أحدث المقالات

مطالعة في الإشكاليات

إيمان شمس الدين

التدوير الوظيفي أو الموقعي فكرة جدلية بين رافض لها مطلقا وقابل لها مطلقا، ولكل من الاتجاهين أدلته وتصويباته. وعادة يأتي التدوير والتغيير لأسباب عدة أهمها:

  1. ممارسة التفكير النقدي للفرد على أداء المتصدين، نتيجة تقصير أو قصور أو عدم مواكبة.
  2. تغيير الموجود بمن هو أكفأ منه نتيجة بروز كفاءات جديدة لم تكن موجودة في الساحة قبل ذلك.
  3. ضرورة زمنية متعلقة بالتقدم في العمر، وضرورة رفد المواقع بطاقات شابة كفوءة تعطى لها الثقة لقيادة المسيرة، مع بقاء القدماء في موقع التصويب والاستشارة لخبراتهم المتراكمة.

كثيرة هي اثار عدم التدوير مطلقا على تهميش الطاقات، والتبذير أو الإسراف بالعقول بتعطيلها أو صرفها إلى وجهة غير وجهتها الواقعية، وما ينتج عن هذا التهميش من خلق نزاعات وفتن على مستوى الأفراد أو الجماعات من تيارات وأحزاب ومؤسسات دينية أو سياسية أو مدنية، فتتحرك نتيجة ذلك الفئات المهمشة أو المعطلة بعنوان الاصلاح كرد فعل ، مع عدم وجود مشروع للاصلاح حقيقي يهدف لاصلاح الواقع دون إحداث خلل في بنية المجتمع ووحدته. فالعمل تحت شعار الإصلاح كرد فعل وليس كفعل مدروس وفق مشروع بنيوي هادف سيراكم من الخلل لا يعالجه. فحب الذات صفة مغروسة في فطرة كل انسان وغرست لهدف خلق الدافع وبعث الارادة لدى الانسان للعمل والتنافس في ساحات الدنيا لعمارتها بما ينفع الإنسان. وهذب الله حب الذات ووجهه نحو الخير، و ليثبت الانسان ذاته عند الله وليس عند البشر، وليحرز موقعية خالدة عند الله وليس ليحقق مصالح دنيوية في الدنيا قد تحرفه عن الصراط وتجعله يظلم ويهتك حرمات ويضيع حقوق ، لذلك مواجهة ما فطر الله الناس عليه ستكون له اثار عكسية على الفرد والمجتمع. ففي السنن التاريخية مواجهة الفطرة التي لا تبديل لها وتحديها  يمكن أن ينجح مدة زمنية، لكن الانقلاب في مسار المواجهة سيعيد توجيه الفطرة لوجهتنا الصحيحة ويعكس مسار المواجهة ليضعها في الطريق السليم.

إلا أن فترة مواجهة الفطرة ومدتها ستحدث خلالها تداعيات خطيرة على الواقع الفردي والاجتماعي، قد يعاني منها الأجيال فترث إرث الماضين المنحرف وتراكم عليه، وتحرف مسار الخلافة الإلهية و تحدث خللا في بنية الدعوة إلى التوحيد وتحقيق العدالة. هذا فضلا عن تأخير مسار تقدم المجتمع وتعريضه لنكسات وخيبات أمل نتيجة عدم تطوير الأفهام والأدوات وعدم محاكاة الواقع بعقل الراهن، ومحاولة معالجة الإشكاليات أو المشكلات بطريقة نمطية لا تخرج عن مألوف المتصدين القدماء، ولا تكسر التابو الذي اعتادوه وألفوه كمرجعية تحدث لهم اطمئنانا موهوما يهتز مع أقل ريح فتنة، ويعتبر تعطيل الطاقات بتهميشها أو عدم إعطاءها فرصتها هو انتهاك صارخ وسلب واضح لحقها في ممارسة دورها ووظيفتها الاستخلافية، ليس فقط على مستوى القيادة، بل على مستوى التخطيط والتطوير والنقد والبناء والمشورة.

وفي ظل هذه المواجهة نحن امام ٣ حالات:

١.استمرار تسنم القدماء للمواقع رغم تقدمهم في السن مع تراكم خبراتهم أو ضحالتها، وما يستدعيه ذلك من تأخر في العطاء  وتنميط في التفكير، والبقاء داخل صندوق مقفل عقليا في صناعة الحدث وتفسيره، أو في تشخيص المشكلات والإشكاليات ومعالجتها، و في الابداع وحتى في مواكبة العصر، وهو ما يجعل مسار التطور والمواكبة بطيء، ويراكم من الإشكاليات والمشاكل المحيطة بل يعمقها و يدفع بتهميش المستحقين الأكفاء من الشباب من التصدي لهذه المواقع بالتالي يؤدي ذلك إلى:

أ.انكفاء البعض من الكفاءات بعيدا عن الحياة العامة كونها تسعى لرضا الله ولكسب نفسها من الضياع، بالتالي تترك الساحة بما هي عليه من خلل وتنجو بذاته،ا وبذلك تعطل طاقة كفوءة كان يمكنها دفع المجتمع سنوات من العطاء والنهوض والتقدم.، ويأتي الانكفاء كخيار بين خيارين الانكفاء أحدهما، والآخر هو الرضا بالموجود والانخراط في العمل حتى مع ضعف القيم وخلل المنهج والرؤية .

ب.انقلاب بعض من الكفاءات للمعارضة العنيفة بحجة الاصلاح وممارستها للنقد وتتبع الذلات مما يسبب فرقة داخل المجتمع وتشتت كبير، ولغط وفتنة.

ج.تطويع كفاءات وتدجينها كونها تريد أن تعمل لاثبات ذاتها، لكن دافعيتها للعمل لاثبات ذاتها يكون في مقابل سلب عقلها وقدرتها على التصويب والتقويم والتقد، وتنمطيها تنميطا سلبيا باستخدام عناوين شرعية كالتكليف حيث يطرح هذا العنوان بطريقة استغلالية تعطيلية، إضافة لعنوان طاعة ولي الأمر وربطها بطاعة الله، انطلاقا من فهم محرف للطاعة يتوافق ورغبة المتصدين في البقاء أو فهمهم النمطي التقليدي للطاعة. وهنا نفقد ايضا كفاءات وندجنها في مسار بالأصل فيه خلل، لنكرسه كمنهجا يتم توارثه لينتج قطيع وجنود لا علماء ومفكرين ومنتجي معرفة.

٢.تنازل القدماء عن مواقعهم للاجيال القادمة من الشباب الكفوء وتركهم  يقودوا مقود الساحة مع عدم خبرتهم وفقدانهم لخبرة القدماء وتجاربهم المتراكمة التي خلقت لديهم معرفة عميقة خاصة انهم كفاءات سابقة . وهو ما يؤدي لنسف التجربة السابقة على يد كفاءات جديدة لكنها لا تملك خبرة، وهذا أيضا يسبب فوضى.

٣. بقاء القدماء في مواقع استشارية في الظل، مع تقديم الكفاءات الجديرة في مواقعهم، لكنهم يبقون لرفد هذه الكفاءات بالخبرة وتصويب التجربة وتفعيلها بالطريق الأصوب الذي يجمع بين عقلية الجيل الشاب ونظرته الحيوية لراهن العصر، وعقلية القدماء ونظرته العميقة المليئة بالخبرة والمعرفة للواقغ كون الاحداث تتكرر غالبا لكن في قوالب عصرية تناسب الزمان والمكان.وبذلك يضمن استمرار مسار الخير عبر الأجيال حتى بعد رحيله، ويضمن اكتساب هذه الطاقات الشابة مع الممارسة الخبرة اللازمة لمواصلة المسير.

إن تهميش الطاقات بدعاوى دينية وشرعية، وبقاء تسنم القدماء للمواقع المتقدمة في المجتمع وعدم إفساح المجال للجيل الشاب ليمارس دوره الفعال في النقد والاصلاح، هو تعطيل للدور الناقد التغييري في المجتمع ، فعدم إعطائهم الثقة في تسنم المواقع المتقدمة هو تجميد لطاقة النقد المودعة في الإنسان، و تعطيل هذه الطاقة الضرورية في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو تعطيل لأي محاولة تصحيح مسار وإصلاح انحراف في داخل التيارات أو المجتمع. هذا فضلا عن تعطيل الكفاءات وعدم تطوير قدراتها من خلال الترقي التدريجي في المواقع لكسب الخبرة، مما يمكن استمرارية المسار السليم عبر الأجيال دون توقف، إلا أن منع ذلك هو قتل للكفاءات وتعطيل للتطوير، ومع التقادم قطع للمسار، بما يدفع الكفاءات للعمل الفردي أو اللجوء لجهات أخرى تثبت ذاتها فيها، وقد تستغل كثير من الجهات المشوهة فكريا هذه الطاقات المعطلة في تمكين أفكارها اجتماعيا وإضعاف الأكفار الرصينة.

” فقد يتولى بعض الرجال على البعض الآخر من الأتباع، ويتم التأسيس لنوع من العلاقات الاجتماعية، أو أنماط من الولاية السياسية، وذلك من خلال التضليل الفكري، وصناعة حواضن غير سوية التفكير تقوم على صناعة المغالطات حتى لو بأواطر شرعية، التي لا تنطلي على الناقد الفذ، فحقيقة المغالطات هي: نماذج فكرية تترتب عليها أبنية فكرية عديدة قائمة علي الخلط أو الدس أو التعمية، وذلك بالإفادة من المقدمات مغشوشة أو مشوهة الفهم، ووضعها بشكل خفي داخل في الاستدلال والاستنباط أو في طريقة استنطاق الفتوى والاجتزاء.

ومع وجود الأتباع، والقوى الاجتماعية السائدة التي يفكر بعضها بنقد البعض الآخر، بل وفي تكفيره وإزاحته من الساحة والتنافس، يتحول المشهد من التراشق الكلامي والنقد اللفظي إلى التفكير بوسائل العنف والتمرد  والتراشق،  الأمر الذي يكشف عن خطورة هذا الاسلوب في الحياة الاجتماعية والتحولات التي يمكن أن تتولد عنه في معالجة المشكلات الاجتماعية“.[1]

التفكير الناقد والتغيير:

”التفكير النقدي في الإسلام هو تفكير ذو طبيعة قرأنية في الأساس،فهو من طبيعة التفكير عند الأنبياء، لها قدرة علي شجب الواقع البائس للإنسانية واستنماره لتغييره. والنقد دعوة صريحة لوعي الآخرين ودعوتهم للتغيير والمشاركة في الإصلاح والنقد والاستنكار لكل أنواع الضلالات والمغالطات السائدة التي يعج بها الواقع الإنساني[2].

إن النظريات التقليدية الاجتماعية نراها ظاهرة في المجتمعات التقليدية النمطية، وهي تختزل الفضاء الاجتماعي في تفسير أحادي النظرة، غير متعدد وتفرز عنه صراعات وجودية يدخل فيها إثبات الذات نتيجة الاقصاء والتهميش والتعطيل. وتتداخل فيها الوظائف دون تحديد معالمها وهوايتها والحدود بينها، ليصيح الرمز والسوبرمان مفاهيم حاضرة بقوة في الوجدان الشعبي، ومتناسب مع نمط التعطيل للطاقات، والترميز للشخوص، هذا فضلا عن خلق صورة نمطية ساكنة عن وظيفة الإنسان ودوره، تتناسب ومنهج المتصدين وأهدافهم وأدواتهم.

إن ترسيخ أداة النقد والرقابة والتأسيس لمبدأ التدوير الوظيفي والموقعي ومشاركة كل الأطياف والفئات العمرية وفق مبدأ الكفاءة، ومبدأ تشخيص المرتبة والوظيفة لكل فئة وفق الحاجة والراهن والمتطلب، هو تفعيل لمبدأ المشاركة الاجتماعية والدفع باتجاه النهضة والتقددم الاجتماعي، و العمل علي تماسك المجتمع ومنع أي فتنة وصراع قد تنشأ من التهميش والتعطيل، ومنع الآخرين من ممارسة دورهم في عمارة الأرض. بل هو تفعيل لوظيفة الاستخلاف الإلهية التي تتطلب استنفار كل الطاقات في كل المواقع لضمان استمرارية خلافة الخير في الأرض.

ويعتبر تعطيل أداة النقد الاجتماعي على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات مقدمة ضرورية لتعطيل مبدأ التدوير الوظيفي والموقعي، إذ بتدجين العقول وتنميطها من خلال ثقافة الترميز الغير منطقية، والتقديس الغير شرعية، وأعني هنا بالتحديد الترميز لمن لا يستحق ومن لا يملك مواصفات الرمزية، والتقديس لغير ما هو مقدس كما يحدث من تقديس في الوجدان الشعبي لكثير من الأشياء التي لا تتعدى كونها أمور بشرية خارج نطاق المقدسات الحقيقية، فما يحدث من تدجين وتنميط باستخدام هذه الأدوات يعطل قدرة  النقد تحت هالة المقدس واحترام الرمز بحجة أنه الأقدر والأكفأ على قيادة المسيرة وتدبير أمور الفرد والجماعة، سواء كان ذلك ضمن أحزاب أو تيارات أو مؤسسات دولة أو مؤسسات دينية، فإن مجرد تعطيل أداة النقد السليمة هو تعطيل لحق الفرد في استخدام عقله وتصويب المسيرة وإصلاح الثغرات التي قد لا يراها الفرد في موقع السلطة منفردا، بل يحتاج لأن يجمع العقول لعقله حتى تكتمل الصورة وتنهض الأمة.

فنحن إذا أمام منهج تعطيلي توقيفي يبدأ كالتالي:

  • ١.التربية على ثقافة المقدس والرمز بطريقة غير منطقية ولا عقلية، تمنع الفرد المستهدف من توظيف قواه العقلية بطريقة سليمة، وتدعوه مبكرا لتسليم أغلب زمام عقله للرمز، أو لجهة وضعت لها هالات القداسة من البشر دون وجه منطقي، وهنا لا أعني أبدا ضرب الاحترام القيمي، أو إنكار المراتب الوجودية التي رفع الله بها البشر بعضهم على بعض، ولكن أعني أن هذه المرتبية في الوجود لا تعني الاستعباد والاستغناء، بل تعني المشاركة والتكامل والتنافس في مدارج الكمال لترفع كل مرتبة عليا من هو أدنى منها إلى الأعلى، وتعينه على ذلك يتحررمن كل أنواع العبوديات والقداسات والترميزات البشرية، وتفعل قدرته على امتلاك أدوات منطقية يستخدم فيها العقل المناهج السليمة في التفكير والتشخيص.
  • ٢.منع النقد وتعطيله بحجة التكليف، أو القداسة التي تمنع كل محاولة نقد وتقويم، أو الرمز الذي يعتبر المخول الوحيد للقرار والقدرة على التفكير وفق هذا المنهج التعطيلي، وهنا لا آنكر وجود التكليف في كثير من المسارات، ولكن أنكر توظيف هذا المصطلح توظيفا يعطل ويشل قدرة الإنسان على التفكير والاستقلال في القرارات المتعلقة بمصيره وعلاقته مع الله. وهو أمر يحدث مع الدين برمته حيث يتم توظيفه على مر التاريخ من قبل فراعنة كل عصر، كي يستطيعوا بذلك تعطيل عقول الناس واستعبادهم سواء استعبادا مباشرا كما يحدث من قبل المستبدين بالقهر والظلم والقوة، أو غير مباشر كما يحدث من قبل كثير من الزعماء السياسيين والدينيين والمؤسسات المرؤوسة حيث يتم كي وعي الأفراد كما أشرنا سابقا، بطرق مختلفة دينية وغير دينية ويتم السيطرة على مجال الإدراك بما يعطل وظيفة التفكير الذاتي المستقل لدى الأفراد ويخلق في وجدانهم ولا وعيهم حالة القصور التي تعني الحاجة المستديمة لولاية الآخر على النفس والاقتناع بعدم القدرة الذاتية على المشاركة بل الاقتناع بضرورة تسليم زمام عقله ونفسه ومصيره في يد هؤلاء.
  • ٣.منع التدوير الوظيفي والموقعي، وهي الخطوة التي تأتي بعد تعطيل العقل بما سبق، وهنا تعطل طاقات الشباب أو توظف بطرق غير سليمة، أو تهمش كفاءات وتبدأ عملية الانتكاس العكسي التي لا تظهر اجتماعيا إلا بعد مدة زمنية قد تطال عدة أجيال، لتحدث عملية الانتكاس الكبرى بشكل جلي بعد عقد أو عقدين من ممارسة هذا المنهج وقد تطول المدة أو تقصر وفقا لحركة الوعي ومدى فهم الأجيال لما يحدث والذي يتطلب خروجا من الصناديق المقفلة التي وضعت فيها هذه الجهات الجماهير، وهنا يأتي دور النخب في قيادة المجتمع نحو حراك وعي، وهو ما يحتاج لمقال منفرد حول نكسة النخب أو نجاحها في نهضة المجتمعات والشعوب. والسير في هذا المنهج يعطل الاصلاح، ويسبب ركود في الحركة والتفكير، ولكنه مع التقادم قد يؤدي لانفجار يعمل إلى حدوث تغيير دفعي يضر في أغلبه ولا ينفع، بينما كان بالإمكان مع وجود النقد الهادف وتفعيل التدوير وعدم تعطيل العقول أن يتم التغيير بشكل تدريجي هادئ، يستغل كل الطاقات ويعمد لصناعة عالم مليئ بالآفكار وتطبيقاتها والتي في نهاية المطاف ستصب في عمارة الأرض ونهضة الإنسان.

ولكن أين تكمن المشكلة ؟

المشكلة الحقيقية ليست في النقد فقط ، فهو حق مكفول، شريطة أن يتصف بالموضوعية والأدب ونقد الفكرة لا صاحبها، وأن يتمسك بمنهجية اقرع الدليل بالدليل، واضرب الرأي بالرأي يخرج منه الصواب.

ولكن نحن أمام معضلتين حقيقيتين تتطلبا وقفة ومحاولة تفكيك وعلاج:

١- النقد حق، لكن هل هو حق مطلق لا يراعي ظروف الزمان والمكان، ومسار الأحداث؟ وهل النقد عليه أن يسبب بفوضى وفتنة وتقويض بنى المجتمع؟

٢- عدم النقد بحجة استهداف بنية المجتمع أو التيار أو الأحزاب أو المؤسسات بكافة أشكالها، وإذا توقفت كيف يمكن إصلاح الخلل في مسيرة هذه التيارات أو الأحزاب أو المؤسسات وتحصين ثغراتها لتقويتها؟

والتوقف أيضا يعني إضفاء هالة قداسة تعصم هذه الجهات من الخطأ، وهو ما يعمق تكميم العقل وتبعيته المطلقة، بالتالي نبقى ندور في ذات الإشكالية وهي طرح الغث والثمين دون تمحيص وقبول الناس به، مما يعزز من حالة التردي، ويقوي حالة الشعبوية أكثر.

إشكاليات منهج النقد:

من وجهة نظري يمكن حل الإشكاليتين من خلال تعديل المنهج.

فمنهج الطرح في مواجهة الخلل هو منهج يغلب عليه التالي:

١- الصدامية من خلال الألفاظ التي تستخدم، والتخوين الذي يمارس بحق الآخر.

٢- نقد من قال وليس ما قاله، أي التصدي بالنقد للشخص وشخصنة عملية النقد.

٣- عملية النقد للكلام أو الرأي غالبا تكون شعبوية، لا تحمل مقومات النقد العلمي، إذ أن أهم مقوماته هو مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل حيث الله تعالى : ” قل هاتوا برهانكم” ، فأي نقد لفكرة أو وجهة نظر، عليه أن يكون نقدا منهجيا مفندا للفكرة بالدليل والبرهان.

٤- تصدي من ليس مختصا للنقد. فحينما تكون هناك أفكار خلافية فيفترض أن الناقد لها يكون متخصصا في موضوعاتها وفاهما لعمقها وأبعادها. وعندما تكون فكرة فلا أقلا شخص يملك إحاطة بكل الآراء المؤيدة والمعارضة لهذه الفكرة، حتى يستطيع طرح وجهة نظره حولها بطريقة منهجية.

وهذا لا يعني إغلاق الباب أمام عقول الناس، ولكن يعني منهجة عملية النقد لتكون منظمة ومدروسة حتى تأتي أكلها وتعطينا الثمرة، التي هي التغيير والاصلاح.

٥- الإسقاط الإجتماعي إما للناقد، أو لصاحب الفكرة، وهذا أسوأ ما يمارس أخلاقيا اتجاه هؤلاء. بل هو كمن يقتل نفسا قتلا اجتماعيا يتضرر صاحبه بسمعته، مما يسقطه كليا فيعطل طاقة حية في خدمة المجتمع بحجة الدفاع عن حمى الدين ، وبينما هو معول هدم لأسس الدين ، ويهدم فكرة ومنهج إصلاحي كاد يكون سببا في رقينا الفكري والحضاري، ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة في هذا الصدد والسبب الرفض والإسقاط الاجتماعي وغياب المنهجية العلمية في مناقشة الأفكار.

و قال تعالى : “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ” [3]

فالإسراف في رفض الحق جاء بعد البينة التي جاء بها الرسل، وهو شبه كبير لواقعنا المعاصر.

إن أو ل خطوة لتحقيق مبدأ العدالة في العلاقات الاجتماعية وفي المواقع وتوزيع الأدوار، هو تفعيل أداة النقد المنهجية بشكل سليم، وتطوير قدرات الأفراد وأدواتهم المنهجية في استخدام العقل والتفكير، وتوظيف كل الطاقات في مواقعها السليمة وتطويرها من خلال التدرج الموقعي والوظيفي الذي يفضى إلى التدوير الموقعي والوظيفي، فلا تغول للأفراد على حساب المجتمع ولا تغول للمجتمع على حساب الأفراد، ولا تغول للرموز والقيادات التي كانت يوما في صفوف الناس على حساب باقي الأفراد الذين يمتكلون قدرات وهم كفاءات ولا تغول لهذه الكفاءات على حساب القيادات القديمة والرموز، بل هو ميزان عدل يجب أن لا تميل كفة على حساب أخرى ووفق قاعدة لا إفراط ولا تفريط.

[1] خطاب النقد الاجتماعي بين الإمام علي ع والنظرية الاجتماعية المعاصرة/ غالب الناصر/ص ٦١/ ط ١ / دار الكتب والوثائق ببغداد.بتصرف

[2]  مصدر سابق ص ٦٠ بتصرف

[3] المائدة ٣٢

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً