الشيخ مسلم الداوري(*)
الشيخ مجتبى المسعودي(**)
ترجمة: مرقال هاشم
مقدّمةٌ
يذهب المشهور من فقهاء الإمامية إلى القول بأن الصلح عقدٌ عامّ يمكن توسيع دائرته بشكلٍ كبير، وفي المقابل ذهب بعض الإمامية وعموم أهل السنّة إلى اشتراط أن يكون عقد الصلح مسبوقاً بالخصومة والنزاع، أو احتمال ذلك؛ لإضفاء المشروعية عليه. إن هؤلاء؛ من خلال التمسُّك بلفظ الصلح، وإثبات الوضع اللغوي والمتفاهم العُرْفي، قد أثبتوا سبق الخصومة، ومن ناحيةٍ أخرى قالوا بأن الصلح على خلاف مذاق الشارع. وقال هؤلاء في بيان استدلالهم: كيف يمكن للشارع أن يعمل من جهةٍ على وضع أحكام وعقود خاصّة لكلّ واحدةٍ من المعاملات على أساس من المصالح والمفاسد الواقعية، ويعمد في الوقت نفسه من جهةٍ أخرى إلى السماح للمكلَّفين في التهرُّب من هذه الأحكام والعقود الخاصّة من خلال تغيير ظواهر هذه العقود تحت عنوان الصلح؛ كي لا يجري أيٌّ من تلك العقود بعد تحقُّق هذا التغيير الظاهري. وعلى حدّ تعبير بعض الحقوقيين: «إن الصلح الابتدائي وسيلةٌ وذريعةٌ لارتكاب أنواع الغشّ والحِيَل القانونية، ويؤدّي إلى اختلال نظم القوانين، وعدم جدوائية الكثير من العقود»([1]).
من الطبيعيّ أننا إذا اعتبرنا توقيفيّة العقود، واشترطنا من جهةٍ أخرى سبق الخصومة في مشروعية الصلح، سوف نواجه تحدّياً في ما يتعلَّق بمشروعية العقود المستَحْدَثة؛ لأن إضفاء المشروعية على العقود المستَحْدَثة رَهْنٌ بأحد أمرين:
1ـ أن لا نعتبر العقود أمراً توقيفياً، ونقول بمشروعية كلّ عقدٍ يجري على بناء العقلاء، ولا يتنافى مع القواعد الشرعيّة المسلَّمة في المعاملات.
2ـ أن نعتبر الصلح الابتدائي في مقام المعاملات مشروعاً، وعندها سوف يكون القيام بتلك المعاملة المستَحْدَثة في إطار عقد الصلح الابتدائي أمراً ممكناً؛ لأن ماهية الصلح هي التسالم. وبعبارةٍ أخرى: يجب أن يكون المقصود الأصلي في الصلح هو التسالم، وأما الأمور الأخرى، من قبيل: التمليك والتملّك، فيجب أن تكون مقصودةً بالتَّبَع.
ونسعى في هذه المقالة إلى إثبات مشروعية الصلح الابتدائي؛ بالأدلة العامة للعقود، من قبيل: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29)، و«المسلمون عند شروطهم»([2])؛ وبعض الأدلّة الخاصة. ومن هنا فإننا؛ لهذه الأدلة، نعتبر الصلح الابتدائي مشروعاً، ونعتبر الأدلّة المذكورة لإثبات عدم مشروعيّة الصلح الابتدائي غير تامّةٍ.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد تمّ السعي في هذه المقالة إلى بيان الأدلة التي أقامها الفقهاء على شرعية عقد الصلح الابتدائي، وإنْ كان فيها ضعفٌ عمدنا إلى ترميمه وتكميله، مع بيانها وتقريبها بشكلٍ واضح، بالإضافة إلى استقصاء جميع الأدلّة، بما في ذلك الأدلة غير التامّة أيضاً.
عقد الصلح في الآثار القديمة والحديثة
لقد عقد الفقهاء في مؤلَّفاتهم وآثارهم الفقهية والروائية فروعاً مختلفة ضمن أبواب الصلح. وجاء في الكتب الروائية ـ من قبيل: «الكافي»، و«مَنْ لا يحضره الفقيه»، و«تهذيب الأحكام» ـ بابٌ مستقلّ تحت عنوان الصلح([3]). وفي الكتب الفقهيّة للمتقدِّمين، كما في «المقنعة» للشيخ المفيد، و«الانتصار» للسيد المرتضى، على الرغم من عدم عقد باب مستقلّ للصلح، ولكنّ هذه الكتب لم تَخْلُ من الإشارة إلى بعض فروعات عقد الصلح([4]). وفي ضوء التحقيقات المبذولة تعود الجذور الأولى لفتح بابٍ مستقلّ لبحث المسائل الخاصّة بعقد الصلح في الكتب الفقهية إلى آثار أبي الصلاح الحلبي، وسلاّر الديلمي، والشيخ الطوسي، وقد كان هؤلاء الفقهاء معاصرين لبعضهم([5]). ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم أخذ كتاب الصلح يقع مورداً للبحث وتداول الآراء والأنظار.
وبين الآثار والأعمال المعاصرة هناك مقالةٌ حول الصلح الابتدائي([6])، بَيْدَ أن كاتبها كان في صدد إثبات عدم مشروعيّة الصلح الابتدائي. فقد رأى أن مشروعية الصلح إنما تكون في إطار وجود الخصومة والنزاع السابق أو احتماله فقط. إلاّ أننا بحثنا في أدلة مشروعية الصلح الابتدائي، ونعتبر دلالتها على مشروعية الصلح الابتدائي تامّةً، ولذلك نقول بعدم تمامية الأدلة التي أُقيمت على عدم مشروعيّته.
مفهوم الصلح
إن لفظ الصلح في لسان الفقهاء ـ المأخوذ من الآيات والروايات ـ ليس أجنبيّاً عن معناه اللغوي، وإن الشارع المقدَّس لم يخترع لهذا اللفظ ـ مثل الكثير من ألفاظ المعاملات الأخرى ـ معنى آخر مخالفاً لمعناه العُرْفي واللغوي، بمعنى أن الصلح، مثل العبادات، ليس له حقيقةٌ شرعية.
1ـ الصلح لغةً
من خلال الرجوع إلى عبارات اللغويين ندرك أن بعض علماء اللغة يفسِّرون الصلح بالسِّلْم والوفاق. كما فسَّروا مفردة السِّلْم في معرض بيانها وإيضاحها بالصلح([7]). وتعود هذه المقابلة في تفسير وإيضاح هاتين الكلمتين ببعضهما، في دَوْرٍ واضح، إلى بداهة مفهوم الصلح بالنسبة إلى الناطقين باللغة العربية. كما قال بعض اللغويين في بيان معنى الحرب أنها ضدّ السِّلْم ونقيضه([8])، ويمكن التوصُّل من خلال ذلك إلى أن هناك ضدّيةٌ وتقابلٌ في معنى الصلح مع الحرب.
وقد صرَّح بعض علماء اللغة بأن الصلح وفاقٌ بعد الخصومة والنزاع. قال فخر الدين الطريحي، في مجمع البحرين، في تفسير هذا الحديث: «الصلح جائزٌ بين المسلمين»: «أراد بالصلح التوافق بين المتنازعين»؛ بمعنى أن سبق النزاع والخصومة قد أُخِذَ بوصفه أمراً مفروغاً عنه.
2ـ عقد الصلح في مصطلح الفقهاء
لم يقدِّم العلاّمة الحلّي، في كتاب التحرير، تعريفاً لعقد الصلح، وقد صرَّح بأن الصلح عقدٌ مستقلّ، وليس متفرِّعاً عن العقود الأخرى([9]). وجاء في كتاب المسالك في تعريف عقد الصلح: «عقد [الصلح] شُرِّع لقطع التجاذب… لكنّه عندنا قد صار عقداً مستقلاًّ بنفسه، لا يتوقَّف على سبق خصومة. بل لو وقع ابتداءً على عينٍ بعوض معلوم كان كالبيع في إفادة نقل الملك…؛ لإطلاق النصوص بجوازه، من غير تقييدٍ بالخصومة»([10]).
وجاء في كتاب (رياض المسائل) في تعريف عقد الصلح: «الصلح، وهو مشروعٌ في الأصل لقطع المنازعة السابقة أو المتوقَّعة… والنصوصُ [من إطلاق الآيات والروايات] من الصحاح [بالإضافة إلى إجماع الفقهاء] المستفيضة وغيرها من المعتبرة الواردة في موارد مخصوصة به مستفيضةٌ [في دلالتها على عدم لزوم سبق الخصومة في مشروعية الصلح]»([11]).
قال الإمام الخميني&، في تحرير الوسيلة، في تعريف الصلح: «هو التراضي والتسالم على أمرٍ؛ من تمليك عينٍ أو منفعةٍ أو إسقاط دَيْنٍ أو حقٍّ، وغير ذلك. ولا يُشترط بكونه مسبوقاً بالنزاع. ويجوز إيقاعه على كلّ أمرٍ إلاّ ما استُثني، كما يأتي بعضها، وفي كلّ مقامٍ إلاّ إذا كان محرِّماً لحلالٍ أو محلِّلاً لحرامٍ»([12]). وقال أيضاً: «الصلح عقدٌ مستقلّ بنفسه، وعنوانٌ برأسه، فلم يلحقه أحكام سائر العقود، ولم تَجْرِ فيه شروطها، وإنْ أفاد فائدتها، فما أفاد فائدة البيع لا تلحقه أحكامه وشروطه، فلا يجري فيه الخيارات المختصّة بالبيع، كخيارَيْ المجلس والحيوان، ولا الشُّفعة»([13]).
يُفْهَم من عبارات الفقهاء المتقدِّمة، ومن خلال الرجوع إلى كلمات الكثير من الفقهاء، أوّلاً: إن الصلح عقدٌ مستقلّ، ويُعَدّ في عرض سائر العقود الأخرى. ولذلك فهو يحتوي على آثاره الخاصّة، رغم ذهاب قلّة من فقهاء الشيعة إلى عدم اعتبار الصلح عقداً مستقلاًّ، وقالوا بأنه تابعٌ للعقود الأخرى([14]). وثانياً: إن أصل مشروعية الصلح لقطع الخصومة، ولكنْ حيث يكون لأدلة مشروعية الصلح إطلاقٌ فإنه يشمل حتى الموارد التي لا تنطوي على نزاعٍ أو خصومة. وثالثاً: بالنظر إلى اتساع دائرة عقد الصلح يمكن الاستفادة منه بوصفه أداةً لمشروعية العقود المستَحْدَثة. ولذلك فقد صرَّح الإمام الخميني بأن هذا العقد قابلٌ للتوظيف في كلّ مقامٍ، إلاّ إذا أحلّ حراماً أو حرَّم حلالاً.
خصائص الصلح الابتدائي
إن من الخصائص الهامّة لعقد الصلح أنه يمكن من خلاله الوصول إلى آثار ونتائج الكثير من العقود المتعارفة. يمكن لكلّ واحدٍ من الطرفين في عقد الصلح في إطار الصلح أن يعمل على تمليك عينٍ أو منفعةٍ أو إسقاط دَيْنٍ وحقٍّ في مقابل عوضٍ أو بغير عوضٍ. وقد اعتبر الشيخ الطوسي في كتاب «المبسوط»([15]) ـ استناداً إلى الفقه الشافعي ـ أن عقد الصلح يشتمل على فوائد العقود الخمسة المتعارفة، وهي: البيع، والإبراء، والعارية، والإجارة، والهبة.
وقد صرَّح بعض الفقهاء المتأخِّرين بأن عقد الصلح يمكنه أن ينطوي على فوائد ونتائج تفوق هذه العقود الخمسة. ومن هنا فقد أشار السيد الخميني إلى سعة دائرة عقد الصلح، بقوله: «يجوز إيقاعه على كلّ أمرٍ، وفي كلّ مقام، إلاّ ما أحلّ حراماً وحرّم حلالاً»([16]).
وقد أكَّد السيد محمد الطباطبائي، صاحب كتاب «المناهل»، صراحةً أن عقد الصلح يمكن أن ينطوي على ثمار ونتائج جميع العقود، والعقد الوحيد الذي تمّ استثناؤه من بين هذه العقود هو عقد النكاح، حيث لا يتطرَّق إليه الصلح([17]).
وقد ذهب السيد محمد الصدر ـ من الفقهاء المعاصرين ـ إلى استثناء عقد النكاح من بين العقود، والطلاق والعتق من بين الإيقاعات، وقال في ذلك: «وقد يُفيد [الصلح] فوائد المزارعة والمساقاة والقَرْض والرَّهْن إلى غير ذلك من المعاملات.. بل يُفيد أيضاً فائدة الإيقاعات، كالإبراء، وإنْ كان نفوذه في العتق والطلاق والنكاح ممّا لم يقُلْ به أحدٌ»([18]).
وفي نظر الفقهاء المتأخِّرين والمعاصرين لا ينطوي عقد الصلح على فائدة جميع العقود المتعارفة فحَسْب، بل اعتبروا مشروعية الكثير من المعاملات والعقود المستَحْدَثة والمجهولة تحت عنوان عقد الصلح أيضاً، ومن بين هذه العقود المستَحْدَثة ـ على سبيل المثال ـ ما يُعْرَف بعقد «التايم شير» أو «الملكيّة الزمنية».
يعمد مالك العين في هذا العقد إلى نقل ملكيّته إلى مجموعةٍ من الأشخاص، بحيث يتمكن كلٌّ منهم في فترةٍ محدَّدة ـ كأن يتمّ تحديدها بعامٍ واحد ـ من أن يصبح مالكاً للمال في مدّةٍ زمنية معيَّنة ومحدَّدة من ذلك العام، وعلى هذا الأساس تكون خصائص هذا العقد كما يلي:
أـ إن الخصيصة الأصلية لهذا العقد تكمن في انتقال الملكية من مالكٍ إلى آخر، ومن هنا يكون هذا العقد من العقود والمعاملات التمليكية.
ب ـ يتمّ في هذا العقد تمليكُ العين لآخر، وتنتقل المنافع إليه تَبَعاً لانتقال العين إليه. وعلى هذا الأساس فإن هذا العقد من حيث التحديد والتحصيص الزمني يبدو شبيهاً بعقد الإجارة، إلاّ أن وجود تمليك العين في البين يجعل هذا العقد مختلفاً عن الإجارة.
ج ـ على الرغم من انتقال العين إلى عددٍ من الأشخاص، ولكنْ حيث لا يكون هذا الانتقال بالتوازي فيما بينهم، وفي وقتٍ واحد، فإن هذا العقد سيكون مختلفاً عن البيع المشاع من هذه الناحية.
د ـ إن ملكية كلّ شخصٍ في الحقيقة تُعَدّ ملكيّةً مؤقَّتة ومحدَّدة؛ إذ العين لا تبقى في ملكية أحد المالكين بشكلٍ دائم أبداً، فهي تنتقل على التوالي من شخصٍ إلى آخر.
والنتيجة هي أنه لإثبات مشروعية مثل هذا العقد، الذي لا يحتوي على ضوابط العقود المعهودة، من قبيل: عقد البيع؛ وعقد الإجارة، يجب إما رفض توقيفية العقود، أو أن نبحث عن طريقة تثبت مشروعية هذه العقود المستَحْدَثة، بالإضافة إلى الحفاظ على توقيفية العقود أيضاً.
ويرى كاتب هذه السطور أن إضفاء المشروعية على هذا النوع من المعاملات المستَحْدَثة لا يأتي من طريق الالتزام بعدم توقيفية العقود فقط، بل حتّى لو التزمنا بتوقيفية العقود يمكن لنا إضفاء المشروعية على العقود المستَحْدَثة من طريق الصلح الابتدائي، أو بعبارةٍ أخرى: الصلح في مقام المعاملة. والصلح بدَوْره من العقود المتعارفة، وكان شائعاً بين الناس في عصر نزول وصدور المطلقات والعمومات. وفي الحقيقة فإن توصيف عقد الصلح بأنه «أنفع العقود» يعود في الواقع إلى أنه يستطيع نشر مظلّته على جميع العقود المتعارفة والمستَحْدَثة.
أدلّة مشروعيّة الصلح الابتدائي
يجب الالتفات ـ قبل إقامة الأدلة على مشروعية الصلح الابتدائي ـ إلى نقطتين، وهما:
أوّلاً: إن الأدلة المذكورة إنما هي أدلّةٌ يمكن أن تَرِدَ بوصفها مستنداً، ولا تنافي أن يكون بعضها دليلاً إذا لم تكن هناك في البين أدلّةٌ أخرى. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن التمسُّك بالأصل إنما يكون صحيحاً إذا قصرَتْ أيدينا عن الوصول إلى الدليل الاجتهادي، ومع افتراض تمامية الأدلة الاجتهادية، من قبيل: العمومات والإطلاقات أو الروايات الخاصّة في باب الصلح، عندها لا يصل الدَّوْر إلى التمسُّك بالأصل، أو أن التمسُّك بالإجماع إنما يكون معتبراً بوصفه كاشفاً تعبُّدياً عن رأي المعصوم؛ حيث لا يكون هناك دليلٌ خاصّ على ثبوت الحكم، ومع افتراض وجود الدليل وتماميّته لا تكون هناك حاجةٌ إلى التمسُّك بالإجماع، ولكنْ حيث من الممكن أن يكون هناك نقاشٌ في التمسُّك بالأدلة يأتي دَوْر الإجماع أو الأصل، بوصفهما دليلاً على مشروعية الصلح الابتدائي.
ثانياً: إن الأدلة التي يَرِدُ ذكرها إنما هي الأدلّة الوحيدة التي تمّ التمسُّك بها في كلمات الفقهاء، وإن مجرّد ذكرها لا يشكِّل دليلاً على القبول بها، وإنْ كان كاتب هذه المقالة في صدد بيان المناقشات والأبحاث الواردة في كلّ موردٍ لا يتمّ فيه الدليل.
1ـ الإجماع
إن من بين أهم الأدلة على صحّة الصلح الابتدائي عند الفقهاء هو الإجماع. وقد تمَّتْ حكاية دعوى الإجماع وثبوت الاتفاق بين الفقهاء على صحّة الصلح الابتدائي على صورتين:
الصورة الأولى: الإجماع البسيط. والمراد منه اتّفاق جميع الفقهاء على فتوى واحدةٍ. إن أول فقيهٍ ذكر مسألة لزوم وعدم لزوم سبق الخصومة والنزاع هو العلاّمة الحلي في التذكرة. وإنه بعبارة: «عندنا» عمد في الحقيقة إلى نسبة مشروعية الصلح الابتدائي وعدم لزوم سبق الخصومة إلى الشيعة. إن هذا التعبير كان يُستعمل عادةً للحكاية عن الإجماع، وهو في الحقيقة بيانٌ على أن المسألة من مختصّات الشيعة.
وقد ذهب الفقهاء بعد العلاّمة إلى ادعاء هذا الإجماع أيضاً. فقد أشار الشهيد الثاني في مسالك الأفهام بعبارة: «عندنا» إلى القول بأن هذه المسألة مجمعٌ عليها. وإن المحقِّق الأردبيلي بدَوْره، بعد الاستدلال بالروايات ومناقشتها، قال في الختام: «…وغير ذلك من الأخبار، والإجماعُ كافٍ في ذلك، مع عدم ظهور المخالف منّا». وذهب السبزواري بدَوْره إلى ادّعاء عدم الخلاف([19]). وقد عمدَتْ جماعةٌ أخرى من الفقهاء إلى استعمال كلمة «الإجماع» صراحةً، بوصفه مستنداً لمشروعية الصلح، ومن بينهم: صاحب الجواهر([20]) وصاحب الرياض([21]). إن نقل الإجماع في هذه المسألة قد بلغ حدّاً من الكثرة بحيث اعتبره السيد الطباطبائي في كتاب الرياض أمراً مستفيضاً.
الصورة الثانية: الإجماع المركَّب. وهو في الحقيقة ذات القول بعدم الفصل. قال صاحب الرياض في هذا الشأن: «ولكنْ يمكن الذبّ عنه بعدم القائل بالفرق بين الأمّة، فكلّ مَنْ قال بالمشروعية؛ لدفع منازعةٍ متوقَّعة ـ وإنْ لم تكن سابقةً، كما دلّ عليها إطلاق الأخبار المذكورة ـ قال بها في الصورة المزبورة، التي لم تكن المنازعة فيها سابقةً، ولا متوقَّعة»([22]).
على الرغم من أن تعاريف الفقهاء السابقين للصلح تبيِّن أنهم قد عرَّفوا الصلح من أجل رفع النزاع المحقّق أو المحتمل، ولكنْ يمكن أن يُقال: إن أصل مشروعية الصلح لا تنحصر في رفع النزاع والخصومة، وإن التعريف إنما يبيِّن مجرّد جانبٍ من عقد الصلح. وإن الإشارة إلى قطع التجاذب والنزاع إنما هي في الحقيقة إشارةٌ إلى الفرد الغالب، والقيود الغالبة بدَوْرها لا تفيد مفهوماً؛ ببيان أنه لا يمكن التمسُّك بصرف الإشارة إلى قطع الخصومة والتجاذب، والعمل على نفي مشروعية الصلح غير المسبوق بالنزاع؛ إذ إن شرط الدلالة على المفهوم هو الانحصار، في حين أن قيد «قطع التجاذب» في تعاريف الفقهاء إنما هو لمجرّد الإشارة إلى المصاديق الغالبة، التي يتمّ فيها فصل الخصومة([23]). وقد ورد بيان هذه المسألة في كلمات المحقِّق العاملي، على النحو التالي: «على أنه تعريفٌ غير متلقّىً من الشارع، فليس بحقيقةٍ شرعية، فيجوز أن يكون تعريفاً للمتَّفق عليه بين المسلمين. ويظهر من فخر الإسلام، كما هو صريح الفاضل المقداد والقطيفي، الجواب بأنهم أشاروا بهذا التعريف إلى أن الغرض الأقصى منه غالباً رفع الخصومة، سواء تقدَّمت أم لا، حيث يقدَّر أنه لولاه لحصلَتْ، كالصلح على العين المجهولة للمتصالحين؛ فإن النزاع يحصل غالباً لولا عقد الصلح»([24]).
لقد تمَّتْ الإشارة في كلام سماحته إلى عددٍ من النقاط:
النقطة الأولى: إن التعريفات المنقولة عن الفقهاء المتقدِّمين، والتي تمَّتْ الإشارة فيها إلى مشروعية الصلح من أجل قطع النزاع والخصومة، ليست تعريفاتٍ صادرةً من قِبَل الشارع المقدَّس، بل هي تعريفاتٌ مذكورةٌ من قِبَل الفقهاء، حيث كانوا يسعَوْن إلى تعريف العقود المتَّفق عليها من قِبَل جميع المسلمين ـ من الشيعة وأهل السنّة ـ، والمتَّفق عليه من قِبَل جميع المسلمين هو الصلح من أجل رفع النزاع والخصومة، إلاّ أن هذا الأمر لا يدلّ على حَصْر مورد الصلح في الموارد المسبوقة بالنزاع والخصومة.
النقطة الثانية: إن الإشارة إلى جهة قطع النزاع والخصومة إنما هي لمجرّد الإشارة إلى الموارد الغالبة، وبسبب عدم الحاجة لم يُشيروا إلى الموارد النادرة وغير المسبوقة بالنزاع والخصومة، بَيْدَ أن الفقهاء أخذوا بعد ذلك شيئاً فشيئاً ـ بسبب اتساع دائرة الاحتياجات البشريّة، وحلّ الكثير من المعضلات الفقهيّة والشرعيّة في المعاملات بواسطة الصلح ـ يشعرون بالحاجة إلى عدم طرح مسألة لزوم سبق الخصومة والنزاع في الصلح. وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار عدم ذكر هذه المسألة في كلمات الفقهاء المتقدِّمين أو مجرّد الخَوْض في طرح الفروع والمسائل التي يوجد فيها نزاعٌ وخصومة أو يحتمل ذلك، مخالفةً للإجماع، ومن هنا فإن الإشكال الذي ذكره صاحب مقالة (الصلح الابتدائي) على التمسُّك بالإجماع لا يكون وارداً([25]).
أجل، قد يُشْكَل بأن هذا النوع من الإجماع إنما هو من الإجماع المنقول، والمعروف بين الأصوليين هو عدم اعتبار الإجماع المنقول؛ لأن مباني الكشف عن رأي المعصوم في تحصيل الإجماع مختَلَفٌ فيها بين العلماء، فرُبَما كان اتفاقُ جماعةٍ من الفقهاء عند فقيهٍ ملازماً للكشف عن رأي المعصوم، ولا يكون عند فقيهٍ آخر ـ لم يُنقل له هذا الاتفاق ـ ملازماً للكشف عن رأي المعصوم. إلاّ أن هذا الإشكال بدَوْره يمكن الإجابة عنه بالقول: يبدو أن هذا النوع من نقل الإجماع؛ بسبب التضافر في نقله ـ كما ادَّعى السيد الطباطبائي في الرياض ـ، يمكن أن يكون كاشفاً عن رأي المعصوم. وبعبارةٍ أخرى: إن هذا المورد من الموارد التي يكون فيها تلازمٌ عاديّ بين نقل السبب([26]) والمسبَّب([27])، سواء من وجهة نظر الناقل والمنقول إليه([28]).
2ـ الأصل العمليّ
استند بعض الفقهاء في إثبات مشروعية الصلح الابتدائي إلى أصل عدم اشتراط سبق الخصومة في عقد الصلح([29]). وفي تقريب هذا الأصل ـ الذي هو الاستصحاب وعدم جعل الشرطية ـ يجب القول: إن الشك في صحّة وفساد الصلح الابتدائي إنما ينشأ ـ في الحقيقة والواقع ـ من الشكّ في شرطية سبق النزاع في جواز الصلح، وحيث يجري أصل عدم اشتراط سبق النزاع كان حاكماً على أصل الفساد في باب المعاملات، ولذلك يمكن إثبات الصلح الابتدائي من هذه الناحية. وبعبارةٍ أخرى: رغم أن الأصل الأوّلي في باب المعاملات هو الفساد، وعدم نقل المال وانتقاله، ويكون المكلَّف في مسألة مشروعية الصلح الابتدائي شاكّاً في صحّة وفساد الصلح الابتدائي، ويكون منشأ الشكّ بدَوْره هو الشكّ في لزوم سبق النزاع وعدمه، وقد ثبت في محلِّه أنه إذا حصل التعارض بين الأصل السببي والأصل المسبَّبي كان التقدُّم للأصل السببي([30]).
ولكنْ يبدو أن الأصل المذكور لا يستطيع أن يكون حاكماً على أصل الفساد في باب المعاملات، بما فيها الصلح الابتدائي؛ إذ الموضوع للصحّة في باب المعاملات هو نفوذ وإمضاء ذلك العقد، وليس عدم اشتراط سبق الخصومة في عقد الصلح، أي إن الشارع يجب أن يمضي المعاملة لكي تكون موضوعاً للصحّة الشرعيّة، ومجرّد عدم جعل الشرطيّة لا يعني صحّة المعاملة؛ لأن عدم جعل الشرطيّة يتناغم حتّى مع السالبة بانتفاء الموضوع أيضاً؛ بمعنى أنه من الممكن أن لا يكون الشارع قد جعل الصحّة لمعاملةٍ ما؛ لكي يجعل الشرطيّة أو لا يجعلها، فالذي يكون له الأثر هو جعل النفوذ والصحّة، وليس عدم جعل الشرطيّة. وإذا كان المراد من عدم جعل الشرطيّة هو أن الشارع قد جعل النفوذ للصلح بشكلٍ مطلق سوف يكون هذا أصلاً مُثْبِتاً، وإن إثبات الجَعْل والنفوذ غير المشروط مع أصل عدم جعل الشرطيّة من مصاديق الأصل المُثْبِت، ولذلك يبدو أن الأصل المذكور غير قابل للتمسُّك.
3ـ الأدلّة العامّة على صحّة العقود والتجارات
إن من بين أهمّ الأدلة التي تمسَّك بها الفقهاء لإثبات مشروعية الصلح الابتدائي هي الأدلّة العامة على صحّة العقود، من قبيل: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29)، و«الناس مسلَّطون على أموالهم»([31])، و«المسلون عند شروطهم»([32]). وتقريب كلّ واحدٍ من هذه الأدلة على النحو التالي:
أـ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾
في تقريب الاستدلال بهذه الآية على صحّة الصلح الابتدائي نقول: إن كلمة «أَوْفُوا» فعلُ أمرٍ، ولها ظهورٌ في الوجوب. ومن ناحيةٍ أخرى فإن كلمة «العقود» قد جاءَتْ على صيغة الجمع المحلّى بالألف واللام، وقد ثبت في محله أن الجمع المحلّى بالألف واللام يفيد العموم([33]). ومن ناحيةٍ أخرى فإن العقد إما هو مطلق العهد ـ سواء أكان مشدَّداً أو غير مشدَّد ـ أو هو خصوص العهد الذي يُطْلَق عليه عنوان العقد لغةً وعُرْفاً، وهو لا يكون إلاّ مشدَّداً، وهو يحتوي على طرفي الإيجاب والقبول، وحيث يكون دليلاً إمضائياً فإنه يكون ناظراً إلى العقود الجارية بين العُرْف.
إن معنى الوفاء بالعقد عبارةٌ عن العمل بمفاده ومقتضاه، أي ما تدلّ عليه صيغة العقد بالدلالة اللفظية. وفي محلّ بحثنا ـ الذي هو الصلح الابتدائي ـ يكون في الحقيقة إنشاءً للتسالم والتراضي بين الطرفين، ويُعَدّ من مصاديق عقد الصلح؛ وعليه يجب الوفاء بمضمونه ومفاده قطعاً، ويجب أن تترتَّب الآثار الخارجية على هذا التسالم والتراضي. وبطبيعة الحال ما لم يكن العقد صحيحاً لن يكون هناك وجوبٌ للوفاء أيضاً.
يذهب بعض الفقهاء([34]) إلى الاعتقاد بأن قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾([35]) يمكن أن يشمل جميع أنواع العقود التي لم يَنْهَ الشارع عنها بشكلٍ خاصّ، حتّى إذا كانت من العقود الجديدة والمستَحدَثة التي لا يمكن العثور لها على أيّ سابقةٍ في الكتاب والسنّة. وبعبارةٍ أخرى: إن الذين لا يقولون بتوقيفية العقود، ولا يحصرون المعاوضات في العناوين الخاصّة، يثبتون مشروعية العقود المستَحْدَثة بالدليل المتقدِّم.
والآن في ضوء نظرية مشروعية الصلح الابتدائي، سواء كنّا من القائلين بتوقيفية العقود أم لم نكن من القائلين بها، يمكن لنا بواسطة الأدلّة العامة المذكورة آنفاً أن نثبت المشروعية للصلح الابتدائي؛ إذ حتّى لو ادَّعينا بأن المتقدِّمين كانوا يلجأون إلى عقد الصلح ـ بسبب ظهور مفردة الصلح في سبق النزاع ـ لرفع الخصومة، إلاّ أن مساحته قد اتَّسعت شيئاً فشيئاً في فقه الإمامية، واتَّخذ شكلاً جديداً. والآن إذا لم نقُلْ بتوقيفية العقود أمكن لنا الادّعاء بأن عقد الصلح الفعلي الذي توسَّعَتْ دائرته عند الفقهاء عقدٌ مستَحْدَث وجديد، لم يَرِدْ رَدْعٌ عنه من قِبَل الشارع المقدَّس؛ فيكون مشمولاً لدليل ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وإنْ لم نستطع إثبات مشروعيّته بالأدلة العامة والخاصّة لذات عقد الصلح.
وأما لو ارتضَيْنا القول بتوقيفية العقود ـ كما يبدو من ظاهر كلمات المتقدِّمين حَصْريّة العقود والمعاملات، ولذلك سعَوْا إلى توسيع دائرة عقد الصلح؛ بحيث أدخلوا مصالحاتٍ غير مسبوقة بالنزاع ضمن واحدٍ من العناوين المتعارفة ـ فلا شَكَّ ولا شبهة في اعتبار الصلح الابتدائي من مصاديق العقود، ولذلك يمكن اعتباره مشمولاً لدليل ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.
إشكالٌ ونقد
جاء في مقالة «الصلح الابتدائي»، في الإشكال على التمسُّك بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ لإثبات مشروعية الصلح الابتدائي، ما يلي: «إن عمومات صحّة العقود يمكن لها أن تكون دليلاً على صحّة العقود التي يُطلق عليها عنوان الصلح الابتدائي، إلاّ أن هذه الأدلة لا تكتسب عنواناً خاصّاً لمصاديقها بأيّ وجهٍ من الوجوه، وإنما يرَوْنها معتبرةً بعنوان مطلق العقد والتجارة، في حين أن الانتقاد الأصلي الذي نورده على هذا النوع من العقود هو أن هذا النوع من المعاملات لا يمكن له أن يتحقَّق تحت عنوان الصلح، وعليه فإن الذي نحن في صدد إنكاره لا تثبته هذه الأدلّة، وما تثبته هذه الأدلّة لسنا في صدد إنكاره»([36]).
ويَرِدُ عليه: هل هناك ـ عندما يتّم التمسُّك بـ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أو الأدلّة الأخرى؛ لإثبات مشروعية العقود المتعارفة ـ حاجةٌ إلى شيءٍ آخر غير عنوان العقد والتجارة؟ وعليه، عندما يكون الصلح الابتدائي من مصاديق العقود والتجارات، ولم يَرِدْ منعٌ عنه من قِبَل الشارع المقدَّس، يكون ذلك أمارةً على إمضاء هذا العقد.
ويذهب كاتب المقالة المذكورة إلى الاعتقاد بأن العقود المستَحْدَثة يمكن إثبات مشروعيتها بـ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وأما الصلح الابتدائي ـ الذي هو من مصاديق عقد الصلح، والذي هو من العقود المتعارفة، والذي يتحقَّق التسالم والتراضي بإنشائه في الحقيقة والواقع ـ فلا يمكن إثبات مشروعيته بعنوان الصلح.
وهو كلامٌ عجيبٌ وغريبٌ جدّاً.
ب ـ ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾
يمكن القول في تقريب دلالة هذه الآية على مشروعية الصلح الابتدائي: بحكم المستثنى منه في الآية لا يحقّ التصرُّف للمؤمنين في أموال بعضهم بغير حقٍّ أو وجهٍ مشروع. وبحكم الاستثناء يكون المجوِّز الوحيد للتصرُّف في أموال بعضهم هو أن تكون التجارة ناشئةً عن تراضٍ من قِبَل الطرفين، ولا شَكَّ في أن الصلح الابتدائي يُعتبر من مصاديق التجارة، وإن قوام الصلح الابتدائي بدَوْره يكون بإنشاء التراضي والتسالم بين الطرفين أيضاً، وعليه سوف يكون مشمولاً للمستثنى، وإن التصرُّفات بعد الصلح الابتدائي في الأموال الحاصلة لن تكون من «أكل المال بالباطل».
ج ـ الرواية النبويّة: «الناس مسلَّطون على أموالهم»
في الاستدلال بهذه الرواية يجب أخذ جهتين بنظر الاعتبار:
1ـ التحقيق في سند الحديث
نقل العلاّمة المجلسي الرواية عن كتاب عوالي اللآلئ، لابن أبي جمهور الأحسائي.
ولكنْ لدى المحدِّث البحراني شبهةٌ ومناقشةٌ في تأليف الكتاب، وفي مؤلِّفه([37]).
إن لدى سماحته شبهةٌ تتعلّق بذات المؤلِّف؛ إذ يحسبه شخصاً متسامحاً ومتساهلاً في نقل الأحاديث؛ كما يرى كتابه مشتملاً على إشكالٍ أيضاً؛ إذ جميع الروايات الواردة فيه ـ ومن بينها الرواية مورد البحث ـ قد وردَتْ على شكل مراسيل ومرفوعات، وهذا يُعَدّ من أسباب ضعف الرواية. وعلى أيّ حال فإن هذه الرواية مرسلةٌ، ولم يَرِدْ لها ذكرٌ في أيٍّ من جوامعنا ومصادرنا الروائية؛ لكي يخضع رجالها للبحث والتمحيص.
نعم، لو كان الشخص من القائلين بأن عمل المشهور يُعَدّ جابراً لضعف سند الرواية أمكن له جعل هذه الرواية مستنداً له، ولكنْ بشرط أن تكون دلالتها تامّةً أيضاً.
ومن ناحيةٍ أخرى؛ حيث نعلم أن دأب الفقهاء قائمٌ على مناقشة الروايات ذات السند؛ ليدركوا صحّة السند أو سقمه، ولكنْ مع ذلك فقد عمد بعض الفقهاء إلى نقل الرواية المتقدِّمة بلفظ: «قال» ـ بمعنى أنهم نقلوها على شكل إسنادٍ قطعي عن رسول الله| ـ، ولم يستخدموا في نقلها عباراتٍ من قبيل: «رُوي»؛ ولذلك يمكن أن نفهم من ذلك أن الفقهاء قد تعاملوا مع هذه الرواية بوصفها من الروايات المسندة([38]).
2ـ دلالة الرواية بين القبول والرفض
إن المراد من سلطة الناس وقدرتهم على التصرُّف في أموالهم هو نفوذ تصرُّفاتهم ـ من الناحية الكمّية والكيفية ـ، ولذلك يمكن للناس في ضوء هذه الرواية أن يتصالحوا على أموالهم صلحاً ابتدائياً، وأن يرتِّبوا الآثار على هذا الصلح؛ إذ يمكن لهذه الرواية أن تشتمل على العموم لدليلين، وهما:
أـ من جهة حذف متعلَّق السلطة.
ب ـ من جهة جريان مقدِّمات الحكمة.
وذلك ببيان: أوّلاً: أن يكون المتكلِّم ـ من جهةٍ ـ في مقام بيان جميع مراده من سلطة الناس على أموالهم. وثانياً: أن لا ينصب قرينةً على خلاف الظهور الإطلاقي. وثالثاً: أن لا يوجد قَدَرٌ متيقَّن في مقام التخاطب أيضاً([39]).
ومع تمامية هذه المقدّمات الثلاثة يمكن القول بأن للناس حقّاً في جميع أنواع التصرُّف في أموالهم، ويمكن لكلّ شخصٍ أن ينقل ماله إلى الآخر بأيّ سببٍ من الأسباب.
وقد ذهب السيد الخوئي إلى القول بعدم صحّة التمسُّك برواية سلطة الناس على أموالهم لإضفاء الشرعية على المعاملات. وقد عمد سماحته في نظير هذا البحث (في إضفاء المشروعية على المعاطاة والمعاملة الفعلية) إلى القول بعدم كفاية التمسُّك برواية سلطة الناس على أموالهم، حيث قال: «إن دليل السلطنة يتكفَّل ببيان استقلال المالك في التصرُّف في أمواله في الجهات المشروعة، وعدم كونه محجوراً عن التصرُّف في تلك الجهات، وليس لغيره أن يزاحمه في ذلك. وعليه فشأن دليل السلطنة شأن الأوامر المسوقة لبيان أصل الوجوب، من غير نظرٍ فيها إلى تعيين الواجب من حيث الكمّ والكَيْف»([40]).
في ضوء كلامه يكون شرط التمسُّك بالإطلاق أن يكون المتكلِّم في مقام بيان المراد، وهذا الأمر يجب إحرازه، ولذلك حيث لا يتمّ إحراز كون المتكلِّم في مقام البيان لا يمكن الحصول على الإطلاق. وعليه فإن سماحته يقول في مورد الرواية المتقدِّمة: إن القَدَر المتيقَّن من هذه الرواية عمومية سلطة الناس على أموالهم. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الرواية إنما تدلّ على أن المالكين لهم حقُّ التصرُّف في أموالهم في الجهات المشروعة، وليس هناك ما يمكنه أن يمنعهم من التصرُّف في أموالهم، ولا يمكن للآخرين أن يزاحموه في القيام بتصرُّفاته، وأما ما هي الجهات التي تحتوي على مشروعيّةٍ؟ فهذا ما لم تكن الرواية في صدد بيانه.
وعليه فإن هذه الرواية غير تامّةٍ من حيث الدلالة على مشروعيّة الصلح الابتدائي.
د ـ قوله (صلى الله عليه وآله): «المسلمون عند شروطهم»
لقد تمّ نقل هذه الرواية في الجوامع الروائية بصيغتين؛ ففي بعض الروايات وردَتْ بصيغة: «المسلمون عند شروطهم»؛ وفي بعضها الآخر بصيغة: «المؤمنون عند شروطهم»([41]). وعلى أيّ حالٍ فقد ورد هذا التعبير في العديد من الروايات، وفي ما يلي نشير من بينها ـ على سبيل المثال ـ إلى رواية منصور بن برزج: ما رواه عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن منصور [بن] بزرج، عن عبد صالح×، قال: قلتُ له: إن رجلاً من مواليك تزوَّج امرأةً، ثمّ طلَّقها، فبانَتْ منه، فأراد أن يراجعها، فأبَتْ عليه إلاّ أن يجعل لله عليه أن لا يطلِّقها، ولا يتزوَّج عليها، ثمّ بدا له في التزويج بعد ذلك، فكيف يصنع؟ «قال [×]: …قُلْ له: فلْيَفِ للمرأة بشرطها؛ فإن رسول الله| قال: المؤمنون عند شروطهم»([42]).
وهذه الرواية يجب بحثها ومناقشتها من جهتين أيضاً:
1ـ تقييم السند
حيث ورد ذكر هذه الرواية في كتاب الاستبصار، لذلك يجب أوّلاً النظر في سند الشيخ [الطوسي] إلى عليّ بن الحسن بن فضال. وقد عرَّف الشيخ الطوسي في كتاب «الفهرست» طريقه إلى جميع كتب وروايات «عليّ بن الحسن بن فضّال» قائلاً: «أخبرنا بجميع كتبه، قراءةً عليه أكثرها، والباقي إجازةً، أحمد بن عبدون، عن عليّ بن محمد بن الزبير، سماعاً وإجازةً عنه»([43]).
وفي هذا الطريق عليّ بن محمد بن الزبير، ولم تَرِدْ وثاقته بشكلٍ صريح، ولكنْ حيث كان شخصيةً معروفة يمكن إثبات وثاقته وإمكان الاعتماد عليه. ومن ناحيةٍ أخرى حتّى إذا كان ضعيفاً يمكن تصحيح طريق الشيخ الطوسي إلى عليّ بن الحسن بن فضّال من طريقٍ آخر؛ ببيان أن النجاشي والشيخ [الطوسي] ـ على ما يبدو ـ قد نقلا روايات «عليّ بن الحسن بن فضّال» من طريقٍ مشترك؛ إذ قال النجاشي: «قرأ أحمد بن الحسين كتاب الصلاة، و…، على أحمد بن عبد الواحد، في مدّة سمعتها معه، وقرأتُ أنا كتاب الصيام عليه…، عن ابن الزبير، عن عليّ بن الحسن، و…. وأخبرنا محمد بن جعفر، في آخرين، عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن عليّ بن الحسين، بكتبه»([44]).
يبدو من ظاهر هذه العبارة أن النجاشي والشيخ [الطوسي] كانا كلاهما في مجلسٍ واحد، وقد قرآ كتب عليّ بن الحسن بن فضّال على أحمد بن عبدون، إلاّ أن لدى النجاشي طريقاً آخر إلى كتب عليّ بن الحسن بن فضّال بواسطة محمد بن جعفر النحوي الثقة، وفي هذه الصورة يمكن القول بأن روايات الشيخ عن عليّ بن الحسن بن فضال معتبرةٌ من هذا الطريق؛ إذ من المستبعد أن يكون شخصٌ واحد، مثل: أحمد بن عبدون، قد نقل للنجاشي أمراً مغايراً لما نقله للشيخ الطوسي([45]).
وفي ما يتعلَّق بشخصية «عليّ بن الحسن بن فضّال» ـ على الرغم من انتمائه إلى الفطحية ـ فإن وثاقته ثابتةٌ. وقد عرَّفه الشيخ الطوسي في الفهرست بقوله: «عليّ بن الحسن بن فضّال، فطحيّ المذهب، ثقةٌ، كوفي، كثير العلم، واسع الرواية والأخبار، جيّد التصانيف، غير معاندٍ، وكان قريب الأمر إلى أصحابنا الإمامية القائلين بالاثني عشر، وكتبه في الفقه مستوفاةٌ في الأخبار حَسَنة»([46]). وسائر رواة الحديث كلّهم ثقات، والرواية؛ من جهة وجود عليّ بن الحسن بن فضّال، تعتبر موثَّقةً.
2ـ تقريب الاستدلال
إن الشرط لغةً يعني مطلق الالتزام([47])، ولذلك فإن التعهُّدات الابتدائية ـ ومن بينها: الصلح الابتدائي ـ من مصاديق الشرط، فليس هناك ضرورةٌ إلى القول بأن الشرط يعني الالتزام ضمن العقد، ولذلك فإنه في حالة انعقاد الصلح الابتدائي يجب الالتزام به، طبقاً لما تقتضيه الرواية.
وعلى الرغم من وجود اختلافات ـ من وجهة نظر الفقهاء ـ فيما إذا كان الشرط حقّاً شاملاً للالتزامات الابتدائية أم لا؟ ولكنْ لا يبعد هذا الادّعاء من خلال القرائن اللغوية والشواهد الروائية؛ ومن هنا فقد ذهب الشيخ الأنصاري في بحث المعاطاة ـ وما إذا كانت لازمةَ الوفاء أم لا؟ ـ إلى اعتبار المعاطاة لازمةَ الوفاء([48]). إن أهمّ دليلٍ يتمسّك به هؤلاء هو الاستعمالات الكثيرة الواردة في النصوص الدينية للتعهُّدات التي لا تقع ضمن العقود؛ حيث لا يمكن حَمْلُها بأجمعها على الاستعمالات المَجَازية، ومن هنا فإنه يذهب إلى تخطئة أولئك اللغويين الذين قالوا في تعريف الشرط بأنه إلزامٌ والتزامٌ في ضمن العقد، ويذهب إلى الادّعاء بأنها تعني مطلق الالتزام حتّى بلحاظ اللغة أيضاً([49]). وعليه يبدو أن هذا الدليل لإثبات مشروعية الصلح الابتدائي تامٌّ بدَوْره أيضاً.
4ـ إطلاقات أدلّة صحّة عقد الصلح
إن من بين أهمّ الأدلّة التي أُقيمت على صحّة الصلح الابتدائي الروايات التي يكون الإطلاق وعموم عقد الصلح فيها شاملاً للصلح الابتدائي أيضاً. وقد استند الشهيد الثاني([50]) والمقدَّس الأردبيلي([51]) إلى هذا النوع من الروايات، ومن بينها:
1ـ عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص، عن البختري، عن أبي عبد الله× قال: «الصلح جائزٌ بين المسلمين»([52]). وهي روايةٌ صحيحة السند.
2ـ مرسلة الشيخ الصدوق، عن النبيّ الأكرم|، قال: «البيّنة على مَنْ ادَّعى، واليمين على المدَّعى عليه، والصلح جائزٌ بين المسلمين، إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرَّم حلالاً»([53]).
هناك بحث حول مرسلات الشيخ الصدوق، وما إذا كانت معتبرة أم لا؟ إن الذين يرَوْن الاعتبار لجميع روايات الشيخ الصدوق في كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه) قد استندوا إلى كلامه في بداية هذا الكتاب، وقالوا بأنه يمثِّل نوعاً من الشهادة الحسِّية على اعتبار جميع رواياته من قِبَل المؤلِّف نفسه؛ حيث قال الصدوق في المقدّمة: «لم أقصد فيه قصد المصنِّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدْتُ إلى إيراد ما أفتي به، وأحكم بصحّته، وأعتقد فيه أنه حجّةٌ فيما بيني وبين ربّي ـ تقدَّس ذكره وتعالَتْ قدرته ـ. وجميع ما فيه مستَخرَجٌ من كتبٍ مشهورة، عليها المعوَّل، وإليها المرجع».
وإن هذه العبارة تحكي عن أمرين، وهما:
أـ تصريحه بأن جميع الروايات [الموجودة في كتابه] صحيحةٌ وحجّة.
ب ـ إن هذه الروايات مشهورةٌ وقد تمّ استخراجها من الكتب المعتَمَدة من قِبَل علماء الشيعة.
وبناءً على هذين الأمرين يجب القول بأن جميع روايات الشيخ الصدوق ـ بما فيها مُرْسَلاته ـ معتبرةٌ.
وبطبيعة الحال فقد تمّ نقل مراسيل الشيخ الصدوق في كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه) بعباراتٍ مختلفة:
أـ ورد التعبير عن بعضها بلفظ: «قال رسول الله»، أو «قال أمير المؤمنين»، أو «قال الصادق»، وما إلى ذلك. وهي تحكي عن صدور هذه الرواية عن المعصوم بشكلٍ قطعيّ، وعلى نحوٍ جازم.
ب ـ وقد ورد التعبير في بعض الروايات بلفظ: «رُوي عن النبيّ»، أو «رُوي عن أمير المؤمنين»، أو «رُوي عن الصادق».
ج ـ وفي بعضها ورد ذكر اسم الشخص الذي يروي عن الإمام، بلفظ «روى»، من قبيل: «روى زرارة عن الصادق».
د ـ وفي بعض الروايات تمّ ذكر اسم الكتاب الذي نُقلَتْ عنه الرواية، ومن ذلك مثلاً: «في كتاب محمد بن أحمد بن يحيى».
يرى بعض العلماء أن شهادة الشيخ الصدوق في بداية كتابه تشمل جميع هذه الأقسام، وأن هذا الاختلاف في التعبير لا يحكي عن أن بعض الروايات لا تُعَدّ من مرسلات الشيخ الصدوق([54]).
بَيْدَ أن جماعةً أخرى من العلماء ذهبت إلى الاعتقاد بأن حجِّية مراسيل الشيخ الصدوق إنما تقتصر على المجموعة الأولى من المراسيل التي ذكرها الشيخ الصدوق ونسبها إلى المعصوم بشكلٍ قطعيّ، بلفظ «قال»([55]). وبالمناسبة فإنهم لا يعتبرون هذه الطائفة من مراسيل الشيخ الصدوق أقلّ شأناً من مراسيل ابن أبي عُمَيْر.
وعلى أيّ حالٍ فإنهم يرَوْن الرواية الأولى التي نقلت عن النبيّ الأكرم|؛ حيث عبَّر عنها الشيخ الصدوق بلفظ «قال»، معتبرةً.
تقريب الاستدلال: في هاتين الروايتين ورد ذكر الصلح بشكلٍ مطلق، ومن دون قَيْد سبق الخصومة والنزاع، واعتبر ذلك نافذاً وصحيحاً. وذهب الفقهاء إلى الاعتقاد بكفاية هذا الإطلاق لاعتبار الصلح الابتدائي.
ولكنْ يبدو أن إطلاق هاتين الروايتين لجهة استعمال مفردة الصلح والمتفاهم العُرْفي منها لا يشمل الصلح الابتدائي؛ إذ إنه من الناحية اللغوية والفهم العُرْفي يختصّ بالصلح المسبوق بالنزاع. وحتّى في حالة الشكّ لا يمكن التمسُّك بهذه الإطلاقات؛ إذ إن شرط التمسُّك بالإطلاق إحراز صدق عنوان الطبيعة؛ بمعنى أننا إذا أرَدْنا التمسّك بإطلاق دليل «الصلح جائزٌ بين المسلمين»؛ لنفي شرطية سبق الخصومة، وجب أن نحرز ما إذا كان يُطْلَق لفظ الصلح على الصلح الابتدائي أم لا؟ ولذلك حيث يكون صدق عنوان الصلح على الصلح الابتدائي في الروايات مشكوكاً فيه لا يمكن التمسُّك بإطلاق الأدلّة. وبعبارةٍ أصولية: لا يجوز التمسُّك بالدليل في الشبهة المصداقية لذات الدليل([56]).
ولذلك فإن جملةً من الفقهاء، على الرغم من التزامهم بمشروعية الصلح الابتدائي، لا يرَوْن التمسُّك بالأدلة المتقدِّمة خالياً من الإشكال.
قال السيد أحمد الخوانساري، بعد ذكر الروايات العامّة: «وقد يتأمَّل في دلالة مثل النبوي وما فيه لفظ الصلح من الأخبار على العموم؛ من جهة احتمال أن مفهوم الصلح ما كان مسبوقاً بالنزاع»([57]).
بالإضافة إلى اشتمال الرواية الثانية على عبارةٍ إذا لم تكن قرينةً على اشتراط سبق الخصومة فلا أقلّ من صلاحيّتها للقرينيّة، ولذلك من شأنها أن تكون مجملةً، وفي مثل هذه الحالة يجب التمسُّك بالقَدَر المتيقَّن منها، وهي صورة سبق النزاع والخصومة؛ حيث تمَّتْ الإشارة في بداية الرواية الثانية إلى القاعدة الثابتة في القضاء الإسلاميّ، وهي أن البيِّنة والدليل على المدَّعي، واليمين على المُنْكِر، وهذا الأمر يعكس أن الصلح يأتي بعد النزاع والخصومة.
5ـ الروايات الخاصّة
قبل عرض الروايات، وتقريب الاستدلال بها، يجب الالتفات إلى نقطتين، وهما:
1ـ يتمّ التعرُّض إلى الروايات التي تكون دلالتها على مشروعية الصلح الابتدائي أكبر؛ لأن الروايات الأخرى المذكورة في الجوامع والمصادر الروائية تشير إلى الصلح في موارد النزاع والخصومة.
2 ـ لا ينبغي التصوُّر بأن بعض الروايات؛ حيث لم يَرِدْ فيها ذكرٌ لمفردة الصلح، لا ترتبط بباب الصلح؛ لأن بحثنا ليس في الصلح الابتدائي بالحمل الأوّلي، وإنما الكلام في الصلح الابتدائي بالحمل الشائع الصناعي، بمعنى أننا نتعامل مع عقودٍ تُعَدّ من مصاديق الصلح الابتدائي، ولذلك قد لا تكون الرواية مشتملةً على لفظ الصلح، ولكنْ مورد الرواية معاملةٌ لا تشتمل على شروط المعاملات الأخرى، ولا يمكن إثبات مشروعيّتها إلاّ بعقد الصلح، كما سوف نشير إلى بعضها ضمن الروايات التالية:
أـ صحيحة محمد بن مسلم
«محمد بن عليّ بن الحسين [الصدوق] بإسناده عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، أنه قال: في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعامٌ عند صاحبه، ولا يدري كلُّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه، فقال كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ما عندي، فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابَتْ أنفسهما»([58]).
وإن الاستدلال بهذه الرواية يجب بحثه من جهتين:
1ـ سند الرواية: وردَتْ هذه الرواية في كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه). وإن للشيخ الصدوق عدّة طرق إلى العلاء بن رزين، كما يلي:
أـ «محمد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه ومحمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبد الله والحميري، جميعاً، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن العلاء بن رزين».
ب ـ «عن أبيه ومحمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبد الله والحميري، جميعاً، عن محمد بن أبي الصهبان، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء».
ج ـ « عن أبيه، عن عليّ بن سليمان الزراري الكوفي، عن محمد بن خالد، عن العلاء بن رزين القلاّء».
د ـ «عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن فضّال والحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين».
وجميع هذه الطرق من الشيخ الصدوق إلى العلاء بن رزين صحيحةٌ.
والعلاء بن رزين نفسه شخصٌ ثقة، ولذلك قال عنه النجاشي: «صحب محمد بن مسلم، وفَقِه عليه، وكان ثقةً وَجْهاً»([59]).
كما كان محمد بن مسلم بدَوْره ثقةً.
ومن هنا يمكن الاستدلال بهذه الرواية.
كما ذكرها المقدَّس الأردبيلي أيضاً، وعبَّر عنها بالصحيحة([60]).
2ـ تقريب الاستدلال: تذكر هذه الرواية رجلين، لدى كلّ واحدٍ منهما طعامٌ للآخر، ولا أحد منهما يعلم مقدار ذلك الطعام، ثمّ تراضيا على أن يكون كلّ واحدٍ منهما مالكاً لذلك المقدار من الطعام الذي بحَوْزته. وكما هو واضحٌ فإن هذه الرواية لا تشتمل على أيّ نزاعٍ بين الطرفين، وإنما يصل كلّ واحدٍ منهما إلى حقِّه بالتراضي والمصالحة فقط، ولا سيَّما أنه لم يَرِدْ التعبير في ذيل الرواية بلفظ الصلح؛ كي يُدّعى أن ظهورها اللغوي والمتفاهم العُرْفي منها يحكي عن سبق النزاع، بل تمّ الاستناد في الرواية ـ بالنظر إلى تطبيق القضية الشرطية على المورد المُعبِّر عن علّة الحكم أيضاً ـ إلى عنوان التراضي وطيب النفس؛ الأمر الذي يدلّ على أنه حيثما كان هناك إنشاءٌ للتراضي، وكان لدى الطرفين طيبُ نفسٍ، كان ذلك كافياً. ولا تندرج هذه المعاملة تحت أيّ عنوانٍ آخر غير عنوان الصلح. ولذلك فإن الادّعاء بأن جهل كلّ واحدٍ من الشركاء بماله يستوجب ظهور النزاع، وعليه تكون الرواية خاصّةً بالمورد الذي يُتوقَّع فيه النزاع([61])، ليس صحيحاً. مضافاً إلى أنه بالنظر إلى قانون «العلّة تعمِّم وتخصِّص» لا يبدو ادّعاء عدم التعميم في جواب الإمام([62]) صحيحاً أيضاً.
ب ـ صحيحة عبد الله بن سنان
«محمد بن يعقوب [الكليني]، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: سألتُ أبا عبد الله× عن رجلٍ دفع إلى رجلٍ غنمه بسمنٍ ودراهمَ معلومةٍ لكلّ شاةٍ، كذا وكذا في كلّ شهرٍ؟ قال: لا بأس بالدراهم، فأما السمن فلا أحبّ ذلك، إلاّ أن تكون حوالب فلا بأس بذلك»([63]).
1ـ سند الرواية: لا وجود لأيّ مناقشةٍ في سند الرواية؛ رغم عدم ورود توثيقٍ صريح بشأن إبراهيم بن هاشم، ولكنّه رجلٌ ممدوحٌ، وقد أكثر عنه الرواية نجله عليّ بن إبراهيم؛ ومن ناحيةٍ أخرى قال النجاشي في التعريف به: «وأصحابنا يقولون: أوّل مَنْ نشر حديث الكوفيين بقم هو»([64]). ومن الواضح جدّاً أن القمِّيين قد اعتمدوا على رواياته، ولم ينكروا شيئاً منها، ولو كان في أحاديثه إشكالٌ لطردوه من قم، كما فعلوا بأحمد بن أبي عبد الله البرقيّ([65]).
2ـ تقريب الاستدلال: يُستفاد من هذه الرواية، والروايات المشابِهة لها، أنه يجوز لمالك الخراف أن يعطي قطيعه إلى راعٍ مدّةً من الزمن؛ ليحفظها له، ويستفيد من منافعها، من قبيل: الصوف واللبن، طوال تلك المدة، على أن يعطيه المالك في المقابل شيئاً من النقود والسمن.
لو اعتبَرْنا هذا الفرض مصداقاً لعقد الإجارة؛ بمعنى أن يصبح الراعي أجيراً عند المالك، فإن الإشكال الذي سيَرِدُ هو أن أجرة عمله التي هي اللبن والصوف غير متعيِّنة، في حين أن الأجرة يجب أن تكون معلومةً ومحدَّدةً في عقد الإجارة، فلو افترَضْنا أن المالك قد أجَّر خرافه إلى الراعي؛ ليستفيد من منافعها، سوف تكون المشكلة هي أن الراعي قد استفاد من لبن وصوف الخراف، وهي أعيان، والحال أن عقد الإجارة إنما يقع على تمليك المنافع، دون الأعيان، وقال الفقهاء في باب الإجارة: إن متعلَّق الإجارة هو الأعيان التي يبقى أصلها ثابتاً بعد استيفاء منافعها؛ فإذا كان المراد الأصليّ من إجارة الخراف هو أصوافها وألبانها فإن عينها سوف تزول عند الاستفادة من منافعها أيضاً([66]).
ولذلك فقد ذهب بعض الفقهاء، مثل: الشهيد الأول، إلى القول بجواز العقد المذكور في الرواية ضمن عقد الصلح([67])؛ لأنها لا تنسجم مع موازين عقد الإجارة.
ادّعاءٌ مرفوض
وقد يدَّعي شخصٌ فيقول: «حيث إن هذه الرواية لم تشتمل على مفردة الصلح إذن لا يمكن الادّعاء بأنها ترتبط بالصلح الابتدائي، وإن عدم وجود سبق الخصومة فيها دليلٌ على عدم لزوم سبق الخصومة»([68]).
ولكنّنا نجيب عن هذا الادّعاء بالقول: إن كلامنا ليس في خصوص الصلح الابتدائي بالحمل الأوّلي، بل في مورد مشروعية الصلح الابتدائي بالحمل الشائع، والعنصر المقوِّم في الرواية المتقدِّمة هو ذات التراضي، والصلح الابتدائي يقوم بدَوْره على أساس عنصر التراضي.
ج ـ صحيحة الحلبي
«محمد بن الحسن [الطوسي] بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله×؛ وغير واحدٍ، عن أبي عبد الله×، في الرجل يكون عليه الشيء فيصالح، فقال×: إذا كان بطيبة نفسٍ من صاحبه فلا بأس»([69]).
1ـ سند الرواية: إن للشيخ الطوسي طريقين إلى روايات وكتب الحسين بن سعيد الأهوازي، وهما:
أ ـ «أخبرنا بكتبه ورواياته ابن أبي جِيد القمّي، عن محمد بن الحسن، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد بن حماد بن سعيد بن مهران».
ب ـ «أخبرنا بها([70]) عدّةٌ من أصحابنا، عن محمد بن عليّ بن الحسين [بن بابويه]([71])، عن أبيه، ومحمد بن الحسن و [محمد بن] ([72]) موسى بن المتوكِّل، عن سعد بن عبد الله والحميريّ، عن أحمد بن محمد، عن عيسى، عنه»([73]).
وسند هذه الرواية بطريقَيْ الشيخ إلى الحسين بن سعيد الأهوازي معتبرٌ، وعليه تكون هذه الرواية بدَوْرها صحيحة السند أيضاً.
2ـ تقريب الاستدلال: تتحدَّث الرواية عن شخصٍ مَدين، حيث يصالح دائنه على دَيْنه، ولكنها تشير في الجواب إلى نقطةٍ هي بمنزلة الضابط؛ وهي رضا الطرفين. وهذا الضابط موجودٌ في الصلح الابتدائي أيضاً؛ لأن الصلح الابتدائي هو إنشاءُ التراضي والتسالم.
إشكالٌ وجواب
وقد يُقال: إن هذه الرواية قد اشتملَتْ على عبارة: «فيُصالح»، ولهذه العبارة ظهورٌ لغويّ ومتفاهم عُرْفي بسبق الخصومة، بالإضافة إلى أن في مورد الرواية هناك أرضيّةٌ للنزاع. وبعبارةٍ أخرى: في مورد الرواية هناك نزاعٌ متوقَّعٌ ومحتملٌ، وإن عقد الصلح قد شُرِّع لرفع هذا النزاع([74]).
ولكنْ يمكن القول في الجواب: أوّلاً: إن عبارة: «فيصالح»، التي هي من مشتقّات الصلح، لم تَرِدْ في كلام الإمام×. وثانياً: على الرغم من أن مورد الرواية له ظهور في النزاع، إلاّ أنه في جواب الإمام ـ حيث عمد إلى تطبيق القضية الشرطيّة ذات الإشارة إلى القانون الكلّي على المورد ـ يحكي عن عدم الاختصاص بموارد وجود النزاع المحقَّق أو المحتمل. وبعبارةٍ أخرى: في ضوء قاعدة «خصوصية المورد لا تخصِّص العامّ الوارد»، لا يمكن لنا ـ في سياق تطبيق القانون الكلّي على الفرد والمصداق ـ حَصْره في ذلك الفرد.
د ـ صحيحة عمر بن يزيد
«محمد بن يعقوب [الكليني]، عن عدّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن عذافر، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله× قال: إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دَيْنٌ، فمَطَله حتّى مات، ثمّ صالح وَرَثَته على شيءٍ فالذي أخذ الورثة لهم، وما بقي فللميت حتّى يستوفيه منه في الآخرة، وإنْ هو لم يصالحهم على شيءٍ حتّى مات ولم يقْضِ عنه فهو كلُّه للميت يأخذه به»([75]).
1ـ سند الرواية: إن هذه الرواية صحيحةٌ من حيث السند. وعبارة: «عدّة من أصحابنا» لم يتَّضح المراد منهم في أيّ واحدةٍ من روايات الكافي، سوى ما كان في الرواية الأولى؛ حيث قال الكليني: «حدَّثني عدّةٌ من أصحابنا، منهم: محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد»([76]). والرواية الثانية من (كتاب الحجّة)؛ حيث قال هناك: «عدّة من أصحابنا، منهم: عبد الأعلى، وأبو عُبيدة، وعبد الله بن بشر الخثعمي»([77]).
وعلى أيّ حالٍ، هل عبارة «عدّة من أصحابنا» توجب إرسال الرواية؟
نقول في الجواب: إن هذا التعبير لا يوجب الإرسال؛ إذ على الرغم من أن الكليني لم يبيِّن أسماء هؤلاء الرواة، إلاّ أن العلاّمة الحلّي نقل في كتابه (خلاصة الأقوال) عن الشيخ الكليني قوله: «والمراد بقولي: عدّة من أصحابنا: محمد بن يحيى، وعليّ بن موسى الكمنداني، وداوود بن كورة، وأحمد بن إدريس، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم. وقال: كلّما ذكرتُه في كتابي المشار إليه: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، فهم: عليّ بن إبراهيم، وعليّ بن محمد بن عبد الله بن أذينة، وأحمد بن عبد الله بن أميّة، وعليّ بن الحسن»([78]). وعلى الرغم من أن العلاّمة الحلّي لم يبيِّن مستند نقله، ولكنْ لا شَكَّ في أنه قد نقل ذلك من بعض كتب الشيخ الكليني. وأما الأشخاص المذكورون في الطريق الأوّل؛ فثلاثةٌ منهم ثقات بشهادة الشيخ النجاشي، وهم:
1ـ محمد بن يحيى العطّار([79]).
2ـ أحمد بن إدريس([80]).
3ـ عليّ بن إبراهيم([81]).
ولكنْ ورد شخصان آخران في الطريق الأوّل، ولم يَرِدْ توثيقٌ صريح بشأنهما، وهما:
1ـ عليّ بن موسى الكمنداني.
2ـ داوود بن كورة أبو سليمان القمّي.
وفي الطريق الثاني ثبتَتْ وثاقة ثلاثةٍ من الرواة، وهم:
1ـ عليّ بن إبراهيم بن هاشم.
2ـ عليّ بن محمد بن عبد الله بن أذينة([82]).
3ـ عليّ بن الحسن.
وبطبيعة الحال فإن مؤلِّف كتاب أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق قال بأن هذا الشخص هو عليّ بن الحسين السعدآبادي، وهو من مشايخ ابن قولويه، وجميع شيوخه من الثقات([83]). وأما أحمد بن عبد الله ـ الذي هو على ما يبدو حفيد البرقي ـ فلم يَرِدْ فيه توثيقٌ([84]). وعلى أيّ حال فإن كلا الطريقين يشتمل على ثلاثةٍ من الثقات.
إن المراد من أحمد بن محمد في السند، سواء أكان هو أحمد بن محمد بن عيسى أو أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ثقةٌ.
والمراد من محمد بن إسماعيل ـ على ما يبدو ـ هو محمد بن إسماعيل بن بزيع. والدليل على ذلك كلام الشيخ الطوسي بشأن محمد بن عذافر؛ إذ قال: «محمد بن عذافر: له كتابٌ، رويناه بالإسناد الأوّل عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عنه»([85]). وعلى أيّ حالٍ فهو ثقةٌ.
ومحمد بن عذافر ثقةٌ بدَوْره؛ بشهادة الشيخ النجاشي([86]).
وهكذا يكون سند الرواية صحيحاً.
2ـ تقريب الاستدلال: تتحدَّث الرواية عن شخصٍ مَدينٍ، تأخَّر عن سداد دينه حتّى مات الدائن، ثمّ قام المَدين بالصلح مع الوَرَثة. وبغضّ النظر عن كلمة «الصلح»، إلاّ أن الرواية غير ظاهرةٍ في حدوث الخصومة والنزاع. ومن هنا فقد تمسَّك بعض العلماء ـ من أمثال: المحقق الأدربيلي ـ بالرواية؛ لإثبات مشروعية الصلح الابتدائي([87]).
ولكنْ من وجهة نظر كاتب السطور؛ حيث تشتمل الرواية على كلمة «الصلح» في كلام الإمام المعصوم×، يكون في الرواية ظهورٌ لغويّ وفَهْمٌ عُرْفي على سبق تحقُّق أو توقُّع سبق النزاع. وعليه يكون الاستدلال بالرواية على مشروعية الصلح الابتدائي موضع تأمُّلٍ.
هـ ـ صحيحة الحلبي
«محمد بن عليّ بن الحسين [الصدوق] بإسناده عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله×، في الرجل يعطى أقفزةً من حنطةٍ معلومة يطحنون بالدراهم، فلما فرغ الطحّان من طَحْنه نَقَدَه الدراهم وقفيزاً منه، وهو شيءٌ قد اصطلحوا عليه فيما بينهم، قال×: لا بأس به، وإنْ لم يكن ساعره على ذلك»([88]).
1ـ سند الرواية: إن سند الشيخ الصدوق إلى حمّاد بن عثمان عبارة عن: «أبيه، عن سعد بن عبد الله والحميري جميعاً، عن محمد بن الوليد الخزّاز، عن حمّاد بن عثمان»([89]). والطريق المذكور صحيحٌ.
وحمّاد بن عثمان ثقةٌ بدَوْره؛ بشهادة الشيخ النجاشي([90]).
والمراد من الحلبي هو عبد الله بن عليّ بن أبي شعبة الحلبيّ، وهو ثقةٌ([91]).
وعليه فالرواية صحيحة السند.
2ـ تقريب الاستدلال: تتحدَّث الرواية عن شخصٍ يمتلك حنطةً، ويتَّفق مع طحّانٍ ليطحن له حنطته، ولم يتَّفقا على مقدارٍ معيَّن من الدراهم، وعلى الرغم من معلومية مقدار الدراهم التي كانوا يتقاضونها على طحن كلّ قفيزٍ من الحنطة في ذلك الحين يتصالح كلٌّ منهما بعد تمام العمل على أن يدفع للطحّان مقداراً من الدراهم وقفيزاً من الحنطة. ولا يظهر من الرواية وجود سبق الخصومة بينهما؛ لكي يصيرا إلى الصلح لرفع الخصومة.
وبطبيعة الحال هناك بعض الفقهاء ـ على الرغم من التزامهم بمشروعية الصلح الابتدائي ـ أنكروا دلالة الصحيحة على مشروعية الصلح الابتدائي، وقال في مناقشتها: «لا دلالة فيها على الصلح، بل على أن شيئاً إذا صار اصطلاحاً بينهم وقاعدةً منهم فيمشون على اصطلاحهم، لا يكون له مانعٌ شرعي»([92]). وبعبارةٍ أخرى: إذا كان هناك قاعدةٌ شائعة بين كلّ صنفٍ أو عُرْفٍ، وعملوا على طبق عُرْفهم، فلا إشكال في ذلك.
في ضوء هذا البيان تكون الرواية أجنبيّةً عن عقد الصلح، ناهيك عن أن تكون مستنداً لإثبات مشروعية الصلح الابتدائي.
ولكنْ يبدو من وجهة نظر كاتب السطور أنه لو كانت هذه الفرضية صادقةً فإن دلالة الرواية على مشروعية الصلح الابتدائي سوف تكون أوضح؛ ببيان أن الأمر إذا كان مورداً لقبول صنفٍ وجماعةٍ من الناس وأضْحَتْ عُرْفاً وقانوناً بينهم، وأراد الآخرون الدخول معهم في مثل هذه المعاملة؛ فحيث إنها لا تندرج ضمن أيّ واحدٍ من العقود المتعارفة الأخرى قطعاً إذن يجب أن يكون قوام هذه المعاملة بالتراضي والتوافق بين الطرفين، وإن الإمام× قد أمضى هذه المعاملة على أساسٍ من هذا التراضي. ولذلك قال الإمام× في ذيل هذه الرواية: «لا بأس به، وإنْ لم يكن ساعره على ذلك»، أي حتّى وإنْ لم يقَعْ في هذه المعاملة بيعٌ وشراءٌ وسائر المعاملات المتعارفة الأخرى. ومن ناحيةٍ أخرى فإن وجود عبارة «اصطلحوا» يمكن أن يكون شاهداً آخر على الاعتماد على مجرَّد التراضي؛ لأن عبارة «الاصطلاح» تحكي عن معنى الاتفاق والتراضي. وعلى هذا الأساس فإنه مع وجود القوانين والأعراف الصنفية والتوافقية التي يمكن فهمها من عبارة «الاصطلاح» فإن عدم تحديد أجرة الطحن لن تشكِّل أرضيّةً لظهور النزاع؛ وعليه لا تكون الرواية خاصّةً بموارد النزاع المحتمل([93]).
و ـ موثَّقة عمر بن يزيد
«محمد بن يعقوب [الكليني]، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن ابن بُكَيْر، عن عمر بن يزيد قال: سألتُ أبا عبدالله× عن رجلٍ ضمن على رجلٍ ضماناً، ثمّ صالح عليه؟ قال: ليس له إلاّ الذي صالح عليه»([94]).
وقد استدلّ بهذه الرواية كلٌّ من: المحقِّق الأردبيلي، والسيد أحمد الخوانساري، وعبَّرا عنها بالصحيحة([95]).
وفي مناقشة وبحث هذه الرواية يجب مواصلة البحث في مقامين:
1ـ سند الرواية: إن المراد من محمد بن يحيى هو محمد بن يحيى العطّار القمّي، وقد قال عنه الشيخ النجاشي: «شيخُ أصحابنا في زمانه، ثقةٌ، عينٌ، كثير الحديث»([96])، وقد أشار إليه أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمّي في مناقشة أسانيد الروايات السابقة، وقال: إنه ثقةٌ.
محمد بن عيسى مشتركٌ بين سبعة أشخاص:
1ـ محمد بن عيسى الأرمني.
2ـ محمد بن عيسى بن زياد.
3ـ محمد بن عيسى بن سعد الأشعري، والد أحمد بن محمد بن عيسى.
4ـ محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني.
5ـ محمد بن عيسى الطلحي.
6ـ محمد بن عيسى القطّان.
7ـ محمد بن عيسى الكندي.
ومن بين هؤلاء السبعة هناك ثلاثة أشهر من سواهم، وهم كلٌّ من: الأشعري؛ واليقطيني؛ والطلحي. ومن بين هؤلاء الثلاثة يعتبر اليقطيني هو الأشهر، وعليه عندما يَرِدُ ذكر محمد بن عيسى بشكلٍ مطلق، ومن دون ذكر وصفٍ، يكون المراد هو «محمد بن عيسى بن عُبَيْد اليقطيني».
وهناك اختلافٌ بين علماء الرجال حول وثاقته أو عدم وثاقته. وقال الشيخ النجاشي عنه: «جليلٌ في أصحابنا، ثقةٌ، عين، كثير الرواية، حَسَنُ التصانيف… »([97]). بَيْدَ أن الشيخ الطوسي قد حكم بضعفه، ومن الأفراد الذين تمّ استثناؤهم من قبل «محمد بن الحسن بن الوليد»، وقد تمّ عدُّه من رجال «نوادر الحكمة»([98]).
وقال صاحب كتاب «إيضاح الدلائل» بأن تضعيف الشيخ [الطوسي] لا يمكن أن يقاوم توثيق النجاشي؛ لأن تضعيف الشيخ الطوسي إنما قام على أساس استثناء محمد بن الوليد، في حين أن هذا الاستثناء لا يمكنه أن يكون دليلاً على ضعفه؛ وذلك لأن ابن الوليد متوقِّفٌ في الروايات التي يرويها محمد بن عيسى بن عُبَيْد عن يونس بن عبد الرحمن، لا على نحوٍ كلِّي([99]).
إن عبد الله بن بُكَيْر وإنْ كان فطحيّاً، إلاّ أن الشيخ الطوسي قد حكم في كتاب «الفهرست» بوثاقته([100]).
إن عمر بن يزيد مشتركٌ بين شخصين، وهما:
1ـ عمر بن يزيد الصيقل، وليس له كتابٌ.
2ـ عمر بن محمد بن يزيد، بيّاع السابري، وله كتابٌ.
وهذا الاسم عندما يَرِدُ بشكلٍ مطلق يكون المراد منه هو الثاني، والذي وصفه الشيخ النجاشي بقوله: «عمر بن محمد بن يزيد، أبو الأسود، بيّاع السابري… كوفي، ثقةٌ، جليل…»([101]).
وعلى أيّ حالٍ فإن الرواية؛ من جهة وجود عبد الله بن بكير، تعتبر «موثَّقةً»، لا صحيحةً.
2ـ تقريب الاستدلال: إن الرواية المتقدِّمة قد اشتملَتْ على هذا المحتوى، وهو أن شخصاً قد ضمن شخصاً آخر، وأنه بناءً على قوانين «الضمان» ينتقل الحقّ والدَّيْن ـ طبقاً لفتوى الشيعة ـ من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أخرى([102]). ومن ناحيةٍ أخرى فإن الضامن والمضمون له قد تصالحا على مقدارٍ، ثم سُئل الإمام× عن المبلغ المتعلِّق بذمّة الضامن ليدفعه؟ فقال الإمام في الجواب: إن المبلغ الذي في ذمّة الضامن هو المبلغ الذي وقع مورداً للتصالح.
ولكنْ بالنظر إلى استعمال مشتقّات لفظ «الصلح» والظهور اللغويّ والمتفاهم العُرْفي لها لا يخلو التمسُّك بالرواية على إثبات مشروعية الصلح الابتدائي من الإشكال.
وقد ثبت ـ من مجموع ما تمّ التوصُّل إليه في الاستدلال بالروايات الخاصّة ـ أن الاستدلال بالروايات الأولى والثانية والثالثة على مشروعية الصلح الابتدائي تامٌّ، وأن ما جاء من النقاش في كلام بعض العلماء المعاصرين ليس وارداً.
أدلّة عدم مشروعيّة الصلح الابتدائي
1ـ فقدان الدليل على مشروعيّة الصلح الابتدائي
لقد تمّ التمسُّك في مقالة «الصلح الابتدائي» على عدم مشروعيّة الصلح الابتدائي بعدم وجود الدليل اللفظيّ على المشروعية، حيث قال صاحب هذه المقالة: «إن جميع الأدلة اللفظية، من الكتاب والسنّة، التي تدلّ على مشروعية عقد الصلح، والتي ورد فيها استعمال مادّة الصلح في إحدى مشتقّاتها؛ بسبب الوضع اللغوي لهذه المفردة، إنما تضفي الاعتبار على خصوص العقد المسبوق بالنزاع والخصومة أو الذي يُتوقَّع فيه ذلك. ومن هنا فإن الصلح الابتدائي يكون خارجاً عن دائرة دلالة هذا النوع من الأدلة. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الأدلة اللفظية الأخرى التي تمّ الاستدلال بها على اعتبار عقد الصلح، والتي تخلو من لفظ الصلح، لا تكون ـ بسبب فقدان هذا اللفظ ـ ذات دلالةٍ تامّةٍ وواضحةٍ على عقد الصلح، وعليه فإنها لن تنطوي على دلالةٍ على خصوص الصلح الابتدائي بطريقٍ أَوْلى أيضاً… بل يمكن القول: إن التركيب الوصفي لـ «الصلح الابتدائي» يعاني من تناقضٍ وتهافتٍ داخلي، وبذلك يكون استعماله خاطئاً وغيرَ صحيحٍ؛ لأن مفردة «الصلح» تدلّ على سبق الخصومة المتحقِّقة أو المتوقَّعة، في حين أن مفردة «الابتدائي» أو البَدْوي تدلّ على عدم وجود سابقة الخصومة، ومن هنا فإن توصيف الصلح بهذه الصفة ليس صحيحاً، وهو شبيهٌ بقولنا: «النور المظلم» أو «العالم الأمّي» وما إلى ذلك»([103]).
مطالعاتٌ نقديّة
1ـ كما تقدَّم فإن بعض الأدلّة العامّة على مشروعية العقود ـ ومن بينها: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ ـ يمكنها أن تدلّ على مشروعية الصلح الابتدائي. ومن ناحيةٍ أخرى، في الأدلة الخاصّة بالصلح الابتدائي كانت بعض الروايات ذات دلالةٍ واضحة على مشروعية الصلح الابتدائي، وإنْ لم تكن مفردة الصلح الابتدائي مستعملةً فيها؛ إذ لو كنّا من القائلين بتوقيفية العقود لما كان المورد الذي وردَتْ فيه الروايات قابلاً للتصحيح إلاّ بالصلح والإنشاء؛ وإذا كنا من القائلين بعدم توقيفية وانحصار العقود فمع ذلك لو كان بمقدورنا إدخال معاملةٍ ضمن أحد العقود المتعارفة الممضاة قطعاً فسوف يكون ذلك أفضل من الالتزام بعقدٍ جديد ومستَحْدَث.
2ـ كما تحدَّثنا سابقاً فإن كلامنا ليس في مشروعية الصلح الابتدائي بالحمل الأوّلي؛ كي تتشبَّثوا باستعمال مفردة الصلح في الأدلة، ولو لم يَرِدْ استعمال هذه المفردة كانت دلالة الأدلة على مشروعية الصلح الابتدائي فاقدةً للدليل. بل إن كلامنا في مشروعية الصلح الابتدائي بالحمل الشائع الصناعي، أي في الموارد والمصاديق التي تمّ إنشاء التوافق والتراضي عليها، ولم يَرِدْ منعٌ أو ردعٌ من قِبَل الشارع على عدم جوازها.
3ـ يبدو أن أوّل مَنْ استعمل مصطلح الصلح الابتدائي هو الشيخ النراقي في كتاب «عوائد الأيام»([104])، وقبل ذلك لم يكن استعمال هذا المصطلح متداولاً. وفي كلمات العلاّمة وبعده لم يَرِدْ سوى بحث اشتراط سبق الخصومة والنزاع في مشروعية الصلح وعدمه. وعليه فإن اشتمال عبارة «الصلح الابتدائي» على التناقض لا يمكنه أن يكون إشكالاً على المسألة، فإنْ كنْتَ لا تطيق استعمال هذه العبارة أمكن لك الاستعاضة عنها بعبارة: «إنشاء التراضي والتسالم».
2ـ السيرة العقلائيّة
قال كاتب مقالة «الصلح الابتدائي» في بيان هذا الدليل: «إن عقد الصلح ـ مثل الكثير من العقود الشرعية الأخرى ـ عقدٌ إمضائي، وإن الشارع المقدَّس قد أمضى وأيَّد عقد الصلح الشائع والمتداول بين الناس في إطار الضوابط التي سبق أن حدَّد بعضاً منها… ومن ناحيةٍ أخرى فإننا في العقود الإمضائية ـ وإنْ لم نكن من القائلين بتوقيفية العقود، وكنّا نطلب دليلَ اعتبار كلّ عقدٍ عُرْفي وعقلائيّ من الأدلة الشرعية الخاصّة ـ؛ حيث يتمّ إحراز أصل المشروعية العقلائية، ويتمّ التشكيك في شروطها وقيودها في الشريعة، ولا تكون الأدلة الشرعية مبيّنةً لتلك القيود، نرجع إلى سيرة وبناء العقلاء التي تمّ إمضاؤها من قِبَل الشارع. وبعبارةٍ أخرى: إن حدود بناء العقلاء ـ التي وقع أصلها مورداً لإمضاء الشارع ـ ما لم يَرِدْ بشأنها توسعةٌ أو تضييقٌ من قِبَل الشارع تكون محتفظةً بحجِّيتها واعتبارها. وعلى هذا الأساس لو شكَكْنا في أدلّة مشروعية الصلح الابتدائيّ أمكن الرجوع إلى سيرة العقلاء في هذا الشأن، ولا شَكَّ في أن العقلاء إنما يُجْرُون عقد الصلح حيث يكون هناك نزاعٌ وخصومة سابقة، أو يحتمل وجودها في الحدّ الأدنى»([105]).
تعليقٌ وبيان
أوّلاً: يرى المشهور من الفقهاء أن هناك أدلّةً موضِّحةً للقيود في ما نحن فيه؛ فمن ناحيةٍ هناك العمومات والإطلاقات التي يمكن التمسُّك بها، ونفي شرطيّة «لزوم سبق الخصومة والنزاع في مشروعية الصلح»؛ بالإضافة إلى أن هناك أدلّةً لفظيّةً خاصّةً في المقام، ومع وجودها لا يكون هناك موضعٌ للرجوع إلى سيرة العقلاء، كما أشار إلى ذلك صاحب المقالة نفسه.
وثانياً: حتّى لو سلَّمنا عدم وجود مثل هذه الأدلّة المبيِّنة، إلاّ أن هذا الادّعاء القائل بأنه «لا شَكَّ في أن العقلاء إنما يُجْرُون عقد الصلح إذا كانت هناك خصومةٌ سابقة، أو يُحتمل وجودها في الحدّ الأدنى» هو مجرَّد ادعاءٍ من دون دليلٍ؛ لأن بناء العقلاء قد استقرّ على أصل التراضي والتسالم، وإن موارد النزاع المتحقِّق أو المحتمل من مصاديق هذا التراضي. وفي الحقيقة لا يمكن القول: «إن السيرة من الأدلّة اللبِّية، ويجب علينا أن نتمسَّك بالقَدَر المتيقَّن منها، وهو وجود الخصومة السابقة أو المحتملة»؛ لأن أصل انعقاد سيرة العقلاء على نفس التراضي والتسالم في الأمور أمرٌ لا يقبل الإنكار.
3ـ العقل والحكمة
جاء في مقالة «الصلح الابتدائي» في تقريب هذا الدليل ما يلي: «إن قبول الصلح الابتدائي في الفقه الشيعي ـ بالنظر إلى رؤية هذا المذهب في مورد أصالة واستقلال هذا العقد، الذي هو السبب في عدم تَبَعيّة عقد الصلح للعقود الأخرى في الأحكام والقرارات الخاصّة بكلّ واحدٍ من العقود، وكذلك السعة الكبيرة لمساحة هذا العقد، بالمقارنة إلى نتائج العقود والإيقاعات ـ أمرٌ مخالف للعقل والحكمة؛ لأنه يستوجب الإخلال بالقوانين والمقرَّرات الخاصة للعقود، وإن وضع وتشريع هذا النوع من القوانين من خلال القول بجواز عقد الصلح الابتدائي يبدو عَبَثاً، فكيف يمكن للشارع من جهةٍ أن يعمل على تشريع أحكامٍ ومقرَّراتٍ خاصّةٍ لكلّ واحدٍ من المعاملات على أساس المصالح والمفاسد الواقعية، ويسمح في الوقت نفسه للمكلَّفين من ناحيةٍ أخرى أن يعملوا ـ من أجل الفرار من هذه الأحكام والمقرَّرات الخاصة ـ على تغيير الإطار الظاهري لعقده بعنوان الصلح، حتّى لا يجري أيّ واحدٍ من المقرَّرات الخاصّة لذلك العقد؛ بسبب هذا التغيير الظاهري»([106]).
إثاراتٌ تنبيهيّة
أوّلاً: إن هذا الكلام يتناقض حتّى مع المسألة التي ذكرها فضيلته في البحث عن الدليل الثاني (بناء العقل)؛ إذ لو كان مرجعنا في حالة عدم وجود الأدلّة الواضحة هي سيرة العقلاء فإن العقلاء لا يتوافقون أو يتراضون على أمرٍ كيفما اتَّفق، وإنما يرَوْن بعض الضوابط والقيود حتّى بالنسبة إلى إنشاء الصلح أيضاً.
وثانياً: في ضوء تشريع الصلح الابتدائي ينفتح أمام المكلَّفين أفقٌ لاحب، حتى إذا وقعوا في ضيقٍ؛ بسبب رعاية الشروط في بعض العقود والمعاملات، منحهم الشارع المقدَّس فسحةً من الحرّية، فلا يواجهون طريقاً مسدوداً، ويعمل على تشريع المعاملات السائدة بينهم من طريقٍ آخر. إلاّ أن هذا لا يعني أن الصلح الابتدائي هو حيلةٌ شرعية، وطريقةٌ للتهرُّب من الالتزام بالشروط العامّة للعقود، بل العقلاء إنما يلجؤون إلى هذا العقد في موارد خاصّة جدّاً، وذلك حيث يواجهون طريقاً مسدوداً وضيِّقاً من ناحية بعض الشروط، ومن ذلك، على سبيل المثال: الصلح على الأعيان المجهولة، فحيث يشترط في البيع العلم بالعوضين، ويكون المكلَّف مضطرّاً إلى شراء العين المجهولة، وعليه لا يمكنه اللجوء إلى آليّة عقد البيع، ولكنْ مع تشريع عقد الصلح الابتدائي يمكن للمكلَّف أن يصل إلى مراده ومبتغاه. ومن هنا فإنه في العقود المذكورة سابقاً تحت عنوان العقود المستَحْدَثة، من قبيل: عقد الضمان، والملكية الزمنية، وما إلى ذلك، لم يكن بالإمكان ضمان ملاكات العقود المتعارفة، ولكنْ يمكن لنا تشريعها في إطار عقد الصلح الابتدائي، دون الوقوع في الحيرة والمتاهة.
وبعبارةٍ أخرى: يرى الكاتب أن مشروعية عقد الصلح الابتدائي يُعَدّ واحداً من إبداعات فقه الشيعة، ويثبت حيوية الفقه الشيعي، الأمر الذي حُرِم منه أهل السنّة، ويمكن ـ في ضوء هذا العقد ـ أن نجد حلاًّ بالنسبة إلى الكثير من العقود المتعارفة التي قد يواجه المكلَّفون المتديِّنون ـ بسبب ضوابطها وشرائطها ـ طريقاً مسدوداً، ومن هنا فإن الشارع المقدَّس قد شرَّع هذا العقد بوصفه حلاًّ يضعه بيد المكلَّفين لعلاج تلك الحالات.
خلاصةٌ واستنتاج
يرى كاتب هذه المقالة أن عقد الصلح يمتاز من بين العقود الشرعية بامتيازاتٍ وخصائص فذّةٍ وفريدةٍ، الأمر الذي جعل هذا العقد يحظى بمكانةٍ هامّة؛ إذ هو من ناحيةٍ عقدٌ مستقلّ وأصيلٌ؛ حيث لا يحتوي على الأحكام والشرائط الخاصّة بالعقود الأخرى؛ ومن ناحيةٍ أخرى يمكن لهذا العقد أن يضفي المشروعيّة على آثار وفوائد أكثر العقود والإيقاعات المعروفة، أو العقود المستَحْدَثة التي لا تندرج ضمن أيّ واحدٍ من العقود؛ ومن جهةٍ ثالثة يمكن لهذا العقد ـ بالإضافة إلى مكانته الأصلية، التي هي عبارةٌ عن موارد الصلح ورفع النزاع والاختلاف بين الطرفين ـ أن يلعب دَوْراً في المعاملات الابتدائية التي تخلو من أيّ نزاعٍ أو خصومةٍ سابقة. ودليلُنا على عدم ضرورة سبق الخصومة المتحقِّقة والمحتملة هي أدلة العقود العامّة، من قبيل: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾، و«المؤمنون عند شروطهم»؛ وكذلك بعض الأدلّة الروائية الخاصّة، التي أشَرْنا إلى آحادها في بحث أدلة مشروعية الصلح الابتدائي، ويمكن لها أن تكون أدلّةً واضحة لإضفاء المشروعية على الصلح الابتدائي. ومن هذه الناحية ـ وفي ضوء عقد الصلح الابتدائي ـ يمكن الالتزام حتّى بما كان المتقدِّمون يعتقدونه من انحصارية العقود أيضاً، وليس من اللازم لإثبات مشروعية العقود المستَحْدَثة أن نرفع اليد عن انحصاريّة العقود والمعاملات. ولذلك فإن هذه المكانة الخاصة التي تحقَّقت لعقد الصلح جعلَتْ بعض العلماء يصفونه بـ «أنفع العقود»([107]).
الهوامش
(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة في قم، وأحد أبرز تلامذة الإمام الخوئي في علم الرجال والحديث. شارك في تدوين موسوعة الرجال للخوئي. وله مجموعةٌ من المؤلَّفات.
(**) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة في قم.
([1]) انظر: ناصر كاتوزيان، حقوق مدني: مشاركتها وصلح (الحقوق المدنية: المشاركات والصلح): 296، نشر: گنج دانش، طهران، 1368هـ ش. (مصدر فارسي).
([2]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 16.
([3]) انظر: محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 5: 258، دار الكتب الإسلامية، ط4، طهران، 1407هـ؛ محمد بن عليّ الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 32، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية بقم، ط2، قم، 1413هـ؛ محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام 6: 206، دار الكتب الإسلامية، ط4، طهران، 1407هـ.
([4]) انظر: محمد بن نعمان (الشيخ المفيد)، المقنعة: 602، 622، 632، المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد، قم، 1413هـ؛ السيد المرتضى علم الهدى، الانتصار في انفرادات الإمامية: 472، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1415هـ.
([5]) انظر: أبو الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه: 453، مكتبة أمير المؤمنين× العامة، إصفهان، 1403هـ؛ عبد العزيز بن سلاّر الديلمي، المراسم العلوية والأحكام النبوية: 200، منشورات الحرمين، قم، 1404هـ؛ محمد بن الحسن الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 2: 288، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، ط3، طهران، 1387هـ.
([6]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلّة فقه أهل البيت^ 34: 78، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي على مذهب أهل البيت^، قم. (مصدر فارسي).
([7]) انظر: إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) 5: 1951، دار العلم للملايين، بيروت، 1410هـ؛ أبو الفضل جمال الدين محمد بن المكرّم ابن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب 2: 428، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ دار صادر، ط3، بيروت، 1414هـ.
([8]) انظر: الجوهري، الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) 1: 108؛ ابن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب 1: 302.
([9]) العلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية 3: 7، مؤسسة الإمام الصادق×، قم، 1420هـ.
([10]) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 4: 259، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1413هـ.
([11]) السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل 9: 35، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1418هـ.
([12]) السيد روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة 1: 561، مؤسسة دار العلم للمطبوعات، قم.
([14]) انظر: الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 2: 288.
([16]) الخميني، تحرير الوسيلة 1: 516.
([17]) وعبارته في هذا الشأن كما يلي: «هل يفيد الصلح فائدة كلّ عقدٍ، عدا النكاح، أو يختصّ بالعقود الخمس التي تقدّمت إليها الإشارة، أو يختصّ بالبيع؟ الأقرب عندي هو الأوّل، والظاهر أنه متَّفق عليه بين القائلين بالمختار». السيد محمد بن علي الطباطبائي، مناهل الصلاة: 342، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث.
([18]) السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه 5: 112، دار الأضواء، بيروت ـ لبنان.
([19]) انظر: محمد باقر السبزواري، كفاية الأحكام 1: 607، انتشارات مهدوي، إصفهان.
([20]) انظر: محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 26: 211، دار إحياء التراث العربي، ط7، بيروت.
([21]) انظر: السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل 9: 35، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1418هـ.
([23]) انظر: محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 207، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1409هـ.
([24]) السيد جواد بن محمد حسين العاملي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة 5: 7105، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1419هـ.
([25]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^ 34: 122.
([28]) إن هذا المطلب يمثِّل إشارة إلى الأقسام التي تمّ بيانها في كتاب كفاية الأصول في معرض نقل الإجماع. انظر: محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 289.
([29]) انظر: الشيخ علي بن الحسين المحقِّق الكركي العاملي، جامع المقاصد في شرح القواعد 5: 408، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، ط2، 1414هـ؛ السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذَّب الأحكام في بيان الحلال والحرام 18: 116، مؤسّسة المنار، ط4، قم، 1413هـ.
([30]) انظر: محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 431.
([31]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ العزيزية 1: 222 ـ 457، دار سيد الشهداء للنشر، قم، 1405هـ.
([32]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 16.
([33]) انظر: محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 217.
([34]) انظر: الخميني، تحرير الوسيلة 1: 294.
([35]) وكذلك الأدلة العامّة الأخرى.
([36]) مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^ 34: 49.
([37]) انظر: يوسف آل عصفور البحراني، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 1: 99، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1405هـ.
([38]) انظر: العلاّمة الحلي، مختلف الشيعة في أحكام الشريعة 6: 278، مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، قم، 1413هـ؛ أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 9: 358، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1403هـ.
([39]) انظر: محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 247.
([40]) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة 2: 115.
([41]) الفيض الكاشاني، الوافي 10: 68؛ 12: 80، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ×، إصفهان، 1406هـ.
([42]) محمد بن الحسن الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 3: 232، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1390هـ.
([43]) محمد بن الحسن الطوسي، الفهرست: 157، المكتبة الرضوية، النجف الأشرف.
([44]) أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 258 ـ 259، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1407هـ.
([45]) انظر: جواد القيومي، مقدّمه إي تحقيق بر فهرست شيخ طوسي (مقدّمة التحقيق على كتاب الفهرست للشيخ الطوسي): 24.
([46]) محمد بن الحسن الطوسي، الفهرست: 156.
([47]) انظر: ابن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب 7: 82.
([48]) انظر: الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب 3: 56، مجمع الفكر الإسلامي، 1415هـ.
([49]) انظر: المصدر السابق 6: 11.
([50]) انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 4: 259، 1413هـ.
([51]) انظر: أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 9: 332، 1403هـ.
([52]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 5: 259، 1407هـ؛ محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام 6: 208، 1407هـ.
([53]) محمد بن علي الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 31، 1413هـ.
([54]) انظر: مسلم الداوري، أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق 1: 414، مؤسسة محبّين، ط2، 1426هـ.
([55]) انظر: الخميني، كتاب البيع 2: 629، مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، 1421هـ.
([56]) انظر: محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول: 28.
([57]) السيد أحمد الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3: 393، مكتبة الصدوق، ط2، طهران، 1406هـ.
([58]) محمد بن علي الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 33، 1413هـ؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 445.
([59]) أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 298، 1407هـ.
([60]) انظر: أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 9: 330، 1403هـ.
([61]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^ 34: 49.
([62]) انظر: السيد أحمد الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3: 393، 1406هـ.
([63]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 5: 224، دار الكتب الإسلامية، ط4، طهران، 1407هـ؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 17: 350، 1414هـ.
([64]) أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 16، 1407هـ.
([65]) انظر: مسلم الداوري، إيضاح الدلائل في شرح الوسائل 1: 50، دار الهدى، 1427هـ.
([66]) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 4: 331، تحقيق: السيد محمد كلانتر، 1386هـ ش.
([67]) انظر: محمد بن مكّي العاملي (الشهيد الأول)، الدروس الشرعية في فقه الإمامية 3: 197، مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، قم، 1417هـ.
([68]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^ 34: 134.
([69]) محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام 6: 206، 1407هـ؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 446.
([70]) في الأصل [به]. (المعرِّب).
([71]) ما بين المعقوفتين ليس في الأصل. (المعرِّب).
([72]) ما بين المعوفتين ليس في الأصل. (المعرِّب).
([73]) محمد بن الحسن الطوسي، الفهرست: 58، رقم 220؛ محمد بن الحسن الطوسي، مشيخة التهذيب 10: 66.
([74]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^ 34: 134.
([75]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 5: 359، 1407هـ؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 446، 1414هـ.
([76]) انظر: محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 1: 10، كتاب العقل والجهل.
([77]) انظر: المصدر السابق 1: 261.
([78]) العلاّمة الحلّي، خلاصة الأقوال: 430، الفائدة الثالثة.
([79]) انظر: أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 353، 1407هـ.
([80]) انظر: المصدر السابق: 92.
([81]) انظر: المصدر السابق: 260.
([82]) انظر: المصدر السابق: 261.
([83]) انظر: مسلم الداوري، أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق 1: 323 ـ 324، 1426هـ.
([84]) انظر: مسلم الداوري، إيضاح الدلائل في شرح الوسائل 1: 1950، 1427هـ.
([85]) محمد بن الحسن الطوسي، الفهرست: 266.
([86]) انظر: أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 359، 1407هـ.
([87]) انظر: أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 9: 331، 1403هـ.
([88]) محمد بن علي الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 21، 1413هـ؛ الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 449.
([89]) أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 115، 1407هـ.
([91]) انظر: المصدر السابق: 231.
([92]) محمد باقر البهبهاني، حاشية مجمع الفائدة والبرهان: 438.
([93]) انظر: مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^ 34: 135.
([94]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 5: 259.
([95]) انظر: أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 9: 330، 1403هـ؛ السيد أحمد الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر النافع 3: 393، 1406هـ.
([96]) أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 353.، 1407هـ.
([98]) انظر: محمد بن الحسن الطوسي، الفهرست: 216.
([99]) انظر: مسلم الداوري، إيضاح الدلائل في شرح الوسائل 1: 83، 1427هـ.
([100]) انظر: الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست: 173.
([101]) أبو الحسن النجاشي، رجال النجاشي: 283.، 1407هـ.
([102]) زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 4: 337، تحقيق: السيد محمد كلانتر، 1386هـ ش.
([103]) مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^، العدد 34.
([104]) انظر: المولى أحمد بن محمد النراقي، عوائد الأيام: 18، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1417هـ.
([105]) مسعود إمامي، صلح ابتدائي (الصلح الابتدائي)، مجلة فقه أهل البيت^، العدد 34.
([107]) السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذَّب الأحكام في بيان الحلال والحرام 18: 116، 1413هـ.