أحدث المقالات

إيمان شمس الدين

طالما كان خط الإفراط والتفريط حاكما على طول التاريخ، خاصة على مستوى الآراء التي تستقرئ النص بأدوات علمية، و تستنبط الأحكام من أدلتها الظنية، وكانت العدالة النفسية من عناصر الحضور الخامل والنادر، وهو ما يمكن استقرائه من المناهج والمسارات الموجودة عبر التاريخ.

ومن الملاحظ أن الهدف الرسالي هو آلي أكثر منه غائي، كونه سبيل وطريق لهدف أسمى وهو رضا الله، وكون الرسالة مودعة في رحم الحركة و مرتبطة بها ارتباطا عضويا ووظيفيا، يترتب بهما وعليهما سويا احراز الأثر الخارجي على مستوى الفرد والمجتمع.

فأي دعوة تكتنز العلم لا يتبعها تطبيق وعمل، فهي دعوة تبقى في فضاءات بعيدة لا يمكن إحرازها أثر حقيقي في محيط الفرد والمجتمع.

فالعلم يهتف بالعمل وإلا تركه وارتحل كما ورد في الأثر.

فالفكر متقدم على العمل لكنه غير منفك عنه، بل لا قيمة للفكرة في عالم الحقيقة إلا إذا تم تنفيذها في ساحات العمل الرسالي الناهض بالعقل والوعي.

فمجتمعاتنا منقسمة بين أهداف رسالية باتت غاية في ذاتها، لكنها مفرغة من الحراكية التطبيقية، وتدور في طاحونة التنظير والتبليغ فقط، رغم ما للتبليغ من أهمية كبيرة لكن أهميته تكمن في كونه محركا بالأفكار إلى مشاريع عمل تنفذ وتطبق كي تحول المجتمع تدريجيا لمجتمع موحد، ليتحول إلى تبليغ عاطل عن العمل.خاصة مع عدم التزام كثير من المبلغين الرساليين بأغلب ما يدعو إليه ويطرحه، وهو ما يناقي الآية الكريمة: ” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون” البقرة ٤٤ وهي غاية في الصراحة في مقصود خطابها والفئة المستهدفة بها.

وبين أهداف حركية لكنها فارغة من المحتوى الرسالي التأسيسي الأصيل، هو مجرد حراك كمي يقوم به أفراد يملكون عزما و عقلا وقّادا بالأفكار، وحيويةً فذة، أي هم طاقات لكنها واقعا طاقات مهدورة وعاطلة عن التنظير، خلاقيتها للأفكار عالية لكنها أفكار لا تخضع لمبضع التنظير والتشذيب و التقريب من الواقع وانزالها بعد ذلك بآليات صالحة للتطبيق، أفكار تخلط الحق بالباطل، والغث بالسمين، تحتاج غربلة تدمج بين النص والعقل بأدوات أصيلة ومنهج متقن له مراجعة الفكرية والمنهجية. أو أنهم عمال تنفيذيين بمهارة عالية لكن دون وجود خطةً منهجية وأهداف رسالية مرحلية واضحة، يقود عملهم التغير اللحظي المرحلي في متطلبات المجتمع والسياسة.

وقد قال الله في محكم كتابه: ” الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا” الكهف ١٠٤ “وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون” الأحزاب ٨٠

هذا الحراك الكمي غالبا أفراده لا يملكون الأهلية الحقيقية في قيادة المشاريع المثمرة واقعيا، كون قراءة مجموعة كتب والمشاركة بمجموعة مؤتمرات ووجود مجموعة مشاريع لا تعتبر معيارا حقيقيا وواقعيا منفردة في قياس أهلية الفرد، بل المعيار الكيفي لابد أن يجتمع مع الكمي وليس العكس، في تقييم أهلية الأفراد للقيام بنهضة المجتمع على كافة الأصعدة، كون كل منا له مرتبة وجودية ترتبط بوعائه وقابليته ومدى إدراكه للحق والحقيقة. هذا فضلا عن دخول المحسوبيات في ترشيح الشخصيات وليس الكفاءة، حتى في الوسط المتدين غالبا يكون الترشيح في بعض أوساط الحراك الرسالي في بعض الساحات قائما على ترشيح شخصاني وليس معياري، يغلب عليه مدى طاعة المرشح ومدى التزامه بالولاء لهذه الجهة، وقد يكون يملك مقومات علمية وعملية لكن أصل ترشيحه يكون لتلك الأسباب لا لمقوماته وكفاءته.

وهو ما يتضح جليا عندما يختلف هذا الشخص مع تلك الرموز فيتم إقصاءه لخروجه عن مبدأ الطاعة رغم كفاءته وأهليته العالية، لكن لمجرد انتقاده واعتراضه تسقط كل تلك المؤهلات.

وقد ورد في الأثر النهي عن تصدي غير الأهل بوجود من هو أهل للتصدي. والأهلية هنا لا تعني إلا بالكفاءة والقدرة والاقتدار ومدى اتران النفس وتخليصها من الهوى وميلها للحق والحقيقة، وثباتها على الحق وقدرتها على تنفيذ الخطط بفعالية عالية وخلاقية إبداعية تصب في صالح بناء الإنسان ووعيه. وامتلاك قدرة على اكتشاف مكامن الخلل في المشاريع الرسالية وفاعلية في تصويبها وسد ثغراتها بما يصب في سبيل الله لا سبيل الرموز.

وأستطيع القول أن كثير من كوادر العمل الرسالي تتعاطى مع الدعوة الرسالية والعمل في سبيل الله بطريقة نسبية، بحيث تصبح أي فاعلية لها علاقة بمدى ما تحققه من مصلحة للكادر ولرضا القيادات التي بيدها مصالح ومقدرات هذا التيار الرسالي أو ذاك.

لكن العمل الرسالي الحقيقي يجعل الكيف هو المعيار الحاكم واجتماع الكم والكيف هو نور على نور في تقييم الكفاءات الموجودة.

إننا نحتاج الرسالية الحراكية المنتجة وإن لم تحرز ثمارها على المدى القريب، لكن إن كانت أهليتها عالية ومنهجيتها سليمة مستوية على صراط مستقيم، فإن ذلك حتما ينتج ثمارا وإن كان على المدى البعيد.

فالمطلوب في ذاته ليس العمل والتبليغ، وإنما إحراز رضا الله، والرسالية الحراكية سبيل إلى هذا الرضا، وكي نهتدي السبيل لابد أن تكون أدواته ومناهجه مستويا على الصراط المستقيم، ويكون مقترنا كيفه بكمه وقوله بفعله، و محرزا للعدالة على كافة المستويات، ومعتدلا لا يميل إلى الإفراط ولا إلى التفريط.

فلا تبليغ رسالي دون حركية هادفة لتحقيق ملكوت السماء على الأرض، ولا حراك أرضي دون توسله بالرسالية الملكوتية السماوية كمنهج يستقيم عليه. أما انتشار ثقافة الكم الحراكي لمجرد إثبات الذات التي جبلت على حب العمل، فإن النتائج ستكون عكسية كما في التبليغ المتجرد من أي حراك تطبيقي رسالي.

فالرسالية الحركية تتطلب ضوابط لتضبط إيقاعها وفق أسس سليمة تحفظ لها تحقيق غايتها في رضا الله بتوسل آليات ومنهج سليم.

و لو قمنا باستقراء واقع أغلب الساحات في العمل الرسالي لوجدناها تشترك في عدة مشتركات تعتبر نقاط ضعف أخلاقية ومنهجية في العمل الرسالي العام وهي:

– تأثرها بسلوكيات علمانية وإن بشكل غير مباشر، ومن أهم وأخطر هذه السلوكيات هي:

١- انحسار العمل الرسالي فقط في المساجد والحسينيات والمراكز الإسلامية والتابعة لكل تيار وحزب، وعدم وجود رؤية للانتشار الاجتماعي والتواجد في مؤسسات الدولة وفق برنامج مدروس. وهي علمنة مبطنة وعزل الدين عن باقي المجتمع وباقي مناحي الحياة.

٢- البراغماتية السلوكية في التعامل مع الأفراد، فالذي ينفع المشروع وفق إرادة قيادة المشروع كان له الحظوة، وإلا يتم تهميشه وعدم توظيف أي طاقة وعقل له، خاصة أن معايير النفع غالبا هي معايير شخصانية بعناوين دينية. كالطاعة والولاء والانضباط، فهنا الطاعة تكون للقيادة البشرية وهنا لا نرفض مبدأ الطاعة لكن نرفض توظيفه في سبيل شخصاني لا سبيل رضا الله، وتحويله من مفهوم نسبي إلى مطلق، بمعنى أن طاعة القيادة الغير معصومة هي طاعة نسبية تتوقف على حكمة القيادة وبصيرتها ومصداقيتها ومدى انضباطها على الحق، وانتهاجها لمنهج البحث عن الحقيقة والتزامها الأخلاقي القيمي، أما الطاعة المطلقة فهي لا تكون إلا لله ولمن عصمه الله تعالى.

هذا فضلا عن عدم تقدير العاملين كما يجب، فمن لا يتفق مع المنهج العام يتم تهميشه، بل ويتم غالبا إهماله اجتماعيا حتى في التواصل الأخوي الموصى عليه قرآنيا و روائيا.

٣- تعطيل الطاقات لمجرد اختلاف وجهات النظر، فيكون بذلك قاطع طريق لسبيل الله، وتفعيل من يتوافق مع وجهات النظر حتى لو لم يكن أهلا، وهذا يعود لفقدان منظومة القيم والمعايير المتصلة بالسماء وتحولها لمنظومة قيم ومعايير نسبية بشرية.

٤- رفض النقد والتقييم بحجة الاستهداف وعدم شق الصف، مع أن وجود الأعداء لا يعني السكوت عن الأخطاء، بل يجب مع وجود الأعداء النقد والتقييم لسد الثغرات وعدم فسح المجال لمن يستهدفنا من النفوذ والاختراق من الثغرات.

٥- الانغلاق على الذات، وما أعنيه الجلوس داخل الصندوق وعدم محاولة الخروج من مألوف ومشهور المحيط، وهنا لا أدعو لخروج دفعي صدامي، وإنما لخروج تدريجي تصحيحي تغييري للمحيط، كون العمل الرسالي أحد أهم أهدافه التغيير الإيجابي وتصحيح مسيرة المجتمع وصناعة وعي وازن، وهو ما يتطلب انفتاح اجتماعي وعلى كافة المستويات والآفاق وخلق مشتركات يمكن من خلالها إيجاد أرضيات تعاون مع كافة فئات المجتمع ومكوناته.

– غلبة أصالة المجتمع على الفرد وهي مس اشتراكي غير مباشر في الوعي والسلوك، حيث تقدم مصلحة الجماعة على المصالح الطبيعية للفرد، ويغلب العقل الجمعي على قاعدة ” خيركم من جمع العقول لعقله” وهي قاعدة تعمد إلى الاهتمام بكل العقول الناهضة والفاعلة وجمعها لتحدث توازنا في الرأي والفكرة وبالتالي في الرؤية والسلوك والعمل. هذه الغلبة تكون نسبية، فغلبة أصالة المجتمع تكون في العمل والتنفيذ، وغلبة أصالة الفرد على المجتمع تكون في القيادة ووضع الخطط والاستراتيجيات، حيث يتصدى أفراد دون انتخابهم وإنما لمجرد الأقدمية غالبا يتصدون لوضع الخطط والاستراتيجيات في كافة المجالات.

بينما الإسلام وازن بين الأصالتين، وكانت العدالة حاكمة بينهما بحيث في مواقف قدم إحداهما على الأخرى بما يحقق التوازن ومصلحة المجتمع العامة، وهو ما يجب أن تعيه الحركات الرسالية وتضع خططها وفقه.

– تهميش المرأة وحصر عملها في التنفيذ، وعدم وجودها في مراكز القرار والتخطيط، هذا فضلا عن عدم الدفع باتجاه ارتقاء خطابها المنبري لمعطيات الزمان والمكان وحصره في دائرة ضيقة مكانيا وزمانيا ومذهبته، ليكون مقتصرا على فئة، وعدم مواكبته لأهم الإشكاليات التي تواجه المرأة في المجتمع على كافة المستويات، هذا الحصر هو نوع من العلمنة في عزل الحراك التبليغي عن باقي المجتمع ومرافق الدولة المختلفة نتيجة مذهبة الخطاب وعدم تحويله لخطاب عالمي.

– ومن مظاهر المس العلماني في أغلب الحركات الرسالية هو ديننة الخطابات والدعوات وبأساليب قديمة، وما أعنيه بالديننة هو الخطاب الوعظي وغير المواكب لمتطلبات العصر وأهم الإشكاليات التي تعاني منها المجتمعات، وحصره في إطار ضيق من الدين نتيجة فهم ضيق للنصوص، واقصائه عن حاجات الناس وقضايا المجتمع وراهن العالم وتطورات الحدث، بذلك يكون تم تقليص الفهم الديني إلى إطار ضيق لا يهتم إلا بجانب من جوانب حاجات الإنسان وجانب من حاجات الروح.

– هناك تهميش للقيم والمبادئ والأخلاق غالبا في كيفية التعاطي بين الإنسان وأخيه الإنسان، ومن أبرز المصاديق هو الإسقاط الاجتماعي للشخص الذي يختلف مع الجهة المنتمي إليها، سواء اختلاف في وجهات النظر وقيامه بالنقد والتقييم، أو اختلافه مع آليات العمل ومنهجياته ومحاولته للإصلاح والتصحيح الذي غالبا يجابه بالرفض والإقصاء وينتهي بالتسقيط الإجتماعي.

وهو سلوك شبيه بحملات الوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها دول الاستكبار، بحيث تعمد إلى تزوير الحقيقة وتسقيط الجهات المناوئة لتلك الدول، فهو سلوك استكباري علماني يفصل مساره عن القيم الدينية والأخلاقية.

هذا المس العلماني والاشتراكي لكثير من منهج وسلوك الحراك الرسالي في كثير من المجتمعات هو نتيجة غياب الدراسات الفاعلة حول رؤية الإسلام للعمل الرسالي والإدارة، أو وجود دراسات لكن كثير من الجماعات الرسالية يغيب عن منهج عملها التنظير والتخطيط الاستراتيجي والمرحلي، ولا يوجد لديها غالبا مطابخ فكرية تعمل على رسم الخطط ودراسة الواقع ومعطياته، والخروج برؤية شرعية منهجية وفكرية كاملة.

 

خلاصة:

إن المطلوب اليوم في ظل ترهل كثير من التيارات الرسالية الإسلامية وتراجعها في مواكبة المجتمع ومتطلبات الجيل الشاب، هو نهضة شاملة قادرة على تقديم مشروع رسالي تغييري تدريجي وليس دفعي، تحكمه قوانين السماء ومنظومة قيم ومعايير أخلاقية وإنسانية، يضع للكفاءة أولوية، و التخطيط والمنهجية خيارات ناجعة، ويضم في حساباته الجيل الشاب والمرأة.

خاصة أن العولمة استطاعت أن تقدم بدائل جذابة وجاذبة وتلبي طموحات الشباب، وأن وجود هذا الكم من الخلل في العمل الرسالي خاصة القيمي والمعياري والمنهجي، هو ثغرة تدفع لتسرب الأجيال من التدين وهروبها من الدين لا لأنها ترفضه، بل لأن من تصدى لنشر الدين عمليا لم يكن أهلا أو لم يكن مؤهلا وقادرا على المواءمة والمواكبة وسد الثغرات.

إن جاذبية الدين للإنسان فطرية، لكن عملانيا نحتاج تطبيق هذه الجاذبية وتنزيلها للواقع، لنجد الناس تدخل إلى دين الله أفواجا، لا دين الرموز والقادة، وهو ما يتطلب قيادات وعاملين ربانيين يتخلصون من الأنا و يجعلون همهم رضا الله، فلا يكونوا قطاع طرق عن الله بل جسورا إليه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً