أحدث المقالات

درج المسلمون الإمامية عبر تاريخهم الطويل على الإحتفاء بمختلف  المناسبات الإسلامية ، و على رأسها ، ذكريات موالد ووفيات  النبي المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم ، و أهل بيته عليهم السلام ، على اعتبار انه – الإحتفاء – من مصاديق  تعظيم شعائر الله سبحانه ، ومن مظاهر  المودة في القربى ، و لكونه مستندا  على توجيهات أهل البيت  عليهم السلام فيما استفاض  من الروايات النادبة الى ذلك. و يأخذ هذا الاحتفاء أشكالا  متعددة و صورا متنوعة  تبلغ أوجهها  في إحياء ذكرى استشهاد سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام في شهر محرم الدامي . وقد عبر شاعر الطف الشهير السيد جعفر الحلي (ره) عن هذه التظاهرة العالمية السنوية ،  بقوله:

في كـل عام لنـــا بالعـــشر واعـــية        تطـــــبق الدور والارجــــاء و السككا

و أزاء أساليب الإحتفاء المتعارفة  ،  هناك دعوات و نداءات تصدر بين الفينة و الأخرى من بعض الشرائح الثقافية و الدينية و الأدبية و غيرها  ، مطالبة إجراء تعديل في بعض صورها و أنماطها  و طرائق  أدائها .  ويرى هذا الفريق أن من المفترض أن تربط  المناسبات الإسلامية   الأمة   بالنبي (ص) و أهل بيته (ع) ، رباط عقيدة واعية و رسالة حية متحركة و منهج خالد خلود الحق و الخير ، بحيث يتم عرض أهل البيت (ع ) فيها  ، قادة و قدوات للعباد و ساسة للبلاد ، لا مجرد شخصيات معظمة  طاهرة تبهر المشاركين سيرهم ، فتشنف أسماعهم و تأخذ بشغاف قلوبهم ، فيتأثرون بها و يتفاعلون معها في حينها  و كفى .
و يذهب  بعضهم  إلى ان بعض الأساليب السائدة ، هي أكثر إنسجاما مع وعي الأجيال السالفة و نظرتها الى أحداث التاريخ الكبرى و إلى قادة الأمة و  أبطالها . و مع وقوع التحولات الفكرية و الإجتماعية ، و اتساع الوعي الديني و الثقافي  ، فإن  إعمال التجديد في بعض الأشكال و إجراء التعديل في بعض  الوسائل ، بات مطلبا ملحا  ، حتى تغدوا مناسباتنا  الإسلامية  عوامل جذب واستقطاب لمختلف الشرائح و الإتجاهات و ليس العكس ، و وسيلة رسالية لنهج الرسول الكريم (ص) و أهل بيته الطاهرين (ع) .

و يضيف هؤلاء  ، ان تشذيب بعض طرائق إحياء الذكريات ، من شأنه أن يجنبها    نعوت الطقوسية التي لا تليق مع روحها و أهدافها ، ويرتقي  بها  الى مستوى  عال ، بحيث  تقدم  معه  سير النبي الأكرم (ص) و آله الكرام (ع ) ،  سجلا حافلا بالدروس و العبر وسلسلة متصلة من  المواقف الملهمة  المحررة  . و بهذا يغدو دور السيرة العطرة ،   دور مبصر للأمة بواقعها و معين على بناء مستقبلها ، لا دور مخدر يلهيها بالتغني بأمجاد السلف و التأسف و التأوه على أطلال !
و لعلنا نتلمس جانبا من تلكم الدعوات و النداءات في بعض قصائد  الأديب المعاصر الشيخ الدكتور احمد الوائلي (ره) و هو عالم و خطيب حسيني بارز حيث يقول في احدى روائعه :
يؤذيه أنا دأبنا أن نطالعه       من عبرة و هو فيما يحتوي عبر
و يقول في رائعة أخرى :
و ضعناك في الأعناق حرزا و إنما    خلقت لكي تنضى حساما فتشرع
و صغناك من دمع و تلك نفوسنا      نصورها لا أنت إنك أرفع

و قبال ذلك ، هناك قاعدة عريضة في الأمة تشمل مختلف القطاعات الدينية و الإجتماعية و الثقافية و الأدبية ، تصر على إبقاء صور الإحتفاء بذكريات قادتنا المعصومين (ع) كما هي ، على اعتبار انها ميراث يتسم بالقداسة و الثبات .  و لكونها أشكالا و أساليب ألفتها الأمة وتوارثتها كابرا عن كابر ، و تربت عليها أجيالا و أحقابا ، بل ورضعتها مع ألبان الأمهات ، و تلقتها مع هدهدات المربيات ، فأصبحت تسري في شرايينها  مسرى الدم ، و غدت جزء منها و من هويتها وكيانها و  نسيجها الديني و الإجتماعي ، تستوحش بدونها و لا تكاد تحسن التعبير بغيرها ، أو تشعر بالإرتباط بقادتها أو تتفاعل  بسيرتهم  و تاريخهم و جهادهم و مظلوميتهم في سبيل الله تعالى ، بطريقة سواها .
و يرى هذا الفريق ، إن تلكم الأساليب الموروثة ، بمزيجها الفكري و العاطفي ،  هي صاحبة الفضل الأول في إبقاء قضية أهل البيت عليهم السلام حية  في النفوس متوهجة في القلوب ، بحيث عبر عنها أحد أدباء الطف و هو الشيخ عبد الحسين الأعسم العاملي  بقوله :

أنست رزيتكم رزايانا التي سلفت     و هونت الرزايا الآتية
و فجائع الأيام تبقى مدة و تزول      و هي إلى القيامة باقية

و لقد أبدت تلكم الأساليب  – ولاتزال –  صمودا و ثباتا و صلابة ، قل نظيرها ، أمام كثير من الأعاصير و العواصف و صنوف من الإرهاب عبر التاريخ ، ما لو كان غيرها ، لهان واستكان و اضمحل و انقرض. و عليه ، فلولاها – حسب هذا الفريق – لبردت العاطفة و جفت الدمعة و سكنت العبرة و انفصل خيط الأمة بالأئمة عليهمم السلام .

و بعد ، فإن  الطرحين السالفين   يمثلان خلاصة  الجدل الدائر بين المؤمنين المهتمين بشان   الإحتفاء بالمناسبات الإسلامية ،  بالأخص ذكرى  إستشهاد سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،  أبي الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في يوم العاشر من المحرم الحرام  من كل سنة هجرية  . و الواقع إنه يعبر عن مشهد  من  حراك فكري ديني و ثقافي ، على  أن لا يتجاوز أطر و أخلاقيات  الحوار و الجدل الفكري . و لعل من نافل القول ، إن ثمة قواسم مشتركة واضحة جلية  بين الطرحين .  فلم  يبلغا مرحلة التعارض المستحكم بحيث يصعب الجمع بينهما .  فالخلاف  ليس حول أصل الإحتفاء بالمناسبات الإسلامية و أهميته  ، كما انه ليس حول كل المناشط و الفعاليات ، بل حول بعض الوسائل غير المنصوصة  المستجدة  في بعض مراحل التاريخ .

و أيا كان الأمر ، فلست هنا في هذه المقالة القصيرة ، بصدد ترجيح رأي على آخر أو تصويب رؤية على أخرى . و لكني أطرح بعض الأفكار علها تصلح  كمبادئ عامة  لمزيد  من البحث و التأمل في هذه القضية ،  و هي على النحو التالي :

1- إن الإتجاهين الآنفين متفقان  على أصل الإحتفاء بالذكريات و المناسبات الإسلامية ، و ضرورته ، إذ لا يكاد يختلف إثنان من المسلمين  الإمامية على ذلك .   و لكن من الأهمية بمكان تجنب أي مظهر أو إيحاء أو مفهوم يخالف العقيدة الإسلامية و أحكام الشريعة الغراء .
2- يلزم تحري الدقة و توخي الصحيح و المقبول علميا فيما يطرح من نصوص دينية ووقائع تاريخية ، فأهل البيت  عليهم السلام في غنى عن نسبة ما لم يثبت من الفضائل و الوقائع و المواقف  إليهم .
3- إن أكثر الأساليب المتعارفة  في إحياء الذكريات ليست منصوصة ، و إنما هي ثمرة إجتهاد السالفين ، باستثناء بعضها  من قبيل البكاء و الحزن على سيد الشهداء عليه السلام . أما  زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، و أهل بيته عليهم السلام ، فإنها  بذاتها شعيرة دينية راجحة .
4- إن التنوع العرقي و الإمتداد الجغرافي للشعوب المنتمية إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، و ما يترتب عليه من تنوع الثقافات و تعدد النظرات و اختلاف العادات و التقاليد ، كما إن تفاوت  الظروف الإجتماعية و السياسية ، هي بمجموعها  من العوامل المؤثرة   في تشكيل وتنويع  بعض الأساليب و الأشكال السائدة للإحتفاء بالمناسبات الإسلامية .
5- إن النظرة التاريخية إلى أساليب الإحتفاء المتنوعة و اختلافها من بقعة إلى أخرى ، و من زمان إلى آخر ، تؤكد  طرو التغيير و التطوير و التعديل عليها عبر التاريخ ، مع بقاء الجوهر و الأساس قاسما مشتركا بينها .

6- إن  التجديد و التطويرفي الوسائل و الممارسات غير التوقيفية ،   لا  يستلزم  حذفها أو إبعادها ، إذا لم يكن هناك ما يستوجب ذلك ، بل يمكن إيجاد فعاليات و برامج أخرى موازية لها .

7- إن على دعاة التجديد  و التعديل في الجانب المتغير من الوسائل و الأساليب أن لا يغفلوا التمييز بين وسيلة تخاطب نخبة معينة و تتفاعل معها شريحة محدودة ، و بين وسيلة جماهيرية تعنى بها مختلف القطاعات و تتفاعل معها مختلف الفئات من الأمة . و إن أي طرح لا يحوي بين  جوانبه عوامل الإستقطاب الجماهيري ، فهو لا يصلح بديلا في هذا المضمار .

و كيف ما  كان الأمر ، فإن التطور و التغير و التحول  في جانب من المناشط الحياتية الإنسانية ، سنة  من سنن الإجتماع البشري .   و قضية إحياء ذكريات أهل البيت عليهم السلام  تنطوي على أهداف و مبادئ و غايات كبيرة ، إلى جانب إحتوائها على  وسائل و أطر و تطبيقات  ، منها ما يمكن إدراجه  في الثوابت و منها  ما يدخل في   المتغيرات .  و ان عوامل التاريخ و الجغرافيا و السياسة تدلل على ان المجتمعات المنتمية إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام ،مع تمسكها الشديد  بنمط معين من الفعاليات  الجماهيرية ، بالأخص في مناسبة عاشوراء  ، إلا أنها  في نفس الوقت   تجاوبت مع بعض برامج التغيير و أبدت قدرا من المرونة في  بعض الجوانب المتحركة  منها ، سواء عبر إضافة مناشط و ممارسات جديدة غير معهودة أو بتعديل بعض ما هو قائم و سائد من  أنماط الإحتفاء . و على كل حال ، لا ضير في تواصل  حديث التجديد و التطوير بما لا يتجاوز الثوابت و يتواءم مع حركة الزمان و المكان  ، في  المجتمعات المسلمة  وصولا إلى مقاربات و رؤى  مشتركة .

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً