أحدث المقالات

من المرتضى إلى الصدر

 

د. الشيخ مهدي علي پور(*)

ترجمة: حسن علي مطر

 

مدخل ــــــ

لقد أشار المحقِّقون المسلمون منذ القدم ـ من خلال تعداد الرؤوس الثمانية ـ إلى عملية التبويب أيضاً. ورغم أنهم كانوا يستعملون مصطلح «القسمة»، إلاّ أنّه لم يكن مرادهم من ذلك سوى التبويب والتنظيم الصحيح والمنطقي للعلم. وربما أمكن لنا أن نعرّف عملية التبويب بأنها: «تنظيم وتصنيف مباحث العلم، وبيان موقعها، من خلال الالتفات إلى معايير الترتُّب المنطقي، وتقسيم المباحث إلى الموضوع والمبادئ والمسائل».

وقد ذكروا للتبويب فوائد جمّة، يمكن الإشارة إلى بعضها على النحو التالي:

1ـ إن عملية التبويب تسهِّل الطريق للوصول إلى العلم، والسيطرة على موضوعاته.

2ـ إمكان التحقيق والتعرُّف إلى مباحث العلم في وقت أقلّ، ولا تخفى ضرورة الاقتصاد في الوقت بالنظر إلى اتساع رقعة العلوم وتشعّبها.

3ـ إن عملية التبويب تحدّ من تكرار المباحث من دون ضرورةٍ تدعو إلى ذلك.

4ـ إن عملية التبويب تساعد المحقِّق في ذلك العلم في الوصول السهل إلى المباحث التي يحتاجها.

5ـ من خلال التبويب الصحيح والمنطقي لمباحث ومسائل أيّ علم من العلوم يتمّ تحديد الموضع الصحيح لكلّ مبحث بشكل واضح؛ إذ تبرز المبادئ التصوّرية والتصديقية العامة لذلك العلم، ويتمّ ترتيبها على نحو منطقي. وهكذا مسائل ذلك العلم يتمّ ترتيبها، وفق ذات الأسلوب المنطقي، بالالتفات إلى الارتباط والحاجة، في موضعها المناسب. وطبيعي أنّ المبادئ التصورية والتصديقية لكلّ مسألة تتقدّم من الناحية المنطقية عليها. وكلّ هذه الأمور تؤدي إلى جعل الاستنتاجات أكثر صوابية وإصابة للواقع، كما تؤدي إلى البُعد عن التعقيد، وعدم الخلط بين المسائل.

والنكتة الهامة الأخرى، والتي يجب علينا الإشارة إليها هنا، هي ملاكات التبويب الصحيح. ربما أمكن تقديم الكثير من الملاكات في هذا الشأن، ولكن الذي يبدو أساسياً عبارة عن أمرين:

الأول: معرفة ارتباط المسائل والمباحث ببعضها؛ إذ من خلال ذلك يتضح ما هي المباحث التي تترتَّب على المباحث الأخرى؟ وما هي المباحث التي تعتبر من مبادئ المسائل الأخرى؟ ومن الطبيعي أن هذا الأمر يجب أن يُراعى في التنظيم والتبويب المنطقي.

الثاني: معرفة الموضوع([1])، من خلال تعريفه وبيان حدّه ورسمه، والغاية التي ينشدها؛ إذ من خلال معرفة هذه الأمور بشكل صحيح يمكن الفصل بين مسائل العلم وبين مبادئه التصوّرية والتصديقية، وإقامة ترتُّب منطقي بينها بالنظر إلى الأولويات. وهذا ما قد بحثتُه وحققتُه بالتفصيل في مقالة أخرى.

وأما في هذه المقالة فإننا نسعى إلى تقديم تقرير عن المسار التاريخي لتطوّر التبويب في علم الأصول، منذ بداية نشأته إلى عصرنا الحاضر، مع بيان التبويبات التي تمّ فيها رعاية ملاكات التبويب الصحيح، وأيٌّ منها لم يحتوِ على تلك الملاكات، وإنما قام على أذواق وأمزجة أصحابها([2]). وفي هذا المجال سنتعرّض إلى تبويب المحقِّق الكبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر& بالتفصيل، وسنبحث في مستوى الاستحكام والدقّة ورعاية ملاكات التبويب الصحيح فيه.

لقد تخطّى علم الأصول مراحل مختلفة. وإنّ المحقق أو الطالب الذي يستطيع التعرّف على هذا المسار التاريخي سوف يحصل على إحاطة شاملة وجامعة ومنسجمة حول هذه الحركة والنظام والتبويب المناسب، ويحصل على الكثير من الفوائد الجديدة والبديعة. ومن الطبيعي أن تكون أفضل وسيلة للاطلاع على مثل هذا التحوّل هي تلك التي تكمن في الرؤية الدقيقة إلى التبويبات المطروحة في هذا العلم؛ إذ من خلال أدنى مقارنة نجريها بين الكتب الأصولية، من قبيل: العُدّة، والمعارج، والمعالم، والقوانين، والكفاية، والحلقات، وغيرها من الكتب الأصولية، ندرك هذا المسار في تاريخ التبويب، وما طرأ عليه من التغيير والتحوّل الشامل والكلّي. من هنا فإن النظر في تاريخ التبويب في علم الأصول يبدو ضرورياً. وهذا ما نسعى إلى بيانه في هذه المقالة.

وربما كان من المناسب ـ قبل الخوض في موضوع المقالة ـ أن نذكّر بأمور حول الأهمية الكبيرة لبحث تاريخ علم الأصول؛ من أجل الوصول إلى ما طرأ عليه من التغييرات، وعناصر تلك التغييرات، وما إذا كان التكامل في الأصول متزامناً ومنسجماً مع التغيرات الحاصلة في علم الفقه أم لا؟ وإذا كان الجواب بالنفي فكيف يمكن إيجاد هذا التزامن والانسجام؟ كما يجب تحديد ما كان عليه علم الأصول من نقاط القوّة والضعف، والحيوية والجمود، وكيفية حصول ذلك، وهل تمّ الكشف عن العناصر والأسباب الدخيلة في ذلك؟ وإذا تم اكتشافها فهل تمّ العمل على صيانة هذا العلم من أن يبتلي في المستقبل بذات الموانع التي ابتلي بها في الأزمنة السابقة أم لا؟ وإن لم يتمّ اكتشافها هل أجري حتى الآن تحقيق من أجل التعرّف عليها واصطيادها أم لا؟

وخلاصة الكلام: إننا بحاجة إلى تحقيق واسع حول مراحل التطوّر والتقدّم في علم الأصول وأشكاله وعناصره. وبطبيعة الحالة فإننا في الإجابة الدقيقة عن الأسئلة المتقدّمة بحاجة إلى كتابة أخرى لا يتَّسع لها حجم هذه المقالة([3])، التي نتحدَّث فيها عن شكل التحول والتغيير في تبويب علم الأصول بالتفصيل.

ومن أجل دراسة شكل وكيفية تطور علم الأصول يجب أولاً أن نقوم بجولة حول أدوار هذا التطوّر؛ لكي نتمكن من الوصول إلى النتيجة المطلوبة من خلال التدقيق في تبويبات هذا العلم في مختلف المراحل.

وقد شرح السيد الشهيد الصدر& كيفية تطوّر علم الأصول ضمن مراحل ثلاث([4])، وهي:

1ـ عصر التمهيد وإعداد الأرضية.

2ـ عصر العلم.

3ـ عصر التكامل.

وقد بدأ سماحته عصر التمهيد بابن عقيل العُماني، وابن جُنَيْد الإسكافي، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، وختمه بالشيخ الطوسي، حيث ينحدر علم الأصول في نهاية هذه المرحلة نحو الضعف والأعمال الرتيبة والمتكرّرة. وفي هذه المرحلة تمّ تدوين الكتب الأصولية التالية: (كشف التمويه والاستئناس)، لابن الجنيد؛ ورسالة الشيخ المفيد الموجودة في (كنز الفوائد)، للكراجكي؛ و(الذريعة)، للسيد المرتضى، وكذلك (عدّة الأصول) أيضاً.

وأما عصر العلم فقد رصد السيد الشهيد بدايته بعد قرن من الزمن، أي منذ بداية القرن السادس إلى القرن الثاني عشر. وقد بدأت هذه المرحلة بالسيد مكارم، وابن زهرة، وابن إدريس، واختتم بالمحقّق الحلّي، والعلامة الحلّي، والشهيد الأول، والشهيد الثاني، والفاضل المقداد، وصاحب المعالم، والشيخ البهائي. وهذه المرحلة هي مرحلة ازدهار علم الأصول. وفيها ألَّف المحقق الحلي (نهج الرسول)، و(المعارج)، وبادر العلامة الحلي أيضاً إلى كتابة (تهذيب الأصول)، و(مبادئ الأصول)، و(غاية الأصول)، و(شرح غاية الأصول)، للغزالي، و(منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول). ولا يزال بعض هذه الرسائل موجوداً إلى الآن. وألَّف فخر المحقّقين ابن العلاّمة (شرح التهذيب والمبادئ)، وكتب الشهيد الثاني (القواعد)، وكتب الشيخ محمد حسن (معالم الأصول)، وبادر الشيخ البهائي إلى تأليف كتاب (زبدة الأصول).

ومن ثم بدأت مرحلة جديدة من ضعف الأصول، وهجوم الأخباريين، والتي استمرّت على مدى القرنين الحادي عشر والثاني عشر.

وقال السيد الشهيد بأنّ عصر تكامل الأصول قد بدأ في نهاية القرن الثاني عشر، مع ظهور الشيخ الوحيد البهبهاني، واستمر إلى عصرنا هذا، الذي هو بداية القرن الهجري الخامس عشر. وفي هذه المرحلة عمد الطلاب الذين درسوا على يد الوحيد البهبهاني ـ إمّا مباشرةً، من أمثال: السيد مهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والميرزا القمي، والسيد علي الطباطبائي، والشيخ أسد الله التستري، أو بواسطة التلاميذ الذي درسوا على أيدي هؤلاء العباقرة، من أمثال: صاحب الفصول شريف العلماء المازندراني، والسيد محسن الأعرجي، والشيخ النراقي، وصاحب الجواهر، ومن بعدهم تلامذتهم، وعلى رأسهم الشيخ الأنصاري ـ إلى تطوير علم الأصول، والبلوغ به إلى القمّة والذروة. وفي نهاية المطاف قام أشخاصٌ، من أمثال: صاحب الكفاية، والشيخ النائيني، والشيخ العراقي، والشيخ الإصفهاني، بتوريث علم الأصول لعلماء كبار، من أمثال: الإمام الخميني، والسيد الخوئي، وغيرهما من المعاصرين.

وقد عمد الدكتور أبو القاسم الكرجي إلى بيان تحوّل وتطوّر الأصول عبر تسع مراحل([5]).  وبالطبع فإن هذا التقسيم أكثر شمولية ودقّة، ويظهر امتزاج واختلاط الكلام والمنطق بالأصول. ولكن حيث إنّ مقالتنا هذه ترصد هدفاً آخر فإننا سنكتفي بكلام السيد الشهيد الصدر في باب أدوار التحوّل والتطوّر.

أما الآن؛ وبالالتفات إلى التقسيم الذي قدَّمه المحقِّق السيد الشهيد الصدر بشأن مراحل تطوّر الأصول، نشير إلى بعض التبويبات لكلّ مرحلة. وضمن مقارنتها ببعضها سنعمد أيضاً إلى بيان كيفية وتبلور تطوّرها بوضوح. من هنا فإننا سوف نشير إلى المرحلة الأولى، أي المرحلة التمهيدية، من خلال تبويب الذريعة، للسيد المرتضى؛ والعُدّة، للشيخ الطوسي. ونبحث في عصر العلم، من خلال تبويبات المعارج، للمحقق الحلّي؛ والمبادئ، للعلامة الحلي؛ والمعالم، للشيخ محمد حسن. وفي مرحلة الكمال نُذكِّر بقوانين الميرزا القمي، وفصول الشيخ محمد حسين. وفي ما يتعلَّق بالمرحلة النهائية سنبحث في تبويبات رسائل الشيخ الأنصاري؛ وكفاية الأصول، للآخوند الخراساني، وتقريرات أعلام، من أمثال: الشيخ النائيني، والشيخ العراقي، والشيخ الإصفهاني، والإمام الخميني، والسيد الخوئي، مع تبويبات أصول الفقه للشيخ المظفَّر، وحلقات السيد الشهيد الصدر، و…([6]).

ففي «الذريعة إلى أصول الشريعة»([7])، للسيد المرتضى، نطالع المباحث التالية: الألفاظ، والعلم والظن، والأمر، ومقدّمة الواجب، والنهي عن الضدّ، والإجزاء، والنهي، والعامّ والخاصّ، والمجمل والمبيّن، والمفاهيم، والنسخ، والخبر ونقل الخبر، والأحكام وأفعالها، والإجماع، والقياس، والاجتهاد، والحظر والإباحة، والاستصحاب.

وكما هو واضح فإن أكثر مباحث هذا الكتاب ـ رغم أنّه من أوّل الكتب الأصولية عندنا ـ موجودةٌ في الكتب الأصولية المعاصرة أيضاً. وبطبيعة الحال فإن السيد المرتضى قد طرحها بشكلٍ خام، ومن دون إضافة أيّ نظام عليها.

وفي «عدّة الأصول»([8])، للشيخ الطوسي، نشاهد هذا التبويب: العلم والظنّ، والدلالة والأمارة، وارتباط الدليل والخطاب، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن، والناسخ والمنسوخ، وطريق إثبات الخطاب، والفعل وأحكام الأفعال، والإجماع، والقياس، والاجتهاد، والمفتي والمستفتي، والحظر والإباحة. وهكذا نلاحظ أن تنظيم الشيخ أقوى وأمتن، ويحكي عن تناسق أكثر.

وأما المحقِّق الحلّي في «معارج الأصول»([9]) فقد عمد إلى استعراض المسائل والمباحث الأولية بشكل مضغوط ومختصر جدّاً، وقد رتّب كتابه في عشرة أبواب، على النحو التالي: تعريف الأصول والأصل، والفقه والأحكام الشرعية، وطريق الحكم، والعلم والظن، ودلالة الأمارة، والدلالة، والكلّي والجزئي، والمتواطئ والمشكّك، والترادف والاشتراك، والحقيقة والمجاز، وعلامات كشف الحقيقة والمجاز، والحقيقة الوضعية والعرفية، والعرف الخاص والحقيقة الشرعية، وأحكام المجاز، وأحكام الحروف، والأمر والنهي، والعموم والخصوص، والمجمل والمبين، والأفعال، والإجماع، والأخبار، والناسخ والمنسوخ، والاجتهاد، والقياس، والمفتي، ومجهول الحكم، والاستصحاب، ونافي الحكم، وملحقات الأصول.

وأما مبادئ الأصول([10]) للعلاّمة الحلي فقد تم تبويبه في اثني عشر فصلاً:

الأول: في اللغات، وتعميم الألفاظ، وأحوال اللفظ والتعارض، وأحوال وتغيير بعض الحروف.

الثاني: في الأحكام. وتحتوي على ستّة أبحاث: الفعل، والحكم، والإجزاء، والحسن والقبح، وشكر المنعم، والإباحة.

الثالث: في الأوامر والنواهي. ويحتوي على اثنين وعشرين بحثاً.

الرابع: في العموم والخصوص. ويحتوي على تسعة أبحاث.

الخامس: في المجمل والمبيّن. ويحتوي على خمسة أبحاث.

السادس: في الأفعال. ويحتوي على أربعة أبحاث، أكثرها بحوث كلامية.

السابع: في النسخ. ويحتوي على خمسة أبحاث.

الثامن: في الإجماع. ويحتوي على أربعة أبحاث.

التاسع: في الأخبار والجرح والتعديل. ويحتوي على تسعة أبحاث.

العاشر: في القياس. ويحتوي على خمسة أبحاث.

الحادي عشر: في التعادل والتراجيح. ويحتوي على أربعة أبحاث.

الثاني عشر: في الاجتهاد والتقليد. ويحتوي على تسعة أبحاث، والبحث التاسع والأخير يدور حول الاستصحاب.

وكما تلاحظون فإنّ أغلب مباحث هذه الكتب الأربعة التي تنتمي إلى المرحلة الأولى والثانية متشابهة. إلاّ أن الذي يظهر بوضوح هو أننا نستطيع مشاهدة المسار التكاملي في هذه المباحث أيضاً. فمثلاً: إن الاضطراب الموجود في طريقة طرح المباحث في كتاب الذريعة، للسيد المرتضى، لا نشاهده في مبادئ الأصول، للعلامة الحلي، أبداً، بل عمد العلاّمة الحلي ما أمكنه إلى إعطاء المباحث مساراً منطقياً جميلاً للغاية. كما تبرز الاختلافات الجزئية اليسيرة بين كلٍّ من هذه التبويبات. ويعود هذا التمايز بين تبويب (الذريعة)، للسيد المرتضى، و(مبادئ الأصول)، للعلامة الحلّي، إلى الفاصلة الزمنية الكبيرة التي تفصل بينهما. ومن باب المثال: فإن الشيخ يعمد إلى طرح جميع مباحث الأمر والنهي إلى الناسخ والمنسوخ والخبر تحت عنوان عامّ اسمه (الخطاب)، في حين ليس الأمر كذلك في الذريعة. كما لا نشاهد بحث الاستصحاب في العُدّة للشيخ، في حين تمّ طرح بحث الاستصحاب في كلٍّ من الذريعة والمعارج والمبادئ، إمّا بشكلٍ مستقلّ أو ضمن بحث آخر. وهناك اختلافاتٌ يسيرة أخرى تتَّضح من خلال المقارنة بين هذه الكتب الأربعة، وليست هناك من حاجة إلى ذكرها. وأما المهمّ في البين فهو أن الأصول العملية لم تكن قد وَجَدت طريقها ومكانها في كتب هذه المرحلة بعد، ولم تكن لتبحث بشكل مستقلّ وجامع.

 

تبويب المعالم ــــــ

في كتاب «معالم الأصول»، للشيخ محمد حسن العاملي، ابن الشهيد الثاني، الذي كتبه كمقدِّمة لكتابه الفقهي تحت عنوان: «منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان» نشاهد التبويب التالي: يحتوي الكتاب على مقدّمتين: الأولى: في العلم، وتكاليف العلماء، وشرف الفقه، والحاجة إليه؛ والأخرى: في مباحث الأصول، يتم بيانها ضمن تسعة أمور: الأمر الأوّل: مباحث الألفاظ، والأمر الثاني: الأوامر والنواهي، والأمر الثالث: العموم والخصوص، والأمر الرابع: المطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن، والأمر الخامس: الإجماع، والأمر السادس: الأخبار، والأمر السابع: النسخ، والأمر الثامن: القياس والاستصحاب، والأمر التاسع: الاجتهاد والتقليد، وكذلك خاتمة الكتاب في تعارض الأدلة (التعادل والتراجيح). وهذه الأبواب التسعة تشتمل على جميع المباحث التي يذهب صاحب المعالم إلى أصوليتها. وعلى الرغم من أن تبويب وتنظيم هذا الكتاب يعتبر بالمقارنة إلى الكتب المعاصرة له والسابقة عليه عملاً قيِّماً وغنياً، إلا أنّه إلى جانب هذه المحاسن والمزايا يحتوي على بعض العيوب، ومنها: عدم تحديد الملاك الذي تمّ على أساسه هذا التبويب، ولذلك تمّ إخراج الكثير من المباحث ولم يتمّ طرحها وبحثها. كما أنّ مباحث الكتاب لم تبلغ تلك المتانة التي تقسِّم الأدلة إلى: فقهيِة؛ واجتهاديّة، لكي تجد الأصول العملية موقعها من مباحث علم الأصول.

 

تبويب الميرزا القمي ــــــ

ظلّ تبويب صاحب المعالم هو المتَّبع بعده لمدّة طويلة، حتى جاء دور الميرزا القمي، حيث عمد في تبويبه إلى تظهير الأصول على نحو أبرز. ويجب الالتفات إلى أن ما قام به الميرزا القمي جاء بعد نهضة العلاّمة البهبهاني، وصدّه الهجمة الأخبارية على الحوزات الدينية. وقد أقام الميرزا القمي كتاب «قوانين الأصول»([11]) على مقدّمة، وسبعة أبواب، وخاتمة.

وقد تمّ في المقدّمة بيان مباحث الألفاظ، وتعارض الأحوال، وبحث المشتقّ.

والباب الأول: الأمر والنهي، والباب الثاني: المفهوم والمنطوق، والباب الثالث: العامّ والخاص، والباب الرابع: المطلق والمقيّد، والباب الخامس: المجمل والمبيّن، والباب السادس: الأدلة الشرعية، وقد تمّ ذكرها ضمن أربعة أقسام، تمّ فيها بحث الإجماع والكتاب والسنّة، وكذلك فعل وقول وتقرير المعصوم، وإلى جانبها العقل المستقلّ وتابع الخطاب، ثم ينتقل إلى بحث البراءة والاشتغال والاستصحاب العقليّ والشرعي، وقاعدة لا ضرر أيضاً، وفي الباب السابع أشار إلى الاجتهاد والتقليد.

وخصّ الخاتمة ببحث تعارض الأدلة (التعادل والتراجيح).

وفي القوانين تمّ رفع الخطوة الأولى في مباحث المشتقّ، وبحث مستقلّ عن المفاهيم، وتمّت دراسة الإجماع والكتاب والسنّة والعقل أيضاً، وإنْ لم يبرز في حينها بحث حول الأصول العملية بشكلٍ مستقلّ. وبالإضافة إلى ذلك فإن الميرزا القمي قام بأبحاث مستقلّة حول الاستصحاب والبراءة والاشتغال. كما أدخل قاعدة لا ضرر ضمن الأصول، حيث استمرّ بقاؤها ضمن الأصول في الفترات اللاحقة، ولا زال هذا البحث يطرح حتّى الآن بشكل تفصيلي في نهاية مبحث الاشتغال. وإنّ من المباحث الهامّة التي طرحها الميرزا القمي في الأصول بحث «انسداد باب العلم»، وهو أمرٌ ملفتٌ للانتباه.

 

 تبويب صاحب الفصول ــــــ

وفي تبويب صاحب «الفصول الغرويّة في الأصول الفقهية»([12]) نشاهد أن هذه المباحث ـ التي هي في حقيقتها ناظرة إلى كلام الميرزا القمي ونقده ـ تشتمل على مقدّمة، وثلاث مقالات، وخاتمة.

وفي المقدمة يعمد إلى تعريف علم الأصول، ويأخذ موضوع الأصول «ذات الأدلّة»، لا بما هي أدلّة، كي لا يقع في نفس الإشكال الذي وقع فيه صاحب القوانين في تعريف علم الأصول. وبعد ذلك يطرح المبادئ اللغوية، والحقيقة والمجاز، والوضع، ودلالة وأحوال اللفظ وتعارضه، والحقيقة والمجاز وعلاماتهما، والحقيقة الشرعية، والصحيح والأعمّ، واستعمال اللفظ في أكثر من معنى، والمشتقّ.

وفي المقالة الأولى يبحث في الدلالة. وفي المقالة الثانية يبحث في الأدلة السماعيّة. وفي المقالة الثالثة يبحث في الأدلة العقليّة.

وفي الخاتمة يبحث مسألة الاجتهاد والتقليد، وتعارض الأدلة.

وفي الفصول كذلك لم يتمّ الفصل بين الأدلّة والأصول، ولا تجد الأصول موقعها المناسب ضمن المباحث الأخرى.

 

تبويب الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني ــــــ

وفي ما يلي نصل إلى تبويب الشيخ الأنصاري، وهو المعروف والمشتهر بـ «أب علم الأصول الحديث»، ولا يزال محتفظاً بهذا اللقب. وإن هذا التبويب لعلم الأصول وإنْ بلغ مرحلة أكثر تكاملاً من سابقتها، ولكنّه لا يختلف عن أصول الشيخ اختلافاً أساسياً وجوهرياً. وبطبيعة الحال فإن تطوير الشيخ للأصول طبقاً للتنظيم المعاصر يبدو على نحو أكثر في القسم الثاني من المباحث الأصولية، وأما في ما يتعلَّق بالقسم الأول من المباحث الأصولية، وهو الذي يعرف حالياً بمباحث الألفاظ، فلم يُحدِث هو، ولا أعلام، من أمثال: المحقِّق الخراساني، والمحقِّق النائيني، والمحقِّق العراقي، تغييرات ملحوظة عليه. بل يتعيَّن علينا الانتظار حتى يأتي فيما بعد عهد المحقِّق الكبير الشيخ محمد حسين الإصفهاني وتلاميذه، واعتبار التكامل في هذا القسم من المباحث الأصولية من جملة إنجازاتهم.

لقد أحدث الشيخ الأعظم تطويراً كبيراً في الأدلة الاجتهادية والفقهية؛ حيث عمد إلى الفصل بين هذين النوعين من الأدلّة. وفي البداية بحث في الكتاب والسنّة والعقل والإجماع بوصفها أدلّة اجتهادية، ومن ثم صار إلى الدخول في الأدلة الفقهية، أي البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب. وقد قدَّم الشيخ تقسيماً جديداً بشأن البحث عن حكم المقطوع والمظنون والمشكوك([13])، وعمد إلى تنظيم رسائله على طبق كلّ واحدٍ منها. ولذلك فإنّ الباب الأول من الرسائل يشتمل على بحث القطع وأحكامه. والباب الثاني يشتمل على مباحث الظنون والأمارات. والباب الثالث يشتمل على الأصول العملية التي تجري في ظرف الشكّ.

ومن إبداعات الشيخ الأنصاري بحث الحكومة والورود، والتعارض والتزاحم، حيث تمّ عرضها ضمن نظم خاصّ.

كما أحدث نقلة كبيرة في الأصول العملية؛ حيث يمكن لنا أن نشير من باب المثال إلى بحوث الأصل المثبت، والأصل السببي والمسببي، الذي تمّ طرحه في الاستصحاب. كما أن من الإبداعات الهامّة للشيخ الأنصاري دراسته التفصيلية والنقدية الدقيقة لنظرية «انسداد باب العلم»، التي ذكرها الميرزا القمي، وكان من القائلين بها. وبعد نقد هذه النظرية من قبل الشيخ الأنصاري فقد هذا البحث أهمّيته، ولم يعُدْ يُطرَح بشكلٍ جادّ في علم الأصول، وليس هناك اليوم مَنْ يذهب إلى تبنّي هذه النظرية.

يمكن الوقوف على التطوُّر الذي أحدثه الشيخ الأعظم في الأصول بشكل واضح وبديع من خلال النظر في كتاب «كفاية الأصول»، لتلميذه اللامع المحقِّق الخراساني. ولا يزال هذا الكتاب وتبويب مباحثه منهجاً لدروس بحوث الخارج في الحوزات العلمية.

يشتمل كتاب «كفاية الأصول» على: مقدّمة، وثمانية مقاصد، وخاتمة.

وفي مقدمة الكفاية بحث الآخوند الخراساني الرؤوس الثمانية، وهي: تعريف العلم، وموضوع العلم، وتمايز العلوم، وفائدة العلم، وما إلى ذلك. ومن ثم تعرَّض إلى مباحث الوضع وأقسامه، وعلامات الوضع وأحواله، والصحيح والأعمّ في ألفاظ العبادات والمعاملات، واستعمال اللفظ في أكثر من معنى، والمشتقّ.

والمقصد الأول: في الأوامر، والمقصد الثاني: في النواهي، والمقصد الثالث: في المفاهيم، والمقصد الرابع: في العام والخاصّ، والمقصد الخامس: في المطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن، والمقصد السادس: في الأمارات الشرعية والعقلية المعتبرة، والمقصد السابع: في الأصول العملية التي تبحث في البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، والمقصد الثامن: في تعارض الأدلّة والأصول.

وفي خاتمة الكتاب يبحث في الاجتهاد والتقليد.

وكما هو ملاحظ هناك اختلاف كبير بين تبويب المعالم والكفاية؛ لأن المباحث في الكفاية اتخذت تنظيماً أكثر منطقية، واحتلّت إلى حدّ كبير مكانتها ومنزلتها الخاصة، ومن بينها مباحث الأصول العملية، ومبحث تعارض الأدلة، وما إلى ذلك. وهو أمرٌ لا نشاهده في المعالم وما قبلها. وفي المقابل، لم نعُدْ نرى مباحث، من قبيل: النسخ، الذي كان حتّى عصر صاحب المعالم يُعدّ من البحوث الهامّة، ويُعتبر من المسائل الرئيسة في الأصول، وأما في الكفاية فلم يعُدْ له أهمّية، ولا يحظى بالأولوية، بل لا يتمّ طرحه والإشارة إليه حتّى ضمن المباحث الأخرى. والمسألة الأخرى هي أن التبويب الجديد لا يذكر بحث القياس والاستحسان، في حين كان لكلّ واحد من هذه المباحث باباً مستقلاًّ في تبويب الأقدمين.

وتعود جذور عدم طرح هذه المباحث إلى القوانين، التي تمّ إبرازها في الكفاية. وبطبيعة الحال هناك الكثير من الاختلافات اليسيرة التي يمكن ملاحظتها بسهولة من خلال المقارنة بين التبويبين.

وأما الذي يبدو أساسياً فهو أنّ هذه النقلة الكبيرة لم تنتهِ بظهور الشيخ والآخوند، بل كانت تشهد بدايتها، وخاصّة في ما يتعلَّق بمباحث القسم الأول من الأصول، حيث لم يُجرِ هذان العلمان المحقِّقان الكثير من الإصلاحات والتغييرات عليها، وإنما تمّ حصول هذه التغييرات على يد المحقِّق الذي جاء بعدهما. وحتّى القسم الثاني من الأصول، والذي تمّ تطويره من قبل الشيخ والآخوند، تمّ إضافة المزيد من التطويرات عليه مراراً وتكراراً على يد المحقِّقين اللاحقين، من أمثال: الشيخ النائيني، والشيخ العراقي، والإمام الخميني، والسيد الخوئي، وآخرين، حتّى اقترب من مرحلة كماله بشكل أكبر. والحقيقة أنّ هذه الحركة التطويرية لا زالت متواصلة ومستمرة. وأما القسم الأوّل من الأصول فقد شهد بداية حركته التكاملية بظهور المحقِّق الكبير الشيخ محمد حسين الإصفهاني، وإنْ كان الدور الكبير الذي قام به المحقِّق النائيني والمحقِّق العراقي في إثراء هذه الحركة التطويرية لا يمكن أن يُنْكَر.

تبويب المحقق الإصفهاني ــــــ

لقد جاء تبويب المحقِّق الإصفهاني في كتابه غير المكتمل باسم «بحوث في الأصول»([14]). فقد كان سماحته قد عقد العزم على تأليف دورة في علم الأصول على طبق التبويب المقترح من قبله، ولكنّه ـ للأسف الشديد ـ لم يتمكَّن من تحقيق هذه الرغبة، ولم يتمكَّن إلاّ من إتمام جزء قليل من هذا الكتاب.

وقد كان تبويب المحقق الإصفهاني على الشكل التالي: مقدّمة، وأربعة أبواب، وخاتمة([15]).

وفي المقدّمة ذكر المبادئ التصوّرية والتصديقيّة لعلم أصول الفقه. وفي المبادئ التصوّرية تمّ أوّلاً طرح المبادئ التصوّرية اللغوية المشتملة على مباحث الوضع، والمعاني الحرفية، والإنشاء والإخبار، وعلامات الحقيقة والمجاز. وبعد ذلك انتقل إلى بيان المبادئ التصوّرية لأحكام تشمل البحث عن أقسام الحكم ـ الأعمّ من التكليفي والوضعي ـ، وكذلك تقسيماته الأخرى.

وفي ما يتعلق بالمبادئ التصديقية عمد المحقق الإصفهاني أوّلاً إلى بيان المبادئ التصديقية اللغوية الشاملة لمباحث الحقيقة الشرعية، والصحيح والأعمّ، وإمكان الاشتراك، واستعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ثم يذكر المبادئ التصديقية الأحكاميّة، والتي تشتمل على مباحث إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر وعدم إمكان ذلك، وبحث الضدّ والترتّب، والبحث عن إمكان تعلّق الأمر بالطبيعة وعدمها، وكذلك بحث الوجوب (وكونه مركّباً أو بسيطاً).

الباب الأول: مسائل الأصول العقلية. وتشتمل على الإجزاء، ومقدمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي.

الباب الثاني: المسائل اللفظية. وتشمل المجعولات التشريعية، مثل: الأوامر والنواهي، والمجعولات التشريعية من حيث تعلّقها بالشرط أو الوصف أو..، وموضوعات المجعولات التشريعية، ومتعلّقها من حيث العموم والخصوص، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن.

الباب الثالث: الحجج، من قبيل: حجّية الظهور مطلقاً، وظاهر الكتاب خصوصاً، وحجّية حكاية السنّة، وحجّية نقل الإجماع، وحجية الاستصحاب.

الباب الرابع: تعارض الحجّتين دلالة أو سنداً.

الخاتمة: البحث عن البراءة والاشتغال، والاجتهاد والتقليد.

وقد ذكر المحقّق الإصفهاني في تبرير تبويبه ضرورة الالتفات إلى مسألتين، وهما:

أولاً: إن تقديم المسائل العقلية على المسائل اللفظية إنّما هو لشرف المسائل العقلية، وقلّة عددها.

ثانياً: الموارد التي تضمّنتها الخاتمة إمّا أن تكون بنفسها حكماً شرعياً مستنبطاً، أو أنها لا تنتهي إلى الحكم الشرعي أساساً؛ لذلك أوردناها في خاتمة البحث؛ لأنها لا تدخل ضمن مقاصد الفنّ، وفي الوقت نفسه لا يتمّ بحثها في علم آخر، مع أنّ الفقيه يحتاج إليها([16]).

يجب الالتفات إلى أن المحقّق الإصفهاني قد تعرّض في مقدّمة هذا الكتاب إلى بيان الأصول الثمانية، من قبيل: التعريف، والموضوع، والغرض، وما إلى ذلك. ومن بينها التبويب أو القسمة، وهو ما نروم التعرّض له هنا.

وكما نلاحظ فإن تبويب المحقِّق الإصفهاني منطقيّ ومتين. والذي يتجلّى فيه أمور يمكن بيانها بما يلي:

1ـ إدراج مباحث الوضع إلى المشتقّ والصحيح والأعمّ وما إلى ذلك في المبادئ التصوّرية اللغوية والتصديقية اللغوية.

2ـ إدراج المباحث المرتبطة بالأحكام وأقسامها وبعض المسائل المرتبطة بها في المبادئ التصورية للأحكام، والمبادئ التصديقية للأحكام، وبهذه الرؤية لا يعود هذا القسم من المباحث من مسائل علم الأصول.

3ـ تخصيص باب مستقلّ بالمباحث العقلية، وهو أمرٌ لم يسبق لأحد أن ذكره قبله. حيث كانت المباحث العقلية تُبحث ضمن مباحث الألفاظ، وهو أمرٌ غير مناسب.

4ـ إدراج الاستصحاب بوصفه واحداً من الحجج، وهذا يعني أنه لا يعتبره من الأدلة الفقهية.

5ـ إدراج بحث البراءة والاحتياط في الخاتمة، حيث صرَّح بأن هذين البحثين ليسا من مسائل الأصول.

ولكنّ الذي يدعو إلى التساؤل هنا هو: لماذا لم يحظَ هذا التبويب المقترح من قبل سماحته بأيّ احتضان من قبل مَنْ جاء بعده من العلماء، وحتى تلميذه الشيخ محمد رضا المظفَّر، الذي هو من أتباع مدرسته، لم يتَّبع هذا التبويب، وعمد، على الرغم من ادعائه، إلى ذكر تبويب آخر في كتاب «أصول الفقه»([17])، واقتصر فيه على التزام القسم الأوّل منه، أي فصل مباحث الألفاظ عن المباحث العقلية؟ ربما أمكن القول إن استعمال اللغة الفلسفية في المباحث الأصولية، والأسلوب الصعب والمعقَّد في بيان هذا المحقِّق العميق، كان عنصراً رئيساً في عدم شيوع هذا التبويب.

وقبل أن نذكر تبويب الشيخ المظفَّر يجدر بنا أن نشير إلى مسألة هامّة، وهي أننا بأدنى تدقيق ندرك أن أكثر هذه التبويبات ـ إذا لم نقُلْ جميعها ـ قد تمّ تنظيمها بحيث ترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوع العلم الذي هو أحد الرؤوس الثمانية. وهذا ما أشرنا له في المدخل الذي ذكرناه في بداية البحث([18]). وهذا الأمر نشاهده بوضوح في تبويب المحقِّق الإصفهاني أيضاً. ولكي نعمل على توضيح هذه المسألة هنا بشكل أكبر سنكتفي بالإشارة إليه مجرّد إشارة، فنقول: حيث إنّ المحقق الإصفهاني يرى أن موضوع علم الأصول هو «إقامة الحجّة على حكم العمل» فقد ذكر في تبوبه مباحث من قبيل: البراءة والاشتغال في الخاتمة؛ لأنّهما إمّا من الأحكام الشرعية المستنبطة، أو التي لا تنتهي إلى الحكم العملي أصلاً. ومن هنا فإن أصالة البراءة وأصالة الاشتغال لا تندرج في تبويبه ضمن مباحث الحجج، أو في باب مستقلّ يشتمل على المسائل الأصولية. وكذلك المباحث التي يذكرها تحت عنوان المقدّمة، أي المبادئ التصورية اللغوية والأحكامية، والمبادئ التصديقية اللغوية والأحكامية؛ إذ لا ترتبط بهذا الموضوع، فإنها لا تدخل في المسائل، ولذلك فإنها تندرج في المقدمة من تبويبه؛ لأن هذه المباحث تقع مورداً للبحث في علم آخر، وإنّما يتمّ ذكرها هنا للحاجة إليها. كما تشاهد هذه المسألة في تبويبات الآخرين أيضاً.

تبويب الشيخ المظفر ــــــ

يشتمل تبويب الشيخ المظفَّر على: مقدمة؛ وأربعة مقاصد.

وقد تعرّض في المقدمة إلى المبادئ التصورية، ومباحث الوضع وإلى بحث المشتق.

والمقصد الأول: مباحث الألفاظ. وتشتمل على: مباحث الأوامر، والنواهي، والمفاهيم، والعام والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن.

والمقصد الثاني: المستلزمات العقلية. وتشتمل على قسمين: الأول: المستقلات العقلية، ويتناول الحُسن والقبح العقلي. والثاني: غير المستقلاّت العقلية، ويتناول مباحث الإجزاء، والضدّ، واجتماع الأمر والنهي، ودلالة النهي على الفساد وما إلى ذلك.

والمقصد الثالث: مباحث الحُجّة. ويشتمل على البحث عن القطع، والأمارات، وتعارض الأدلة.

والمقصد الرابع: الأصول العملية. ولا يُرى بطبيعة الحال في كتب أصول الفقه سوى بحث الاستصحاب.

وكأنَّه لم يُوفَّق إلى كتابة بحث البراءة والاشتغال. وكما قلنا فإن جوهر تبويب الشيخ المظفَّر هو نفس التبويب المقترح من قبل المحقق الإصفهاني، ولكن مع اختلافات كثيرة. ومن مواطن اختلاف تبويب الشيخ المظفَّر عن تبويب الشيخ الإصفهاني أنه في المباحث العقلية ـ أي المقصد الثاني من كتابه ـ، مضافاً إلى غير المستقلاّت العقلية، يبحث عن المستقلاّت العقلية أيضاً، وطبعاً فإن رؤيته بشأن المباحث الأصولية العقلية، وتقسيمها إلى المستقلاّت العقليّة وغير المستقلاّت العقلية، وتظهير هذين البحثين من قِبَله ملفت للانتباه، وهو أمرٌ لم يلتفت إليه المحقِّق الإصفهاني.

والاختلاف الثاني أنه يبحث الاستصحاب ـ كسائر المحقِّقين الأصوليين بعد الشيخ الأعظم ـ ضمن الأصول العملية، في حين يعمد الشيخ الإصفهاني إلى بحث الاستصحاب ضمن الحجج.

والتمايز الثالث هو أنه لا يتعرّض للمبادئ التصوّرية والتصديقية اللغوية والأحكامية، وإنما يأتي ببعض المباحث اللغوية والوضع في المقدّمة، والمبادئ الأحكامية الأخرى في تضاعيف بحوثه في المقصد الأول.

وممّا يميّز تبويب الشيخ المظفَّر أنّه لم يفتح باباً مستقلاًّ لبحث تعارض الأدلة، وإنّما يتعرض له ضمن مباحث الحجة، في حين أن المحقق الإصفهاني خصَّص الباب الرابع من تبويبه لتعارض الأدلة.

ومن جملة خصائص تبويب الشيخ المظفَّر سهولة ضبطه واستذكاره في الذهن، واستحكامه منطقياً إلى حدٍّ ما. وبطبيعة الحال فإن سلاسة تعبيره ورصانة أسلوبه كان لها تأثير في ذلك. كما أنه يذكر مرّة أخرى مباحث القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع ضمن مباحث الحجّة، وينتقدها. هذا في حين كانت كتب علم الأصول بين الشيعة تتجاهل هذه المباحث منذ فترة طويلة. وربما تعود جذور هذا التجاهل إلى قوانين الميرزا القمي، ومن بعده الشيخ الأعظم والمحقِّق الخراساني، حيث عمد تلاميذهما من بعدهما إلى تجاهل هذه المباحث، تبعاً لهما. وإنّ تطرُّق الشيخ المظفَّر لهذه المباحث بطبيعة الحال يستحق التقدير.

 

تبويب السيد الشهيد الصدر ــــــ

لقد تمتَّع السيد الشهيد بذكاء وقّاد وعبقرية فذّة، أهّلته لكي يأتي بإبداعات في كثير من العلوم، من قبيل: الفقه، والمنطق، والفلسفة، والاقتصاد الإسلامي، وما إليها. كما كانت له الكثير من الأمور الإبداعية والتجديدية والتأسيسية في علم الأصول أيضاً. فمن خلال صياغته لتعريف جديد لعلم أصول الفقه، وجعل موضوع جديد له، وذهابه إلى مسلك حقّ الطاعة كمبنى له في موارد القطع والظنّ والشكّ، ومبنى حساب الاحتمالات في الإجماع والشهرة وما إليهما، أحدث تغييراً جذرياً في الأصول على المستوى المضموني والشكلي، وبلغ به مرحلة متقدّمة من النضج والتكامل. من هنا يجدر بنا دراسة كلماته في هذا الباب بتفصيلٍ أكبر وأدقّ وأكثر عمقاً.

لقد قدَّم السيد الشهيد الصدر في بداية كتاب «بحوث في علم الأصول» ـ الذي هو تقرير درسه، بقلم: المحقِّق السيد محمود الهاشمي ـ بحثاً تفصيلياً نسبياً حول تبويب علم الأصول، سنذكر خلاصته في ما يلي: لقد عمد السيد الشهيد الصدر قبل أن يقدِّم تقسيمه المقترح إلى نقل ونقد التبويب الذي قدّّمه أستاذه السيد الخوئي&، تبعاً لكبار العلماء المتقدِّمين. فقد قسّم السيد الخوئي المباحث الأصولية إلى أربعة أقسام:

1ـ ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلمٍ وجدانيّ. وهذا هو مباحث الاستلزام العقلي.

2ـ ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلمٍ تعبّدي. وهذا على ضربين:

الأول: ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى. وهذا هو مباحث الألفاظ بأجمعها.

الثاني: ما يكون البحث فيه عن الكبرى. وهذا هو مباحث الحجج والأمارات الظنّية.

3ـ ما يُبحث فيه عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلَّفين عند العجز عن معرفة الحكم الواقعي بعلمٍ وجداني أو تعبدي. وهذا هو مباحث الأصول العملية الشرعية.

4ـ ما يُبحث فيه عن الوظيفة العملية العقليّة في مرحلة الامتثال عند فقدان ما يعيّن الوظيفة الشرعية. وهذا هو مباحث الأصول العملية العقلية([19]).

وقال السيد الشهيد الصدر في نقد هذا التبويب: «وهذا التقسيم لبحوث علم الأصول إنْ كان مجرّد اختيار تصنيف معيَّن للمسائل الأصولية فلا كلام؛ وإنْ كان على أساس ملاحظة نكتة فنّية تقتضي هذا الترتيب بين المسائل الأصولية فإنْ كانت تلك النكتة هي الطوليّة والترتُّب بين الأقسام المذكورة في عملية الاستنباط، بحيث لا يمكن الانتهاء إلى قسمٍ إلاّ حيث يفقد القسم الأسبق، اتَّجه عليه:

أولاً: عدم الطولية بين القسمين الأوّلين.

وثانياً: ثبوت الطولية داخل المجموعة الثانية والثالثة؛ فإنّ الحجج والأمارات ـ العلوم التعبُّدية بحسب مصطلحه ـ، وكذلك الأصول العملية الشرعية، ليست كلّها في مرتبة واحدة، بل بعضها مقدّم على بعض في عملية الاستنباط. فالعلم التعبدي الحاصل من دلالة دليل قطعي السند مقدَّم على الحاصل من دلالة دليل ظنّي. والوظيفة الشرعية المقرَّرة بالاستصحاب مقدَّمة على الوظيفة المقرَّرة بالبراءة.

وثالثاً: تأخُّر مرتبة المجموعة الرابعة على الثالثة لا يكون صحيحاً على جميع المباني الأصولية في قاعدة الاشتغال العقلية؛ فإنّ من جملة المسالك علّيّة العلم الإجمالي للموافقة القطعية، التي تعني أن حكم العقل بالاشتغال تنجيزي وحاكم على إطلاق دليل البراءة الشرعية.

وإنّ كانت تلك النكتة هي الطولية بين الأقسام من حيث مراتب الإثبات ودرجاته فهذا إنّما يتَّجه على مباني مدرسة المحقِّق النائيني في تفسير الأمارات والأصول، وإرجاع الفرق بينهما إلى سنخ المجعول، فمتى ما كان المجعول هو العلمية والكاشفية كانت الأمارة، ومتى ما كان المجعول شيئاً آخر كان الأصل. وأما بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الأمارية والأصلية ليستا بلحاظ سنخ المجعول، وإن صياغة المجعول وكونه بلسان جعل الطريقية أو المنجّزية أو الوظيفة مجرّد تعابير وألسنة لفظية، وإن مردّ الفرق الواقعي بين الحكم الظاهري في مورد الأمارة والحكم الظاهري في مورد الأصل إلى كون الأوّل نتيجة لإيقاع التزاحم بين الملاكات الواقعية في مقام الحفظ، وتقديم بعضها بملاك قوّة الاحتمال، وكون الثاني نتيجة للتزاحم المذكور، مع تقديم بعضها بملاك أهمّية المحتمل. بناءً على ذلك لا يصحّ التصنيف المذكور [من قِبَل الشيخ النائيني] لمسائل علم الأصول»([20]).

ثم ينتقل السيد الشهيد إلى تقديم تبويبه المقتَرَح لعلم الأصول. ونحن في ما يلي نستعرض آراءه، ونعمل على بحثها ودراستها.

قال السيد الشهيد، تحت عنوان «المقترح في تقسيم علم الأصول»: «والواقع أن المسائل الأصولية قد عرفت أنّها تتضمن البحث عن الأدلة المشتركة للاستدلال الفقهي، وهي متنوِّعة من حيث نوع الدلالة، وكونها لفظية أو عقلية أو شرعية، بتوسّط الكشف عن الواقع المعبَّر عنه بالأمارة، أو لا بتوسط المعبَّر عنه بالأصل. ومتنوِّعة أيضاً من حيث نوع الدليل ذاته، وكونه مرتبطاً بالشارع وصادراً منه أو لا، ومن حيث سنخ المجعول فيه، وكونه الطريقية والعملية أو المنجزية أو الوظيفة العملية.

والبحث عن كلّ هذه الأنحاء يتوقَّف على أصل موضوعي لا بدّ من بحثه مسبقاً، وهو حجّية القطع؛ إذ بدونه لا أثر للبحث في أيّ مسألة لاحقة. كما أنه حيث إن الأدلة المذكورة كلّها إنّما يراد بها استنباط الحكم الشرعي فلا بدّ لكلّ تلك الأبحاث أيضاً من فكرة مسبقة عن الحكم الشرعيّ وحقيقته، وانقساماته إلى: الواقعي والظاهري والتكليفي والوضعي وغير ذلك من الانقسامات.

وعلى هذا الأساس فالمنهج المقترح لبحوث هذا العلم أن توضع مقدّمة تشتمل على أمرَيْن: أحدهما: البحث عن حجّية القطع، والآخر: البحث عن حقيقة الحكم وما يتصوَّر له من أقسام».

ثم يستطرد السيد الشهيد الصدر قائلاً: «وبعد ذلك تصنَّف البحوث الأصولية على أساس أحد المقياسين التاليين:

1ـ التقسيم بلحاظ نوع الدليلية:

1ـ مباحث الألفاظ: ويتضمَّن البحث عن الدليلية اللفظية وكلّ ما يرجع إلى تشخيص الظهورات اللغوية أو العرفية. فيندرج في هذا القسم كلّ البحوث اللغوية الأصولية. كما يندرج فيه البحث عن كلّ ظهور حالي أو سياقي يمكن أن يكون كاشفاً عن الحكم الشرعي، ولو لم يتمثَّل في لفظ كما في دلالة فعل المعصوم× أو تقريره على الحكم الشرعي.

2ـ مباحث الاستلزام العقلي: ويتضمّن البحث عن الدليلية العقلية البرهانية ـ غير الاستقرائية ـ. ويندرج في هذا القسم البحث عن كلّ قاعدة عقلية برهانية يمكن أن يُستنبط منها حكم شرعي، وهي على قسمين:

أ ـ غير المستقلاّت العقلية: ويبحث فيها عن القواعد العقلية التي يُستنبط منها الحكم الشرعي بعد ضمّ مقدّمة شرعية إليها. وهذا يشمل كلّ أبحاث العلاقات والاقتضاءات التي يدركها العقل بين حكمين، أو بين حكم وموضوعه، أو متعلَّقه.

ب ـ المستقلاّت العقلية: ويراد بها القاعدة العقلية التي يمكن على أساسها أن يستنبط حكم شرعي بلا توسيط مقدّمة شرعية، المعبَّر عنها بقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل من تحسين أو تقبيح وما حكم به الشرع. ويبدأ في هذا القسم أوّلاً بالبحث عن حقيقة الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح، ثم يبحث عن قاعدة الملازمة.

3ـ مباحث الدليل الاستقرائي: ويتضمّن البحث عن الإجماع والسيرة والتواتر التي تكون دليليّتها قائمة على أساس حساب الاحتمالات والاستقراء. ويبدأ البحث في هذا القسم بنبذة في شرح حقيقة الدليل الاستقرائي على نحو الإجمال.

4ـ الحجج الشرعية: وتتضمّن البحث عن الأدلة التي تثبت دليليّتها بجعل شرعي. وهي تشتمل على قسمين من الأدلة، أحدهما: الأمارات؛ والآخر: الأصول العملية. والجدير أن توضع مقدّمة قبل القسمين معاً، يبدأ فيها بالبحوث التي تتعلَّق بجعل الدليلية والحجّية شرعاً، وألسنتها المختلفة. ويبحث فيها أيضاً عن الفرق الجوهري بين حجية الأصل وحجية الأمارة، ونوع الآثار التي تثبت بكلٍّ منهما، ومقدار ما يثبت، المعبَّر عنه بحجّية المثبتات واللوازم، ويبحث فيها أيضاً عن تأسيس الأصل عند الشكّ في الدليلية الشرعية.

5ـ الأصول العملية العقلية: وهي القواعد التي يقرِّرها العقل تجاه الحكم الشرعي في موارد الشكّ البدوي أو المقرون بالعلم الإجمالي بالمتباينين أو الأقلّ والأكثر. ويلاحظ في هذا الفصل أيضاً مدى تأثير العلم الإجمالي على الوظيفة المقرَّرة في مورد الشكّ شرعاً لولا العلم الإجمالي وقلبه لها، فيشمل هذا الفصل كلّ مسائل الاشتغال، مضافاً إلى البحث عن قاعدتَيْ (قبح العقاب بلا بيان) و(التخيير) العقليتين.

ثم تختم بحوث الأدلّة بخاتمة في التعارض الواقع بين الأدلّة المذكورة على أقسامها، وأحكام التعارض المذكور.

2ـ التقسيم بلحاظ نوع الدليل:

وهو أن يلاحظ في التقسيم نوع الدليل من حيث ذاته، وعلى أساسه تصنَّف البحوث الأصولية إلى قسمين رئيسين:

1ـ الأدلة: وهي القواعد الأصولية التي تشخّص بها الوظيفة تجاه الحكم الشرعي بملاك الكشف عنه.

2ـ الأصول العملية: وهي القواعد التي تشخّص الوظيفة العملية لا بتوسّط الكشف.

أما القسم الأول فيبدأ فيه أولاً بالبحوث التي تتعلَّق بالأدلة بصورة عامة ـ وهي التي أشرنا إليها في النهج السابق أيضاً ـ، ثمّ بعد الفراغ عنها تصنَّف إلى أدلّة شرعية، وهي التي تكون صادرة من الشارع؛ وعقلية، وهي التي تكون قضايا مدركة من قبل العقل. فيبدأ بالدليل الشرعي، ويصنّف الكلام فيه إلى ثلاث جهات:

أ ـ في تحديد دلالات الدليل الشرعي.

ب ـ في إثبات صغراه، أي صدوره من الشارع.

ج ـ في حجّية تلك الدلالات.

أمّا الجهة الأولى فيصنَّف فيها الدليل الشرعي إلى لفظ وغيره، ويميِّز بين دلالات الدليل الشرعي اللفظي ودلالات الدليل الشرعي غير اللفظي (الفعل والتقرير)، وفي ما يخصّ دلالات الدليل الشرعي اللفظي تقدَّم مقدّمة تشتمل على مباحث الوضع والهيئات والدلالات اللغوية والمجازية؛ لأن هذه المباحث ترتبط بدلالات هذا الصنف من الدليل. ويدخل في نطاق دلالات الدليل الشرعي اللفظي مسائل صيغة الأمر ومادته، وصيغة النهي ومادته، والإطلاق والعموم، والمفاهيم، وغير ذلك من الضوابط العامّة للأدلة.

وفي ما يخصّ دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي يتكلَّم عمّا يمكن أن يدلّ عليه الفعل أو التقرير بضوابط عامة من الظهور العرفي أو القرينة العقلية الناشئة من عصمة الشارع.

وأما الجهة الثانية فيُستعرض فيها وسائل الإثبات الممكنة، من التواتر والإجماع والسيرة والشهرة وخبر الواحد.

وأما الجهة الثالثة فيتكلم فيها عن حجّية الدلالة، وجواز الاعتماد على ظهور الكتاب والسنّة، وسائر ما يتصل بذلك من أقوال، وعن تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجّية.

وبعد ذلك ينتقل إلى الدليل العقلي، ويدخل فيه البحث عن كلّ قضية عقلية يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي؛ إمّا بلا واسطة؛ أو بضمّ مقدّمة شرعية أخرى، أي المستقلاّت العقلية وغير المستقلاّت. ويدخل في الدليل العقلي هذا كلّ أبحاث الملازمات والاقتضاءات.

والبحث عن الدليل العقلي تارة يقع صغروياً في صحّة القضية العقلية، ودرجة تصديق العقل بها؛ وأخرى كبروياً في حجية الإدراك العقلي للقضية في مقام استنباط الحكم الشرعي منه.

وأما بحث الأصول العملية فيبدأ بالكلام أوّلاً عن بحوث عامّة في الأصول العملية، كالبحث عن ألسنتها وفوارقها مع الأدلة، ومدى إثباتها لمواردها، وعدم ثبوت المدلول الالتزامي بها، ونحو ذلك، ثمّ يبحث عنها. ويشتمل البحث عنها أولاً: على بيان الوظيفة المقرّرة للشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي بجامع التكليف.

وثانياً: على بيان مدى التغيُّر الذي يحدثه في الموقف افتراض علم من هذا القبيل. ويدخل في الأول بحث البراءة والاستصحاب، وفي الثاني بحث الاشتغال، والأقلّ والأكثر.

وأيضاً تختم بحوث علم الأصول بخاتمة في التعارض الواقع في الأدلة والأصول وأقسامه وأحكامه»([21]).

هذه خلاصة كلام سماحته في كتاب «بحوث في علم الأصول». وإن النظرة إلى تلك المباحث يثبت كم كان السيد الشهيد الصدر منطقيّاً ودقيقاً من الناحية العلمية في تحقيق هذه المسألة، وهذا كلّه يعكس النضج والبلوغ والتناسق في تحقيقه. وكما لاحظنا فإنّ البارز في تبويبه هو الترتيب المنطقي، وتوقُّف بعض المباحث على بعضها الآخر. من هنا لا بدّ للإشكالات التي يتمّ توجيهها لنقد هذا التبويب أن تكون إشكالات منطقية، وليست مجرد إشكالات ذوقية ومزاجية. في حين أن التبويبات التي ذكرت قبل ظهور تبويب السيد الشهيد كانت تبويبات ذوقية في غالبها، وأما التبويبات القليلة التي لم تكن ذوقية صرفة فهي مزيج من الترتُّب المنطقي والذوقي. من باب المثال: تبويب الشيخ مطهري، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، التي هي بأجمعها مزيج من الترتُّب المنطقي والذوقي، باستثناء تبويب المحقِّق الإصفهاني، الذي هو من أبعد هذه التبويبات عن الترتيب الذوقي.

 

خصائص تبويب السيد الشهيد الصدر ــــــ

1ـ إن من الخصائص الهامّة في تبويب السيد الشهيد الصدر وضعه بحث القطع بوصفه عنصراً مشتركاً في بداية المباحث الأصولية؛ بالالتفات إلى أن القطع بمنزلة الدعامة ونقطة الاستناد التي تمهِّد للدخول في البحث في سائر المسائل الأصولية والظنّ والشكّ. ولولا ذلك يكون هذا الجواز موضع تشكيك، بمعنى أنّ هذه المباحث لن تقوم على أساس متين دون البحث في القطع، وسوف لا تستند إلى دعامة وركيزة موثوقة.

2ـ ومن الخصائص الأخرى البحث عن ماهية الحكم بوصفه عنصراً مشتركاً آخر في بداية علم الأصول، وهو أمرٌ سبق أن قام به المحقِّق الإصفهاني تحت عنوان (المبادئ الأحكامية). وإننا نعتبر أن إدراج هذين الأمرين (البحث عن القطع وماهية الحكم في بداية مباحث الأصول) عملٌ يستحق الثناء، وهو وفقاً لأدلتنا الخاصة صحيحٌ ومقبول تماماً.

3ـ ومن الخصائص الأخرى لهذا التبويب الفصل بين البحث عن الأدلة الشرعية اللفظية وبين الأدلة غير اللفظية، التي أوجبت الاهتمام ببحثَيْ فعل المعصوم وتقريره×، وهو أمرٌ لم نكن نراه في التبويبات السابقة.

4ـ لقد أقام السيد الشهيد أصوله على قاعدة مسلك حقّ الطاعة، بدلاً من قاعدة مسلك قبح العقاب بلا بيان. ومن هنا فقد طرح بحثاً هامّاً للغاية بشأن مسلك حقّ الطاعة في أصوله.

5ـ من الأعمال الأساسية التي قام بها السيد الشهيد الصدر في هذا التبويب أنه يعمد على الدوام في بداية كلّ بحث إلى بيان جميع المقدّمات الضرورية في إلقاء الضوء عليه؛ بغية رفع الإبهام التصوري والمفهومي عنه. وهذا الأمر يساعد على توضيح المباحث بشكل أكثر، ويُزيل الإبهام الناشئ عن الخلط بين المباحث، والجدل أو المغالطة في البحوث، إلى حدٍّ كبير.

6ـ إنّ البحث عن «السيرة والبناء العقلائي»، الذي يحظى بأهمية كبيرة ضمن مباحث الحجج، يُفتح له في تبويب السيد الشهيد باب مستقلّ، ويتمّ الحديث عنه بالتفصيل. في حين أن هذا البحث، رغم أهميته البالغة، لا يتمّ طرحه من قبل الأصوليين بشكلٍ مستقلّ، وإنما يتمّ الاكتفاء بالإشارة إليه في طيّات بعض المباحث الأخرى.

7ـ حيث يقوم السيد الشهيد بإثبات مباحث الإجماع والسيرة والتواتر على أساسٍ من «حساب الاحتمالات والاستقراء» فإنه قبل الدخول في هذه المباحث يتحدث بشكل إجمالي عن حقيقة الاستقراء والدليل الاستقرائي.

وهناك خصائص أخرى جيِّدة للغاية في هذا التبويب، وهي رغم جزئيتها تَبْرُز بوضوح من خلال مقارنة هذا التبويب بالتبويبات الأخرى.

يجدر بنا أن نكرِّر ثانية تأكيدنا على المسار البديع والمستدلّ لتبويب السيد الشهيد الصدر، وندعو القارئ إلى التدقيق أكثر في هذا التبويب؛ ليتضح له عمق ما قام به سماحته.

وعلى أيّ حال فقد تم توجيه بعض الانتقادات لهذا التبويب، من قبيل: عدم تقسيم الأمارات اللفظية وغير اللفظية إلى: «معتبرة؛ وغير معتبرة»، لذلك فإنه لم يبحث في مسائل، من قبيل: القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع، وما إلى ذلك، كما نجده في تبويب الشيخ محمد رضا المظفَّر، وفيما بعد في تبويب الشيخ مكارم الشيرازي.

والمسألة الأخرى تعقيد هذا التبويب الذي ربما كان سببه منطقيّته الدقيقة، وكذلك حداثة وإبداعية عناوين المباحث.

ومضافاً إلى ذلك فإن عصرية أسلوب السيد الشهيد قد ضاعفت من تعقيد المباحث بالنسبة إلى عدم العارفين بالأدبيات العربية المعاصرة. وهذا طبعاً لا ينفصل عن الغربة التي تعيشها أفكار السيد الشهيد. وهنا نكتفي بهذا المقدار؛ لأن هذه المباحث تحتاج إلى مقارنة عميقة بين التبويبات الأخيرة، ومن ثمّ تطبيقها على الموازين الصحيحة للتبويب، وهذا بدوره يحتاج إلى مقال مستقلّ.

الأمر الآخر الذي يسترعي الملاحظة هو أن السيد الشهيد قد قدَّم تبويبين يعتمدان على ملاكين مختلفين. من هنا يجب أن نعمل على بيان الاختلاف بين هذين التبويبين، وبيان الأفضل منهما. ولحسن الحظّ فإنّ هذا هو تماماً ما تكفَّل به السيد الشهيد نفسه، تحت عنوان «مقارنة بين التقسيمين»([22])، وبذلك أغنانا عن الخوض فيه.

وخلاصة المقارنة التي قام بها السيد الشهيد بين هذين التقسيمين هي:

1ـ إن التقسيم الثاني أقرب إلى المنهج القديم في الدراسات الأصولية، حيث كان يدرج فيها البحث عن حجّية الخبر في البحث عن السنّة؛ لكونه عن عوارض السنّة، أي مثبتات الدليل الشرعي، في حين أن التقسيم الأول أوفق بالمنهج المتداول في الدراسات الأصولية الحديثة.

2ـ كما يتميَّز التقسيم الثاني بأنه يلحظ فيه تقسيم البحوث إلى مجاميع بنحو متطابق مع أنحاء تجمُّعها في مجال الاستدلال الفقهي. فالقواعد الأصولية العامة في الدليل اللفظي ـ كأبحاث الأوامر والنواهي وغيرها ـ لا تنفصل عادةً في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي عن القواعد الأصولية الدخيلة في إثبات السند، كحجّية خبر الواحد والتواتر والسيرة والإجماع؛ لأن الفقيه حينما يستنبط الحكم من دليل لفظي يلتفت إلى دلالته وسنده معاً، ويعمل القواعد الأصولية المناسبة في كلٍّ من الجهتين. فالتقسيم المذكور يراعي ذلك، ويوحّد البحث عن مجموع تلك القواعد تحت عنوان الدليل الشرعي. وهذا معنى أن التصنيف فيه بنحو يناظر وضع القواعد الأصولية في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي، بينما ليس التقسيم الأوّل كذلك؛ لأن أبحاث الظواهر والألفاظ فصلت فيه عن بحث حجّية الخبر، بل عن بحث حجّية نفس الظهور أيضاً، مع أنّ الظهور وحجّيته عنصران متلازمان عند الاستناد إليهما في عملية الاستدلال الفقهي.

وفي مقابل ذلك يتميَّز التقسيم الأول بإجراء التصنيف على أساس نوع الدليلية للقاعدة الأصولية، وتجميع كلّ مجموعة تتَّفق في سنخ الدليلية، وفي كونها لفظية أو عقلية، برهانية أو استقرائية أو تعبُّدية بجعل الشارع، في نطاق مستقلّ. وهذا يتيح الحديث في كلّ نطاق من نطاقات هذا التصنيف عن سنخ تلك الدليلية، التي هي السمة المشتركة للقواعد الأصولية الداخلة في ذلك النطاق، ومنهجها، وقواعدها العامة. فالأدلة الاستقرائية مثلاً بوصفها صنفاً خاصّاً في التقسم المذكور يمكن الحديث في نطاقها عن أصل المنهج الاستقرائي. والحجج الشرعية بوصفها تمثِّل صنفاً آخر من الدليلية ـ وهي الدليلية التعبُّدية بحكم الشارع ـ يمكن الحديث في نطاقها عن أصل الحجّية التعبدية وتحليلها. وبهذا يُسهل كلّ صنف بما يكون بمثابة المنطق أو المنهج بالنسبة إليه، بينما لا يتأتّى ذلك بنفس الدرجة من السهولة والدقّة في التقسيم الثاني؛ إذ قد تندمج بموجبه القاعدة ذات الدلالة اللفظية، والأخرى الاستقرائية، والثالثة التعبّدية، في صنفٍ واحد؛ لمساهمتها جميعاً في الاستنباط من دليل واحد.

ثم ينتهي السيد الشهيد إلى القول: وبهذا قد يصحّ أن يقال بأنّ التقسيم الأول هو الأفضل إذا نظرنا إلى علم الأصول بنظرة تجريدية، أي بصورة منفصلة عن تطبيقه في علم الفقه. وإن التقسيم الثاني هو الأفضل حينما ينظر إليه موزَّعاً من خلال التطبيق وعلم الفقه. ومسألة تعيين أحد التقسيمين مسألة اختيار وتفضيل حسب وجهة النظر.

وقد سار السيد الشهيد في بحث خارج الأصول على طبق منهج التقسيم الأول؛ لأنه الأقرب إلى الانطباق على المنهج المألوف في الكتب الأصولية التي وضعتها مدرسة الشيخ الأنصاري في الأصول، وهي المدرسة السائدة حتى الآن، وتعرف بالمدرسة ذات التبويب الكفائي. وأمّا في كتاب الحلقات والمعالم الجديدة إلى حدٍّ ما فقد سار على منهج التقسيم الثاني؛ لأنه أكثر قدرة على إعطاء الطالب صورة أوضح عن دور القاعدة الأصولية في المجال الفقهي، ورؤية أجلى لكيفيّة الممارسة الفقهية لقواعد علم الأصول.

ولا بأس هنا بذكر مجموعة من التبويبات الأخرى المعاصرة، وهي:

 

أ ـ تبويب الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي ــــــ

لقد عمد المحقِّق الفاضل الشيخ عبد الهادي الفضلي في كتابه «مبادئ الأصول» إلى تعريف الأصول قائلاً: «هو علمٌ يُبحث فيه عن قواعد استنباط أحكام التشريع الإسلامي من أدلّتها»، ثم أخذ في تفصيل البحث عن الكلمات الرئيسة الواردة في هذا التعريف، مثل: القواعد، والأحكام، والأدلّة. ومن ثمّ تمَّ تبويب مجموع الكتاب على النحو التالي:

في البداية طرح سماحته بحث «القاعدة العامة والقابلة للانطباق على الجزئيات»، ثم عمد إلى تقسيم الأحكام إلى: الواقعية؛ والظاهرية، وقسّم الحكم الواقعي إلى: الحكم الأولي؛ والحكم الثانوي. كما يقسّم الحكم الواقعي في تقسيم آخر إلى: الحكم الوضعي؛ والحكم التكليفي. وينقسم الحكم التكليفي إلى: الواجب والحرام والمكروه والمندوب والمباح. وينقسم الواجب إلى: الواجب العيني والكفائي، والتعييني والتخييري، والمؤقَّت وغير المؤقت، والموسَّع والمضيَّق، والمطلق والمقيّد، والمنجّز والمعلّق، والتعبّدي والتوصّلي، والمحدود وغير المحدود، والنفسي وغير النفسي.

ثم يدخل في البحث عن أدلّة الحكم الواقعي والظاهري، وقال بأن أدلة الحكم الواقعي هي الكتاب والسنّة والعقل والإجماع. وفي بحث السنّة يرى ضرورة البحث في المتن والسند. وفي بحث المتن يخوض في مباحث الدلالة والألفاظ.

وفي الختام يبحث في أدلّة الأحكام الظاهرية، أي البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب.

 

ب ـ تبويب الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ــــــ

لقد عمد المحقِّق القدير الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتاب «أنوار الأصول» ـ الذي هو تقرير درسه، بقلم: السيد أحمد القدسي ـ من الصفحة التاسعة إلى الصفحة الرابعة عشرة إلى تقديم تبويب جديد لموضوعات علم الأصول.

فقد قسَّم سماحته الأصول إلى خمسة أقسام، وهي: 1ـ المقدّمة، 2ـ مبادئ المبادئ، 3ـ المبادئ، 4ـ المسائل، 5ـ الخاتمة.

والمقدّمة تشتمل على المباحث التالية: البحث عن موضوع العلوم، وتمايز العلوم، وتعريف علم الأصول، وموضوع علم الأصول، وتقسيم مباحث الأصول.

وفي مبادئ المبادئ يُبحث عن تسعة أمور، وهي: الأول: الوضع (تعريف الوضع، وأقسام الوضع، والمعنى الحرفي، وما إلى ذلك). والثاني: وضع المركَّبات. والثالث: الحقيقة والمجاز. والرابع: تبعية الدلالة للإرادة وعدمها. والخامس: علامات الحقيقة والمجاز. والسادس: الحقيقة الشرعية والمتشرّعية. والسابع: الصحيح والأعمّ. والثامن: الاشتراك. والتاسع: المشتقّ.

وفي المبادئ يتناول خمسة مقاصد، وهي: الأول: الأوامر. والثاني: النواهي. والثالث: المفاهيم. والرابع: العام والخاص. والخامس: المطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن.

ثمّ يدخل في مسائل الأصول، وموضوعها «الأدلة في الفقه». وفي هذا القسم يتمّ تنظيم المباحث في مقامين، وهما: الأمارات؛ والأصول.

والأمارات تنقسم بدورها إلى: أمارات معتبرة، وأمارات غير معتبرة.

وفي الأمارات المعتبرة يتم الحديث عن أربعة مقاصد، وهي: الأول: الكتاب وحجية ظواهر الألفاظ بشكل مطلق. والثاني: السنّة وأقسام الخبر (خبر الواحد، والمستفيض، والمتواتر، وكذلك البحث عن التعادل والتراجيح في تعارض الأدلة اللفظية من الكتاب والسنّة). والثالث: الإجماع وأنواعه. والرابع: العقل (المستقلاّت العقلية، وغير المستقلاّت العقلية، وحجّية القضايا العقليّة، والقطع، والقياس القطعي).

وفي الأمارات غير المعتبرة يتمّ بحث ثمانية موارد، وهي: عدم حجّية الظن مطلقاً، وعدم حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد، وعدم حجّية الشهرة (أقسام الشهرة)، وعدم حجّية القياس الظني، وعدم حجّية الاستحسان، وعدم حجّية المصالح المرسلة الظنيّة، وعدم حجّية سدّ الذرائع الظنّية، وعدم حجّية الاجتهاد الظنّي بالمعنى الخاصّ.

وفي الأصول العملية يتمّ طرح أربعة أبحاث، وهي: قاعدة البراءة، وقاعدة الاحتياط، وقاعدة التخيير، وقاعدة الاستصحاب.

وفي الخاتمة يخوض في بحث الاجتهاد والتقليد.

 

ج ـ تبويب السيد علي السيستاني ــــــ

لقد اقترح السيد السيستاني في كتاب «الرافد في علم الأصول» ـ الذي هو تقرير بحثه، بقلم: السيد منير السيد عدنان القطيفي ـ من صفحة 43 إلى صفحة 57 من الجزء الأول، تبويبين لموضوعات علم الأصول: أحدهما: بملاك ومحور الحجّية؛ والآخر: بملاك الاعتبار.

1 ـ التبويب الأول ــــــ

لقد عمد سماحته في ما يتعلَّق بالتبويب الأوّل القائم على ملاك الحجّية وعدم الحجّية إلى تقسيم موضوعات الأصول إلى ثلاثة أقسام عامّة، وهي: الاحتمال، والكشف، والميثاق العقلائي.

أ ـ وفي قسم الاحتمال يذكر خمسة أنواع من الاحتمال، وهي:

1ـ الاحتمال الواصل إلى درجة القطع، والبحث في حجيته (البحث في حجية القطع).

2ـ الاحتمال الواصل إلى درجة الاطمئنان، والبحث فيه (البحث في حجية الاطمئنان).

3ـ الاحتمال المستند إلى قوّة المحتمل، وإنْ كانت درجة الاحتمال ضعيفة، والبحث عن حجّيته عبارة عن بحث «أصالة الاشتغال».

4ـ الاحتمال المستند إلى العلم الإجمالي الذي يقوى من خلال الاستعانة بالعلم الإجمالي. وهذا البحث عبارة عن مباحث العلم الإجمالي، والشبهة المحصورة وغير المحصورة.

5ـ الاحتمال الذي لا يتمتَّع بقوّة، ولا أهمية له من ناحية المحتمل، وهو على نوعين:

أ ـ الاحتمال المعارَض باحتمالٍ آخر؛ لوجود العلم الإجمالي بالجامع، الذي هو مورد لـ «أصالة التخيير».

ب ـ الاحتمال غير المعارَض باحتمالٍ آخر، وهو مورد لـ «أصالة البراءة».

وعليه فإنّ الجامع لهذه الأبحاث الخمسة هو «حجّية الاحتمال».

ب ـ في حجّية الكشف: والكشف إمّا إدراكي؛ أو شعوري. والكشف الإدراكي في الأمارات العقلائية والشرعية. والذي يحكم المجتمع العقلائي أو الشارع بتتميم كشفه. والبحث عن الأمارات والطرق المطروحة في البين.

والكشف الشعوري موجودٌ في الاستصحاب، ولذلك يجب طرح هذا البحث في هذا القسم.

ج ـ حجّية الميثاق العقلائي: والمراد من هذا الميثاق كلّ طريق يتبانى عليه المجتمع العقلائي، سواء أكان هذا التباني بسبب الكاشفية النوعية، مثل: خبر الثقة، أم من أجل المصلحة الاجتماعية العامة، مثل: الظواهر.

وهنا يوجد نوعان من البحث: أحدهما: البحث الكبروي، مثل: حجية الظهور؛ والآخر: البحث الصغروي، من قبيل: البحث في صيغة الأمر والنهي، والعام والخاصّ، والمطلق والمقيّد، وما إلى ذلك من مباحث الألفاظ، وكذلك بحث تعارض الأدلّة أيضاً.

وحيث إن هذا التبويب شديد البُعد والاختلاف عن الأسلوب المعهود في تبويب علم الأصول فقد عمد السيد السيستاني إلى نبذه، وقال في تبرير ذلك: إنّ من شرائط التبويب والتصنيف أن لا يكون «مستنكَراً»، وخاصّة إذا كان بالإمكان بلوغ الهدف ضمن حركة وسياق تدريجيّ وهادئ. من هنا فإنه يقدِّم التبويب الثاني:

 

2ـ التبويب الثاني ــــــ

وقال في التبويب الثاني: لما كان علم الأصول من المبادئ التصديقيّة غير البديهية لعلم الفقه، ولما كان محور البحث في الفقه هو الحكم الشرعي، ولما كان الحكم نوعاً من الاعتبار، لذلك فإننا بحاجة إلى علم آخر تحت عنوان المبادئ التصديقية للحكم الشرعي. وهذا البحث من الاعتبار يشمل الاعتبار نفسه وعوارضه وأقسامه ولواحقه، وهو ما يُسمى بـ «علم الأصول».

وقد تمّ تنظيم بحث الاعتبار (الذي هو ملاك ومحور مباحث الأصول) في خمسة عشر فصلاً:

1ـ تعريف الاعتبار.

2ـ تقسيم الاعتبار إلى: أدبي؛ وقانوني.

3ـ العلاقة بين الاعتبارين الأدبي والقانوني.

4ـ أسلوب جعل الاعتبار القانوني.

5ـ مراحل الاعتبار القانوني.

6ـ أقسام الاعتبار القانوني.

7ـ العلاقة بين هذه الأقسام.

8ـ أقسام القانون التكليفي والقانون الوضعي.

9ـ عوارض الأحكام القانونية.

10ـ وسائل إبراز الحكم القانوني.

11ـ وسائل استكشاف الحكم القانوني.

12ـ وثاقة وسائل استكشاف الحكم الواقعي.

13ـ التعارض الإثباتي والثبوتي بين وسائل الاستكشاف.

14ـ التنافي بين الاعتبارات القانونية عند التطبيق.

15ـ تعيين القانون عند فقدان الوسيلة لبيانه.

هذه هي خلاصة التبويب الأول والثاني للمحقِّق السيد السيستاني([23])، وقد سبق أنْ ذكرنا تبويبين آخرين لكلٍّ من: الشيخ عبد الهادي الفضلي، والشيخ مكارم الشيرازي.

 

الاستنتاج ــــــ

أعتقد بأن القارئ الكريم قد وقف بوضوحٍ على التحوّل والتقدّم والتكامل في تبويب وتنظيم المباحث والمسائل الأصولية، بل وحتى إلى حدٍّ ما على المحتوى والمسائل الأصولية. ولكن السؤال يقول: هل بلغت هذه الحركة التكاملية نقطة النهاية؟ وهل هناك إمكان لأنْ نحصل في المستقبل على أصول أخرى أكثر تكاملاً وتنظيماً؟ إن هذا السؤال يشغل اليوم أذهان الكثير من المحقِّقين. والجواب المختصر عن هذا السؤال هو أن نقول: إن المسار التكاملي لهذا العلم لم يبلُغْ نهايته أبداً، وإذا كان هناك مَنْ يذهب به الظنّ إلى مثل هذا التصوُّر فإنه يثبت بذلك جهله بماهية هذا العلم الانسيابيّة والقابلة للتطوير في كلّ حين. فلو كان من المفترض أن يبلغ كلّ علم نهايته، وأن يبلغ مرحلة لا يعود بعدها بحاجة إلى تطوير وتكميل، لما وصل إلينا في هذه اللحظة. ومن الطبيعة أن يضيف كلّ مفكِّر مسألة جديدة على موضوع اختصاصه العلمي. وإنْ كنا نقول بأنّ هذا التطوير قد يكون جزئيّاً ونسبيّاً في بعض المراحل، وأنّه لا يطال الهيكل والإطار العام والنسيج الكامل لذلك العلم، إلاّ في ما ندر. وهذا الأمر يعود إلى التطوير والتكامل الملحوظ للعلوم في مختلف المجال.

والنتيجة هي أنّ المسار التكاملي لعلم الأصول، سواء في المحتوى أو التبويب، لم يبلغ مرحلته النهائية، ولا يزال هو في طور التقدُّم والاكتمال على يد العباقرة والحاذقين في هذا الفن.

 

 الخاتمة: في بضع مسائل بشأن التبويب المختار ــــــ

في ختام هذه المقالة نشير إلى مسألةٍ لا محالة شغلت أذهان الكثيرين، ألا وهو البحث عن التبويب المختار. إنّ ما تحدَّثنا عنه حتى الآن كان سَيْراً في تاريخ تبويب علم الأصول، أي ما قاله وأبدعه الآخرون. والآن جاء دورنا لكي نفكِّر ونحقِّق لنصل في نهاية المطاف إلى التبويب الذي نراه الأنسب من سائر التبويبات الأخرى. وعلى الرغم من أنّ المناسب هو القيام بمثل هذا الأمر، إلاّ أنّ الكاتب مع أنه قد اختار تبويبه مسبَقاً، وقد نظمه في قصاصات أوّلية، ولكنّه يرى لنفسه العذر ـ لأسباب عديدة ـ للإحجام عن الخوض في التبويب المختار ونقد التبويبات الأخرى؛ وذلك لخشيته من الإطالة. هذا بالإضافة إلى أنّ هذه المقالة في الأساس لم تُعْقَد لهذا الشأن([24])؛ لأن الغرض منها هو مجرّد بيان المسار التاريخي للتبويب في علم الأصول. وأتصوَّر أننا حتى الآن قد حقَّقنا هذه الغاية. ولكنْ مع هذا نجد من الضروري التنبيه إلى عدّة نقاط؛ بغية تسهيل الوصول إلى التبويب المختار، وعرضه على القارئ الكريم، وذلك على النحو التالي:

أولاً: يجب النظر بدقة في التبويبات السابقة، ثم العمل طبقاً لملاكات التبويب الصحيح على نقدها. وإن ملاكات التبويب الصحيح عبارة عن:

1ـ معرفة العلاقة المنطقية والتراتبية بين المباحث الأصولية.

2ـ معرفة موضوع وتعريف العلم، والهدف والغاية منه، ممّا يؤثِّر في عملية التبويب الصحيح، كما يؤثِّر في ذكرها أو عدم ذكرها، وإبرازها أو عدم إبرازها.

3ـ ذكر المطالب المشابهة لبعضها البعض في إطار واحد؛ تجنباً للوقوع في محذور التكرار، وما إلى ذلك. وخاصّة النقطة الثانية فإنّها على درجة كبيرة من الأهمية. وعلى هذا الأساس نجد تبويبات العلماء الكبار، من أمثال: المحقِّق الإصفهاني، والشيخ المظفَّر، والسيد الشهيد الصدر، وغيرهم، تختلف عن بعضها. وإن إبراز واعتبار المباحث فيها، هامّة أو غير هامّة، مختلف. ولو أنَّ المحقِّق نظر بنفسه إلى اختلاف هؤلاء المحقِّقين حول الموضوع الذي يقدِّمونه للأصول سوف يدرك هذا التمايز دون عناء.

وثانياً: يجب انتخاب أفضل التبويبات، والعمل على إجراء مقارنة دقيقة بينها، وبيان مزايا وعيوب كلّ واحد منها في قِبَال بعضها الآخر، وتدوين النتائج الحاصلة من خلال هذه المقارنة، والاستفادة منها، وصولاً إلى التبويب المختار. وبعبارة أخرى: يجب الاستفادة من النقاط الإيجابية، والاحتراز من النقاط السلبية. ومن البديهي أنّه يجب في تدوين التبويب المختار أن نستفيد الاستفادة القصوى من التبويبات السابقة.

وثالثاً: يجب عند بيان التبويب المقترح أن يلتفت بشكلٍ كافٍ إلى ملاكات التبويب الصحيح، وخاصّة النقطة الثانية ـ أي الموضوع والتعريف الذي يقدِّمه التبويب للأصول ـ؛ لكي ينجو التبويب المذكور من الانتقاد.

 

 

الهوامش

_______________

(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة، صاحب المصنَّفات في تاريخ علم أصول الفقه.

([1]) ليس المراد من الموضوع هنا مجرّد الموضوع الحقيقي فقط، بل يكفي في ذلك الجامع الانتزاعي أيضاً.

([2]) مرادنا من الأذواق والأمزجة هنا عدم وجود ملاك لهذا الترتيب واضطرابه، وإلاّ فإن أصل تأثير الذوق والمزاج بمعناه الإيجابي لا يمكن أن يُنكَر في عملية التبويب الصحيحة.

([3]) لمزيد من الدراسة حول البحث عن تاريخ علم الأصول، والعثور على أجوبة عن هذه الأسئلة، يمكنك الرجوع إلى المصادر التالية:

أـ محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة: 46 ـ 89، مكتبة النجاح؛ محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى.

ب ـ إبراهيم جناتي، أدوار اجتهاد (مراحل الاجتهاد)، الطبعة الأولى، طهران، مؤسسة كيهان، 1372هـ.ش؛ وكيهان أنديشه، الأعداد 34 (بهمن وإسفند 1369هـ.ش) إلى 49 (مرداد وشهريور 1372هـ.ش).

ج ـ أبو القاسم الكرجي، تحول أصول (تطوُّر علم الأصول)، انتشارات جامعة طهران؛ وتاريخ فقه وفقها (تاريخ الفقه والفقهاء): 299 ـ 335، الطبعة الأولى، طهران، انتشارات سمت، شتاء عام 1375هـ.ش.

([4]) محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة: 87 ـ 89.

([5]) أبو القاسم الكرجي، تحول أصول (تطوّر علم الأصول)؛ وتاريخ فقه وفقها (تاريخ الفقه والفقهاء): 51. وكذلك راجع في هذا الشأن: إبراهيم جناتي، أدوار اجتهاد (مراحل الاجتهاد)، حيث تمَّ تقسيم مراحل تطوُّر الأصول إلى ثماني مراحل، وقد شكَّلت المرحلة الثامنة عصر شمولية توظيف الاجتهاد بأسلوب حديث، وقد اعتبر الكاتبُ سماحةَ الإمام الخميني الراحل& رائد هذه المرحلة.

([6]) بالإضافة إلى هذه التبويبات التي ذكرناها في هذه المقالة هناك تبويبات أخرى نذكرها في الهامش عن العلماء المعاصرين، من أمثال: الدكتور عبد الهادي الفضلي، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد السيستاني، الأمر الذي يثبت حيوية واستمرار المرحلة القائمة على تنظيم علم الأصول.

([7]) طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتور أبي القاسم الكرجي، من قبل انتشارات جامعة طهران، في مجلَّدين.

([8]) طبع هذا الكتاب بتحقيق السيد محمد رضا الأنصاري القمي، من قبل انتشارات ستاره، في مجلَّدين.

([9]) طبع هذا الكتاب بتحقيق السيد محمد حسين الرضوي، من قبل انتشارات مؤسسة آل البيت^ في قم المقدَّسة.

([10]) طبع هذا الكتاب بتحقيق عبد الحسين محمد علي البقال، من قبل مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي في قم.

([11]) للأسف الشديد لا يوجد حتى الآن طبعة حديثة ومحقَّقة لهذا الكتاب، ولكنّ طبعته الحجرية متوفِّرة ضمن مجلَّدين.

([12]) للأسف الشديد لا يوجد حتى الآن طبعة حديثة ومحقَّقة لهذا الكتاب أيضاً، ولكن طبعته الحجرية متوفِّرة ضمن مجلَّد واحد.

([13]) انظر إلى: بداية الرسائل، الصفحة الأولى، حيث عمد الشيخ الأنصاري إلى تقديم تقسيم جديد عن الحكم. فقد عمد إلى تقسيم الحكم بالالتفات إلى حالات المكلَّف، وقال: إن المكلَّف الملتفت إلى الحكم الشرعي إمّا أن يكون قاطعاً بالحكم أو ظانّاً أو شاكاً به. وعليه سيكون لدينا ثلاثة أنواع من الحكم، وهي: المقطوع، والمظنون، والمشكوك. ومن هنا ستنقسم مباحث علم الأصول إلى ثلاثة أقسام أيضاً، وهي: (بحث القطع، وبحث الأمارات والظنون، وبحث الشكّ الذي يتمّ بحث الأصول العملية في ضمنه).

([14]) إن ما هو موجود ومطبوع حالياً باسم (بحوث في الأصول) عبارة عن مجموعة من الرسائل المختلفة التي كتبها المحقِّق الإصفهاني في موضوعات أصولية متنوِّعة، ومنها: رسالة (الأصول على نهج الحديث). وهو اسم كتاب كان المحقِّق الإصفهاني ينوي تأليفه مطابقاً لطرح جديد، وقد ذكر في بدايته شرحاً وتوضيحاً لكيفية تبويب وتنظيم مباحث هذا الكتاب، إلا أنه للأسف الشديد لم يتمّ إنجاز هذا الكتاب.

([15]) محمد حسين الإصفهاني، بحوث في الأصول: 17 ـ 22، قم، مؤسسة نشر إسلامي.

([16]) المصدر السابق: 22.

([17]) محمد رضا المظفَّر، أصول الفقه 1: 7. فقد ادعى هنا أنه اتَّبع في كتابه التبويب المقترح من قبل المحقِّق الإصفهاني.

([18]) لسنا وحيدين في هذه النظرية، بل حتّى المحقِّق السيستاني يذهب إلى هذا الرأي أيضاً، فقد صرّح بذلك في عدّة مواطن من كتاب (الرافد في علم الأصول)، وهو تقرير درسه، بقلم: السيد منير السيد عدنان القطيفي. ومن باب المثال: نجده في الصفحة 31 ـ 32 من الجزء الأول يبيِّن الأسلوب المتعارف في تبويب علم الأصول بين القدماء، ثم قال في تبرير سبب لجوء القدماء إلى هذا التقسيم: ولعل السرّ في هذا المنهج أنّ موضوع علم الأصول، كما ذكر السيد المرتضى في الذريعة، هو (الدليل الفقهي)، فلما كان محور الأصول هو الدليل الفقهي كان مدار أبحاثه حول الدليل نفسه، وأقسامه، من السمعي والعقلي، وعوارضه الثبوتية، كالإطلاق والتقييد، والتعادل والتراجيح…. وكذلك قال في الصفحة 43 ـ 44 من المجلد نفسه عند بيان رأيه المختار:…بما أن موضوع علم الأصول وضع كمقدّمة لعلم الفقه، لا بد أن يكون تصنيفه ومنهجه منسجماً مع مقدّميته، وحيث إن علم الفقه هو علم الباحث عن تحديد الحكم الشرعي فالمناسب لتصنيف علم الأصول أن يدور مدار الحُجّة المثبتة للحكم الشرعي؛ فإن ذلك هو النافع في مقدّميته لعلم الفقه. ولذلك اخترنا أن موضوع علم الأصول كما سيأتي بيانه هو الحجّة في الفقه، فأبحاثه تدور حول محور الحجّية وعدمها….

([19]) السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 1: 55.

([20]) المصدر السابق 1: 56 ـ 57.

([21]) المصدر السابق 1: 56 ـ 61.

([22]) المصدر السابق 1: 61 ـ 62.

([23]) لمزيد من التفصيل راجع: الرافد في الأصول 1: 47 ـ 57.

([24]) بالإضافة إلى الدليل المذكور في نصّ المقالة نضيف هنا أنّ بيان النظرية المختارة في مجال التبويب تحتاج إلى بيان نظرية أخرى للمؤلِّف، حيث يعتقد بأنّ الأصول أوسع ممّا هو مذكور حالياً؛ وذلك لأننا من أجل استنباط المسائل الكلامية والأخلاقية وما إليهما من النصوص الإسلامية المقدَّسة (القرآن والسنّة) بحاجة إلى أدوات للفهم والاستنباط، وأهمّ هذه الأدوات هي الأصول. ولذلك نجد أنفسنا بحاجة إلى تدوين أصول الكلام، وأصول الأخلاق، كما قمنا بتدوين مثل هذه الأصول لعلم الفقه.

وتبعاً لطرح مثل هذه النظرية يتم طرح مباحث من قبيل: الحاجة إلى أصول جديدة لكلّ واحد من العلوم الإسلامية، وكيفية الأصول المشتركة للاستنباط في كلّ واحد من العلوم الإسلامية، وكيفية الأصول المختصّة من أجل الاستنباط في كل واحد من العلوم الإسلامية، وأصل لزوم الاجتهاد للفهم الصحيح والاستنباط الصائب من النصوص الدينية في كلّ واحد من العلوم الإسلامية والدينية، وما إذا كنا بحاجة إلى الحجّية في الكلام والأخلاق أم لا. ونحن في تحليل وإثبات هذه المسائل بحاجة إلى مقالة أخرى، نسأل الله أن يعيننا على كتابتها.

ولكن يجب القول على نحو الإجمال: إنّ ما تمّ بيانه هنا بوصفه من ملاكات التبويب الصحيح، والمسائل التي ذكرت في عناوين المباحث الأصولية تدخل بأجمعها في أصول الفقه. وبعبارة أخرى: تمّ النظر إلى جميع المسائل والمباحث بوصفها أفقاً للإطلالة على مقدّمية الأصول للفقه، ومن ثمّ العمل على تنظيمها. وبطبيعة الحال علينا إضافة أننا إذا أثبتنا الحاجة إلى الأصول بالنسبة إلى سائر العلوم الإسلامية الأخرى وجب القول بأن أكثر مباحث أصول الفقه سَتَرد في ضمنها أيضاً، ولكن من خلال زاويتها الخاصّة، ومع اختلاف يسير يجب الخوض في بيانه بالتفصيل.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً