أحدث المقالات
مقدّمة
كان للإسلاميّين دورٌ بارزٌ في الثّورة اللّيبيّة منذ انطلاقتها في 17 شباط / فبراير 2011؛  فقد تجنّدوا كمقاتلين عسكريّين وشاركوا بفعاليّة في مصراتة ومعركة تحرير طرابلس ثم تحرير سرت واعتقال القذّافي وقتله.
لقد كانت الحركةُ الإسلاميّةُ في ليبيا بتيّاراتها وأجنحتها المختلفة، مجهولةً بالنسبة إلى غير اللّيبيّين أو غير المُختَصِّينَ في الشّأن الليبيّ، نتيجة القمع والتّعتيم الإعلاميّ لنظام القذّافي من جهة، وضعف هذه الحركة ولجوئها إلى العمل السّريّ من جهة أخرى.
ومن المفيد جدا في هذا السياق العودة إلى كتاب الباحث الليبيّ محمود النّاكوع "الحركاتُ الإسلاميّةُ الحديثةُ في ليبيا: منطلقاتُها، قياداتُها، تجارِبُها، مآلاتُها"، الصّادر عام 2010، أي قبل أشهرٍ من اندلاع الثّورة، للتعرف على هذه الحركات الإسلاميّة ومنطلقاتِها وتَجارِبِها.
ولا يهدِف هذا الكتابُ – كما يقول المؤلّف – إلى التّوسّع في منطلقات وتراث الحركات والجماعات والأحزاب الإسلاميّة الأمّ أو الأصليّة، ولكنّه يهدِف إلى التّعريف الموجز بالفروع التي نشأت في ليبيا، وهي فروعٌ محدودةُ الإبداع والعطاء الفكريّ، فهو لم يَعثُر على كتبٍ أو مجلّاتٍ ولا حتّى صُحفٍ صدرت عنها، فقد ضُيّق عليها في عهد القذّافي، ولم يُسمح بنشر أيّ تراث لها، حتّى لو كان تاريخيًّا قديمًا.
وكان النّظام الليبيّ بشوكته الأمنيّة العسكريّة، وبقدراته الماليّة، وبعلاقاته الدّولِيّة قد انتصر على تلك الجماعات الصغيرة عددًا وعُدَّةً، وهو انتصارٌ فرضته ملابساتٌ وظروفٌ عِدَّةٌ، هي من طبيعة ليبيا جغرافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
وعلى الرّغم من ذلك الانتصار المادّيّ للسّلطة ومؤسّساتها، فإنّه بقي انتصارًا محدودًا؛ فهناك مسائلُ لا يُمكن أن تُقمع بأدواتها، وهي العقائدُ والأفكارُ. فمهما بلغت قوّة الدّولة وأجهزتها من "السّجون، وأدوات التّعذيب والقتل وهدم البيوت"، فإنّها لن تستطيع تغيير القناعات الدينيّة أو الفكريّة كما أثبتت تجارِبُ التّاريخ الإنسانيّ. وهذا ما يشير إليه الكاتب في تقديمه للكتاب (الصفحة الخلفية من الغلاف) قائلا: "إنَّ كلّ عقيدةٍ صحيحةِ المنطلقات، ومنسجمةٍ مع الفِطرة الإنسانيّة، وقابلةٍ عقليًّا للحوار، كانت هي المنتصرة في نهاية مسار الصّراع"، فكلّ فكر دينيٍّ أو بشريٍّ محض، قام على أُسسٍ من أنساقٍ عقليّةٍ وروحيّةٍ وأخلاقيّةٍ، لا يُمكن أن يُهزم بأدواتٍ مادّيّةٍ صمّاء.
ويرى النّاكوع أنّه إذا استطاعت الحركات الإسلاميّة أن تُراجع فكرها وعملها مراجعةً سليمةً، وفي وضعٍ لا ضغوطَ فيه، عندها ستكون العِبَرُ مُثمرةً، وذاتَ جدوى، بل وذاتَ مستقبل.
ولا شكّ في أنّ جميع الحركات، والجماعات الإسلاميّة التي خاضت تجرِبة التّنظيم والعمل، ودخل بعضُها في صراعٍ ضدّ السّلطة، كانت متأثّرةً بما يجري في البلاد من تحوّلات ثقافيّةٍ وسياسيّةٍ صاحبتها أعمال عُنفٍ وصداماتٌ داميةٌ في الجامعات وخارجها (قبل ثورة 17 فبراير)، كما كانت متأثّرةً بما كان يجري في المحيط الجغرافيّ العربيّ والإسلاميّ.  
وقبل أن يتناول الكتاب الحركات الإسلامية الحديثة تاريخًا وفكرًا وممارسةً، استعرض بإيجاز الوضع السياسيّ في البلاد، وبالتّحديد منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية، وحتّى الإعلان عن الاستقلال. فقد نالت ليبيا استقلالها في 24 كانون الأول / ديسمبر 1951 بعد كفاح عسكريّ وسياسيّ دام نحو أربعين عامًا (1911-1951)، وجاء الاستقلال ثمرة التّضحيات التي قُدّرت بأكثر من نصف مليون ليبيّ.
ويذكر الشيخ الطّاهر الزّاويّ أنّ بعض هؤلاء، استُشهدوا في ميادين الجهاد والصراع ضدّ الغزاة الطّليان، وبعضهم ماتوا من جرّاء مضاعفات الحرب ومنها: المعتقلات والهجرات والمجاعات والأمراض التي كانت تفتك بالنّاس دون أيّ عناية من الدّولة المُحتلّة، ودون وجود أيّ مساعدات إنسانيّة، لا من داخل الوطن الذي كان سكّانه يعانون من الفقر والجهل، ولا من جهات أخرى.
وعندما خسرت إيطاليا الحرب العالميّة الثّانية، وانسحبت قواتها من ليبيا عام 1943، أصبحت البلاد تحت حكم الإدارة العسكريّة البريطانيّة باستثناء المناطق الجنوبيّة (فزّان)، الّتي أصبحت تحت سيطرة القوّات العسكريّة الفرنسيّة. وقد أنشأ الإنجليز إدارةً عسكريّةً مؤقّتةً في المِنطقة الشّماليّة في كلٍّ من برقة وطرابلس، وكلّ واحدة منهما منفصلة عن الأخرى انفصالًا تامًّا، بينما خضعت المنطقة الجنوبيّة لحكم الفرنسيّين الذين أنشأوا بدورهم إدارةً عسكريّةً فيها، باعتبار أنّ الفرنسيّين هم الّذين قاموا بالعمليّات العسكريّة الّتي أخرجت الطّليان وحلفاءهم من هذه المِنطقة.
وخلال هذه المرحلة -أي ما بين 1943 و1951- كانت البلاد وقياداتها الوطنيّة تخوض المعركة السياسيّة لنيل الاستقلال، وكانت أجواءُ ما بعد الحرب العالميّة الثّانية تبدو مُناسِبَةً لتصعيد العمل السياسيّ وطنيًّا وعربيًّا ودوليًّا، وأعطت بريطانيا الضّوء الأخضر للقيادات السّياسيّة والثّقافيّة لإطلاق نشاطاتها، وبدأ مُناخٌ جديدٌ يختلف تمامًا عن أجواء الاحتلال الإيطاليّ وما جرّه من عذاب ودمار. وحتّى منتصف عام 1943، بدأ الحَراك العمليّ في تأسيس النّوادي الثّقافيّة، ثمّ الأحزاب السياسيّة، وقد بلغ عددُها خلال بضع سنوات أكثر من عشرة أحزاب سياسيّة منها:
  • – الحزب الوطنيّ بقيادة أحمد الفقيه حسن عام 1944.
  • – الجبهة الوطنيّة المتّحدة بقيادة سالم المنتصر عام 1946.
  • – حزب الكتلة الوطنيّة بقيادة علي الفقيه حسن وأخيه أحمد وعناصر أخرى انشقّت عن الحزب الوطنيّ.
  • – جمعيّة عمر المختار برئاسة خليل الكوافي عام 1943.
  • – الجبهة الوطنية برعاية السّيّد ادريس السّنوسي عام 1946.
  • – حزب المؤتمر الوطنيّ بزعامة بشير السّعداوي في يوليو 1949.
كما تأسّست أحزاب وجمعيّات صغيرة أخرى.
وكانت تلك الأحزاب والجمعيّات، وقياداتها كثيرة الاختلاف والتقلّبات، وتعكس المِزاج الثّقافيّ السّياسيّ الّذي لم تكن له أيّ خبرة سابقة في هذا المجال، وهو أمر طبيعيّ تمرّ به كلّ التّجارب الحزبيّة، خاصّة في مثل تلك الظروف الصّعبة.
المهمّ أنّ تلك المرحلة بكل ما فيها من سلبيّات وصراعات، أعدّت القيادات والجماعات السّياسيّة لمواصلةِ عمليّة الكفاح السياسيّ على المستوى الإقليميّ والدّوليّ، وتمكّنت مع عوامل خارجيّة أن تُحقّق هدفها، وهو انتزاع الاستقلال بقرار من الأمم المتّحدة، فأصبحت ليبيا، أوّل مرّة في التّاريخ، دولةً مستقلّةً، لها دستورها ومؤسساتها التّشريعيّة، بنظامٍ ملكيٍّ اتّحاديٍّ. ونُصّب محمد إدريس السّنوسي، حفيد المصلح الإسلاميّ محمد علي السّنوسي ( 1787-1859) مَلِكًا عليها.
 وإنَّ الدّارس لتلك المراحل من تاريخ ليبيا السّياسيّ، يلاحظ أنّ الوطنيّة هي البعدُ الثّقافيُّ الّذي أفرز كلّ النّشاطات والأحزاب، وأنّ الإسلام كان مصدرًا أساسيًّا في إلهام تلك التّيّارات الوطنيّة معاني الكفاح والثّبات والاستشهاد، خاصّة وأنّ الأمير إدريس، الزّعيم الرّوحي لذلك الحَراك، ينتسب إلى حركة إسلاميّة إصلاحيّة، هي الحركة السّنوسيّة.
الحالة السّياسيّة في البلاد قبيل الاستقلال
وقد تأخر ظهور الحركات الإسلاميّة، ولم تفرز المراحل السابقة لعام 1952 أيّ حركة أو تنظيم، أو حزب يُسمّى أو يستمدّ من الإسلام صفته السّياسيّة. وفي 19 شُباط / فبراير من عام 1952 تمّ تنظيم أوّل انتخابات نيابيّة في ليبيا، لكنَّ حزب المؤتمر شكّك في نزاهتها، ووقعت في أثنائها صدامات وأعمال عنف بين الشّرطة والمواطنين، أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى في المدن السّاحليّة في ولاية طرابلس، كما جرى اعتقال عدد كبير من أنصار حزب المؤتمر. وبسبب تلك الأحداث، تغيّرت الأوضاع السّياسيّة تغيّرًا دراميًّا، أدّى إلى نتائج سلبيّة، حيث أعلنت حكومة محمود المنتصر حالة الطوارئ، واعتُقل بشير السّعداوي، ثم جرى إبعادُه إلى خارج البلاد للتخلّص من وجوده كزعيم معارض طموح، وحُلّ حزبه الذي كان أكبر الأحزاب، ثم أُلغيت فكرة الأحزاب في كلّ البلاد وحُلّت جميعُها، لأنّ السّلطة الحاكمة؛ بحسب رأي مجيد خدوري، لم تكن تنظر بارتياح إلى النّظام الحزبيّ.
أدّى منع تشكيل الأحزاب بصورة قانونيّة وعلنيّة إلى خيار العمل السّرّيّ، ومن هنا كانت بدايات الحركات الإسلاميّة، وغيرها من الحركات القوميّة واليساريّة، وهو الذي سيقودها جميعًا إلى صراعات ومواجهات مع السُلطة الحاكمة.
وسوف تتّجه مآلات هذه الأحزاب التّنظيميّة إلى أوضاع في غاية الصّعوبة، وستنتهى قياداتها وعدد كبير من أعضائها إلى السّجون والقتل في الدّاخل، أو إلى الهروب والهجرة إلى خارج الوطن، وبعضها سيتوقّف عن النّشاط توقّفًا كاملًا في داخل البلاد وخارجها.
وعلى الرّغم من ضياع فرصة نظام الأحزاب في العهد الملكيّ وحكوماته المتعاقبة، ولجوء التّيّارات المُسيّسة إلى العمل السّريّ، إلّا أنّ النّظام الملكيّ تعامل معها بشيءٍ من التّسامح والأحكام المُخفّفة لمن تم اعتقالهم، مثل البعثيّين والقوميّين العرب؛ بينما اختلف الأمر بشدّة في عهد معمّر القذّافي، حيث أصبحت الحزبيّةُ جريمةً عقوبتُها الموت. وعلى الرّغم من ذلك، لم تتوقّف التّنظيمات السّرّيّة، بل  تضاعف عددُها، وهو ما يبحث فيه هذا الكتاب.
ظهور الإخوان المسلمين في ليبيا
يقسم الكاتب تاريخ حركة الإخوان المسلمين في ليبيا إلى ثلاث مراحل، كانت انطلاقة المرحلة الأولى منها في أواخر العَقد الرّابع من القرن العشرين، والتي يُمكن وصفُها بأنّها مرحلة التّعريف بالمنطلقات والأفكار العامّة للجماعة والدّعوة لنشرها، والعمل من أجل استقطاب الأنصار في أوساط الشّباب.
ومن أهمّ أسباب وصول فكر الإخوان إلى ليبيا -وخاصةً إلى مدينة بنغازي- قدوم ثلاثةٍ من الشّبّان المصريّين من جماعة الإخوان من مصر إلى ليبيا، وهم عز الدّين إبراهيم، ومحمود الشّربيني، وجلال سعدة، الّذين هربوا بسبب الاتّهامات الّتي وُجّهت إلى عدد من الإخوان في حادثة اغتيال النقراشي رئيس الحكومة المصريّة عام 1949.
واحتضنت مدينة بنغازي هؤلاء الشُّبّان، بعد إصرار الأمير إدريس على رفض تسليمهم للسّلطات المصريّة، واستطاع أحدُهم وهو الأستاذ عزّ الدّين إبراهيم من خلال التّدريس في المدارس اللّيليّة، ومن خلال العلاقات التي أقامها مع النّاس، أن يعطى صورة جيّدة عن الإخوان ودعوتهم، ونتيجة ذلك؛ انتمى عددٌ من الشّبان اللّيبيّين إلى الجماعة. وإلى جانب هؤلاء الشُّبّان الثلاثة الفارين، كان لبعض المُدرّسين المصريّين من الإخوان المسلمين، تأثيرهم في تلك المرحلة في ليبيا.
يذكر عبد الله أبوسن، أحد شخصيّات الإخوان في ليبيا، في مقابلة مع مجلّة المجتمع الكويتيّة، العدد 1054 "أنّ حركة الإخوان بدأت في ليبيا في أواخر أربعينيّات القرن العشرين، على أيدى مجموعة من المُدرّسين المصريّين المُنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك بعض الإخوان الّذين لجأوا إلى ليبيا، وعلى رأسهم الأستاذ الدّكتور عزّ الدّين إبراهيم".
كانت الانطلاقة الأولى في ولاية طرابلس بعيد الاستقلال، حيث جاء إلى البلاد عددٌ كبيرٌ من المدرّسين المصريّين للتّدريس في المدارس الإعداديّة والثّانويّة وفي المعاهد، وكان بعضهم من الإخوان أو من المتعاطفين مع الإخوان، كما رجع إلى البلاد عددٌ من اللّيبيّين الّذين درسوا في مصر، أو كانوا مهاجرين في مصر، وتأثّروا هناك بدعوة الإخوان، وبعضُهم شارك معهم في حرب فلسطين عام 1948.
أمّا المُنطلقاتُ الفكريّةُ الّتي قامت عليها الحركةُ في ليبيا، فهي المنطلقاتُ ذاتُها الّتي وضعها مؤسّسها في مصر الإمام حسن البنّا عام 1929، والّتي ركّزت -في بدايات دعوته- على الأخلاق والتّعليم وبناء الفرد المسلم بناء سليمًا.
وفى رسالة المؤتمر الخامس، تبدو شموليّةُ فكره واضحةَ المعالم.. يقول حسن البنّا: "فكرةُ الإخوان المسلمين تضمّ كلّ المعاني الإصلاحيّة، فهي دعوةٌ سلفيّةٌ؛ لأنّهم (أي الإخوان) يدعون إلى العودة بالإسلام إلى مَعينه الصّافي من كتاب الله وسُنّة رسوله. وطريقةٌ سُنّيّةٌ؛ لأنّهم يحملون أنفسهم على العمل بالسُّنّة المطهّرة في كلّ شيء، وبخاصّةٍ في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا. وحقيقةٌ صوفيّةٌ؛ لأنّهم يعلمون أنّ أساسَ الخير طهارةُ النفسِ، ونقاءُ القلبِ، والمواظبةُ على العملِ، والحبُّ في الله، والارتباطُ على الخير. وهيئةٌ سياسيّةٌ؛ لأنّهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل، وتعديلِ النّظر في صلة الأمّة الإسلاميّة بغيرها من الأمم في الخارج، وتربيةِ الشّعب على العِزّة والكرامة والحرص على قوميّته إلى أبعد حدٍّ. وهي جماعةٌ رياضيّةٌ؛ ورابطةٌ علميّةٌ ثقافيّةٌ؛ وشِركةٌ اقتصاديّةٌ؛ وفكرةٌ اجتماعيّةٌ".
بهذه الشموليّة تحدّث دُعاة حركة الإخوان في ليبيا إلى الشّباب لجذبهم نحو تيّارهم الّذي كان يَشُقُّ طريقه بصعوبة، خاصّة بعد قيام الثّورة المصريّة عام 1952، وحلّها لكلّ الأحزاب أوّلًا، ثمّ حلّها لجماعة الإخوان.. بعد أن تباينت السّياسات والأهداف بين قيادة الثّورة وقيادة الإخوان.
وبسبب ذلك الصدام الدّامي بين الإخوان في مصر وعبد الناصر، جاء إلى ليبيا في العهد الملكيّ عددٌ من الشّخصيّات الإخوانيّة، ومن هؤلاء: الدّكتور محمود أبو السّعود؛ وهو اقتصاديٌّ معروفٌ، والدّكتور مصطفى مؤمن؛ وهو مهندسٌ مِعماريٌّ مشهورٌ، والمهندس يوسف ندى؛ رجلُ الأعمال المعروف، والمهندس عمر الشّاوي. وكانوا يمارسون أعمالًا مِهنيّةً في مجالاتٍ تتناسبُ مع قُدراتهم.
وسط تلك الخلافات والصّراعات، وفى أجوائها الصّاخبة في مصر؛ حيث الحملات الإعلاميّة، وحيث الاعتقالات، ثمّ الإعدامات التي طالت عددًا من قيادات الإخوان، كانت ليبيا ما زالت تستقبل الكثير من المُدرّسين المصريّين للعمل في مدارسها ومعاهدها؛ ومنهم من يحملون دعوة الإخوان، دون الجهر بانتمائهم إلّا لمن يثقون به ثقة كاملة.
وفى العَقدين الخامس والسّادس من القرن الماضي -وبرغم الظّروف الصّعبة نِسبيًّا- نشأ تيّار الإخوان في ليبيا، وأصبح عددُ المنتمين إليه والمتعاطفين معهم يُقدّر بالمئات، وذلك برغم قانون تجريم الأحزاب، وبرغم المناوشات والهجمات الكلاميّة الّتي كان يقوم بها التيّار النّاصريّ في ليبيا ضدّ الإخوان بصورة عامّة، وهو التّيّار الأوسع شعبيّةً نتيجةَ تأثير خُطب عبد النّاصر وإعلامه.
في تلك المرحلة‘ لم يتبلور عملُ الإخوان في ليبيا في شكلِ تنظيمٍ له تَصوُّراتُه النّظريّة، وله أُطُرُهُ التّنظيميّة، وله قياداتُه المختارةُ اختيارًا مباشرًا من قاعدةٍ مُنتَظِمَةٍ على أُسسٍ انتخابيّةٍ متعارفٌ عليها. وربّما وُجدت بعضُ الأسر كوُحداتٍ تنظيميّةٍ لأغراضٍ تعليميّةٍ تربويّةٍ، ولكنها لم تَرقَ إلى أيّ مستوًى من مُستويات التّنظيمات الحزبيّة.
وقد تأثّر بمدرسة الإخوان العشراتُ من الشّخصيّات الليبيّة الّذين عُرفوا بمكانتهم السّياسيّة أو العلميّة أو الاجتماعيّة طَوال الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي؛ ومنهم من تولّى مراكزَ مرموقةً في مؤسّسات الدّولة.
وقد حافظ تيّارُ الإخوان -خلال تلك المراحل المتوتّرة سياسيًّا- على حضورٍ ملموسٍ، بفضل عددٍ من رموزه الّتي كانت تعملُ في المعاهد المتوسّطة، مثل معهد مالك بن أنس، وفي المدارس الإعداديّة والثّانويّة المنتشرة في كلّ البلاد، وفى كليّات الجامعة اللّيبيّة، وفي جامعة محمد بن علي السنوسيّ الإسلاميّة. كما كان لتلك الرّموز نشاط مهم من منابر المساجد في عددٍ من المدن اللّيبيّة ومنها: طرابلس، بنغازي، الزّاوية، البيضاء، درنه، مصراته، غريان، نالوت. ومن تلك الرّموز: الشّيخ فتح الله محمد أحواص، وهو أشهرُ خطيب إسلاميٍّ آنذاك، والشّيخ محمّد كريدان. وعمرو النّامي، الذي كان له نشاط في نالوت مع الأستاذ المربّي الشّيخ علي يحي معمر، ومن الرّموز الإخوانيّة في بنغازي، والتي كانت تمارس الخطابة، وإلقاء الدّروس، عبد الكريم الجهاني وادريس ماضي.
ومن المهم التّأكيد على دور الكتب والمجلّات الإسلاميّة، والتي انتجتها أقلام إخوانيّة ومنها كتب سيّد قطب. ومن المجلّات: مجلّة "المسلمون" ورئيس تحريرها سعيد رمضان، وكتاب الحضارة الإسلاميّة لمصطفى السّباعي، وكذلك كتب محمد قطب، وكتابات العلّامة الهندي أبو الحسن الندوي، والشّيخ محمّد الغزالي، وغيرهم.
ومن الشّخصيّات الإسلاميّة البارزة التي كانت على صِلةٍ بالإخوان في طرابلس، الدّكتور أحمد صدقي الدجاني، بل إنّ البعض كان يعتبره من الإخوان. وهو شخصيّةٌ لها نشاطُها الفكريّ المنتظمُ عبرَ المحاضرات العامّة، والأحاديث الإذاعيّة، والمقالات الصحفيّة.
الإخوان المسلمون: المرحلة الثانية
ألحقت إسرائيل خلال حرب حزيران / يونيو 1967 هزائم فادحة بعدد من الجيوش العربيّة، وخاصّةً الجيش المصريّ، ما أحدث ردود أفعال كبيرة لدى كلّ المستويات الشعبيّة في الوطن العربيّ، وخاصّةً على مستوى الأحزاب والحركات، ومنها التّيّارات والحركات الإسلاميّة.
وفي ليبيا، وبعد الحرب بشهور قليلة، بادرت مجموعة من الشخصيّات المنتمية فكريًّا إلى مدرسة الإخوان، ببحث إمكانيّة إنشاء تنظيمٍ يجمع أكبر عدد من الأشخاص المقتنعين بأفكارهم، وانتهت المشاورات والاتّصالات إلى عقد سلسلة من الاجتماعات في شقة محمد رمضان هويسة في منطقة زاوية الدّهماني في طرابلس. وكان هويسة الذي ينحدر من أسرة معروفة لها مكانتها الاجتماعيّة يعمل في التّجارة والمقاولات، وانتمى إلى الإخوان مذ كان طالبًا في الثّانويّة، وكان شديد الحماسة للجماعة وتاريخها وجهادها، فلم يُخفِ انتماءه إليها، وخاصّةً عندما كان يدرُس بجامعة بنغازي في أوائل ستينيّات القرن الماضي.
انتهت سلسلة الاجتماعات تلك، إلى الاتّفاق على تأسيس تنظيمٍ للإخوان في طرابلس، وضمّت لجنته القياديّة الشيخ فتح الله محمد أحواص (الذي كان يُعرف بالشّيخ فاتح أحواص): رئيسًا للتّنظيم، ومحمد رمضان هويسة: مسؤولًا للعلاقات الخارجيّة، ومحمود محمّد النّاكوع: مسؤولًا عن شؤون التّنظيم، وعمرو خليفة النّامي: مسؤولًا عن النّشاط الجامعيّ، ومختار ناصف: مسؤولًا عن الشّؤون المالية.
وبرزت هذه اللّجنة بحكم نشاطها وحضورها الفكريّ والاجتماعي وتاريخها في تَيّار الإخوان، ولم تكن مُختارةً أو مُنتخبةً من مجموع الأعضاء بصورة مباشرة، بل كانت موضع قَبولٍ بحكم المنزلة والقدرة والثّقة، ولم تَعرف تلك التّجرِبة ما يُسمّى عند الإخوان بالبيعة. ونظرًا لسِرّيّةِ العمل، فلم تَكتب المجموعةُ أيّ نظامٍ أساسيٍّ، أو ميثاقٍ، أو بيان.
في غضون ذلك، كان لإخوان بنغازي تنظيمٌ مُشابِهٌ، وكان من قياداته: عبد الكريم الجهاني، ادريس ماضي، مصطفى الجهاني، محمد الصلابي، صالح الغول وآخرون، وقد وُجدت علاقاتٌ تنسيقيّةٌ لتبادل الآراء والمعلومات حول النّشاط العامّ بسرّيّةٍ تامّةٍ، مُستغلّةً الهامش الذي أتاحه النّظام؛ وكان في ذلك متّسعٌ للنّشاط الثقافيّ وإلقاء الخطب.. وإن كانت سياسيّة. وطَوالَ العهد الملكيّ 1952 – 1969، لم تعتقل السّلطات أعضاء تلك التّجارب التّنظيميّة الإخوانيّة؛ لا في طرابلس ولا في بنغازي. ولكن الجميع كانوا تحت رقابة الأجهزة الأمنيّة.
ظلّت تلك المحاولةُ مقتصرةً في نشاطها على تنظيم بعض اللّقاءات لمجموعة الأُسَر، الّتي لا يتجاوز عددُ أعضائها الأربعين؛ وهؤلاء هم كلّ أعضاء التّنظيم في طرابلس وما حولَها من مدن في غرب البلاد، ولكنّ العشرات من قُدامى الإخوان لم ينضمّوا إلى المحاولة المذكورة لأسبابٍ متعدّدة.
تلك التجرِبة التّنظيميّة استمرّت نحو عام، ثمّ توقّف النّشاط تلقائيًّا، حيث انقطع كثيرون عن حضور لقاءات الأُسَر، وهي لقاءاتٌ روتينيّةٌ رتيبةٌ، تدور جلساتُها حولَ قراءةٍ في موضوعٍ تثقيفيٍّ في التّفسير، أو الحديث، أو التّاريخ. ولم يكن هناك أيّ نشاط سياسيٍّ أو صحافيٍّ يدفع إلى الحَراك بحيويّة، فلم تكن لدى الإخوان وقتها رؤيةٌ سياسيّةٌ واضحةٌ ومبرمجةٌ للتّعامل اليوميّ أو المرحليّ مع الواقع السّياسيّ والتّوقّعات المستقبليّة، واقتصرت بالإضافة إلى نشاطها الدّعَوِيِّ، على معارضة الفساد الّذي كان محدودًا، ومعارضةِ وجود القواعد الأجنبيّة، وذلك من خلال الخُطَب، وبعض الكتابات الصحافيّة.
وخشى الإخوان وقوع انقلاب عسكريّ، يضع البلاد في مَهبّ الرّياح العاصفة، ويكرّر في ليبيا ما حدث في المشرق العربيّ، حيث كانت الحركات الإسلاميّة -وخاصّةً الإخوان- ضحيةَ تلك الانقلابات. وكانت سرّيّة العمل من أهمّ معوّقات نموّ جماعة الإخوان نموًّا مناسبًا، كما كان الحال بالنّسبة للتّنظيمات الأخرى.
وعندما وقع الانقلاب العسكريّ بقيادة الضّبّاط الوَحدويّين في الأوّل من أيلول / سبتمبر 1969، والّذي أنهى النّظام الملكيّ، لم يكن هناك وجودٌ فعليٌّ للتّجرِبة التّنظيميّة الإخوانيّة، ولم يتمّ حلّها بصورة حاسمة من قِبَلِ اللّجنة القياديّة للانقلاب، وعبر مِلَفّات الأمن الموجودة لدى النّظام الملكيّ، والّتي تضمّنت قائمةً بأسماء العناصر الإخوانيّة النّشطة والمعروفة بحضورها الثقافيّ أو الصحافيّ أو الجامعيّ، جرى اعتقالُ نحو ثلاثين شخصًا من طرابلس في نيسان / ابريل عام 1973، أثناء الإعلان عمّا سُمّيَ رسميًّا بالثّورة الثّقافيّة والإداريّة، كان في مقدّمتهم اللّجنة القياديّة (يسمّيها البعض، الأسرة القياديّة).
واستمرّ الاعتقال لفتراتٍ متعدّدة، كان أقصاها حوالَى واحد وعشرين شهرًا، وبرغم البدء في إجراءات محاكمة تلك المجموعة، إلّا أنّ المحاكمة توقّفت بأمرٍ سياسيٍّ، وأُفرج عن الجميع، إثر خطابٍ للعقيد القذّافي رئيس مجلس قيادة الثّورة، قال فيه: إنّه إذا أراد الإخوان العمل للإسلام، فعليهم أن يعملوا له خارج ليبيا، وأن يتّجهوا إلى جمعيّة الدّعوة الإسلاميّة، ويهتمّوا بنشر الإسلام في إفريقيا وآسيا.
وفور الإفراج عنهم، طلبت الأجهزة الأمنيّة من عددٍ من الشّخصيّات، الاتّصال بجمعيّة الدّعوة في طرابلس، تنفيذًا لقرار القذّافي، وطلبت من عمرو النّامي أن يسافر للعمل خارج البلاد، وبذلك انتهى نشاط حركة الإخوان في ليبيا، وأصبحت محظورةً مثل كلّ الأحزاب الأخرى.
الإخوان المسلمون: المرحلة الثالثة
في أواخر العَقد السّابع، وأوائل العَقد الثّامن من القرن العشرين، انتشرت ظاهرة ما بات يُسَمَّى بالصّحوة الإسلاميّة، خاصةً بعد نجاح الثّورة الإسلاميّة في ايران عام 1979. وقد عجّت أوروبّا الغربيّة، والولايات المتّحدة، وكندا، بنشاط الشّباب المسلم، متمثّلًا في المؤتمرات، والنّدوات، والمخيّمات، والمنشورات، والتّظاهرات، ومن بينهم الآلافُ من الشّباب اللّيبيّ الّذين يدرسون في تلك البلدان الغربيّة، ويشاهدون ذلك الحَراك الإسلاميّ العامّ، ويتفاعلُ بعضُهم تفاعُلًا إيجابيًّا مع مدّه.
وقد كان أعضاء الإخوان المسلمين من البلدان العربيّة على اتّصالٍ مباشرٍ ونشطٍ في كلّ السّاحات الأوروبيّة والأميركيّة؛ وفي تلك الأجواء، انجذب كثيرٌ من الشّباب اللّيبيّ إليهم، وشاركهم في نشاطاتهم الثّقافيّة التّربويّة، وفي لقاءاتهم العامّة، ولاحقًا أسّس الشّباب اللّيبيّ في الولايات المُتّحدة أوّل تنظيمٍ للإخوان خارجَ البلاد، أطلقوا عليه اسم "الجماعة الإسلاميّة – ليبيا"؛ كان من قيادات تلك الجماعة عبد الله الشيباني وآخرون، وضمّت مجموعةً من أصحاب المؤهّلات العلميّة الّذين لم يُعلَن عن أسمائهم، وأصدرت الجماعةُ مجلّةً ناطقةً باسمها، تحت عنوان "المسلم"، والّتي صدر عددُها الأوّل في أيلول / سبتمبر 1980.
وعندما تأسّست الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا عام 1981، بمبادرة من مجموعةٍ من الشّخصيّات الإسلاميّة، انضمّ عددٌ من أعضاء الجماعة الإسلاميّة إليها، وكوّنوا مع عناصر أخرى تيّارًا مُهِمًّا داخلَها؛ وكان أحمد أحواس، أكثر قيادات الجبهة حماسةً واهتمامًا بذلك التّيّار، وظلّت الجماعةُ قائمةً بتواصُلَ نشاطِها.
وقد عاد عددٌ كبيرٌ من أعضاء الإخوان مطلعَ الثّمانينيّات إلى ليبيا بعد أن أكملوا دراساتهم العليا، ليستأنفوا سِرّيًّا تنظيم الإخوان، ومن بين الشخصيات التي شاركت في إحياء النّشاط الإخواني في تلك المرحلة: عماد البناني، عبد المنعم المجراب، الأمين بلحاج، عبد المجيد بروين. ومن العناصر السابقة، انضمّ كُلٌّ من إدريس ماضي ومصطفى الجهاني؛ وهذان انضمّا -في ما بعد- إلى حركة التّجمّع الإسلامي.
تُعتبر تلك؛ المحاولةَ التّنظيميّةَ الأولى من نوعها، التي تجمع قيادة وأعضاء كلّ حركة الإخوان في جميع أنحاء ليبيا. لقد تمّ ذلك عام 1987، وفي عام 1991، طوّرت المجموعة القياديّة أسلوبها في اختيار القيادات، وأجرت انتخاباتٍ لاختيار مجلسٍ للشّورى، يُنتخب أحدُ أعضائه مُراقبًا عامًّا.
لقد كانت القبضة الأمنيّة الحكوميّة في تلك الظروف بالغةَ الشّدّة، إذ لم يكن هنالك مجالٌ لأيّ نشاٍط سياسيٍّ أو دَعَوِيٍّ ملموسٍ؛ وكلّ الّذي كان مُتاحًا، هو توجيه بعض الشّباب تربويًّا، من خلال علاقات  العمل، أو في إطار العلاقات العائليّة، أو في بعض المناسبات الاجتماعيّة والدّينيّة. كما عمل الإخوان على جمع بعض الأموال لمساعدة الفقراء، وتخفيف الاحتقان السّائد في المجتمع، بحسب تعبير المراقب العامّ للإخوان سليمان عبد القادر، في مقابلةٍ مع قناة الجزيرة، عبر برنامج "زيارة خاصّة" في 30 / 5 / 2009.
في عام 1995، شنّت السّلطات الأمنيّة حملة اعتقالات واسعة، شملت تنظيمات عدّة، واستطاعت أعدادٌ كبيرةٌ من الشّباب المنتمي إلى تنظيماتٍ إسلاميّةٍ -ومنهم بعض الإخوان- الهروبَ من البلاد بشتّى الطّرق، ليتّجه أغلبُهم إلى أوروبّا الغربيّة،  بينما استأنفت مجموعات أخرى -أغلبهم من الطّلّاب العائدين- النّشاط من جديد؛  ومن هؤلاء: عبد الله عزّ الدّين المراقب العام، سالم أبو حنك نائب المراقب العام، ومجموعة من أصحاب الشّهادات العلميّة العليا.
وفى عام 1998، اكتشفت السّلطات الأمنيّة التّنظيم الإخوانيّ، فنفّذت حملة اعتقالات واسعة، شملت نحو مئة عضوٍ، حيث حُكم على المراقب العام ونائبه بالإعدام، وحُكم على أعضاء مجلس الشّورى بالمؤبّد، وعلى أعدادٍ أخرى بالسَّجن لسنواتٍ عِدّة. ومن أبرز العناصر التي كانت ضمن المعتقلين، الدّكتور عبد الله شاميّة، أستاذ الاقتصاد المعروف في جامعة قاريونس.
وخلال وجودهم في المعتقل، جرت محاولاتٌ عِدّة من جماعات إسلاميّةٍ وعلماءَ مسلمين، للتّحدُّث مع السّلطات اللّيبيّة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين؛ مبرّرةً محاولاتِها بأنّ عملهم مؤسّسٌ على العمل السّلمي الدّعوِيّ، وليس على أيّ عملٍ عسكريٍّ، ولا يهدِف إلى التّغيير بالقوّة. وكان الشّيخ يوسف القرضاوي أحدَ أبرز أولئك العلماء؛ حيث زار ليبيا، وقابل العقيد معمّر القذّافي.. ويُعتقد أنّه تحدّث معه عن مسألة المعتقلين.
بقي الإخوان في السّجون حتى آذار / مارس عام 2006، حيث أُفرج عنهم جميعًا بعد تدخُّل سيف الإسلام القذّافي، الّذى جعل من مهامّ جمعيّة القذّافي للأعمال الخيريّة، تبني بعض مِلفّات حقوق الإنسان. فبعد سلسلة من الحوارات والاتصالات مع عددٍ من قيادات الإخوان في الخارج، وبعد حوارات مع المعتقلين، تمّ الاتّفاقُ – بعد مُوافقة العقيد القذّافي – على الإفراج عن الإخوان، بشرط ألّا يقوموا بأيّ نشاطٍ تنظيميٍّ ولا سياسيٍّ ولا اجتماعيٍّ عامٍّ، وأن يعيشوا مواطنين عاديّين، وأن يمارسوا حياتهم العاديّة.. وأُعطيت لهم أو لبعضهم تعويضاتٌ ماليّةٌ، وبعضُهم رجع إلى أعماله السّابقة، أو انخرط في أعمالٍ جديدة.
وظلّ عددٌ من الإخوان في الخارج، والّذين لم يتجاوز عددُهم مئتي شخص[1]، يواصلون نشاطهم، ويتابعون تطوّرات الوضع في البلاد؛ وواصلت قياداتُهم الإدلاء بتصريحات تؤكّد حضورهم، وتؤكّد أنّ نهجهم قائمٌ على الإصلاح والدّعوة إليه. وقد عبّرت مواقعُ تلك القيادات على شبكة الإنترنت، عن مواقفها في كثيرٍ من القضايا الوطنيّة.
هكذا نلاحظ أنّه ومن خلال مسيرة الإخوان المسلمين في ليبيا لأكثر من نصف قرن، لم يكن العمل العسكريّ واستخدامُ والعُنف يمثّل لديهم وسيلةً للتّغيير، وبالتّالي فقد ظلّت وسائلُهم فكريّةً ثقافيّةً تربويّةً؛ ولذلك برزت عبر المراحل الثّلاث المذكورة من تاريخهم في ليبيا، قياداتٌ وشخصيّاتٌ لها مكانتُها الاجتماعيّةُ والثّقافيّةُ. فالخُطباءُ والدُّعاةُ، وأساتذةُ الجامعاتِ، والكُتّابُ والصّحافيّون، والأدباءُ والشّعراءُ والتّجّار؛ جميعُهم من تلك القيادات. 
حزب التّحرير الإسلاميّ
تأسّس حزبُ التّحرير الإسلاميّ بمبادرةٍ من الشّيخ تقي الدّين النّبهاني عام 1953، وهو شخصيّةٌ فلسطينية إسلاميّةٌ درس في الأزهر، وكان على صِلةٍ بالشّيخ حسن البنّا، مُنطلِقًا من ضرورة العمل على إعادة الخلافة الإسلاميّة، وقد ألّف النّبهاني مجموعةً من الكتب في السّياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والنُّظم، والدساتير ولاسيما الدستور الإسلامي. ومن أهمّ تلك الكتب "نظامُ الإسلام" الّذي يُدَرّسُ في الحلقات الأسبوعيّة الّتي يَعِقدُها الحزب.
إذًا، فالحزب تنظيمٌ سياسيٌّ إسلاميٌّ يدعو إلى استئناف الحياة الإسلاميّة، بإقامة دولة الخلافة من جديد، وهو يسعى إلى بلوغ هذه الغاية عبر ثلاث مراحل؛ الأولى: عبر استقطاب العناصر. والثّانية: بالتّفاعل مع المجتمع عن طريق نشر أفكار وآراء الحزب من خلال الدّروس والمحاضرات والنّشرات السّياسيّة وإرسال الوفود، والثالثة: بطلب النُّصرة ممّن لهم القدرةُ والتّأثيرُ لإقامة دولة الإسلام. هذا؛ والحزب لا يتبنّى ولا يُجيز استعمال القوّة وسيلةً للتّغيير أو الوصول إلى أهدافه تلك.
وبحسب رواية محمد سعد؛ أحد العناصر القياديّة، والّذي غادر ليبيا إلى الولايات المتّحدة،  فقد وصلت دعوةُ الحزب إلى ليبيا في أواسط خمسينيّات القرن الماضي، وأوّل من أنشأ حلقاتِه الأولى، هو: الشّيخ حسن عبد اللطيف أبو سلطان، الّذي كان مُدرّسًا في معهد التّعليم العالي في مدينة بنغازي، وهو فلسطينيٌّ من مواليد عام 1918، ولقد تمّ ترحيله من البلاد عقب انقلاب الضّبّاط عام 1969.
في العقد السّادس من القرن الماضي، شهد التّنظيم نُمُوًّا في أوساط المدارس الثّانويّة، وفي الكُلّيّات الجامعيّة، في كلٍّ من طرابلس وبنغازي؛ وقد كان المسؤول الأوّل في الحزب هو عبد الله أبو القاسم المسلاتي، أمّا المسؤول عن طرابلس وما حولَها هو حسن كُردي، ومن أبرز عناصره الآخرين: صالح النوال، محمد أحفاف، محمد الترهوني، على القصبي، علي كاجيجي، عبد الله حموده، علي العكرمي، ومحمد علي يحي معمر الّذي تمكّن من الهَرَبِ من السِّجن وتوجّه إلى مصر، بعد الاعتقالات التي حدثت خلال ما سُمِّيَ بالثّورة الثّقافيّة والإداريّة عام 1973.
وفي ذلك العام، اعتقلت السّلطات اللّيبيّة معظم قيادات الحزب وأعضائه، الّذين بلغ عددهم نحو أربعين شخصًا، أكثرُهم من الشُّبَّانِ الّذين تراوحت أعمارُهم ما بين السّادسةَ عشرةَ والخامسةِ والعشرين. والّذين سُرعانَ ما أُفرج عن أكثرهم، وهم من صغار السّنّ في تمّوز / يوليو عام 1974، مع الإبقاءِ على قُرابة عشرةٍ من العناصر القياديّة.
وفي نيسان / ابريل من عام 1981، اُعتقل ثلاثون من ناشطي الحزب في طرابلس وبنغازي وأجدابيا. وفي نيسان / ابريل عام 1982 جرت محاكمتُهم أمامَ المحكمة الثّورية، الّتي حكمت بالإعدام حُضوريًّا على كلٍّ من عبد الله المسلاتي، وحسن كردي الّذي كان يعاني من مرض السّل، وعبد الله حمودة، وصالح النوال، ومحمد أحفاف، ونمر خالد عيسى، وناصر سريس، وعلس عوض الله، وبديع حسن بدر. الأربعة الأخيرون من فلسطين، وكانوا يعملون بالتّدريس في أجدابيا. وقد نُفِّذَ حكمُ الإعدام فيهم جميعًا في نيسان / ابريل عام 1983. وحُكم غيابيًّا بالإعدام على كلٍّ من: محمد سعد امعزب، وأحمد أحفاف، بعدَما تمكّنا من مغادرة البلاد، حيث غادرها الأوّل في عام 1981، أمّا الثاني فقد غادرها قبله في عام 1978.
قبل ذلك؛ وفي عام 1981،  اغتالت قوّات الأمن كُلًّا من عبد الرحمن بيوض، وماجد المقدسي (وهو طبيبٌ فلسطينيٌّ)، وخليفة ميلاد الكميشي (وهو من ابو زيان بغريان)؛ ويُروى أنّ أمّه قد زغردت وكبّرت، عندما سُلِّمَ الجُثمانُ إلى الأسرة في "أبو زيان".
ويَعتقدُ القياديّ محمد سعد، أنّ الحزب قد انتهى في ليبيا منذ حملة الإعدامات تلك.
جماعة التّبليغ والدّعوة
أسّس جماعة التّبليغ والدّعوة الشّيخ محمّد إلياس الكاندهلويّ ( 1302 – 1364 ه) عام 1867م في الهند، وسُرعان ما انتشرت في معظم بُلدان العالم شرقًا وغربًا، ومن مبادئها: الكلمةُ الطَيِّبَةُ "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وإقامةُ الصّلوات، والعلمُ والذّكرُ، وإكرامُ كلِّ مسلم، والإخلاصُ، والنّفيرُ في سبيل الله.
بدأت الجماعة نشاطها في ليبيا منذ ستينيّات القرن الماضي، وهو نشاطٌ دَعوِيٌّ مفتوحٌ، يتبنّى أصحابُه أسلوبًا متميّزًا في مادّته وأدواته؛ فمضمونُه لا يقترب من السّياسة، ولا يخوضُ في أيّ شأنٍ من شُؤونها. تعتمد جماعةُ التّبليغ والدّعوة على تنقية النّفس من شوائب المادّة بتزكيتها بالقرآن وبالعبادات، وينطلق مريدوها من المسجد باعتباره مركزًا يستقطبُ عامّة المسلمين كبارًا وصغارًا، فيدعونهم إلى السّياحة، أي الخروج في مجموعاتٍ لممارسة العبادة الجماعيّة.
لقد لاحظ السّنوسي بسيكري، أنَّ المنتمين إلى خطّ التّبليغ كانوا ينشطون في المساجد، ويستقطبون الشّباب من أصحاب التّعليم الدّينيّ القليل، ومن ذوي الحماسة العالية؛، ومنهم عبد السلام المشيطي، ومحمد خضير. ومن أبرز عناصرهم محمد أبو سدرة الذى اعتقل منذ عام 1989 ولم يفرج عنه إلا عام 2009.
يقول السنوسي: "كان في ذلك الوقت نشاطٌ دَعوِيٌّ للشّيخ صالح التيناز، وهو من الشّخصيّات المعروفة بتديُّنها منذ زمنٍ سابقٍ للصّحوة الحديثة، واستمرّ في تديُّنه وفي سَمتِه التّعبّديّ الرّوحيّ الأخلاقيّ". ويعتقِد السّنوسي أنّ نشاط جماعة التّبليغ توقّف في بنغازى حوالَى عام 1986.
نشِط أبناءُ الجماعة في طرابلس منذ ستينيّات القرن الماضي، وعُرفوا بدعوتهم النّاسَ إلى الخروج معهم في رحلات دَعويّة، وهو أسلوبٌ تربويٌّ تَعبُّدِيٌّ استفاد منه كثيرٌ من الشّباب، حيث أصبح بعضهم من كبار الدّعاة.
الشّيخ مبروك غيث المدهوني، كان من الّذين تأثّروا بطريقة جماعة التّبليغ، وعَرف عنه طلّاب جامعة طرابلس ذلك التّوجه، منذ أن كان معيدًا في كليّة العلوم 1976، كما عُرف بذلك شخصٌ آخر يُدعى محمود المصراتي. وقد واصل الشّيخ مبروك نشاطه الدّعويَّ عندما كان في الولايات المتّحدة في  الثمانينيّات، وأثّر في عددٍ من الشّباب، وكان من ناشطي تلك المرحلة أيضًا، بشير الخرّوبي، وحسن اللّيدي.
وفى مَوسم الحجّ من عام 1985، عُثِرَ على الشّيخ مبروك مقتولًا في مدينة جدة، وتقول أوساطُ المعارضة، إنّ المستفيدَ من قتله هو النظامُ اللِّيبيّ، وإنّ عناصر من اللّجان الثّوريّة أو من الأمن اللّيبيّ، هي التي نفّذت اغتيالَه. ويبدو أنّ نشاط جماعة التّبليغ قد توقّف في ليبيا منذ أواخر ثمانينيّات القرن العشرين.
الجماعة الإسلاميّة المقاتلة
تُعتبر الجماعة الإسلاميّة المقاتِلة، من أهمّ وأقوى التّنظيمات الإسلاميّة اللّيبيّة الّتي اعتمدت خيار التّغيير بقوّة السّلاح، وخاضت مواجهاتٍ عسكريَّةً مع قوّات السّلطة المُتمَثِّلَة في الجيش أو الشُّرطة أو اللِّجان الثّوريّة.
بدأت إرهاصات ميلاد هذه الجماعة في أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، وتزامنت مع بروز تنظيم "اللّجان الثّوريّة"، أحد أذرع السّلطة الحاكمة، وهو تنظيمٌ مسلّحٌ يجمع بين أعدادٍ من المدنيّين وبعض الضّبّاط العسكريّين، تمّت تعبئتُهم جميعًا بمنطلقات وأهداف الثّورة، وقد مارست تلك اللّجان العُنف، وصفّت الكثير من الشّخصيّات المعارضة، أو التي يُشَكُّ في ولائها للسّلطة الحاكمة.
ومن أبرز الشّخصيّات الإسلاميّة الّتي صُفِّيت بسبب خُطبها ومَواقفِها الإسلاميّة المُعلنة والرّافِضة للخطاب الرّسميّ، وخاصةً فيما يتعلّق بالسّنّة النّبويّة ودَور العلماء، هو: الشّيخ محمّد البشتي الّذي قتلته اللّجان الثّوريّة عام 1983.
ومنذ بداية أعمال العُنف الّتي نفّذتها اللّجان الثّوريّة عام 1980، واستهدفت عشرات الشّخصيّات  داخلَ البلاد وخارجَها. اشتدّ غليان الصّراع داخل المجتمع اللّيبيّ، وخاصّةً في أوساط الشّباب الّذين شاهدوا زملاءهم وإخوانهم يُعلّقون على أعواد المشانق في الجامعات وفي الميادين العامّة وداخلَ السُّجون. في تلك الأجواء المأزومة المُلتهبة، كانت بذورُ أفكار العُنف المُضادّ داخلَ البلاد وخارجَها تجدُ تربةً خِصبةً للنُّموّ والانتشار.
 وعلى المستوى العالمي، كانت هناك تحوُّلاتٌ إسلاميّةٌ كبرى، لها صداها وانعكاساتُها على كلّ المجتمعات الإسلاميّة، ومنها نجاحُ الثّورة الإيرانيّة في عام 1979، والثّورة الأفغانيّة (1979- 1992). كلّ تلك التّطوّرات الدّاخليّة والتّغيّرات الإسلاميّة العالميّة، كانت تصبّ في صالح التّيّارات الجهاديّة المُقاتلة، وأصبح الشّباب المُتديّن في ليبيا يبحث ويقرأ عن الفكر الجهاديّ.
لقد كانت الأشرطةُ وما تتضمّنه من مادّةٍ جهاديّةٍ، ومنها: خطب عبد الله عزّام، وغيره، إلى جانب خطب الشّيخ محمد البشتي، وأعمال سيّد قطب، وآراء أحمد بن تيميّة في مادّة الفَتاوى المتعلّقة بالجهاد، هي بعضَ المصادر التي ألهبت حماسة الشّباب، ودفعتهم إلى إنشاء تنظيمٍ سِرِّيٍّ مُعارض قُدّر عددُ أعضائه بالمئات.
أطلقت الجماعةُ مجلّةً بعنوان "الفجر" صدر عددُها الأوّل عام 1994، وهي مجلّةٌ شهريّةٌ تصدر عن مركز الإعلام الإسلاميّ، وُزّعت في لندن في تسعينيّات القرن الماضي، وكانت تحوي مادّةً تعبويّةً إسلاميّةً ضدّ الحُكم القائم في ليبيا.
وبالرّجوع إلى بعض أدبيّات الجماعة، ومقالاتهم، نجدُ صياغةً شديدةَ العُنف في نهج التّغيير الّذي اختارته تلك الجماعة، وتَجسّدَ ذلك العُنفُ في عِدَّةِ عمليّاتٍ انتظمت جميع مناطق ليبيا من غربها إلى شرقها؛ فقد وقعت صدامات مسلّحةٌ بينَ عناصر الجماعة وقوّات السلطة داخلَ البلاد، ما بينَ 1995 و1998. وتُقدِّرُ بعضُ مصادر التّنظيم أنّ خسائر الجماعة جرّاءَ تلك المصادمات، قد بلغت نحو مئة عضو.
وظلّ تنظيم هذه الجماعة يعمل بشكلٍ سِرِّيٍّ داخلَ البلاد وخارجَها، إلى 18 تشرين الأول / أكتوبر 1995، حيث صدر أوّل بيان بشأن الإعلان عن قيام الجماعة الإسلاميّة المقاتلة في ليبيا؛ وجاء فيه: "تُعلن الجماعة الإسلاميّة المقاتلة، عن قيامها من أجل اداء واجب الجهاد في سبيل الله.. وقد آن الأوان للجماعة الإسلاميّة المقاتلة، أن تخرُج من طور السّريّة إلى طور العلنيّة، نظرًا للمرحلة الحسّاسة الّتي يمُرّ بها العمل الجهاديّ في ليبيا. كما تُعلن عن تبنّيها للأحداث الجهاديّة المباركة الّتي اندلعت منذ شهر محرّم 1416 ه في مناطق ليبيا شرقًا وغربًا".
وللجماعةِ منطلقاتٌ عبّرت عنها في كتاب يحمل عنوان: "خطوطٌ عريضةٌ في منهج الجماعة الإسلاميّة المُقاتلة" بقلم: أبو المنذر السّاعديّ، الّذي يُعتبر فقيهَ الجماعة، أو منظّرَها الشرعيّ.   
وقد كشفت المواجهاتُ ثمّ التّحقيقاتُ التي تمّت في ما بعد مع أعضاء الجماعة، أنّ أعضاء الجماعة تمكّنوا من حيازة كميّات كبيرةٍ من الأسلحة، وتمكّنوا من استخدام عددٍ من المَزارع والمواقع الأُخرى لتخزين أسلحتِهم واستخدامها في الوقت المناسب. لقد دلّ ذلك على وجود خللٍ في مؤسّسات السّلطة. غير أنّ الخلل لم يدُم طويلًا، إذ سُرعانَ ما طوّرت المؤسّسات الأمنيّة قدراتِها، وأصبحت صاحبةَ اليد المسيطرة في كلّ البلاد.
وممن عُرف من قيادات ذلك التّنظيم الأسماء التّالية: عبد الحكيم الخويلدي بلحاج، ولقبه أبو عبد الله الصادق، وهو أمير الجماعة، وهو حاليًّا رئيس المجلس العسكري للثّوّار في طرابلس، وهو الّذي قاد عمليّة تحرير طرابلس من نظام القذّافي في أيلول / سبتمبر 2011؛ سامي مصطفى السّاعديّ، ولقبه أبو المنذر، وهو المنظّر الشرعيّ للجماعة؛ صلاح فتحي سليمان، ويعرف بعبد الرّحمن الحطّاب، وقد قُتل في درنه، أثناءَ مواجهات مع قوّةٍ عسكريّةٍ للنّظام عام 1997؛ خالد الشّريف (أبو حازم) نائب أمير الجماعة؛ ومفتاح الدّوادي، أمير الجماعة عام 1992؛ ونعمان بن عثمان، رئيس اللّجنة الإعلاميّة والسّياسيّة، والنّاطق باسم الجماعة تحت اسم (أبو تمامة اللّيبيّ، وعبد المجيد اللّيبيّ)، ومصطفى قنيفيد، مسؤول اللّجنة العسكريّة، وعبد الوهّاب قائد، آمر القطاع الجنوبيّ، وعبد الحكيم العماري، رئيس اللّجنة الأمنيّة الّذي قُتل هو وصالح عبد السيد، رئيس اللّجنة الشّرعيّة في عام 1996. وكان جلّ هؤلاء من طلبة كليّة الهندسة في طرابلس، وبعضُهم من كُلِّيَّتَيِ الطّب والعلوم السّياسيّة.
ومنذ المواجهات الّتي وقعت بين عناصر الجماعة وقوّات النّظام، والّتي تصاعدت وتيرتُها خلالَ عامَي 1995 و1996، وقيام الأجهزة الأمنيّة بتضييق الخناق عليهم، واعتقال العدد الأكبر منهم، انتهى نشاط الجماعة داخل البلاد، ثمّ جرى اعتقالُ أميرهم ونائبه من قبل الاستخبارات الأميركيّة وسُلِّما إلى السّلطات اللّيبيّة عام 2006.  
سعى سيف الإسلام القذّافي عبر مؤسّسة القذّافي للأعمال الخيريّة، الّتي أبدت رغبتها في 15 / 6 / 2005 في فتح باب الحوار مع المنتمين إلى هذه الجماعة، في حال استعدادهم ورغبتهم في ذلك الحوار. ثمّ بدأت الجمعيّة في أيلول / سبتمبر 2006 حوارًا بنّاءً مع بعض قيادات الجماعة، بهدف إقناعهم بالعدول عن العُنف. ومنذ عام 2007، دخلت الحوارات مرحلةً متقدّمةً نسبيًّا، وتمّ الإفراج عن تسعين شخصًا لهم علاقةٌ ما بالجماعة المقاتلة.
واستمرّت الحوارات مع قيادات الجماعة، وشاركت فيها عناصر من كبار ضُبّاط الأمن، وشارك في بعض جلساتها كلٌّ من الشّيخ علي الصّلابي، ونعمان بن عثمان. وكلاهما كانا قبل مرحلة الحوار، على صلة بسيف الإسلام.
وقامت قيادة الجماعة بمراجعة منطلقاتها الفكريّة، وأعلنت عن تصحيحاتٍ تَنبُذُ العُنف ضدّ الدّولة، قام بها عبد الحكيم بلحاج، ونوّه بها الشّيخ يوسف القرضاوي، الذي لعب دورًا في محاولة الإفراج عن أعضاء الجماعة.
حركة التجمّع الإسلاميّ
بدأت الحركة على شكل مجموعة من الملتزمين إسلاميًّا، مع المحافظة على السُّنَّة النّبويّة بصورةٍ مُعتدلةٍ عام 1974، كما يروى الشّيخ محمد أحداش، وفي أوائل التّسعينيّات من القرن الماضي، انضمّوا إلى تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا لمدّة قصيرة، سرعان ما وقعت بعدها خلافات تنظيميّة أدت إلى انشقاقٍ فانسحب عددٌ منهم من التّنظيم، وأسّسوا "حركة التّجمّع الإسلاميّ"؛ على نمط التّنظيمات الجبهويّة المَرِنة التي تسعى إلى جمع أكبر عددٍ من الإسلاميّين دونَ فرض قيودٍ تنظيميّة، ودونَ الارتباط بأيّ تنظيمٍ إسلاميٍّ خارجَ البلاد.
تأسّست حركة التّجمّع الإسلامي عام 1990، ومن أبرز قياداتها: مصطفى الطرابلسي، جمال الورفلي، محمد أحداش، ادريس ماضي، مصطفى الجهاني، والأخيران  كانا من الإخوان المسلمين المخضرمين، قبل أن ينضمّا إلى التجمع، وكلاهما قُتل في مجزرة سجن "أبو سليم" الّتي نفّذها نظام القذّافي عام 1996، كما قُتل جمال الورفلي، وجمال الفيتوري، وتوفيق بن عمران، وجميعهم ينتمون إلى التّجمّع الإسلاميّ.
وقد قال الشّيخ محمد أحداش في كلمة رثائيّة للشّيخ إدريس ماضي، بعد إبلاغ أسرته رسميًّا بوفاته في صيف عام 2009: "أمّا الحركة الإسلاميّة في ليبيا، فهو أحد روّادها ومعالمها؛ بدأها بالانضمام إلى الإخوان المسلمين في الخمسينيّات إلى انفراط عِقدها في أوائل السبعينيّات، وتعرّض للسّجن والتّحقيق بسبب ذلك، ثمّ شارك في عودتها في أواخر الثمانينيّات، وصار مراقبًا عامًّا لها في بلدٍ يُجرّم الحزبيّة بالقانون ويعدمها في الواقع، بل يُجرّم ويعاقب عن مجرّد العلم بوجود حزب، فكيف بالله بترؤُّسه، وفي وقت كانت تعني فيه هذه الوظيفة الإرهاق الأمنيّ والنّفسيّ والبدنيّ والماليّ. ثمّ شارك في تأسيس التّجمّع الإسلاميّ، وتولّى قيادته إلى أن سُجن ظُلمًا وعُدوانًا في صيف 1995".
ويُعتبر الدّكتور مصطفى الطرابلسي، وهو أستاذ جامعيّ متخصّص في الجغرافيا، المنظّرَ الرئيسَ للتّجمّع، وله بعض الأوراق التي تبحث في مسائل تتعلّق بالدّولة الإسلاميّة، والحكم الإسلاميّ، والطريق إلى ذلك؛ وقد كان مُعجبًا بأفكار حسن التّرابي في خياراته التنظيمية وتطويرها، وعدم ركونها إلى التّقليد والجمود، ومنها تَجرِبَتُه في التّنظيم الجبهويّ (جبهة الإنقاذ).
وتركّز المنطلقات الفكريّة للتجمع على التربية الشّرعيّة، وتدرّس في حلقات، كما تهتمّ بالعقائد، والفقه المالكيّ. ومن الكتب التي كانت متداولةً بين الأعضاء: "كبرى اليقينيّات الكونيّة" للشّيخ محمّد سعيد رمضان البوطي، و"الأصولُ الثلاثة: الله، الرسول، الإسلام" لسعيد حوى.
ويُروى أنّ أفكار الشّيخ راشد الغنّوشي رئيس حركة النّهضة الإسلاميّة في تونس، كانت إحدى مصادر التثقيف عند بعض عناصر التّجمّع، بل كان بعضهم يوزّع الأشرطة التي تتضمّن خطبه. وللتّنظيم نشرة داخليّة تُسمّى "السّبيل" تتكوّن مادّتها من توجيهات تربويّة، وتعليقات على الأحداث الداخليّة، ولهم ميثاق يعبر عن منطلقات التّجمّع.
وقد تضمّن التّجمّع مجموعةً تؤمن بالعمل الجهادي؛ أي العمل المسلّح، بقيت تحت لوائه نحو عام، ثمّ انسحبت وانضمّت إلى الجماعة الإسلاميّة المقاتلة. وعندما حدثت الصّدامات المسلّحة بين مجموعات من الجماعة المُقاتلة وقوّات الدّولة، وجرت اعتقالات عام 1995 شملت عناصر من الجهاديّين الّذين كانوا في التّجمّع، وعندها اكتشفت السّلطات تنظيم التّجمّع واعتقلت عددًا منهم، وفرّ الآخرون إلى خارج البلاد، واتّجهوا نحو بعض البلدان العربيّة ثمّ إلى أوروبّا، والولايات المتّحدة. ومن أولئك الّذين تمكّنوا من مغادرة البلاد: مصطفى الطرابلسي، محمد أحداش، عادل صنع الله، عبد الوهاب الهلالي، سالم بشاشة، وآخرون.
يُذكر أنّ كُلا من الشّيخ محمد أحداش وعادل صنع الله، قد انقطعت صلتُهما بالتّجمّع منذ سنوات كثيرة، ولكلٍّ منهما نشاطُه الثّقافيّ الشّخصيّ في المهجر.
المجموعات السّلفيّة
السّلفيّة بشكلٍ عامٍّ، لفظةٌ تعني التديّن على طريقة السّلف الصّالح، وهم صحابةُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تبعهم واقتدى بهم. وعلى هذا الأساس فإنّ جميع الحركات الإسلاميّة، تعتبر نفسها سلفيّةً بمعنًى من معاني الاقتداء الكثيرة، ومنهم ما ُيمكن تسميتُه بالسّلفيّة النّصّيّة الحَرفِيّة، وهي مدرسةٌ يكثُر روّادها والمنظّرون لها في المملكة العربيّة السّعوديّة وفي مناطق أخرى من العالم الإسلاميّ. هذه المدرسة لا تهتمُّ بالاجتهاد والفكر المقاصديّ الشّرعيّ، الّذى يذهب إلى ما وراء الألفاظ، ويبحث في معانيها، في إطار المكان والزّمان والحياة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. تُعنى المدرسةُ النّصّيّةُ الحَرفيّةُ كثيرًا بالمظاهر الخارجيّة مثل: إعفاء اللّحى، وتقصير السّراويل وغيرها من الملابس لتصل إلى ما فوق الكعبين، ولا تُجِيزُ بعض آرائها للسّيدات قيادةَ السّيّارات.
ومنهم مجموعةٌ فكرُها يرتكز على الولاء للسّلطة ولوليّ الأمر فيها. هذا الفكرُ قد وصل إلى ليبيا في كثيرٍ من مفاهيمه من المدرسة السّلفيّة السّعوديّة، والّتي تُعرف في بعض فروعها بالمدخليّة، نسبةً إلى شخصٍ سعوديٍّ اسمُه ربيع المدخلي.
وتعرّف عددٌ من اللّيبيّين على أفكار ذلك التيار، خلال تأدية مناسك الحجّ والعمرة، كما تأثّر بعض الشّباب بآراء مقبل الوادعي، وهو من اليمن، وله آراء ومواقف متشدّدة، ومعادية لأفكار مدرسة الوسط والاعتدال، التي يُعتبر الشّيخ يوسف القرضاوي من أبرز رموزها والمنظّرين لها في هذا العصر.
ويبدو أنّ السّلطات اللّيبيّة الّتي كانت تُعاني من حركات الإسلام السّياسيّ (وبعضها مسلّح ومقاتل)، فضّلت أن تغضّ النّظر عن التّيّار السّلفيّ الّذى لا عداوة له مع السّلطة، بل يؤمن بطاعة وليّ الأمر على علّاته، لكنّ هذا التّيّار كان يُقلق بمفاهيمه وسلوكه الكثير من المواطنين، ومنهم روّاد المساجد الّذين يُزعجهم فرضُ سلوك معيّن أثناء الوقوف للصّلاة، من أولئك الشّباب الّذين يعملون على إلصاق أرجلهم بأرجل المُصلّين، وكأنّ الصلاة لا تجوز إلا بتلك الكيفيّة؛ كذلك يدخلُون في جدلٍ مع عامّة النّاس في كثيرٍ من العادات والتّقاليد الخاصّة بالأكل والشّرب واللّباس.
والجديرُ بالملاحظة، أنّ الفكر السّلفيّ ظلّ عند عموم المجتمع اللّيبيّ، كما عبّر عنه الأئمة الكبار من أمثال الإمام ملك بن أنس، صاحب المذهب السائد في ليبيا، فهو الأصلُ في عبادات ومعاملات المجتمع اللّيبيّ، وهو الأصلُ في الفَتاوى التي تتعلّق بشؤون الأفراد والأُسر.
خلاصة نقديّة
لمّا كان الكتابُ قد كُتبَ ونُشرَ قبل ثورات الرّبيع العربيّ، وتحديدًا الثّورة اللّيبيّة، فإنّ الباحث اللّيبيّ، الّذي كان ينتمي سابقًا إلى تيّار الإخوان المسلمين، لم يكن يتوقّع هذه الثّورات، وبالتّالي أيّ تغييرٍ جذريٍّ في النّظام أو سقوطه.
لذلك انتقد الباحثُ لجوءَ الحركات الإسلاميّة في ليبيا إلى السّلاح والعُنف، بناءً على فشل تجارِب الحركات الجهاديّة في مصر والجزائر وغيرهما في التّغيير، وجنوحها نحو العُنف ضدّ المدنيّين والإرهاب.
 وعوّل الباحث على بعض خطوات الانفتاح التي قام بها النّظام عبر سيف الإسلام القذّافي تُجاه الإسلاميّين وإطلاق بعضهم من السّجون، وبالتّالي فإنّه لا يُمكن لومُ الكاتبِ الّذي لم يتوقّع كغيره من اللّيبيّين والمراقبين سقوط النّظام اللّيبيّ أو إمكانيّة سقوطه، خصوصًا بعد تحسّن علاقات القذّافي مع الغرب والولايات المتّحدة الأميركيّة في السّنوات الأخيرة.
مع ذلك، يبقى الكتابُ دليلًا مفيدًا عن الحركة الإسلاميّة في ليبيا وتيّاراتها المختلفة، ولعلّ المرحلةَ المُقبلةَ من تاريخ ليبيا، ستبيّنُ الدّور الّذي ستلعبُه هذه الحركات في النّظام الجديد، وإمكانيّة تكيّفها وقَبُولِها بالديموقراطيّة والمشاركة وقَبُولِ الآخر.
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً