أحدث المقالات
يتضمن كتاب "العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك" للباحث محمد أحمد دهمان، الذي نحن بصدد مراجعته، مخطوطة لمحمد بن محمود الحلبي الملقب بـ"ابن أجا" الذي توفي عام881هـ، حقّقها الأستاذ محمد أحمد دهمان وعلّق عليها، وأضاف إليها نصوصاً من إعداده تؤرّخ للإمارة "الدلغادرية" التي كانت تقع في منطقة الحدود بين أراضي الدولة المملوكية في بلاد الشام وأراضي الدولة العثمانية في بلاد الأناضول، أي المنطقة المعروفة اليوم بـ"لواء الإسكندرون" وبعض المناطق المجاورة لها في سوريا وتركيا.
كما تؤرخ هذه النصوص لأسباب النزاع المملوكي – العثماني وبداياته ولمجريات العلاقات بين الدولتين المملوكية والعثمانية والحروب بينهما والتي انتهت بانتصار العثمانيين والقضاء على دولة المماليك.
أما المخطوطة السالفة الذكر فهي تشتمل على وصف لحملة الأمير المملوكي (يشبك بن مهدي الدوادار) بين عامي 875 و 876 هـ إلى بلاد الشام للقضاء على تمرد (شاه سوار) الأمير الدلغادري بعد فشل ثلاث حملات سابقة في إنهاء هذا التمرّد.
ولا يقتصر المؤلف على وصف وقائع الحملة العسكرية إنما يقوم بوصف المناطق التي مرّت بها الحملة العسكرية في فلسطين ودمشق وحلب، وينقل وقائع رحلته إلى "تبريز" كمبعوث للسلطان إلى حسن أوزون، أحد حكام إيران من أسرة أقويونلو.
ومؤلف المخطوطة هو "قاضي الجيش" في رحلة الأمير يشبك، واسمه محمد بن محمود بن خليل الشمس الحلبي الحنفي، والمعروف بابن أجا، ولد في سنة 820هـ في حلب ونشأ فيها، وانتقل إلى القاهرة حيث ارتقى لصحبة الدوادار الكبير يشبك بن مهدي وعمل معه قاضياً للجيش في حملاته ورسولاً منه ومن السلطان إلى ممالك عدة كتبريز والأستانة وغيرهما.
ترجم فتوح الشام للواقدي إلى اللغة التركية نظماً في اثني عشر ألف بيت، وكتب المخطوطة هذه (سفرة سوار أو رحلة يشبك). توفي سنة 801 هـ في حلب.
ولعلّ أهمية المخطوطة في سياق النزاع المملوكي – العثماني تكمن في كونها تتحدث عن أبرز الأسباب الأولى للنزاع المتمثل في تمرّد شاه سوار المدعوم من العثمانيين ضد سلطان المماليك من جهة، وتصف أحوال الدولة المملوكية آنذاك من جهة أخرى.
أما النصوص التي كتبها المؤلف محمد أحمد دهمان فهي:
تاريخ الإمارة الدلغادرية، ثورة شاه سوار، طمع الدول المجاورة بالمماليك والعثمانيين، تحسّن العلاقات بين الدولتين المملوكية والعثمانية، النزاع بين المماليك والعثمانيين وزوال الدولة المملوكية.
وثمة ملحق في الكتاب حول "ثورة جانبردي الغزالي" مأخوذ من كتاب "إعلام الورى بمن ولي نائباً من الأتراك بدمشق الشام الكبرى" لإبن طولون، ومن تحقيق المؤلف.
الإمارة الدلغادرية قامت على ثغور بلاد الشام الشمالية حيث كانت هذه الإمارة تابعة للدولة المملوكية. وتقوم في المنطقة نفسها تقريباً التي كانت فيها أكثر وقائع سيف الدولة الحمداني مع الروم حيث هاجرت إليها في أوائل الحروب الصليبية فرق كثيرة من الأرمن وبنوا فيها إمارات صغيرة تحت حماية قياصرة القسطنطينية وجعلوا عاصمتها "سيس". وقد تمكن المماليك من تحطيم هذه الإمارة الأرمنية سنة 779هـ حيث قامت على معظم أراضيها الإمارة الدلغادرية.
والأسرة الدلغادرية التي حكمت (مرعش والبستان) وما حولهما قرابة 190 عاما (740 – 928ه)، وهي منطقة الحدود بين الدولتين العثمانية والمملوكية، هي بالأصل عشيرة تركمانية نزحت نحو الأناضول فراراً من جنكيزخان برئاسة زعيمهم ذو الغادر.
وقد تأرجح حكام الإمارة في التبعية والولاء بين المماليك والعثمانيين إلى أن سيطر شاه سوار على كامل الإمارة بعد مقتل أخيه أرسلان في القاهرة واتهام سوار لأخيه الثاني شاه بوداق بالتآمر مع السلطان المملوكي خوشقدم لقتل أخيهما.
وهكذا دعمت الدولة العثمانية شاه سوار في نزاعه مع أخيه بوداق المدعوم من المماليك الذين أرسلوا أربع حملات للقضاء على حكم سوار لكنهم فشلوا في الحملات الثلاث الأولى ونجحوا في الحملة الرابعة بقيادة الأمير يشبك في القضاء على تمرد سوار والقبض عليه وإعدامه.
وقد أظهرت هذه الحملات العسكرية المتتالية ضعف الدولة المملوكية عسكرياً من جهة، وانهيارها المالي وتفككها الاجتماعي – العسكري من جهة أخرى.
كانت خزانة الدولة فارغة وكانت تموّل الحملات العسكرية والرشوات للجنود والأمراء للمشاركة فيها من الضرائب الكبيرة المفروضة على الأهالي ولاسيّما التجار الذين كانوا يضطرون لرفع الأسعار لتعويض ما دفعوه للسلطان.
كما أظهر ابتزاز الأمراء والجنود للسلطان وتمرّدهم على المشاركة في القتال التفسخ الداخلي للدولة وانحطاطها السريع مما أثار أطماع جيرانها فيها، ولاسيّما دولتا العثمانيين والإيرانيين.
وإذا كانت قضية شاه سوار هي بداية النزاع السياسي بين المماليك والعثمانيين فإنه ثمة أسبابا أخرى أبرزها:
1 – بعد وفاة السلطان العثماني محمد الفاتح سنة 886هـ/1481م، تولى ابنه بايزيد الثاني السلطة، وقد نازعه عليها شقيقه "جم" الذي اضطر للفرار إلى طرسوس، وطلب اللجوء إلى حلب من أميرها ثم الدخول إلى القاهرة، بعد إذن السلطان المملوكي "قايتباي" له واستقباله والسماح له بتجهيز قوة عسكرية لقتال العثمانيين بزعامة أخيه الأمر الذي أثار السلطان بايزيد الذي تمكن من هزيمته.
2 – وزاد الأمر سوءاً أن بعض ملوك الهند قد أرسل هدية إلى السلطان العثماني بواسطة بعض تجار الهند الذين صودرت منهم الهدية من قبل نائب جدة وأرسلت إلى السلطان المملوكي مما أثار غضب ابن عثمان. بعد هزيمة سوار، تمكن أخوه علي دولات بن دلغادر، بدعم من العثمانيين عام 888هـ، من السيطرة على ملطية ومهاجمة حلب، حيث هزم الجيش المملوكي فيها عام 889هـ في واقعتين إلى أن تم الصلح في ذي الحجة من سنة 890ه.
لكن الصلح مع علي دولات لم ينه الصراع المملوكي – العثماني حيث وقعت معركة بين الطرفين في ربيع الأول سنة 891هـ في منطقة حلب كان النصر فيها للجيش المملوكي ثم تلتها معركة أخرى في رمضان سنة 893هـ كانت الغلبة فيها أيضا للمماليك. وفي المعركة الثالثة، حاصر المماليك مدينة أدنة وفتحوها بعد ثلاثة أشهر من الحصار.
وتجدر الإشارة إلى أن المماليك كانوا في كل معركة مع العثمانيين أو حلفائهم في بلاد الشام كانوا يضطرون لإرسال "تجريدة عسكرية"، الأمر الذي كان يكلف الدولة نفقات هائلة على الجنود والأمراء كمصاريف ورواتب ومكافآت ورشوات من جهة. كما كان يؤدي إلى تمرّد الأمراء والجنود وابتزازهم السلطان من أجل الحصول عل مزيد من الأموال من جهة أخرى.
أضف إلى ذلك أن إرسال التجريدة من القاهرة كان يحتاج وقتاً، الأمر الذي كان يشكّل نقطة ضعف المماليك في المواجهة العسكرية مع العثمانيين القادرين على حشد الجيوش بسهولة وسرعة من داخل بلادهم إلى بلاد الشام
وفي العام 897هـ انشغل العثمانيون بالاستيلاء على مملكة (حسن الطويل) في إيران بعد موته واستلام أولاده الحكم، مما أدى إلى فترة صلح وهدنة بينهم وبين المماليك استمرت قرابة ربع قرن (897 – 922هـ ). وفي هذه الفترة كانت أوضاع الدولة المملوكية تسير من سيء إلى أسوأ، وخاصة بعد وفاة السلطان قايتباي سنة 901هـ ومجيء ستة سلاطين مماليك بعده، قتل الثلاثة بالتآمر والانقلابات بينما عزل الرابع. أما الملك الخامس للمماليك (قانصوه الغوري) (906 – 922هـ) فقد توفي قهراً بعد هزيمته في معركة "مرج دابق" وعيّن مكانه السلطان طومان باي كآخر سلاطين المماليك الذي أعدمه العثمانيون بعد احتلالهم لمصر عام 923هـ.
وخلال الفترة الممتدة بين عامي 906 و920 هـ سادت علاقات المودة وحسن الجوار بين المماليك والعثمانيين، بينما تعرّضت خلالها حدود الدولة المملوكية لاعتداءات الصفويين الذين حكموا إيران آنذاك. أما عودة النزاع بين العثمانيين والمماليك فبداياته كانت بسبب استقبال السلطان لأحد إخوة السلطان سليم الذي تسلم السلطة (وأعمل السيف في إخوته وأبنائهم). ثم جاءت المعركة بين العثمانيين والصفويين عام 920هـ /1514م ورفض المماليك نصرة العثمانيين فيها وتحالفهم سراً مع الصفويين لتزيد الطين بلة.
وساهم انفجار النزاع رغبة السلطان سليم في الاستيلاء على أراضي الدولة المملوكية بعد شعوره بانهيارها الداخلي وخاصة بعد هرب خوشقدم، أحد أعوان السلطان المملوكي قانصوه الغوري إلى العثمانيين، وإعطائه تفصيلات كاملة عن أحوال مصر الاجتماعية والعسكرية، من شتى المظالم والمفاسد وعمليات الغش في الذهب والفضة وابتزاز أموال الناس والرشوة بين القضاة والضرائب المرهقة، إلى أوضاع جيش المماليك ومينائي الاسكندرية ودمياط.
وقد بدأت المعارك بين الطرفين سنة 921هـ إذ جرت مناوشات بين علي دولات وبعض عساكر العثمانيين الذين طلبوا مساندة من السلطان سليم وتمكنوا من احتلال بلاد علي دولات وقتله.
وأدت هذه الحادثة إلى تجهيز السلطان قانصوه الغوري حملة كبيرة قادها بنفسه إلى دمشق ثم إلى حلب فمرج دابق، حيث وقعت المعركة الشهيرة التي هزم فيها المماليك شر هزيمة وتوفي السلطان الغوري في إثرها سنة 922هـ / 1516م.
ودخل العثمانيون حلب ثم دخلوا حماه بعد خيانة حاكمها جانبردي الغزالي وتواطئه مع العثمانيين.
وكانت هذه المعركة الفاصلة إذ تلاها غزو العثمانيين للأراضي المصرية سنة 923هـ /1517م ودخولهم القاهرة عاصمة المماليك وقتلهم لسلطانهم وأمرائهم وكبار ضباطهم وحاشيتهم، حيث أنهوا حكم المماليك وبدأت السيطرة العثمانية على معظم البلاد العربية والإسلامية.
ويذكر المؤلف محمد دهمان أن أبرز أسباب النصر العثماني كانت التفوّق العددي للعثمانيين واستعمالهم للأسلحة المتطورة النارية والبنادق والمدافع، بينما كان المماليك الأقل عدداً لا يستعملون هذه الأسلحة.
كما لعبت الخيانة من قبل الأمراء وتمرّد الضباط دوراً كبيراً في هزيمة المماليك، ولا سيما خيانة أكثر المقربين من السلطان الغوري إبراهيم السمرقندي، و"خاير بك" نائب حلب، وجانبردي الغزالي نائب حماة الذي تولى نيابة دمشق من قبل العثمانيين.
ولا شك أن الانهيار الاجتماعي – الاقتصادي للدولة قد لعب الدور الأبرز في هذه الهزيمة حيث كان سبب تمرّد الأمراء والجنود وسخط الأهالي وترحيبهم بالعثمانيين، إضافة إلى العامل العسكري الكمّي والنوعي التقني والعامل الاستخباراتي المذكورين آنفاً.
اسم الكتاب: محمد أحمد دهمان، العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك، مع رحلة الأمير «يشبك بن مهدي» الدوادار لمؤلفها: محمد بن محمود الحلبي الملقب بابن أجا (دمشق 1406هـ/1986م

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً