

ويقرِّب الشاطبي هذه القضيّة من خلال تقسيم الشريعة إلى أربعة أقسام:

1ـ العبادات. ويرى أنّ أصولها تسعى لحفظ الدين في جانب الوجود، فهي تكرِّس الوجود الديني وتشيِّده.

2ـ العادات. ويرى أنّ أصولها ترجع إلى حفظ النفس والعقل في جانب الوجود، ويمثِّل لها بتناول المأكولات والتماس السَّكَن للعيش.

3ـ المعاملات. ويرى أنّ أصولها ترجع إلى حفظ المال والنَّسْل من جانب الوجود، مثل: التجارات والأنكحة وغير ذلك.

4ـ الجنايات. وهو يرى أنّ الجامع والناظم لها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو يصنِّف الجنايات خارج إطار الثلاثة السابقة؛ لأنّها تحمي الضروريات الخمس المتقدّمة من جانب العَدَم، ففقه الجزاء والجناية ونحو ذلك يسعى لمنع زوال الدِّين والنَّفْس والمال وغير ذلك.

من هنا قلنا: إنّ الشاطبي يرسم خارطةً مغايرة للموضوع بعض الشيء؛ رُبَما لكي يتلافى ملاحظة ابن تيمية. فليس منطلق الضروريات الخمسة هو قوانين العقوبات، بل هو مجمل أبعاد الشريعة نفسها، ونحن لا نستنبط الضروريات من العقوبات فحَسْب، بل نستنبطها من مجموع الأبواب الأربعة الكبرى للشريعة.

هذا العرض لفكرة الضروريّات على الأبواب الأربعة يعيد الشاطبي إنتاجه في الحاجيات، التي يرى أنّ جوهر فلسفتها هو رفع الضيق عن حياة الإنسان. فأحكام المرض في باب العبادات ليست سوى استجابةٍ لقسم الحاجيات من المقاصد، وإباحة الصيد والتمتُّع بالطيبات ليس سوى استجابةٍ لها في قسم العادات، والمساقاة والمضاربة في المعاملات وجعل الدِّيَة على العاقلة في الجنايات ليس إلاّ من باب الحاجيات التي تستهدف التخفيف. والأمر عينه في التحسينيّات.

وبهذا يصل الشاطبي لتكرار فكرة الغزالي في المكمّلات، التي يعتبرها في كلّ مرتبةٍ من الأمور التي لو فقدناها لم تخلّ بهذه المرتبة. وهو بهذا التعريف يدفع الإشكال عن أصل فكرة المكمّلات؛ فالمكمّلات عنده جزءٌ من الضروريّات والحاجيات والتحسينيّات، وحكمها هو حكمها عينه، لكنّ إطلاق المكمّلات عليها ليس إلاّ من حيث إنّه لو فقدناها فلا ينهار بناء الضروريّات والحاجيات والتحسينيّات([23]).

لكنّ فكرة المكمّلات بالطريقة التي عرضها الشاطبي تبدو غير مفهومةٍ؛ إذ عليها يلزم أن يكون أصل تشريع القصاص من الضروريات، وكلّ ما يتّصل به ليس منها إلاّ بنحو المكمّل لو كان. وهكذا تحريم المسكر من الضروريّات لكنّ تحريم القليل ممّا يسكر كثيره من مكمّلات الضروريّات. وبهذا يتأكَّد ما قلناه في محلّه عند متابعة نظريّة الغزالي، من أنّ فكرة المكمّلات ليست سوى تطبيق للاجتهاد الذرائعي. بل إنّ الشاطبي ـ كما سنرى ـ يعتبر الحاجيات حمايةً وحصانة للضروريّات، وهكذا، الأمر الذي يفرض اعتبار كلّ مرحلةٍ دانية بمثابة مكمّل للمرحلة الأعلى!

ويعيد الشاطبي بيان الوجه في إثبات هذا التقسيم ومرجعيّة الضروريّات، ليؤكِّد أنّه لا يوجد دليلٌ هنا غير الاستقراء التامّ، فأيُّ ناظرٍ في هذه الشريعة ومتأمّل موسوعيّ لأطرافها يرى أنّ هذا التقسم صحيحٌ، وعليه شواهد لا تُعَدّ ولا تحصى([24]).

العلاقات بين الأنواع الثلاثة للمقاصد

يعقد الشاطبي بحثاً مهمّاً في العلاقات بين الأنواع الثلاثة للمقاصد، ويقرِّر فيه النتائج التالية:

إنّ الأصل في المقاصد هو الضروريّات، وغيرُها تابعٌ لها؛ فإنّ غيرها يحوم حول حماها، ويحميها. وبهذا يضع الشاطبي ثلاث دوائر متداخلة، وهي: الدائرة الأصليّة، وتمثِّل الضروريّات؛ تحيط بها دائرة الحاجيات؛ تحيط بها دائرة التحسينيّات. فلا معنى لسائر الدوائر دون الدائرة المركزيّة.

ما هو ناتجٌ عكسي للأصل المتقدِّم، وهو أنّ اختلال الضروريّ أو زواله يساوي زوال كلّ الأحكام الحاجية والتحسينيّة المرتبطة به. فلو أنّ الشريعة أزالت البيع فسوف يزول تلقائيّاً شرط معلوميّة العِوَضين. وهنا يستدرك الشاطبي بأنّه لو ثبت بدليلٍ ما ثبوت حكمٍ حاجي في مورد انعدام حكم الضروريّ المتّصل به فهذا يعني أنّ الحاجي هذا صار مطلوباً لنفسه، ولم يَعُدْ مرتبطاً حَصْراً بغيره، مثل: إمرار الموسى على رأس مَنْ لا شعر له في الحجّ.

إنّ اختلال الحاجي والتحسينيّ اختلالاً تامّاً وزوالهما لا يعني زوال الضروريّ؛ لأنّه ليس تابعاً لهما، بل العكس هو الصحيح.

إنّ الحالة السابقة وإنْ لم يلزم منها زوال الضروريّ بوجهٍ مطلق، لكنّه قد يلزم منها اختلاله جزئيّاً. ومقصودُه من ذلك أنّ تعرّض الحاجيات والتحسينيّات للخَلَل يمكن أن يؤدّي إلى صيرورة الضروريّ في معرض الخطر والخَلَل جزئيّاً.

ونتيجة المعطى المتقدِّم تصبح المحافظة على الحاجي والتحسينيّ لازمةً لأجل الضروريّ.

وبهذا يرسم الشاطبي شبكة العلاقة بين المقاصد الثلاثة، مطوِّراً بعض الشيء من بيانات مَنْ سبقه([25]).

مفهوم المصلحة والمفسدة، ومأزق الكلّية في المقاصد عند الشاطبي

يتوقَّف الشاطبي عند مفهوم المصلحة، فيحلِّل أنّه لا يوجد شيءٌ متمحِّض في المصلحة أو المفسدة، بل في هذه الدنيا تقع الأمور مختلطة، ومن ثمّ فبالنظر العادي لا نطلق على الفعل أنّه فيه مصلحة إلاّ بحَسَب غَلَبة المصلحة التي فيه على المفسدة. ويعتبر الشاطبي أنّ الشريعة بُنيَتْ على هذا الأساس أيضاً، ومعنى ذلك أنّ الشارع ينظر للمصلحة الغالبة، ويلحق المفسدة المغلوبة بحكم العَدَم، فيكون الوجوب مترتِّباً على المصلحة فقط، لا على المركَّب من المصلحة والمفسدة.

هذا يعني أنّ تلك المفسدة المضارعة للمصلحة لا تصلح لوحدها لأن يترتَّب عليها حكمٌ مستقلّ، وإلاّ فالمفترض أن يلحقها حكمٌ، مع أنّ المفروض أنّ حكماً نقيضاً لحِقَ المصلحة المضارعة لها، وهذا غيرُ معقولٍ. ولهذا يفترض الشاطبي أنّ المصلحة أو المفسدة هنا يفترض أن تكونا بحيث لا يعقل أن تبني بنفسها حكماً وموقفاً قانونيّاً([26]).

هذا، والمصلحة عند الشاطبي سِنْخُ مصلحةٍ دنيويّة تقع في صراط تحقيق الكمالات المفضية لمصالح الآخرة، لا لأجل مصالح الأهواء ومَحْض الدنيا([27]).

وإذا تخطَّيْنا هذا الجانب من دراسة الشاطبي للمصلحة والمفسدة، ورصدنا جانباً آخر في غاية الأهمّية، لوجدنا أنّ الشاطبي يعيد تقرير مفهوم الكلِّية، فما معنى أنّ المقاصد قواعد كلِّية عليها المدار؟ ويدخل الشاطبي من مثالٍ مهمّ، وهو أنّ التشريعات الجنائيّة لا تؤدّي إلى قلع السرقة أو القتل، والقصر في الصلاة مشروعٌ للتخفيف مع أنّ الملك المرفَّه لا يعاني من مشقّةٍ في السفر، والطهارة جُعلت للنظافة مع أنّ بعضها لا يعطي هذا، مثل: التيمُّم، بل قد يعطي النقيض!

يجيب الشاطبي هنا بالتفريق بين الكلِّيات الاستقرائيّة وغيرها، فيرى أنّ الكلِّية الاستقرائيّة هي قانونٌ أكثريّ، وليست كلِّيةً مطلقة، مثل: الكلِّيات العقليّة، التي ينقضها التخلُّف الجزئي. ويمثِّل الشاطبي بمثالٍ يعتبره قريباً جدّاً من الشريعة، من حيث كونه من الوضعيّات لا من العقليّات، وهو قواعد اللغة العربيّة، فهذه القواعد لا يخلّ بها وجود بعض الاستثناءات والخوارق الناقضة لها، ولهذا لم يقُلْ أحدٌ بأنّها يجب التخلّي عنها بوصفها قواعد، بل الخرق كان لقواعد أخرى أثَّرَتْ في هذه الحالة([28]).

بهذه الطريقة تتضافر جهود الشاطبي مع ما كان الغزالي وغيره قد قالوه من قبلُ في سياق الدفاع عن القياس، مقابل مبدأ تفرُّق المؤتلفات. ففهم القانون الكلّي من القضايا العُرْفيّة يختلف عنه في القضايا العقلية، والاستثناء فيها يؤكِّد القاعدة في كثيرٍ من الأحيان، ولا يُبطلها. وهذا يعني ـ استنتاجاً ـ أنّ الشاطبي لن يتخلّى عن مقصدٍ أو تعليلٍ مأخوذ من الاستقراء بمجرّد مجيء استثناء أو اثنين، بل يلزم أن يكون هناك خرقٌ حقيقيّ واسع؛ لكي يهدم تصوُّرنا عن القضيّة الكلِّية.

ورُبَما من هنا يمكننا التمييز بين استقرائيّة فيلسوفٍ مثل: محمد باقر الصدر واستقرائيّة فقيهٍ أصولي مثل: الشاطبي؛ فالصدر يريد بالاستقراء الوصول إلى قاعدةٍ كلِّية حقيقيّة، عبر إثبات علاقاتٍ لزوميّة؛ بينما الشاطبي لا يريد الوصول إلى شيءٍ من هذا، بل يريد الوصول إلى قاعدةٍ تصلح مرجعاً ما لم يثبت الاستثناء، فكأنّي به يريد التوصُّل إلى مدلولٍ عامّ من العمومات، من حيث إنّه لو عرضه التخصيص أحياناً فلا يمنع ذلك ـ على رأي كثيرين ـ من الرجوع إليه في الباقي، إلى أن يطرأ تخصيصٌ ثانٍ، فتكون قيمة العامّ رغم عروض المخصِّصات عليه في مرجعيّته القانونيّة.

الشاطبي وسؤال الوسيلة إلى معرفة مقصود الشارع والتحقُّق من معنى الحكم

لا يتطرّق الشاطبي بوضوحٍ في بحث مقاصد الشارع إلى مسألة وسائل معرفة مقصود المولى سبحانه من وراء الحكم، غير هذه الإثارات التي تلتقي على فكرة الاستقراء. غير أنّه في القسم الثاني من مباحث نظريّة المقاصد، وهو القسم المخصَّص لمقاصد المكلّف، وبمناسبة الحديث عن سدّ الذرائع ثمّ الحِيَل والموقف منها، يوجِّه الشاطبي لنفسه هذا السؤال: كيف نعرف مقصود الشارع حتّى ندير حركة الحِيَل وفقاً لمراعاة المقصود دون إخلالٍ؟

يعتبر الشاطبي أنّنا أمام ثلاثة اتجاهات في هذا الموضوع، طبقاً للتقسيم العقلي، وهي:

الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه الذي يحصر معرفة المقصود بالبيانات اللغويّة، فلا يقبلون الاستقراء ولا غيره، بل ينظرون في التعليلات الموجودة في النصوص؛ لكي تخبرنا عن مقصود الشارع من وراء هذا الحكم أو ذاك. ويبدو من الشاطبي نسبة هذا الرأي إلى مُنْكِري القياس والظاهريّة.

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه المناقض للاتجاه الأوّل تماماً، أي هو الاتجاه الذي يبتعد إلى أقصى حدٍّ عن الظواهر، ليعبر نحو ما وراءها. ويضع الشاطبي ضمن هذا الاتجاه طائفتين:

الطائفة الأولى: الباطنيّة القائلون بالإمام المعصوم. فهؤلاء يعتبرون مقصد الشارع خارج إطار اللغة والدلالات اللفظيّة تماماً، بل هي أسرارٌ خلف ذلك لا تُفْهَم من خلال اللفظ. وهو يتعامل بزُهْدٍ بالغ مع هذه الطائفة، ويعتبر كلامها قريباً من الكفر.

الطائفة الثانية: وهي الجماعة التي ينسبها الشاطبي للمتعمِّقين في نظريّة القياس. وتنطلق هذه الطائفة من رصد المعاني النظريّة التي تبدو للإنسان من وراء الحكم؛ لجعل ظاهر النصّ محكوماً لتلك المعاني النظريّة، وليس العكس. فقيمة الدلالة الظاهرة إنّما تكون بالمعنى النظري، وليس العكس. فهؤلاء يعبرون الدلالات اللفظيّة، دون التخلّي عنها بالضرورة، وإنّما عبر اعتبار أنّ المعاني النظريّة هي الأصل في تفسير وفهم هذه الدلالات.

ولو أردْتُ شخصيّاً ذكر مثالٍ افتراضي من عندي لهذا الأمر فسوف أستعير مثالاً كنتُ طرحتُه من قَبْلُ([29])، وهو مثال اللِّعان، وتأثيره في قضيّة النسب. فعندما ينفي الزوج الولد عنه يذهب الفقهاء إلى أنّ المرجع في حصول النفي هو اللِّعان، فلو حصل اللِّعان انتفى الولد. لكنْ لو أنّ الفقيه فهم من قضيّة اللِّعان في مجال نفي الولد ـ لا في مجال إثبات تهمة الزِّنا على الزوجة، حيث قد يُقال بأنّ القرآن الكريم لم يُرَدْ فيه اللِّعان إلاّ من حيث حدّ الزنا، لا من حيث نفي الولد ـ أنّها مجرّد وسيلة للنفي حيث تنعدم الوسائل الأخرى، فالشرع حيث لا وسائل في تلك الأيّام عمد بعد فقدان البيّنات إلى استخدام الأسلوب النفسيّ عبر الحلف والأَيْمان، فعندما نصل إلى عصر كشف الشفرة الوراثية وإمكان الوصول إلى حدّ الاطمئنان بانتساب الولد إلى أبيه أو نفيه عنه، عبر مثل: فحوصات الـ DNA، فأيُّ معنىً لفقه اللِّعان حينئذٍ؟ وهل قضيّة اللِّعان تعبُّديةٌ ذات أسرار أو أنّها طريقٌ لإثبات الولد أو نفيه حيث لا يوجد طريقٌ آخر؟

عندما يفهم الفقيه روح الفكرة فهماً عفويّاً عُرْفيّاً فهو يحكِّم هذا الفهم في الدلالة اللفظيّة، ويغيِّر من الإطلاقات والعمومات الشكليّة الظاهريّة، ويعرف أنّ اللِّعان ليست فيه أيّ خصوصيّةٍ، ولا مقصديّة، وإنّما المقصد الوصول إلى التحقُّق من أمر الولد.

الاتجاه الثالث: وهو ما يعتبره الشاطبي جامعاً بين الاتجاهين؛ حيث يقبل الدلالات الظاهرية، وأنّها تكون حجّةً إلى أن تنكشف لنا العلّة، فتُتَّبع. ولكنّ الشاطبي في كشف العلل لا يضيف شيئاً ولا يقدّم جديداً ـ مع أنّنا كنّا نتوقَّع منه هنا بالخصوص أن يمدّنا بالجديد ـ، بل هو يحيلنا فجأةً إلى مسالك التعليل في بحث القياس في أصول الفقه، مع أنّ الخطوة الأكثر أهمّية هي أن يطوِّر هنا في هذه النقطة بالذات، ومساهمته هنا هي تركيزه الكبير على مرجعيّة الاستقراء، كما تقدَّم([30]).

 

مرحلة مقاصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام

ينهي الشاطبي عرضه لكلِّيات المقاصد المتصلة بذات الشريعة، لينتقل إلى مقاصد الشريعة من حيث وضعها للإفهام. وهو هنا يبني جسراً مع قضيّة غرض الشارع القائم في تفهيمه لشريعته للآخرين. فهذا الغرض الشرعي ينبغي وضعه نَصْب أعيننا ونحن ندرس النصوص الدينيّة، بمعنى أنّ مفروضاً قَبْليّاً يضعه الشاطبي هنا، وهو بناء المشرِّع على تفهيم شريعته للخلق، ومن ثمّ علينا تحليل هذا البناء وقواعد هذا التفهيم؛ لنصل إلى الشريعة.

إنّ الشاطبي في هذا النوع الثاني من مقاصد الشارع ـ مقاصد التفهيم ـ يضعنا أمام قواعد الفهم. إنّه يعرف أنّ المرجعيّة هي اللغة العربيّة، ويقرّ بذلك، لكنّه يريد الذهاب بهذه المرجعيّة بعيداً.

ويُبعد الشاطبي نفسه عن الجَدَل في كون ألفاظ القرآن كلّها عربيّةً أصيلة أو أنّها دخلت من لغاتٍ أُخَر، ويرى أنّه بحثٌ لا ضرورة له بالنسبة إلى الفقيه، بل له صلةٌ كلاميّة. إنّما المهمّ بالنسبة إليه أنّ القرآن نزل على طرائق العرب في البيان والتبيين، وأنّ علينا العبور لفهم القرآن من هذه الطرائق لا غير. ولهذا هو يؤكِّد أنّه كما لا يمكن فهم لسان العجم بلسان العرب، كذا لا يمكن فهم لسان العرب بلسان العجم، مثنياً على جهود الشافعي الذي إنّما صنَّف رسالته لأجل هذا الأمر. وكأنّ الشاطبي يُبدي تأسُّفه بعد ذلك من أنّ كتاب الرسالة للشافعي لم يُؤخَذ بعد ذلك بهذا المأخذ…([31])، أي يبدو لي أنّ الشاطبي يقصد أنّ الغرض من تأسيس علم أصول الفقه على يد الشافعي كان إعادة بناء منظومة الفهم اللغوي على لسان العرب، لكنّ اللاحقين بعد ذلك حَرَفوا علم أصول الفقه نحو مكانٍ آخر، ولم يأخذوا مقصد الشافعي في ما قام به.

ومع تقريره وجود علومٍ عند العرب وثقافةٍ وتاريخ، لكنّه يخرج بأصلٍ مهمّ للغاية، وهو أنّ الشريعة مبنيّةٌ في تفهيمها على الأمِّية. وهذا كلامٌ في غاية الأهمّية، بمعنى أنّ طرائق التبيين في النظام اللغوي القرآني والحديثي في ما يخصّ الشريعة هي طرائق العوامّ من الناس، غير المتعلِّمين، وغير الخائضين غمار العلم والمعرفة. ويستند الشاطبي في ذلك إلى نصوصٍ قرآنيّة وحديثيّة، تؤكّد أنّ النبيّ بُعث لأمّةٍ أمِّية، وأنّه كان يخاطب هذه الأمم التي من هذا النوع. لهذا يقول: «هذه الشريعة المباركة أمِّيةٌ؛ لأنّ أهلها كذلك، فهو أَحْرى على اعتبار المصالح». ففقه المصلحة في مقام التفهيم يعطي أنّ المتكلِّم يجري على لغة القوم الأمِّيّين.

هذه القاعدة التي يقرِّرها الشاطبي، ويختلف معه في بعض تفاصيلها علال الفاسي([32])، والتي يُطلق عليها علم أصول الفقه الإمامي: «حجّية الظهور العُرْفي»، لم يقف بها الشاطبي وقفةً عابرة، بل رتَّب عليها نتائج مهمّة؛ فذكر أنّ مقتضى قاعدة أمِّية الشريعة إبطال الدعاوى التي ظهرت فيما بعد تنادي بالقول بوجود علومٍ كثيرة في الكتاب والسنّة، وأنّ فيهما علوم الأوّلين والآخرين. وكأنّه يغمز من قناة أمثال: الغزالي والعُرَفاء. ولهذا يتعامل الشاطبي ببساطةٍ كبيرة جدّاً مع هذا الموضوع وبيُسْرٍ، حين يعتبر أنّ العلوم التي تضمَّنها القرآن الكريم هي من نوع ومستوى علوم العرب في ذلك الزمان، هذا كلّ ما في الأمر.

وكأنّي بالشاطبي يريد أن يخرجنا من البِنْية الميتافيزيقيّة والغنوصيّة والطلسميّة للقرآن، نحو مجالٍ رَحْب؛ لأنّ تلك البِنْية تعقِّد الأمر عليه في بناء مشروع تعقيلي للشريعة، وتدخله في دائرة محتملات غامضة مفتوحة. لهذا يخيَّل إليَّ أنّه يريد أن يكشف كلّ الأوراق، ويجعل كلّ الأمور أبسط مما نتصوَّر؛ لنتمكَّن من بناء فهم تعقُّلي واضح وعقلائي عامّ للشريعة، بعيداً عن الغموض والتعقيدات.

وبهذا يَعْبُر بنا الشاطبي نحو مقولته المهمّة الأخرى، وهي أنّ طرائق العرب في التبيين ليست على وزانٍ واحد، بل هي متنوّعةٌ، فليست هناك أساليب صارمة حادّة للبيان، بل ثمّة تنوُّعٌ ويُسْر وفُسْحة في ذلك، ولهذا تأبى العرب التكلُّف في البيان والتبيين([33]).

ويستخرج الشاطبي من هذا السياق قاعدةً أخرى لا يُستهان بها، وهي أنّ العرب لا تهمّها الألفاظ، بل يهمّها حاصل المعنى؛ ولهذا لا يقفون عند اللفظ، بل يهتمّون لأمر المعنى ما لم يكن اللفظ في ذاته مطلوباً، كما في أشكال الشعر ونحوه. بل يذهب الشاطبي أبعد من ذلك، حين يعتبر أنّ بعض أجزاء المعنى قد لا تكون مهمّةً أصلاً، ويمثِّل لذلك بالمعنى التركيبي والإفرادي؛ فإنّ غموض بعض الأجزاء اللفظيّة لا يضرّ أحياناً بفهم الصورة الإجماليّة. وبهذا يقول بأنّ الغرق في فهم الأجزاء التفصيليّة ليس مهمّاً، بل كأنّه عنده مُعرَضٌ عنه في أدبيّات الشرع. فلسنا بحاجة للتكلُّف إلاّ إذا كان فهم المعنى التركيبي متوقِّفاً على فهم المعنى الإفرادي.

وبعضُ الأمثلة التي يطرحها الشاطبي هنا مهمّةٌ، فهو يميِّز بين الصورة المشهديّة والتفصيل اللفظيّ في النصّ، فلو كانت النصوص تتكلّم عن الجنّة مثلاً فليس مهمّاً الغرق في تفاصيل الأعناب والفواكه وأنواعها وقيمتها؛ لأنّ العرب لا تنظر في الصور المشهديّة إلى هذا كلّه، بل المهمّ هو الصورة التركيبيّة نفسها، والتي تعطي معنى واحداً، وهو أنّ الجنّةَ دارُ سعادةٍ وهناء وخير ولذّة وراحة… ويختم كلامه في هذا القانون قائلاً: «وكثيراً ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنّة، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتَستَبْهِم على المُلْتَمِس، وتستعجم على مَنْ لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير مَعْمَلٍ، ومشيه على غير طريقٍ، والله الواقي برحمته»، معقّباً بفصلٍ مهمّ حول بناء الشريعة على الميسور المقدور في العقيدة والعمل، دون التكلُّف والتعقيد، ثمّ بالحديث عن المعنى الأصلي والتَّبَعي([34]).

مرحلة مقاصد الشارع في التكليف بمقتضى شريعته

ينهي الشاطبي حديثه في المرحلة الثانية، ليبدأه بالمرحلة الثالثة من المقاصد، وهي مرحلة صيرورة الشريعة تكليفاً يوضع في عهدة المكلَّف، ويتحمّل مسؤوليّته. وهو ما يفرض على الشاطبي أن يبحث قضيّة التكليف بغير المقدور ومسألة الحَرَج وأمثالها.

ويتحدَّث الشاطبي في ثنايا مسائل هذا البحث عن الخصوصيّات الطَّبْعيّة للإنسان، وأنّه لا يكلَّف بمواجهتها، مثل: خلقته وغرائزه الأصليّة، فإنّه لا يُعْقَل أن تكلّفه الشريعة بعكسها؛ فإنّ هذا من غير المقدور. كما يفصّل في المشقّة والعُسْر، ويحلِّل المفهوم، ويخوض فيه، ويحلِّل قضيّة المشقّة والمتصوّفة، ويعالج مسائل أخلاقيّة ونفسية وسلوكية متنوّعة، كما يفلسف رغبة الشريعة في إسقاط التكاليف الشاقّة والعسيرة عن الإنسان، وهل هي رغبةٌ خوفاً من تمرُّد الإنسان والمردود السلبي له أو غير ذلك أيضاً؟ وهو بهذا كلّه يكرِّس قاعدة السماحة واليُسْر والوَسَطيّة والاعتدال في الشرع، حَسْب تعابيره([35]).

 

مرحلة مقاصد الشارع في جعل المكلَّف تحت قانون الشرع

رُبَما يمكن لنا القول بأنّ هذه المرحلة المفصّلة جدّاً في كلمات الشاطبي تمثِّل واحدةً من مظاهر تحليله الفلسفي لوجود الشريعة وغاياتها في الخلق، وفهمه الفلسفي للسياسة والاجتماع وتنظيم أمر الخلق وغير ذلك. إنّ الشاطبي عندما يُقحم ملفّاً موسّعاً من هذا النوع في مباحث أصول الفقه فهو يهدف أن يفهم الفقه والشريعة في ضوء غايات وجودها في حياة الإنسان، ولا ينفصل في فهم النصوص والتشريعات عن فلسفة الوجود الكلّية المدلول عليها في الكتاب والسنّة. وهذا اختلافٌ جَذْري بين منهجيّة الشاطبي في الاجتهاد ومنهجيّة الآخرين؛ فمنهجيّته لا ينفصل فيها فهم الغايات عن فهم الشريعة، بل فهم الغايات الكلّية جزءٌ من فهم الشريعة، ولهذا يضعه في أصول الفقه، ووضعه له نحو تعقيلٍ ووَعْي بالغايات، وكأنّه يريد بحث هذه الغايات والمقاصد في جعل الإنسان خاضعاً لشريعةٍ إلهيّة؛ لأنّ هذا الوَعْي يؤثِّر في اجتهاد المجتهد، فيلزمه أن يفهمه جيّداً، وعن قربٍ، وبطريقةٍ واعية مُسْتَدَلّة.

يبدأ الشاطبي رحلته مع هذه المرحلة بتأكيد أنّ الغاية من وراء الشريعة هو إخراج العباد من عبوديّة الهَوَى نحو عبودية الله اختياراً، بعد أن كانوا عبيداً له بالاضطرار. وكأنّي به ينفصل عن النظريّات التي اختارها بعض الفلاسفة المسلمين، كابن سينا والسهروردي، حين تحدَّثوا عن أنّ فلسفة وجود النبوّات والشرائع الإلهيّة هي تنظيم الاجتماع البشريّ في الدين ورفع الفوضى والاضطراب والظلم عنه([36])، بل الفلسفة عنده ذات بُعْدٍ عميق في الداخل الإنساني، ومن نتائجه ذلك.

ويجد الشاطبي نفسه في مأزقٍ عندما تتعارض مقولاته بين كون الشريعة جاءت لمصالح العباد وبين النهي عن اتّباعهم لأهوائهم؛ فإنّ جعل الشريعة على مصالح العباد معناه الاعتراف بأهوائهم، التي منها، وعلى رأسها: السعي لتحقيق مصالحهم! إنّه يجيب بأنّ القاعدة صحيحةٌ، لكنّ مسير تعيين المصالح مختلفٌ؛ لهذا يذهب الهَوَى بالإنسان نحو ما هو في غير مصلحته الواقعيّة، فجاءت الشريعة لتحقيق مصالحه الواقعيّة، ولو على خلاف هواه في التفاصيل والمسارات.

ويستخرج الشاطبي من هذا المبدأ أنّ كلّ عملٍ لا يُقْصَد منه إلاّ الشهوة فهو مرفوضٌ، فحتى أعمال الملذّات المشروعة يظهر من الشاطبي أنّه لا بُدَّ للإنسان أن يرجع فيها إلى اتّباع الله تعالى بوجهٍ من الوجوه، وهو يبدو هنا نازعاً نزعةً أخلاقيّة عميقة، كتلك التي تقول بأنّ الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك يُقْدِم عليها الإنسان الصالح لما فيها من تقويته على الاستمرار في العيش وقدرته على إطاعة الله مثلاً. وهنا يخوض الشاطبي في مسألة النيّة والإخلاص، وتنوُّع أغراض الفاعل في ما يفعل.

بل يذهب الشاطبي أبعد من ذلك، معتبراً أنّ القيام بالأمور الصالحة لكنْ بقصد الهَوَى أمرٌ مرفوض تماماً؛ لأنّ الفعل الصالح بقصد الهَوَى يفضي إلى مرجعيّة الهوى في حياة الإنسان، وهو ما يعتبره الشاطبي غير مبرَّرٍ، بل يُبدي قلقه أكثر عندما يعتبر أنّ تحكيم الهَوَى في تطبيق الأحكام الشرعيّة قد يجعل الإنسان يوماً ما عُرضةً للتلاعب بالأحكام بمجرَّد تغيُّر رياح الهَوَى عنده.

ووجود المصالح الشخصيّة في التكاليف ليس لأجل المصالح الشخصيّة، بل للمصالح الأصليّة النوعيّة. فغرائز الإنسان ومصالحه الذاتيّة تجعلها الشريعة في سياق المصالح النوعية العامّة، فهي تستفيد منها، لكنّها لا تسمح لها بأن تحكم عليها، ولهذا فهي مصالح تابعةٌ، وليست أصيلةً. فالمقصود بالأصل المصالح العامّة فقط.

وهذه نقاط رائعة يُلْفِت الشاطبي النظر إليها في فلسفة الأخلاق والنفس الإنسانيّة، وفي التعامل مع الشريعة وفقاً لهذه المعايير. وهو يؤكِّد دَوْماً على أنّ مرجعيّة المصالح الأصليّة، التي هي مقاصد الشارع العليا، تفضي بالعمل ـ كلّ الأعمال مطلقاً ـ إلى الإخلاص والعباديّة، ولو كانت لهذه المصالح مصالح تابعةٌ ترجع للإنسان في ملذّاته وحظوظه وأغراضه الخاصّة؛ ولهذا يعتبر الشاطبي أنّ ملاحظة العبد للمقاصد الأصليّة للشريعة في سلوكه يحوِّل سلوكه كلّه إلى وجوبٍ بالكلّ، ولو لم يكن الفعل محكوماً بالوجوب في الجزء والخصوصيّة، لكنّه بملاحظة وقوعه في سياق تحقيق المقاصد الأصليّة يغدو واجباً([37]).

ويذهب بنا الشاطبي في تحليله العميق هذا إلى القول بأنّ السلوكيّات على نوعين:

أـ نوع يوجد له في نفس الإنسان داعٍ عميق بحكم طبيعته وبِنْيته الجسديّة والنفسية، وهو في هذه الحال يعتبر أنّ الشريعة لا تذهب بالتكاليف نحو الوجوب، بل أحياناً تذكرها بنَدْبٍ، بل بإباحةٍ، مثل: النكاح والزواج.

ب ـ نوع للإنسان فيه حظٌّ غير عاجل، بل آجل، ولهذا تكون دواعيه للفعل أقلّ، فتتدخّل الشريعة لتُحْدِث داعياً لتحقيق الفعل هنا.

ثم يفصّل الشاطبي بين الكفائيّ والعينيّ وأنواع الحظوظ([38]).

ويتحدَّث الشاطبي بالتفصيل عن موضوع النيابة في العادات والعبادات، ثمّ يشير إلى الحديث عن موضوع هبة الثواب، ثمّ يؤكِّد على أنّ مقاصد الشارع مداومة العمل على الطاعات، فمبدأ المداومة هو مبدأٌ صحيح مُقَرّ([39]).

ويفصِّل الشاطبي كثيراً في عموميّة الشريعة وخصوصيّات النبيّ ومشتركاته مع الأمّة، ثمّ يخوض في مسألة الكرامات والخوارق والمعايير غير العادية، ثمّ الحديث عن العوائد بالتفصيل.

ويختم الشاطبي هذه المرحلة بالحديث عن فقه المعنى في العادات والعبادات، فيثبت أنّ العبادات يقع الأصل فيها أنّها غير مفهومة المعنى، بخلاف العادات. ويستدلّ في الموردين معاً بالاستقراء وبتتبُّع لسان الشارع الذي يعلِّل كثيراً في العاديات وغير ذلك، دون أن يرفض الشاطبي أنّ الكثير من العباديات مفهومة المعنى أيضاً([40]).

بهذا يُنهي الشاطبي القسم الأوّل من بحث المقاصد، والمخصَّص لمقاصد الشارع، لينتقل للقسم الثاني، المخصَّص لمقاصد المكلَّف.

مقاصد المكلَّف، الجناح الثاني لنظريّة المقاصد عند الشاطبي

يفتتح الشاطبي حديثه عن مبدأ النيّة، وأهمّيتها ودَوْرها في العمل، متحدِّثاً عن موارد عدم إمكان حضور النيّة، كالإكراه. ثم يؤكِّد أنّ من الضروري تطابق قصد المكلَّف مع قصد الشريعة، بمعنى عدم قصد المكلَّف لأمرٍ ينتهي إلى كونه في الواقع غير مقبول شرعاً، بل ممنوع. وهو يفصّل في قصد المكلَّف مخالفة الشريعة، وفي حالة تحقّق المخالفة ولو لم يقصد ذلك، خائضاً هنا في قضيّة البِدْعة، وحالة معذوريّة الجاهل، وقضايا قريبة من بحثَيْ الانقياد والتجرّي وأمثالهما([41]).

ويفصِّل الشاطبي في مسألة بناء الشريعة على سدّ الذرائع، ثم يؤكِّد على التفصيل بين حقوق الله التي لا تسقط وحقوق الإنسان نفسه؛ ليتّخذ موقفاً من قضيّة الحِيَل، فيرفضها في الجملة، لا بالجملة([42]).

لكنّ الشاطبيّ يفتح بحثاً مهمّاً على المستوى المقاصدي، وهو توافق الفعل في صورته مع الشريعة، غير أنّه في روحه خالٍ من المصلحة التي جُعل الحكم لأجلها. وهو بهذا يُسْعف موقفه الرافض للتحايل، ويعتبر أنّ التحايل في آخر الحَوْل على الزكاة، عبر الهبة والاسترداد في بداية الحَوْل الثاني، هو نقضٌ لمصلحة الزكاة، وهو تفريغٌ للهبة التي وضعها الشارع للرِّفْق والإحسان ومحاربة البخل… تفريغها من ضمونها. وهذه هي فلسفة موقفه الرافض للحِيَل الشرعية، فكلُّ حيلةٍ تفضي لنقض المعنى وإنتاج مخالفه هي مرفوضةٌ، وكلّ حيلة لا توقع في شيءٍ من ذلك لا بأس بها، وبهذا يتَّخذ الشاطبي موقفاً من الحِيَل، عبر إحالتها لفكرة المقاصد والمعاني([43]).

وبهذا ينتهي الشاطبي من بحث القسم الثالث المخصَّص لمقاصد الشريعة، لينتقل إلى القسم الرابع المخصَّص لحصر الأدلّة.

الشاطبي والأدلّة الشرعيّة والحُجَج، المقاربات الكلّية

يحدّد الشاطبي الأدلّة الشرعيّة وفقاً لما هو السائد في الاجتهاد السنّي، وهي: الكتاب والسنّة والإجماع والقياس (الرأي)، ويشتغل بدراستها بشكلٍ مطوّل جدّاً؛ فيدرسها دراسةً إجماليّة في البداية، ثمّ لمّا يخوض في كلّ واحدٍ منها بالتفصيل يتجاهل الإجماع والقياس، ويركّز على الكتاب والسنّة؛ معلّلاً ذلك بأنّهما الأصل، وبأنّ الأصوليّين كفَوْه مؤونة البحث في الأخيرين([44])، رغم أنّ ثنايا بحوثه تتعرَّض لقضايا تتّصل بالإجماع والقياس هنا وهناك بنحو الإشارة أو ما هو أكثر أحياناً.

وبهذا يقسّم الشاطبي البحثَ في الأدلّة إلى: قسمٍ كلّي عامّ؛ وقسمٍ تفصيلي. وفي الكلّيات يتحدَّث كثيراً عن القضايا المتّصلة بمباحث الألفاظ، كالعموم والبيان وغير ذلك.

العلاقة بين المقاصد والأدلّة الأربعة

وشروعاً في الدراسة الكلّية للأدلّة يحدِّد الشاطبي العلاقة بين المقاصد والأدلّة الأربعة، حيث يعتبر أنّ المقاصد الكلّية العامّة هي أصول الشريعة بالاستقراء، ومن ثمّ فكلّ الأدلّة الأربعة لا بُدَّ أن تُفْهَم في سياق الكلّيات المقاصديّة، لا بشكلٍ منفصل عنها؛ لأنّه ما من جزئيّ في الشريعة إلاّ وهو راجعٌ أو آيِلٌ إلى تلك الكلّيات المقاصديّة العامّة، فلا يمكن الإعراض عن الكلّي في الجزئي، كما لا يمكن الإعراض عن الجزئي المتضمّن داخل الكلّية.

وينتبه الشاطبي في تأمُّلاته لشبكة العلاقة بين الكلّي والجزئي، فهو يعتبر أنّ الكلّيات المقاصديّة لما كانت ناتجةً عن الاستقراء عنى ذلك أنّ معرفة الكلّي متفرّعةٌ عن الجزئيات، فهو يصعد من الجزئيّات الفقهيّة نحو تكوين الكلّيات المقاصديّة، فإذا ثبت بالاستقراء تحقُّق الكلّيات لزم اعتبار الكلّي كامناً في كلّ الجزئيّات؛ لأنّ المفروض أنّ قوام كلّ جزئي هو بالكلّي.

ولكنّ السؤال الأبرز هو أنّه إذا كانت الكلّيات إنّما جاءت عبر استقراء الجزئيّات فما قيمة الكلّيات في البحث الفقهي والاشتغال بالأدلّة الشرعيّة؟

إنّ الشاطبي ينبِّه هنا إلى أنّه بعد تبلور القاعدة الكلّية من التقرّي يأتي دَوْر النصوص التي تظهر هنا وهناك وتبدو مخالفةً للمقاصد الكلّية. وهنا تكمن قيمة القاعدة الكلّية في أنّ لديها القدرة على الحكم على هذه الحالة بطريقةٍ توفيقيّة، بحيث يؤخذ بهذا الجزئيّ في حال توالمه مع الكلّي، لا مطلقاً. وهنا في الحقيقة مقتل النظريّة التي طرحها الشاطبي. وهو بالفعل قد انتبه إلى هذا الأمر حين وجّه لنفسه إشكالاً: إذا كان الجزئيّ بما هو جزئيٌّ مطلوباً، وكانت الكلّية ساريةً في الجزئيّ، وكانت لا تُعْلَم الكلّيةُ إلاّ من استقراء الجزئيّات، والمفروض أنّ الاستقراء حتّى يؤكّد الكلّية لا بُدَّ أن ينتهي من مرحلة التثبُّت من وجود الكلّية في كلّ الجزئيّات، وهذا يعني أنّ تكوُّن القاعدة متفرِّعٌ على عدم وجود جزئيّاتٍ مخالفة لها، فكيف يفرض وجود جزئيٍّ مخالف ثمّ يُراد موالمته مع الكلّي عبر تطبيق نظريّة المقاصد، مع القول في الوقت عينه بأنّ الجزئيّ بما هو جزئيّ مطلوبٌ، وأنّ الشريعة قد يظهر منها ما لا يوافق الكلّي، لكنّه في الحقيقة يوافقه، والعقل لا يُدرك؟! أليست هذه سلسلة من المتناقضات؟!

يحاول الشاطبي حلّ هذه المعضلة بالقول بأنّ جميع الجزئيّات تحتوي على المقاصد الكلّية، ومن ثمّ فالمقاصد محكومةٌ لحركةٍ صعوديّة من الأسفل إلى الأعلى، لكنّ دَوْر الكلّيات المقاصديّة يكون عندما تتصادم مطلقات أو عمومات جزئيٍّ ما مع المقاصد الكلّية، فإنّها تقوم بتعديلها([45]).

ومعنى ذلك ـ في تقديري وتحليلي لكلام الشاطبي ـ أنّه يفرض وجود الكلّيات بالاستقراء في جميع موارد الجزئيّات، لكنّه يجعل العلاقة بين سعة الحكم الذي في الجزئيّ والدليل الخاصّ وبين الكلّية المقاصديّة. فمثلاً: نحن نقول بأنّ الزكاة تضمَّنت مقصدَ رعاية مصالح الفقراء، وهذا مؤكَّدٌ في الزكاة من حيث المبدأ، لكنّ إطلاق شروط الزكاة في الأعيان التسعة يوجب اليوم زوال الزكاة عمليّاً بما يناقض مصالح الفقراء، فهنا تتدخَّل الكلّيات المقاصديّة لفرض تعديلٍ، رغم أنّ الكلّية المقاصدية ثبتت بالتقرّي الذي مرّ في حدّ نفسه بالزكاة من قَبْلُ؛ لكي يُثبت الكلّية. فرحلة الذهاب تأخذ بالجزئيّ في أصل وجوده ليتضمّن الكلّي، ولكنّ رحلة العودة تكمن في ضبط حكم الجزئيّ بحالات وجود الكلّي فيه، وأيُّ تحوّلٍ زمكاني أو غيره يطرأ فإنّ الناظم هو الكلّيات المقاصديّة أو روح الحكم الكامنة فيه بالضرورة.

وتشبه طريقة الشاطبي هنا طريقة محمد باقر الصدر لاحقاً، في الانطلاق من الطابق السفلي للفقه نحو تشكيل فقه النظريّة والنُّظُم. لكنّ الحلول التي وضعها الشاطبي لم يطرحها الصدر؛ والعكس صحيحٌ. تماماً على خلاف محاولة الشيخ شمس الدين، الذي انطلق في تحصيل الكلّيات من نصوصٍ لها سلطة عليا تحكم على الجزئيّات، وهو الأمر الذي سبق أن لاحَظْنا أنّ الشاطبي لم يكن ليتقبّله؛ لأنّ النصوص مهما كان حالها تبقى ظنّيةً سنداً أو دلالةً، وأصول الشريعة لا بُدَّ أن تكون يقينيّةً عنده.

لكنّ الشاطبي كان ألمح من قَبْلُ وبَعْدُ([46]) ـ كما ذكرنا سابقاً ـ إلى طريقة حلٍّ آخر، رُبَما تكون قابلةً للتفعيل هنا، وهي أنّ الرحلة الاستقرائيّة عندما تمرّ بعددٍ هائل من الجزئيّات تؤدّي إلى تولُّد اليقين بالنتيجة، فليس من الضروري لتولُّد اليقين بالكلّية الاستقرائيّة استقراء جميع الجزئيّات، بل يكفي استقراء الكثير جدّاً منها في مختلف الأبواب، بحيث تولد الكلّية، وعقب ذلك نجعلها حاكمةً على الجزئيّات ما لم تتضافر الجزئيّات المعاكِسة حتّى تهدم اليقين بالكلّية. ورُبَما لا يريد الشاطبي شكلاً من أشكال اليقين هذا، بل يريد يقيناً ناشئاً من استقراءٍ كامل، لا ناقص.

 

بين الظنّي والقطعي ورجوع الظنّ إلى القطع بمعنىً جديد

يطرح الشاطبي مسألة الدليل الظنّي والقطعي على الحكم الشرعي، ولا يخوض في قضية حجّية القطع، بل يراها واضحةً، كما لا تهمّه كثيراً الفكرة التي تقول بأنّ الظنّي لا بُدَّ أن يكون راجعاً إلى القطعي بمعنى قيام الدليل القطعي على حجّيته، فإنّ هذا ما يعتبره متداولاً بين الأصوليين ومعروفاً. إنّما يحاول الشاطبي أن يضيف أمراً آخر، وهو أنّ الأدلّة الظنّية معلومة الحجّية، إذا قامت على إثبات شيءٍ، لكنّ ذلك الشيء لم يكن له ما يوافقه من أمرٍ قطعيّ، ولو عامّ، فهل يكون حجّةً أو لا؟

إنّ الشاطبي هنا لم يَعُدْ يفكِّر بحجّية الدليل من حيث رجوع دليله إلى القطع، بل يفكّر بحجّية الظنّ الناتج عن إعمال الدليل الظنّي الحجّة من حيث كونه موافقاً لأصلٍ قطعيّ أو لا؟ فلو فرضنا أنّ خبر الواحد الحجّة دلّ على حكمٍ مخالف لأمرٍ مقطوع في الكتاب لزم طرحه، بل لو دلّ على حكمٍ ليس هناك ولو قاعدةٌ عامّة أو مؤشّرٌ كلّي على وفقه لكان الأمر كذلك، وبهذا تطرح الأحكام الغريبة غير المتّسقة مع الفضاء الكلّي، ولو لم تعارضه. وهذه نتيجةٌ مهمّة للتفكير المقاصدي والنُّظُمي معاً.

هنا يثير الشاطبي أنّ حجّية الدليل الظنّي قد لا تكون مشروطةً فقط بقيام الدليل القطعيّ على الحجّية، بل يلزم في ناتج الأدلّة الظنّية أن يكون على وفق كلّ واحدٍ منها ما يجعله منسجماً مع قاعدةٍ أو كلّية شرعية، أو بتعبيرٍ آخر: منسجماً مع المزاج الشرعي العامّ([47]).

إنّ الشاطبي وإنْ لم يظهر منه موقفٌ حاسم في هذه القضية، لكنّ إثارتها تفتح الباب على التعامل مع الحُجَج الظنّية في الشرع بطريقةٍ مختلفة.

مرجعيّة القرآن وقواعد العلاقة بين الفقه المكّي والمدني

بعد تقريره أنّ الشريعة لا يُعقل أن تخالف العقول، ودفاعه عن ذلك([48])، يجهد الشاطبي في تكريس مرجعيّة القرآن، فيعتبر أنّ الأدلّة منها ما هو نقليٌّ، كالكتاب والسنّة، ويلحق بهما الإجماع؛ ومنها ما هو عقليٌّ، كالقياس والاستدلال، ويلحق بهما الاستحسان والمصالح المرسلة. وحيث إنّ القسم الثاني راجعٌ في اعتباره للقسم الأوّل؛ إذ بدون أدلّة النقل لا تثبت الأدلّة العقليّة بهذا المعنى، لهذا كان الأصل في الأدلّة هو النقل. وحيث إنّ دليل حجّية السنّة راجعٌ إلى الكتاب فالمرجع في جميع الأدلّة هو الكتاب الكريم، الذي يدلّ تارةً على الأحكام الجزئيّة؛ وأخرى على القواعد والمرجعيّات القانونية الأخرى([49]).

ويقرِّر الشاطبي قاعدةً مهمّة جدّاً، وهي أنّ كلّ عنوان أُخذ في النصوص القرآنية مطلقاً، غير مقيَّدٍ ولا مشروح أو مشروط بضوابط، فهذا معناه أنّ فهمه وتعيينه بنظر المكلَّف، مثل: العدل والإحسان والعفو والصبر والظلم والفحشاء والمنكر وغير ذلك؛ بينما ما يؤخذ مقيّداً أو له ضوابط فهو راجعٌ لنظر المولى، مثل: العبادات في الغالب.

واللطيف أنّ الشاطبي يميِّز بين فقه مكّة والمدينة؛ فالفقه المكّي هو فقهٌ من النوع الأوّل؛ بينما الفقه المدني هو فقهٌ من النوع الثاني عنده في الغالب طبعاً. ويعتبر الشاطبي أنّ كلّ عامّ مدنيّ يرجع ليكون جزئيّاً مكّياً. ويخوض محاولةً في هذا الصدد، فالجهاد يرجع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا. ولهذا قلّ النسخ في المكّيات، وكثر في المدنيّات نسبيّاً، وانعدم في الكلّيات الاستقرائيّة، مع توضيحه أنّ مفهوم النسخ عند القدماء أعمّ من التخصيص والتقييد والنسخ بالاصطلاح المتأخِّر([50]).

وهذه محاولةٌ تُعَدّ من أوائل المحاولات في تاريخ المسلمين التي ترصد المقارنات بين الفقه المكّي والفقه المدني، والتي أخذ بها بعض الباحثين اليوم لافتراض أنّ المرجعيّة الفقهيّة ليست سوى نصوص الفقه المكّي، وأنّ الفقه المدني هو فقهٌ تاريخيّ زمكاني.

هذا، ويبدي الشاطبي تحفُّظاً على الأدلّة التي تُعَدّ قليلة المرجعيّة عند السَّلَف أو منعدمة، وخوضاً في إشكاليّة البِدْعة والمصالح المرسلة([51])، وهو تفكيرٌ تقليديّ عنده.

ويخوض الشاطبي في عوارض الأدلّة، ويفصِّل في التشابه والإحكام والتأويل، وفي وضع اليقين والمعطيات بحَسَب النصوص. كما يخوض في النسخ، ثمّ في الأوامر والنواهي، وما تتضمَّنه من مباحث حول الإطلاق والتقييد، وأشكال الدلالة في الأوامر والنواهي، والتفصيل في مباحث العامّ والخاصّ، والمخصِّصات المنفصلة والمتصلة وغير ذلك، ثمّ البحث في البيان والإجمال وتفاصيلهما، والعلاقة البيانية بين الفعل والقول، والعلاقة بين المندوبات والواجبات والمباحات والمكروهات ودلالات الفعل فيها، ويتكلَّم عن بيان النبيّ وبيان الصحابة وغير ذلك.

وأخصّ بالإشارة فكرةً طرحها الشاطبي، وهي أنّ الشريعة مبنيّةٌ على العادات التي تقوم على الحالة الغالبة، وليس على الكلّية المطلقة. فعلامات البلوغ تدلّ على البلوغ، وغالباً ما تعطي نضوج العقل، لا دائماً، وعلى هذا مسار الأحكام الشرعيّة([52]). كما أسلِّط الضوء على أنّ العموم عند الشاطبي ليس مستفاداً من اللفظ وضعاً واستعمالاً فقط، بل يستفاد أيضاً من الاستقراء([53]).

كما أتوقَّف عند فكرة يطرحها الشاطبي، وهي أنّ السلوك والقول يجب أن يكونا بحيث تتميَّز في وَعْي الناس في مقام التبيين الواجباتُ عن المندوبات، والمحرّمات عن المكروهات، والكلّ عن المباحات، فلا يكون التبيين والعمل بحيث تختلط الأمور على الناس. وهذا جارٍ في الأنبياء والعلماء معاً عنده، بل عامّة المؤمنين. وهذه قضيّةٌ أعتقد بأنّها تتصل بحساسيّة الشاطبي من قضيّة البِدْعة، بحيث تظهر المندوبات كأنّها واجباتٌ، وهكذا، معرِّضاً بسلوك بعض الصوفيّة الذي يحوّل المندوبات إلى ما يبدو أقوى من الواجبات([54]).

مرجعيّة القرآن وحجّية السنّة وقواعد الفهم عند الشاطبي

بعد البحث في كلّيات الأدلّة يشرع الشاطبي بالحديث عن القرآن الكريم، فيؤسِّس لكونه الأصل في معرفة المقاصد، ويُستعان لفهمه بالسنّة المبيِّنة له، ويؤكِّد على مرجعيّة اللغة، وأنّ عنصر إعجاز القرآن في كونه فوق مستوى البشر وفي الوقت عينه يتكلَّم بلغتهم. لكنّ الشاطبي سرعان ما يؤسِّس ضرورة فهم سياقات النزول القرآني، معتبراً أنّ نظام اللغة قائمٌ على موضوع السياق المحيط خارج اللفظ نفسه. لهذا يعلن بكلّ وضوحٍ أنّ فهم القرآن بحاجةٍ لدراسة حال المخاطَب والمتكلِّم والظرف، بل من عُمْدة وسائل الفهم السياقي عنده معرفة أحوال العرب عصر التنزيل وعاداتهم وأعرافهم ونَمَط عيشهم؛ إذ من دون ذلك سوف يقع المفسِّر في إشكاليّاتٍ كبيرة في الفهم. ويلحق ـ الشاطبي ـ السنّة بهذه القاعدة، ويورد شواهد وأمثلة على ذلك من الكتاب والسنّة.

بَيْدَ أنّ الشاطبي في تأكيده على هذه الأدوات التفسيريّة يرفض بعض الأدوات الأخرى، مثل: علوم الهيئة والفلسفة، بل يلوح من كلامه أنّ عدم الفلسفة شرطٌ في معرفة القرآن. ومن هنا يرفض الشاطبي وجود ظاهرٍ وباطن في القرآن بغير معنى أنّ الظاهر هو اللفظ والباطن هو المراد، مؤكِّداً أنّ فنون البلاغة أصلٌ مهمّ للغاية، ودلالات اللغة أساسٌ متين جدّاً لفهم مراد القرآن وباطنه، بل عنده كلُّ تفسيرٍ للنصوص لا يجري على علوم العربية فليس بشيءٍ([55]).

ويتكلّم الشاطبي عن قدرة القرآن على استيعاب الشريعة. وهو أمرٌ شديد الخطورة، ويتّصل بحجّية السنّة المؤسّسة أو المستقلّة. ويتوسّع فيه الشاطبي كثيراً، وكلماته تحتمل احتمالين: إمّا أنّ القرآن فيه كلّ الشريعة، وليس في السنّة أيّ تأسيس، بل هي مجرّد تبيين، ومن ثمّ فلا حجّية للسنّة المؤسّسة؛ وإمّا أنّ القرآن شاملٌ، والسنّة مبيّنةٌ، وما بدا لنا من تأسيسٍ فهو ليس سوى بيانٍ لما في القرآن لم نفقهه نحن. لكنّ عباراته تبدو واضحة في أنّ القرآن يحوي الكلّيات، والسنّة لها حضور، لهذا يرفض الأخذ بالقرآن فقط، وترك السنّة، وكأنّه يعتبر أنّه ما من تفصيل في السنّة إلاّ ويرجع لأصلٍ في الكتاب، عدا القضايا المتعلِّقة بما هو خارج الأمور الشرعيّة؛ فهي أحياناً قد لا تكون في الكتاب وتكون في السنّة، وخاصّةً بعض الإخبارات عن الماضي والمستقبل([56]). وقد سبق أن بحثنا في مسألة السنّة النبويّة المستقلّة واحتماليّات موقف الشاطبي وغيره منها، وذلك في كتابنا: «حجّية السنّة»، فراجِعْ([57]).

هذا، ويخوض الشاطبي في بحوثٍ متعدِّدة في الموضوع القرآني، يمكن للقارئ مراجعتها؛ حتّى لا نطيل.

وعندما يدخل الشاطبي مسألة السنّة يشرع بتحليل معنى السنّة وإطلاقاتها. وفي أوّل الموضوعات المهمّة التي يثيرها يتكلَّم عن تأخُّر السنّة عن الكتاب، وتقدُّم الكتاب على السنّة. وهو بهذا يخالف تيّاراً واسعاً في الأمّة في موضوع حاكميّة السنّة على القرآن. ويستند الشاطبي إلى قطعيّة الكتاب وظنّية السنّة وغير ذلك من الأدلّة، ويرى أنّ دَوْر السنّة هو التفسير، لا القضاء على القرآن. فلو رجع شخصٌ لمفسِّرٍ ففهم من خلاله القرآن فهل نقول: هو يعمل بقول المفسِّر أو نقول: هو يعمل بالقرآن؟! بهذه الآلية يبدو الشاطبي يستهدف من السنّة التوضيح، وليس الحكم على القرآن بالسنّة. لكنّ نظريّته تظلّ تحتمل بعض الغموض والاحتمالات، وقد بحثنا هذا الموضوع في محلّه أيضاً([58]).

ويفصِّل الشاطبي في أنواع السنّة الثلاثة: القول؛ والفعل؛ والتقرير، ثمّ يؤكِّد حجّية سنّة الصحابة بالأدلّة([59]).

حول الاجتهاد والفتوى والتقليد في الرؤية الشاطبيّة

يشرع الشاطبي في القسم الخامس والأخير من كتاب الموافقات بالحديث عن الاجتهاد، فيتحدَّث عن المجتهد من جهة الاجتهاد، وعن الفتوى، وعن التقليد. ففي الاجتهاد يتحدَّث عن أنواعه، وطرائق التعامل مع المناط، من التخريج والتنقيح والتحقيق وغير ذلك، وعن مَدَيات الحاجة إليه.

والمهمّ هنا هو أنّ الشاطبي يشرط تحقُّق ملكة الاجتهاد بفهم مقاصد الشريعة، ويعتبر أنّ العالم الذي لا يفهم مقاصد الشريعة أو لا يفهم قواعد الفهم والاستنباط عبر المقاصد فليس بمجتهدٍ([60]). وبهذا يُقْحِم الشاطبي فكرة المقاصد في أصل وصف الاجتهاد، ومن ثَمَّ فالفقهاء الذين لا يعرفون المقاصد، ولا يفقهون هذا المجال، ليسوا بمجتهدين عنده.

لكنّ الشاطبي لا يرى أنّ كل ّمقدّمات الاجتهاد يلزم أن يكون الفقيه مجتهداً فيها، وإلاّ ما تحقَّقنا من مجتهدٍ قطّ، إلاّ نادراً. لكنْ هناك علومٌ تمثِّل مكوّنات الاجتهاد لا مقدّماته، وهي عند الشاطبي مثل: علوم العربية بفروعها، حيث يرى ضرورة الاجتهاد في اللغة. وهو بهذا يختلف مع جمهور الأصوليّين في موقفهم من مستويات الحاجة للغة العربيّة في المجتهد. وهنا تظهر خبرويّة الشاطبيّ وتحيُّزه ـ بالمعنى غير السلبيّ للكلمة ـ إلى علوم اللغة، كما ألمحنا سابقاً. بَيْدَ أنّ الشاطبي لا يقصد من التخصُّص في علوم العربيّة البُعْدَ النظريّ، بل يقيِّد ذلك بأن يجتهد في العربيّة بحيث تُصبح العربيّةُ فهماً للخطاب العربي بالنسبة إليه على غير تكلُّفٍ، بل هو يعيش فهمها الحقيقيّ بالسليقة([61]).

والشاطبي ممَّنْ لا يُجيز الأخذ بقول أحد المجتهدين تخييراً، بل يرى ضرورة إعمال الترجيحات، فيشترط الأعلميّة، رافضاً سياسة تتبُّع الرُّخَص، والإفتاء لكلّ واحدٍ بغير ما يُفتي به للآخر بناءً على تنوُّع الاجتهادات القائمة، الأمر الذي يراه قد شاع في زمانه، كما قلنا سابقاً، معتبراً أنّ مجرَّد الخلاف لا يجرّنا إلى إشاعة الإباحة والرُّخَص، تحت شعار الإباحة والرُّخَص، حيث يوجد خلافٌ بين العلماء، وأنّ اعتماد رُخَص المذاهب هو اتّباعٌ للشهوات والهَوَى([62]).

ومن الواضح أنّ الشاطبي يعاني من مشكلةٍ كبيرة في زمانه، وهو يتكلَّم عن هذا الموضوع بالكثير من التفصيل، والذي يبدو أنّ حركةً قويّة ذهبت نحو التحرُّر من الانضباط الفقهيّ نحو الأخذ بالرُّخَص عند المذاهب الفقهيّة المتنوّعة.

وعلى خطٍّ آخر، يفاجئنا الشاطبي بفكرةٍ مهمّة، وهي أنّ الاجتهاد في النصوص يحتاج إلى العربيّة بلا نزاعٍ في ذلك، لكنّ الاجتهاد في المعاني والمقاصد لا يحتاج للعربيّة، بل يتسنّى لكلّ شخصٍ مهما كانت لغته، ولو نُقلت إليه التشريعات بالترجمة، بل العلم بالموضوعات والمصاديق (تحقيق المناط) لا يحتاج إلى العلم بالمقاصد، ولا إلى العلم بالعربيّة، بل يحتاج إلى معرفة الأمور المتّصلة بالموضوع، كالطبّ والهندسة وغير ذلك([63])، فهي أمورٌ عقلائيّة عقلية تحرَّرت من اللغة.

إنّ الشاطبي هنا يعتبر أنّ معرفة المقاصد تسمح للمفكِّر المُدْرِك لها بالحركة في إدارتها عقلانياً على أرض الواقع، وأنّ علاقة الفقيه بالنصوص تختلف عن علاقته بالمقاصد نفسها، بصرف النظر عن مرحلة استنطاق المقاصد من النصوص، وبهذا تنفصل شخصيّة المجتهد في المجالين؛ ففي حال غرقه في البحث مع الكتب والنصوص واللغة رُبَما يكون منقطعاً عن فهم المقاصد في حركة الحياة أو في التطبيقات؛ بينما هو في مكانٍ ومجال آخر يتحرّك مع المعاني، ويعقل المغزى، فيحرِّكه في التعامل مع الأمور بصرف النظر عن هذا النصّ هذه المرّة أو تلك، والفقيه الكامل هو الذي يدرك الاثنين معاً.

ويخوض الشاطبيّ مطوّلاً في مسألة الاجتهادات الشاذّة، ثمّ في مسألة الأنظار المبنيّة على غير الاجتهاد من مسالك أهل البِدَع وأمثالهم، ويرى من علائمها الزَّيْغ واتّباع الهَوَى والفُرْقة، لكنّه في الوقت عينه يرفض إخراج أهل البِدْعة من الإسلام([64]).

وينظِّر الشاطبي لقاعدة مآلات الأفعال، ويستخرج منها الموقف من قانون سدّ الذرائع ومسألة الحِيَل الشرعيّة وغير ذلك([65])، ويستأنف بحثاً في أسباب الاختلاف بين الفقهاء.

وعندما يصل إلى الحديث عن الإفتاء فإنّه يشرع بأنّ المفتي في الأمّة قائمٌ مقام النبيّ، مستدلاًّ بأحاديث من نوع: العلماء وَرَثة الأنبياء، مطلقاً عبارة أنّ المفتي نائبٌ عن النبيّ في تبليغ الأحكام([66]). ويعتبر الشاطبي أنّ المفتي الحقيقي البالغ للذروة هو ذاك الوسطيّ الذي لا يذهب إفراطاً أو تفريطاً في فتاواه، فلا يضيِّق على الناس واسعاً فينفِّرهم، ولا يوسِّع ضيّقاً فيذهب بهم نحو أهوائهم ورُخَصهم، بل على المقلب الآخر يرى الشاطبي أنّ المقلِّد عليه أن يأخذ بالمذهب الذي يحمل سمة الاعتدال في الفتاوى بما يحقّق مقاصد التوسّط([67]).

وهذه الفكرة عند الشاطبي راجعةٌ لفهمه المقاصديّ للشريعة، ومن ثمّ فالفقيه المقاصدي هو الذي تكون مفردات فقهه في زمانه متوسّطةً معتدلة، لا إفراط ولا تفريط فيها.

هذا، ويختم الشاطبي كتابَه ببحث التعارض والتراجيح، وقواعد الجمع والتوفيق بين النصوص والأدلّة، ثمّ بحث السؤال والجواب أو قواعد الجَدَل.

كانت هذه خلاصة لأبرز النقاط التي أردْتُ انتقاءها من كتاب الموافقات؛ لأتمكّن من خلالها من وضع القارئ في صورة نظريّة المقاصد عند الشاطبي من جهةٍ، وفي المفاهيم والتصوّرات الذهنيّة الحاضنة أو الناظمة أو المتفرّعة على الفهم المقاصديّ عنده من جهةٍ ثانية. وهناك الكثير من الأبحاث الأخرى التي طرحها الشاطبي في هذا الكتاب لم نتطرَّق إليها؛ خوف الإطالة، فيمكن مراجعتها.

الشاطبي، مطالعةٌ إجمالية وتقويمٌ أوّلي

بعد هذا العرض لجملةٍ من أبرز ما قدّمه الشاطبي يمكننا التوقُّف عند نقاطٍ محدودة باختصارٍ شديد؛ لأنّ دراستنا ليست تاريخيّة هنا:

يمكن اعتبار الشاطبي أوّل مَنْ أفرد بالتنظير والتقعيد بحث المقاصد بطريقةٍ منهجيّة متوسّعة، وخصَّص قسماً من خمسة أقسام من كتابه لهذا الموضوع، وتحت هذا العنوان، وإنْ كانت جهود غيره قبله، وخاصّة العزّ بن عبدالسلام وابن القيِّم، لا يُستهان بها.

ورُبَما لأجل هذا اعتبر بعضهم ـ مثل: ابن عاشور ـ أنّ الشاطبي رُبَما يكون المدماك الأوّل في طريق تأسيس علم مقاصد الشريعة، وليس بحث المقاصد، نظراً لهذا الاستئناف بالتصنيف في هذا المجال.

ثمّة وجهتا نظر في مَدَيات إبداع الشاطبي وابتكاره:

أـ فوجهة نظرٍ لا تختلف في أنّ الرجل مُبْدِعٌ ومُبْتَكِرٌ في مجال المقاصديّات، وترفعه لأعلى المستويات، وأنّ مثل ما تقدَّم عند عرض أفكاره يؤكِّد هذا الأمر. وهذا ما يذهب إليه المشهور من الباحثين اليوم، ومن بينهم: الدكتور الريسوني، كما يظهر بمراجعة كتابه حول «نظريّة المقاصد عند الإمام الشاطبي».

وقد كان الشيخ محمد رشيد رضا منتصراً بقوّةٍ لقيمة إبداعيّة الشاطبي، تلاه الطاهر بن عاشور، حيث اعتبروا أنّ الرجل قام بنهضةٍ قويّة لولا سوء الأوضاع في زمانه، حدّاً بلغ بابن عاشور للدعوة إلى تجاهل علم أصول الفقه لصالح المقاصد الشاطبيّة. إنّ القيمة المضافة بنظرهم تكمن في أنّ الشاطبي يريد تأسيس دراسات الشريعة على اليقين، وليس على الظنّ الذي أغرَقَنا به علم أصول الفقه.

ب ـ ووجهة نظرٍ أخرى لا ترى فيه إلاّ جامعاً منسِّقاً ومبوِّباً لمجموع أفكار مَنْ سبقه، فقيمته نقل البحوث المقاصديّة من مجال التبعثر إلى مجال التنسيق والتكامل، وليس في إبداع الأفكار. وهذا ما يراه بعض الباحثين، مثل: الدكتور سالم يفوت([68]).

إنّ هذا الفريق يرى أنّ الشاطبي ليس إلاّ أحد رموز التعليل الفقهي، تماماً كالمعتزلة والماتريديّة والأحناف وغيرهم، أو أنّه رمزٌ في نظريّة الاستصلاح، لا أكثر، ومن ثمّ فليست هناك إضافةٌ كبيرة عنده.

ويرى الباحث سالم يفوت أنّ الشاطبي لم يقُمْ بنقلةٍ إيبستمولوجيّة حقيقيّة، بل هو قام بجمع مُنْجَزات الغزالي وابن رشد وابن حزم وغيرهم، معتمداً مسلك الأحناف الذي هو مسلكٌ استقرائيّ، في مقابل مسلك المتكلِّمين الذي أشبع فضولَ المعتزلة والشيعة والأشاعرة، فدفعهم لتأسيس نَسَقٍ استدلاليّ كلامي في الدراسات الشرعيّة، هو ما نعرفه اليوم باسم: علم أصول الفقه الإسلامي. فالشاطبي لم يؤسِّس نقلةً معرفيّة، بل اعتمد جماع مناهج معرفيّة كانت قائمةً، وقام بشيءٍ من التوفيق والتلفيق بينها، بالإضاءة على بعض دون بعضٍ؛ للخروج بمنهجه الذي طرحه.

وبهذا فقيمة الشاطبي في تأكيده على العلّة مقابل اللفظ، وليس في إبداعه منهجاً معرفيّاً في الدرس الفقهي.

ولستُ هنا بصدد بحثٍ تاريخي تقويمي لأعمال الشاطبي، وقد اختلفت في تقويمه الآراء والأفكار، لكنّ الذي يبدو لي أنّ الرجل كان مهندسَ نقلةٍ نوعيّة في موضوعٍ توجد أفكاره وبذوره من قَبْلُ. فأنا أوافق أنّه لم يقُمْ بنقلةٍ إيبستمولوجيّة كانت غريبةً عن زمانه تمام الغربة، لكنّه كان منسِّقاً ممتازاً ومُراكِماً ممدوحاً، وهو إبداعٌ يقفز بالنظريّة نحو التقدُّم، علماً أنّ الرجل أعاد الإضاءة على موضوعاتٍ مهمّة، وطرح أفكاراً جديدة وأبواباً جديدة، كما رأينا، وكرَّس المقاصد ـ وهذا مهمٌّ جدّاً ـ رؤيةً منفصلة تماماً عن بحث القياس، وليست حبيسةً له. لكنّ توصيفات المتحمِّسين للشاطبي تبدو مبالغاً بها. وقيمة الشاطبي في تقديري تكمن في الانتقال ببحث المقاصد من مستوىً إلى مستوىً آخر، وفي الذهنية التقعيديّة والتنظيميّة التي عنده، وفي بعض الإضافات التي قدَّمها، ممّا عرضنا بعضه سابقاً.

الهوامش

([1]) هو الإمام بقي بن مخلد أبو عبد الرحمن القرطبي(276هـ)، أحد الذين نشروا الحديث في بلاد الأندلس بعد رحلةٍ إلى بلاد الشرق استمرّت عشرات السنين، جال فيها الكثير من مدن الإسلام، قيل: إنّه لم يركب دابّةً في رحلته، بل قضى كلّ أسفاره في طلب الحديث ماشياً على قدمَيْه، وقد تعرَّض لبعض المضايقات قبل أن ينشر الحديث في الغرب الإسلامي.

([2]) الشاطبي، الاعتصام 2: 506 ـ 507.

([3]) الشاطبي، الاعتصام 2: 508، 511.

([4]) الشاطبي، الموافقات 3: 131 ـ 132.

([5]) الشاطبي، الاعتصام 1: 19 ـ 21.

([6]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الموافقات 1: 160، 162.

([7]) انظر: المصدر السابق 1: 37 ـ 41.

([8]) انظر: المصدر السابق 1: 3 ـ 13، 124.

([9]) انظر: المصدر السابق 1: 17 ـ 26.

([10]) انظر: المصدر السابق 1: 27 ـ 35؛ 2: 79 ـ 82.

([11]) انظر: المصدر السابق 1: 107 ـ 124.

([12]) انظر: المصدر السابق 1: 155 ـ 166.

([13]) انظر: المصدر السابق 1: 43 ـ 66، 73 ـ 105.

([14]) انظر: المصدر السابق 1: 67 ـ 72.

([15]) انظر: المصدر السابق 1: 148 ـ 154.

([16]) انظر: المصدر السابق 1: 144.

([17]) انظر: المصدر السابق 1: 125 ـ 135.

([18]) انظر: المصدر السابق 4: 12 ـ 13.

([19]) انظر: المصدر السابق 1: 169 ـ 234.

([20]) انظر: المصدر السابق 1: 239 ـ 295؛ 2: 538 ـ 542.

([21]) انظر: المصدر السابق 2: 7 ـ 13.

([22]) انظر: المصدر السابق 2: 86 ـ 90.

([23]) انظر: المصدر السابق 2: 17 ـ 25.

([24]) انظر: المصدر السابق 2: 79 ـ 82.

([25]) انظر: المصدر السابق 2: 31 ـ 43.

([26]) انظر: المصدر السابق 2: 44 ـ 53.

([27]) انظر: المصدر السابق 2: 63 ـ 78.

([28]) انظر: المصدر السابق 2: 83 ـ 85، 96 ـ 99.

([29]) انظر: حيدر حبّ الله، حواراتٌ ولقاءات في الفكر الديني المعاصر 1: 481 ـ 482.

([30]) انظر: الشاطبي، الموافقات 3: 132 ـ 142.

([31]) انظر: المصدر السابق 2: 101 ـ 104.

([32]) انظر: الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميّة ومكارمها: 75 ـ 77.

([33]) انظر: الشاطبي، الموافقات 2: 109 ـ 138.

([34]) انظر: المصدر السابق 2: 138 ـ 169؛ 4: 261 ـ 264.

([35]) انظر: المصدر السابق 2: 171 ـ 287.

([36]) انظر: ابن سينا، الشفاء (الإلهيات): 441 ـ 442؛ والإشارات والتنبيهات 3: 371 ـ 373؛ والسهروردي، رساله يزدان شناخت (مجموعة أعمال شيخ الإشراق 3): 453 ـ 455؛ والشيرازي، المبدأ والمعاد: 557 ـ 558؛ والشواهد الربوبيّة: 359 ـ 361.

([37]) انظر: الشاطبي، الموافقات 2: 289 ـ 304، 328 ـ 343.

([38]) انظر: المصدر السابق 2: 305 ـ 313؛ 3: 385 ـ 391؛ وقد عاد ابن عاشور لاحقاً وطرح هذه الموضوعات، آخذاً روحها من أُطروحات الشاطبي، فانظر له: مقاصد الشريعة الإسلاميّة: 292 ـ 296.

([39]) انظر: الشاطبي، الموافقات 2: 380 ـ 406.

([40]) انظر: المصدر السابق 2: 513 ـ 528؛ 3: 138.

([41]) انظر: المصدر السابق 3: 7 ـ 52.

([42]) انظر: المصدر السابق 3: 53 ـ 119.

([43]) انظر: المصدر السابق 3: 120 ـ 132.

([44]) انظر: المصدر السابق 4: 143.

([45]) انظر: المصدر السابق 3: 171 ـ 183.

([46]) انظر: المصدر السابق 4: 175.

([47]) انظر: المصدر السابق 3: 184 ـ 207.

([48]) انظر: المصدر السابق 3: 208 ـ 216.

([49]) انظر: المصدر السابق 3: 227 ـ 230.

([50]) انظر: المصدر السابق 3: 235 ـ 240، 335، 338 ـ 367؛ 4: 256؛ 5: 234 ـ 249.

([51]) انظر: المصدر السابق 3: 252 ـ 289.

([52]) انظر: المصدر السابق 4: 14 ـ 17.

([53]) انظر: المصدر السابق 4: 57 ـ 68.

([54]) انظر: المصدر السابق 4: 97 ـ 126.

([55]) انظر: المصدر السابق 4: 144 ـ 157، 198 ـ 252.

([56]) انظر: المصدر السابق 4: 180 ـ 197، 289 ـ 290، 314 ـ 418.

([57]) انظر: حبّ الله، حجّية السنّة في الفكر الإسلامي: 503 ـ 515.

([58]) انظر: الشاطبي، الموافقات 4: 289 ـ 418؛ وحجّية السنّة في الفكر الإسلامي: 571 ـ 597.

([59]) انظر: الشاطبي، الموافقات 4: 419 ـ 463.

([60]) انظر: المصدر السابق 5: 11 ـ 45.

([61]) انظر: المصدر السابق 5: 45 ـ 58.

([62]) انظر: المصدر السابق 5: 79 ـ 113.

([63]) انظر: المصدر السابق 5: 124 ـ 130.

([64]) انظر: المصدر السابق 5: 131 ـ 176.

([65]) انظر: المصدر السابق 5: 177 ـ 200.

([66]) انظر: المصدر السابق 5: 253 ـ 257.

([67]) انظر: المصدر السابق 5: 276 ـ 280.

([68]) انظر: يفوت، حفريّات المعرفة العربية الإسلاميّة: 47.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً