أحدث المقالات

د. الشيخ عبد الحسين خسروپناه(*)

ترجمة: صالح البدراوي

 

تمهيد ــــــ

إن التيار المناهض للتجدُّد اتجاهٌ يُعنى بتعارض الدين والحداثة، ويتوجه بالنقد إلى الغرب الطاغوتي برمّته، ويذم كل النتاجات الفلسفية والعلمية للغرب على مدى تاريخه الممتد لألفين وخمسمائة سنة. وهذا الاتجاه برؤيتَيْه المختلفتين يمكن تقسيمه إلى مجموعتين: التيار المناهض للتجدد الفلسفي الحديث (لهايدگر)؛ والتيار المناهض للتجدد الفلسفي التقليدي. وقد تحدثنا عن التيار المناهض للتجدد الفلسفي التقليدي، ونقده، إجمالاً. وانبرى أدعياء مناهضة الغرب والتجدد الفسلفي الهاييدي في إيران المعاصرة للترويج لهذا النمط من التفكير بمختلف اتجاهات الحد الأدنى والأقصى. وسأشير بشكل مختصر إلى التعريف بآراء البعض من شخصيات هذا التيار، ودراستها.

 

أ ـ السيد فخر الدين شادمان ـــــــ

لعل من أول الشخصيات التي أولت اهتمامها في الحقبة المعاصرة بمقولة مناهضة الغرب والحداثة بالحد الأدنى السيد فخر الدين شادمان (1286 ـ 1346هـ.ش). ولكن يرى البعض أن نقد الغرب حصل في البداية من قبل الألمان، بإصدارهم كتاب «أفول الغرب»، وإن شادمان لم يكن يجيد اللغة الألمانية. ولهذا السبب لعل أول مَنْ أثار موضوع نقد الغرب في إيران هو حسين كاظم زاده، المعروف بـ «إيرانشهر»، والذي كان يجيد اللغة الألمانية، ومطّلعاً على ثقافتها([1]). وأرى أن بعض الشخصيات، مثل: أمير كبير، والسيد جمال الدين أسدآبادي، هم أول من بدأ بنقد الغرب، إلا أن شخصية مثل شادمان تناول هذه المقولة بصورة نظرية إلى حدٍّ ما. ولد الدكتور شادمان في أسرة دينية طهرانية، وبعد أن أكمل الدراسة التقليدية في مدرسة الميرزا صالح وخان مروي، والدراسة الجديدة في مدرسة دار الفنون، ودار المعلمين المركزية، ومدرسة طهران العالية للحقوق، حصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون عام 1935م، وشهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة لندن عام 1939م. وبعد عودته إلى إيران عمل في المناصب الرئيسة المهمة، ومنها: وزارة الاقتصاد الوطني، ووزارة الزراعة، ووزارة العدل، ورئيس اللجنة العليا للتخطيط والميزانية([2]). وبإصداره لكتب «تسخير تمدن فرنگي (سيطرة المدنية الغربية)» و«تاريگي وروشنائي (الظلمات والنور)» و«تراژدى فرنگ (تراجيديا الغرب)» شرع بالتعريف بالمدنية الغربية، ونقدها بصورة الحدّ الأدنى. ولم يشغل الدكتور شادمان ذهنه بهواجس الأبحاث والدراسات الدينية بالمعنى الدقيق للكلمة، وعلاقة الدين والمدنية الحديثة، ولكنه كان شديد التفكير في مسألة أسباب انحطاط إيران، وعلاقة إيران بالغرب والمدنية. فبالرغم من أنه كان يرى في الغرب قبلة العلم والفن والأدب في العالم، والمرآة المعبرة عن رقي البشرية، كان يرى في هيمنة الغرب على الثقافة والحضارة الإيرانية أكبر هزيمة قاتلة لإيران، وأكثر خطورة من غزو العرب والترك والتتار. ويعتقد أن على إيران أن تبذل ما في وسعها، كروسيا واليابان، لتمتلك ناصية الحضارة الغربية حسب ذوقها ورغبتها بتعقُّل وحذر. ويعترض شادمان بكلّ قوة على المنجّمين والمثقفين المتأثرين بالغرب، معتبراً إياهم المقصرين الحقيقيين في تخلف إيران. كما أنه يحذر من أفول الغرب واضمحلاله. وكالمؤرخ الألماني اشپنگلر فإنه يعتقد بأنه حان الآن أوان أفول نجم أوروبا، وأن مفاتيح الكنز الاقتصادي للعالم الذي كان في زجاجة عمر أوروبا قد وقع الآن في أيدي أمريكا. ويعترف الدكتور شادمان بعظمة مدارس العلوم الدينية (الحوزات الدينية) باعتبارها الجامعة الكبرى المهمة للعالم، والتي تقوم بدورها في الأبحاث والدراسات. وينتقدها على إغلاقها لأبوابها في وجه العلوم والفنون والتطورات الحاصلة. وعلى هذا الأساس يرى في إصلاح الحوزات العلمية نقطة الانطلاق للبدء بالتحولات العظيمة والمؤثِّرة في الوضع الاجتماعي لإيران. وكما سبق أنْ قلنا فالهمّ الأساسي لشادمان هو مسألة تخلُّف إيران وتأخرها. ولهذا السبب يرى أن معرفة إيران، وإقامة الحكومة المتكاملة القائمة على القانون، والقيام بإصلاح التربية والتعليم والوضع الثقافي للمجتمع، هي من الشروط اللازمة لتطور إيران. وخلاصة القول: إن شادمان يخشى فقط من هيمنة الحضارة الغربية، ولكنه يوافق على القبول الاختياري بالغرب([3]).

 

سلبيات رأي شادمان ــــــ

أرى أنه ينبغي لنا أن نُحيّي شادمان على تحذيراته من الهيمنة الغربية. ولكن من الناحية الأخرى يجب أن ننقده على عدم امتلاكه لرؤية منهجية شاملة للأسباب المؤدية إلى تخلّف المسلمين، وبخاصة إيران، وعلى ثنائه المفرط على الغرب، وتعظيمه للنظام الشاهنشاهي، الممتدّ على مدى 2500 عام. كما أن رأيه القائم على الأخذ الطوعي والعقلائي بالمدنية الغربية هو الآخر محلّ تأمل. ويبدو أنه كان يهتم كثيراً بالعلم والتطور في العالم الغربي، ممّا كان يدعوه إلى التأكيد على القبول الاختياري والطوعي بالغرب. وعلى أية حال فقد كان شادمان يعارض النهج الغربي الاستعماري، ويجب علينا أن نفسّر مناهضته للغرب ضمن هذه الدائرة.

 

ب ـ السيد أحمد فرديد ــــــ

الشخصية الثانية المناهضة للحداثة والغرب في التاريخ الإيراني المعاصر هي السيد أحمد فرديد، الذي تصدى لهذه المقولة بأسلوب الحد الأقصى. ولد الدكتور فرديد سنة 1291هـ. ش في يزد، وتوفي سنة 1373هـ. ش، ودرس الفلسفة في ألمانيا وفرنسا، وتخرج من كلية الإلهيات والآداب في جامعة طهران. وقال البعض: إنه درس بعض الشيء لدى السيد تنكابني، والسيد كاظم عصار، وشريعت سنگلجي، وتخرّج على يده عدد من التلاميذ، أمثال: رضا داوري، وداريوش شايگان، والسيد عباس معارف، ومحمد مدد پور، ومسعود گلستاني، في مدرسته مدرسة (غرب ستيزي)، أي مناهضة الغرب. وبناءً على ما قاله تلامذته فقد كان يجيد اللغات العربية والألمانية والفرنسية، ولديه معرفة باللغات اللاتينية واليونانية والسنسكريتية. وكانت له لقاءات مع بعض علماء الحوزة العلمية، أمثال: الشيخ حسن اللنكراني، والسيد محمد رضا الكشفي، والعاملي. وقد امتنع عن مقابلة الإمام الخميني؛ بسبب عدم جدوى ذلك([4]). وهناك الكثير من الآراء المتضاربة حول شخصية فرديد؛ فقد كتب بعض الكتّاب مقالات في نقد أفكار فرديد وشخصيته في السنوات التي سبقت قيام الثورة الاسلامية، مثل: فريدون آدميت، وإلى ثلاثين سنة بعد قيامها من قبل داريوش آشوري؛ إذ يرى البعض أنه ذو ذهن مضطرب، ولغة أكثر اضطراباً، تميل إلى الخشونة؛ وفي المقابل عدّه البعض فيلسوفاً يحمل همّ الفلسفة، وأن أقواله المضطربة الولهة نابعة من الشعور بالألم([5])، حتى أنهم اعتبروه أول مَنْ شرع بالفلسفة في إيران، عندما اندلع نزاع فكري بينه وبين البروفسور هشترودي. إلا أن البعض اعتبره في مرحلة معينة شخصاً يحمل في داخله لوعة، وفي مرحلة أخرى نعتوه بالمضطرب، والمحبّ، وعشرات الصفات غير اللائقة([6]). وصف السيد محمود صدري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة تكساس، والذي حضر دروس الفلسفة لفرديد مع شقيقه أحمد صدري لمدة خمس سنوات تقريباً قبل الثورة الإسلامية، وصف فرديد بأنه مثقف فعّال، وأصيل، وعارٍ عن الرياء؛ ولكنه يصفه بأنه مضطرب بشدة، بحيث إنه لا يتأثَّر أبداً بالمديح المبالغ فيه، والتأليه، والنقد، والهجمات غير المؤدَّبة والقاسية من قبل الآخرين، وكان يبعد المتملِّقين والمتزلِّفين من حوله بشدة، ويفكر أكثر من غيره بالمصير المشترك للشرق والغرب. وكان فرديد كريماً جداً مع الطلبة الجامعيين، ولكنه لم يكن راضياً عن تلامذته بسبب عدم أخذهم بأفكاره، ويقول: في كل ربيع أشتري بذور الثيّل من محل مقابل الجامعة، وأزرعها في حديقة بيتي، ولكن ما ينبت منها عبارة عن أدغال عجيبة، وليس ما زرعته أنا في هذه الأرض([7]). وعلى أية حال لا شك أن أفكار فرديد كانت مؤثِّرة على جيلين من الطلبة الجامعيين والمثقَّفين على الأقل، ولاسيما بالنظر إلى قدرته على وضع مصطلحات جديدة، من قبيل: (غربزدگي) أي التغرّب، (بشرانگاری وفرعونيت نوعي جديد)، أي المذهب الإنساني والنوع الفرعوني الجديد، (نسب انگاری)، أي الوطنية، و(مذهب أصالت رأي وعقل خود بنياد)، أي مذهب أصالة الرأي والعقل المتأصل، و(نيست انگاری)، أي العدمية أو المذهب العدمي. وقد أسس التيار الفلسفي المناهض للغرب في إيران من خلال اطلاعه الواسع على تاريخ الغرب واتجاهاته الفلسفية، والسياسية، والفنية. ومن خلال الأسلوب الفلسفي بادر إلى نقد الغرب والمشاكل الأخرى في المجتمع الإيراني، ولكنه كان يعطي الأهمية للكلام أكثر من التأليف. كما أثر فرديد على العديد من الشخصيات، ومنهم جلال آل أحمد، والشهيد مرتضى آويني، بحيث يمكن اعتبار جلال آل أحمد المرآة العاكسة لنظريات فرديد الفلسفية، ولكن في الأطر الأدبية، والشهيد آويني المرآة العاكسة لنظريات فرديد الفلسفية في ميدان الفن. وتجدر الإشارة إلى أن الشهيد آويني لم يلتقِ بفرديد أبداً، وكان اطلاعه الأكثر على هذه المدرسة يتم عن طريق مؤلفات الدكتور داوري، ومحادثاته المباشرة معهم. ويمثِّل كتاب (غربزدگي) لجلال آل أحمد، والذي صدر عام 1340، أحد النماذج الدالة على التأثُّر الذي أشرنا إليه([8]). وينبري الدكتور فرديد من بين التيار الجماهيري اليساري واليميني إلى نقد التيار اليميني المتمثِّل بكارل بوبر، الذي كان يسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم، والدفاع عن الماضي، ويدافع عن التيار اليساري الماركسي المؤيِّد للنضال والثورة، ويعتبرهم الأقرب إلى الصراط المستقيم. إلا أن هذا الحكم لفرديد بحق الماركسية يجب النظر إليه من زاوية إلغاء التفرعن والطاغوتية من الماركسية. ويعبّر فرديد عن معارضته لليمينيين المتظاهرين باليسار، الذين يدعون الشباب إلى الاعتراض فقط، والماركسيين الحداثويين لمنطقة فرانكفورت، وهم من صنع الإمبريالية، والعامل المتسبِّب بالتفرقة والانشقاق بين الماركسية؛ لأنه يعتبر أي تيار موافق على الوضع القائم طاغوتاً. وعلى هذا الأساس نراه يدافع عن الإمام الخميني& والثورة الإسلامية، معتبراً إياها تمثل أرضية مساعدة لثورة الإمام المهدي#. ويجب أن نعتبر فرديد من الذائبين في الفيلسوف الألماني هايدگر؛ بسبب أفكاره المناهضة للحداثة والتكنولوجيا([9]). هذا الانبهار أصبح السبب في عام 1330 لكي يوصف بأنه أهم مَنْ يشرح أفكار هايدگر في إيران. وبالرغم من ذلك فقد كان يرى أن هايدگر كان محروماً في فكره من الفهم التام الكامل والأصيل للنور المحمدي وظلمات عصر غيبة بقيه الله في آخر الزمان، الذي يمكن أن يفهم في الساحة الدينية. ويمكن اعتبار فرديد مخالفاً للبحث الديني الفلسفي بالمنهج المشائي والحكمة المتعالية؛ لأنه يعتقد أن الفلسفة والإنسان اليونانيين يمثِّلان الطاغوت. ويرى أن التغرّب المعاصر تابع لتغرُّب اليونان، ويعبّر عنه بمصطلح «التغرُّب المضاعف». ويعتقد أنه بظهور الفلسفة اليونانية بزغ قمر الواقعية، وغربت شمس الحقيقة، ومن بعد ذلك اختفى الشرق الذي يعدّ مهد الكتب السماوية والوحي الإلهي تحت حجب الغرب. ويقول: «إن إفلاطون وأرسطو يقبلان بتسمية الطاغوت، ويعتبران نفسيهما الطاغوت بعينه». وعلى هذا الأساس فإن كبار الفلاسفة الإسلاميين مرفوضون عند فرديد، فهو يعتبر ابن سينا زنديقاً، والملا صدرا متغرِّباً معتدلاً. ويعتقد أيضاً أن فلسفة الملا صدرا تنتهي إلى اللاتقوى؛ ذلك أن التقوى منسيّة في فلسفته. فهو يرى أن المواضيع التي تطرح في الفلسفة الإسلامية في المرحلة الأخيرة تصلح للقراءة والاطلاع فقط، ولكنها ليست كافية لمواجهة فلسفة الغرب؛ لأن وقتها قد انتهى.

علم الأسماء التاريخي هو رأي آخر من آراء فرديد؛ إذ إنه وفقاً لهذه القاعدة يعتبر كل موجود مظهراً لاسم معين، ويعتبر الإنسان من بين الموجودات هو المظهر التام للأسماء الإلهية، ولكنه يعتقد أن مظهرية الإنسان تاريخية، والحضارة الغربية هي المعبِّرة عن التاريخ الممسوخ. ويعتقد أيضاً أن الأسماء السابقة تزول بالثورات، وتأتي أسماء أخرى مكانها. ويصف العصر الشاهنشاهي، الممتد على مدى 2500 سنة، بأنه يمثل العصر الطاغوتي، والمائة عام الأخيرة بأنها تمثل حقبة التغرب المضاعف، وأن الجمهورية الإسلامية وفق منهج الإمام المهدي ستنهي هذه المرحلة التغريبية. وبهذه المنطلقات الفكرية المستمدة من هايدگر فإن فرديد لم يخالف ابن سينا والملا صدرا فقط، بل خالف جميع المثقفين الدينيين بمن فيهم مهدي بازرگان أيضاً، معتبراً إياه الوجه الرجعي الليبرالي المتغطرس، ومن مصاديق الكفر بالقوة؛ لأنه في صدد تطبيق العلم الغربي على العلم القرآني([10]). ويقول: إله بازرگان هو إله البرجوازية وإله الليبرالية، ولم يعرف أنه إله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والحرية التي ينادون بها هي حرية النفس الأمّارة. وجميع أنصار (حركة الحرية)، من بازرگان إلى الحاج سيد جوادي، هم هكذا. أنا لست من المؤيدين للماركسية، ولكن أقول: إنه يجب أن نبدأ بمحاسبتهم، ومن ثم محاسبة الماركسيين، وأقول، محايداً بدون أي تحيّز: إن بازرگان عبارة عن مجموعة تسعى إلى الإبقاء على الوضع الموجود باسم الطاغوت الغربي، مثل المؤيدين لعلم اجتماع پوپر وگورفيچ([11]).

ورأي فرديد بتفسير القرآن أمرٌ مثير. فبالنظر إلى أنه يصف عصرنا بعصر التغرب المضاعف يصف تفسير السيد قطب وطالقاني بأنه متأثِّر بالغرب، ويرى أن تفسير القرآن منوط بدراسة علم الأسماء([12]). ويبدو أن فرديد كان يسعى إلى طرح المقولة الميتافيزيقية بإزاء المقولة الكلامية لمطهري، والمقولة السياسية لمصدق، والمقولة الأيديولوجية لشريعتي. المقولة الميتافيزقية لفرديد؛ بموالاتها لهايدگر وسارتر، تعد نوعاً من المواجهة مع الوجود في نفسه. فهو يرى أن الغرب والشرق يمثلان نوعين من الفهم للوجود في نفسه، عبّرا عن نفسيهما في كل من السنّة، والتاريخ، والمدنيّة، والنظام الاجتماعي المتعدِّد. وكان فرديد يواجه الغرب بهذا المنطق، وليس بالرؤية التي كان يحملها جلال آل أحمد عن التغرّب، فقد كان يهبط به إلى مستوى المنجّمين. ويعتبر فرديد أن التفكير النظري والمقولة الكلامية أحد أهم الموانع الرئيسية أمام التفكير بين المسلمين؛ إذ إن الكثير من المفكرين في الماضي، وفي الوقت الحالي، مثل: الفلسفة المشائية، وفلسفة الإشراق، والحكمة المتعالية، والعرفان النظري، والحكمة الإنسية، لم يستطيعوا التخلّص من دوامته. ولا يريد فرديد بهذا النقد أن يواجه الكلام والإلهيات، بل إنه يخالف المقولة الكلامية؛ لأن التفكير النظري يأخذ بالبعض من الفرضيات التقليدية والتاريخية، بدون أن ينقدهاـ، ويصنّفها على أنها حقائق أزلية، ولم يكترث لحيثيتها التاريخية. وبذلك يرى فرديد أن التقاليد الشرقية، وبخاصة الحكمة الإنسية، والعرفان الإسلامي، تعدّ مصادر مهمة جدّاً؛ للوصول إلى الفهم المناسب للوجود في نفسه([13]).

ويعتقد فرديد أن كل شخص لا يتناول التاريخ عند دراسة الفلسفة والتاريخ والحكمة فإنه ذو نفس طاغوتي. فالتغاضي عن الأدوار والمراحل التاريخية، وعدم الالتفات إلى تذكّر الأسماء وتجلي أسماء الله في التاريخ، وغلبة الأسماء على فكر الإنسان وقلبه، هو صفة طاغوتية([14]). تدافع مدرسة ابن عربي عن الهوية الغيبية، وظهور الأسماء وتجلياتها، وتفرّق بين الاسم والصفة. فالاسم، هو صفة الذات، يعني الهوية الغيبية للصفة. ويعتبر أن جميع الموجودات هي مظاهر للأسماء، ولكنه يقول بأن الحيوانات هي مظهر لاسم واحد، والإنسان مظهر جميع الأسماء الإلهية. ولهذا السبب فالإنسان ناطق، ولكن الحيوان غير ناطق. وبما أن الإنسان هو مظهر الاسم والتاريخ، يعني تاريخ الاسم، فإن أي موجود ـ سوى الإنسان ـ ليس له تاريخ. فالإنسان إذاً هو من له وقت وتاريخ ومرحلة، وفي كل مرحلة هناك ظهور لهوية الغيب، واسم معين. ويمثل الإنسان في كل مرحلة مظهراً لاسم معين([15]). الظهور الأول والاسم الذي أصبح البشر مظهراً له هو تاريخ أمس الأول (پريروز) للبشر، وآدم مظهره في الكتب السماوية، وظهر من بعده اسم اليونان، ومن ثم اسم القرون الوسطى، والإسلام، وظهر اسم الغرب الجديد في مرحلة تالية. وهذه المراحل هي الأدوار التاريخية لظهور وتحقق الاسماء الإلهية، وعلم الأسماء التاريخي([16]).

 

الخارطة المعرفية لفرديد ــــــ

عندما ألقيت كلمة تحت عنوان «الخارطة المعرفية للدكتور فرديد» في ندوة «أولئك الذين يفكرون»، التي أقيمت من قبل جمعية الفكر الشبابية في قاعة كلية العلامة الطباطبائي للآداب في عام 1387، دُهش البعض من مريدي فرديد ومحبيه، وتهجموا بألفاظ مهينة على فقرات هذه الكلمة. وتأسفت على المؤيدين لهذه المقولة، وقلت: لماذا لم يلجأوا إلى إكمال مقولتهم، بدلاً من هذه الإهانة؟ ولماذا لم يبادروا إلى إزالة النواقص الفكرية لهذا التيار، على الرغم من كل هذه الإبهامات، والنواقص، وعدم وجود الكتابات المناسبة من قبل مؤسِّس هذا التيار الفكري، ويمكن توضيح أية مقولة وتحليلها وإكمالها من خلال الحوار المنضبط والمنطقي؟ أجل، لقد بدأ السيد فرديد بمقولةٍ، وتبعه على ذلك بعض تلامذته، مثل: الدكتور داوري، والدكتور محمد مدد پور، والمرحوم عارف، والدكتور سليمان حشمت، وآخرين، ولكن ما زالت هذه المقولة في بداية الطريق، وتعاني الكثير من الإبهامات. ولتوضيح الخارطة المعرفية للدكتور فرديد أستعين فقط بثلاثة مؤلفات لتلامذته([17]). ولعل التلامذة المباشرين وغير المباشرين لفرديد ينظرون إلى الأمر بشكل آخر. والمؤكد أنه كذلك. ولعل التفسيرات المتعددة والمتباينة تعد من المقتضيات الذاتية للأفكار المتولدة عن فلسفة هايدگر.

وسنشير الآن إلى أهمّ قواعد الخارطة المعرفية لفرديد:

1ـ بادر فرديد إلى طرح مقولته بمناهضة الغرب مستعيناً بعرفان ابن عربي، وإلى حدٍّ ما مولوي، وفخر الدين العراقي، وجامي، وحافظ، ومن خلال الاستعانة بفلسفة مارتن هايدگر. وطرح على الأقل ثلاثاً من المقولات الكبيرة، وهي: علم الوجود؛ وعلم المعرفة؛ وعلم الأسماء. فهو يفتي في مواضيع علم الوجود بغيرية الوجود مع الموجود. ويقول بأن الوجود واحد، والموجود كثير. ووفقاً لهذه القاعدة فإنه بجعله الموجود مكان الوجود إنما يحاكي الميتافيزيقيا الغربية وفلسفتها. ويرى أن هذا الضرر قد لحق بالفلسفة الإسلامية، وبالحكمة الصدرائية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أن الوجود والموجود سيّان في هذه الفلسفة، وأصالة الوجود وأصالة الموجود يؤخذان بمعنىً واحد. ويعبّر فرديد عن هذه السلبية في الفلسفات الغربية والإسلامية، أي إهمال الوجود، بالعدميّة. هذه السلبية المشار إليها مأخوذة من فلسفة هايدگر، والعرفان النظري لابن عربي. إذاً فدراسة الموجود بدلاً عن الوجود، ودراسة الإنسان في فلسفة ديكارت، عمل طاغوتي. وطبقاً لهذا الرأي فإن إطلاق الوجود على غير الحق تعالى أمر مجازي، ولا يصبح الإنسان وجوداً، بل موجوداً، والوجود هو الله تعالى فقط، والحكمة الإنسية هي علم حضوري بالله. علم المعرفة للحكمة الإنسية مبني على المعرفة الحضورية، وليس الحصولية. وبما أن المنطق الأرسطائي قائم على العلم الحصولي فهو خارج عن مسار الحق. ويعتقد فرديد أن التصورات في المنطق الأرسطائي تنتهي إلى الجنس والفصل، ومن ثم إلى الاجناس الراقية البسيطة، التي لا يمكن تعريفها. وعليه ففي الواقع لا يمكن تعريف أي مفهوم أو تصور. إذاً فالماهيات تعرف عن طريق الكشف والعلم الحضوري فقط. كما أن القياس المنطقي ـ حسب اعتقاد فرديد ـ غير مجدٍ للمعرفة التصديقية؛ لأن جميع أنواع القياس تعود إلى الشكل الأول، والشكل الأول أيضاً هو مصادرة نحو المطلوب؛ لأن النتيجة موجودة في القضية الكلية الكبرى، ولكن لتطبيق الكلي على الفرد في الحكمة الإنسية يستفاد من اقتضاء العين الثابتة على الفرد، والتفكير الصحيح للسير من الظاهر إلى الباطن، ومن الكثرة إلى الوحدة، أو التأويل الخاص. ويقول فرديد في خصوص العلم الحصولي والحضوري: «ما هو متعلق بالعلم الحصولي هو المفهوم، وما هو متعلق بالعلم الحضوري هو المعنى. فالمعنى متعلّق العلم بدون واسطة، والمفهوم متعلق العلم بالواسطة. فعلمنا بشيء ما إما مفهومي؛ أو معنوي، فالمفهوم انتزاعي، والمعنى انضمامي»([18]). وبالاستفادة من هذا البحث المنطقي والفلسفي يفسِّر علم التاريخ بتذكر الوقت، والعلوم التاريخية بعلوم الذكرى، ومن ثم يصنف التذكر والتاريخ على صورتين: حضورية؛ وحصولية. وتزول اللغة الثلاثية الأبعاد، المتمثلة بالأمس واليوم وغداً، في الفكر الحضوري، وتتوحَّد([19]). ويجب أن نعتبر علم الأسماء لفرديد نوعاً من علم الأسماء التاريخي. ويرى فرديد أن كلمة إتيموي في المصطلحات اليونانية تطابق كلمة اسم في اللغة العربية، ويترجم كلمة إتيمولوجي بعلم الأسماء وعلم الاشتقاق. ويقيم علاقة بين اشتقاق الكلمات والحقائق الخارجية. ويقول بوجود علاقة وثيقة بين اللغة والفكر، متأثِّراً في ذلك بهايدگر، ولا يقول بانفصال اللغة عن المعنى. إنه لا يريد التطرق إلى علم اللغات وفقه اللغة بواسطة علم الأسماء فقط، بل يريد أن يجد طريقاً إلى الأدوار التاريخية للإنسان، وارتباط الإنسان بالوجود، وأسماء الله، فهو يلقب كتاب فصوص الحكم، لابن عربي، بكتاب علم الأسماء التاريخي. علم الأسماء التاريخي هو الظهور الزماني لأسماء الله في عالم الخلق والشهادة، وإلا فإن جميع الماهيات موجودة في الأعيان الثابتة. الإنسان فقط لديه تاريخ، ولا يوجد تاريخ لأي موجود آخر. والتاريخ هو تاريخ الاسم، والإنسان هو مظهر الأسماء. وعلى هذا الأساس يبيّن المراحل التاريخية الخمسة كالتالي:

الأولى: مرحلة أمس الأول (پريروز)، وتعني مرحلة الأمة الواحدة، وسيطرة التوحيد، والعلم الحضوري، وعدم وجود غلبة لهوى النفس، على أساس الآية 213 من سورة البقرة: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.

الثانية: مرحلة الأمس (ديروز)، وتعني مرحلة الغفلة عن حقيقة الوجود، وزوال الوحدة، وسيطرة المستكبرين، وبعثة الأنبياء لخلاص المستضعفين، ومرحلة العدميّة، والغفلة عن الحق، ومرحلة الميتافيزيقيا.

الثالثة: مرحلة اليوم (إمروز)، وتعني مرحلة العدمية، والتغرّب المضاعف، والإنسانية.

وبهذا التعبير يرى فرديد أن كل الناس والعلماء، حتى ابن عربي، وحافظ، وهو نفسه، متغرّبون، ولكن مع هذا الفارق، إذ يرى فرديد نفسه متغرّباً غير مضاعف، بسيط وسلبي، وأسوأ أنواع التغرّب هو المضاعف المركب الإيجابي.

الرابعة: مرحلة الغد (فردا)، وتعني مرحلة الانتظار المتأهب للوصول إلى الأمة الواحدة.

الخامسة: مرحلة ما بعد الغد (پس فردا)، وتعني مرحلة آخر الزمان، وتحقيق الأمة الواحدة بظهور الإمام المهدي#([20]).

ويؤكد فرديد على المبدأ التالي، في توضيحه لليمين واليسار: إن اليمين هو الشخص الذي يدافع عن الماضي والوضع الموجود، واليسار الواقعي ـ وليس يسار الماركسية الحديثة لمنطقة فرانكفورت، مثل: ماركوزيه الذي ظهر على يد الإمبريالية لخلق الفرقة بين الماركسيين ـ يدافع عن النضال والثورة والقضاء على الطبقات. وبناء على هذا المبدأ فهو يرى أن فلسفة الملا صدرا وپوپر هي فلسفات معادية للثورة، وتفيد قراءتها والاطلاع عليها الحصول على الثقافة التاريخية فقط. ويعتقد فرديد أنه يجب القبول باليسار، ولكن يجب أن نزيل منه سموم العدمية، والغطرسة، والطاغوتية. إنه يطرح هذا الموضوع برؤية المترقِّب لظهور الإمام المهدي.

ويقسّم الدكتور فرديد الفكر إلى قسمين: أحدهما: الفكر الحصولي؛ والآخر: الفكر الحضوري. ويرى أن الفكر الأصيل المذكور في القرآن والروايات هو الفكر الحضوري، وليس الفكر الحصولي، الذي هو عقل المعاش، وفكر المحاسب([21]). ويرى أن الفن في حد ذاته هو فكر حضوري، وهو يمثِّل مرتبة تحقق الحضور، وتحقق الحقيقة. إنه يؤمن بأن الفن عبارة عن أعلى درجات الكمال الإنساني، والسير من الخلق إلى الحق، ولكنه يرى أن الفن في العصر الجديد انقلب بعد هذا الأمر الكامل والمقدّس عن معناه الأصلي، ووصل إلى أدنى حدود التدني والنزول، وتحول إلى الحقيقة العدمية. فهو يقول: «الفن الجديد بأجمعه عبارة عن إرضاء لشهوات النفس، والفن الجديد هو بذاته من الفجور»([22])، و«كل شيء في الفن الجديد مع المذهب الإنساني والفن الجديد نهي عن المعروف وأمر بالمنكر، وليس فيه أمر بالمعروف، وأمره باتجاه المنكر»([23]).

 

نظريات فرديد، مطالعة نقدية ــــــ

رغم أن مجموعة أقوال فرديد تمتلك ميزة خاصة؛ بلحاظ أنها تناولت نقد الغرب، فإن هناك شبهات أساسية على هذه الأقوال. وكما كان فرديد يدأب على نقد الآخرين فلا يوجد شخص يسلم من النقد. وبالرغم من أنه أخذ عن ابن عربي إلا أنه يردّ عليه كلما يجد الميتافيزيقيا في أقواله([24]). ووفقاً لقول الشاعر:

 

«من همان أحمد لا ينصرفم
[أنا أحمد الممنوع من الصرف
كه على بر سر من جر ندهد»
وحرف الجر لا يقوى على جرِّي]

نراه يسجِّل على الآخرين سقطاتهم وعثراتهم الفكرية. لذا من المناسب هنا أن نقوم نحن أيضاً بنقد أفكاره، وتحليلها، ونبيّن بعضاً من ملاحظاتنا عليه بشكل مختصر:

1ـ لم يبادر إلى تبويب منهجه الفكري، ولم يوضّح القواعد والأسس التي يقوم عليها فكره. وبحسب وصف البعض له فإنه فيلسوف شفهي، وفيلسوف مقلّد، أو هو ظلّ الفيلسوف. ولكن كتب فرديد مقالة في عام 1318 باسمه الحقيقي، أي أحمد معيني يزدي، في مجلة (مهر)، ومقالة أخرى في عقد العشرينات (من السنة الشمسية) باسم فرديد، وكتب بعض المقالات الأخرى، إلا أن أيّاً من مقالاته أو مجموع أقواله لم تنتهِ إلى إعطاء صورة عن منهجه الفكري، فضلاً عن أن أقواله وكتاباته على درجة من التعقيد والثقل، بحيث إن الموجود من تفسير لأفكاره هو بعدد تلامذته. يقول داريوش آشوري، بعد لقاء له مع فرديد في مكتب مؤسسة الثقافة الإيرانية سنة 1346هـ. ش؛ إذ دار بينهما حوار حول التغرّب والتأثر بالغرب: قلتُ له: أرجو أن تسمح لي بتقرير أقوالك؛ لكي أدونِّها بعنوان المقرِّر، فالتفت إليّ، وقال: إنه سيقوم بتدوينها بنفسه، ولكنّه لم يدوِّن تلك الكلمات أبداً([25]). وعلى أية حال فالقدر الذي يعرضه تلامذة فرديد من مباحث في نطاق العرفان النظري من السطحية وعدم النضج بحيث لو اطلعنا على الكتب العرفانية، مثل: الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، وتمهيد القواعد، وشروح الفصوص، وغيرها، لاتّضح لنا مدى البساطة وقلّة التركيز لدى فرديد في هذه المواضيع. وأرى أن فرديد؛ باستخدامه المصطلحات العرفانية، قد أقحم نفسه في التفسير المقارن، وحمّل آراءه على بعض المصطلحات العرفانية. وعلى سبيل المثال: نجد أنه يربط مسألة الأسماء بالطاغوتية، بدون أن يعطي توضيحاً لماهية أسماء الله والطاغوتية. وعليه فإن مسألة علم الأسماء التاريخي ليست نظرية جديدة، ومأخوذة من التلفيق بين مدرستي ابن عربي وهايدگر فحسب، بل هي غير مرتبطة كذلك بالعناوين التي أثارها فرديد في باب االطاغوتية. وخلاصة القول: كان فرديد ذا نظرية غير منظّمة، تم ترقيعها بشكل عشوائي من هايدگر المتأخِّر وابن عربي، لم تسفر عنها أية مدرسة فكرية إيجابية منظّمة وواضحة. وعلى أية حال للمزيد من الاطلاع بإمكان القرّاء الرجوع إلى ثلاث روايات من حكمة فرديد([26])، وكذلك سائر نتاجات ومؤلفات فرديد، أو المصادر التي تتحدث عن فرديد، والتي تم تأليفها بمختلف اللغات: الفارسية، والعربية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية، والبرتغالية، والألمانية، والإنجليزية([27]).

2ـ يعتبر فرديد فيلسوفاً سلبياً أكثر من كونه فيلسوفاً إيجابياً. ولا يعني هذا الكلام أنه لا يوجد لفرديد أبحاث إيجابية، بل إن أبحاثه الإيجابية قليلة، ومبهمة، وغير مبرهنة، وتركت ناقصة. والمؤسف أن تلامذته أيضاً لم ينبروا لإصلاحها. ويناهض فرديد جميع المفكرين ويناجزهم؛ فيعتبر ابن سينا زنديقاً؛ والملا صدرا متغرباً؛ وأرسطو وإفلاطون طاغوتيين؛ وبازرگان كافراً بالقوة؛ ولكنه لم يتمكن أن يقول، ولو لمرة واحدة: مَنْ هو؟ وما هي الفكرة التي يراودها وينمّيها في ذهنه بشكل كامل ومبرهن؟ كما أن الدفاع عن هايدگر لا يحلّ أزمة فلسفته السلبية. ويقول فرديد في تأييده لهذا الأمر: «أتفق في الرأي مع هايدگر للموضع الذي يرفض فيه الغرب، والمذهب الإنساني، والتاريخ الغربي الميتافيزيقي الممتد لألفين وخمسمائة عام، ولكني لست معه في كل شيء؛ لأني مسلم شيعي وإيراني، ولا أستطيع أن أكون في لغة واحدة مع هايدگر الحكيم الألماني المسيحي. فأنا أتفق مع هايدگر في الجهة السلبية، والبشارة الإجمالية التي يبشِّر بها في ما يتعلق بظهور مرحلة من المعنوية، هي افتتاح للساحة المقدسة، ولكن في ما يتعلق بالحكمة والعرفان الإسلاميين فلي آراء وأقوال لم يتطرق لها هايدگر على الإطلاق»([28]).

وتبيّن هذه الجملة أن فرديد هو فيلسوف سلبي، وما يدعيه فرديد من أنه يملك أقوالاً إيجابية لم تكتب ـ للأسف ـ، ولم تطرح من قبله، بل كان يستفيد من مصطلح الحكمة الإلهية، أو الحكمة الروحية (المعنوية)، أو علم الأسماء، بشكل شفهي، مما يعبّر عن تأثُّره بابن عربي. كما أن الأمور التي يطرحها المرحوم مدد پور في كتاب «ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان»، فضلاً عن أنها تكشف التأثُّر الناقص لفرديد بهايدگر وابن عربي، هي محل اختلاف التلامذة، بل وحتى مؤسّسة فرديد. كما أن كتاب السيد عباس معارف «نگاهي دوباره به مبادي حكمت إنسي» (نظرة مجددة لمبادئ الحكمة الإنسية) يدل هو الآخر على التأثر بالعرفان النظري لابن عربي([29]). ولا بد من النظر إلى نظرية فرديد على أنها متأثِّرة بأحداث عصره؛ فأحياناً كانت تؤثر عليه فلسفة التاريخ للماركسية؛ وأحياناً حركة الإمام الخميني وعرفان ابن عربي. وهذا دليل على عدم وجود فلسفة مبرهنة.

3ـ لم يخالف فرديد النظم الفلسفية فحسب، بل إنه يخالف الفلسفة والفكر العقلائي، والعلم الحصولي أيضاً. والسبب وراء مخالفته للنظم الفلسفية هو إعراضها وتغاضيها عن الوجود، والاهتمام بالموجود، ولكن ما هو المبِّرر في مخالفته الفكر العقلائي، والعلم الحصولي.

4ـ هل كان فرديد مهتماً بجميع أدوات المذهب الفلسفي، وعلم الظهور، والهرمنوطيقيا، لهايدگر؟ هل كان يعلم أن هرمنوطيقيا هايدگر وتلميذه گادامر سينتهي إلى النسبية في فهم الواقع وفهم النصوص الدينية؟ كما ظهر هذا الأمر بشكل أكبر في هرمنوطيقيا تلميذه گادامر، وأن المذهب النسبي في الفهم ينتهي إلى نسبية المعرفة الدينية، وإلغاء معيار الحقيقة. وبناء على أساس النظرية النسبية يجب عليه في هذه الحالة أن يغمد سيف نقده ومشرطه في غمديهما، وأن لا يتناول سلبيات الشخصيات والمدارس الأخرى؛ لأنه كيف يمكنه أن ينتقد الآخرين بإلغاء المعيار.

5ـ يعتبر فرديد ـ على الأكثر ـ شخصاً شارحاً لهايدگر المتأخر، يعني عندما كان هايدگر يصف الفكر الفلسفي للغرب بتاريخ الميتافيزيقيا، وأفول حقيقة الوجود، في كتاب «درآمدي به ما بعد الطبيعة (إطلالة على ما بعد الطبيعة)». وبعد مرحلة شرح هايدگر المتأخر كان فرديد يصف نفسه بأنه كليم هايدگر في إيران. وعلى أية حال فبالرغم من قيام فرديد بنقد الغرب المتحضِّر، من خلال قيامه بإحياء هايدگر المتأخر ومرحلة ما بعد الحداثة، إلا أنه تمكن بمعنى آخر من العثور على طريقة جديدة للعودة إلى الغرب؛ ذلك أن هايدگر ومرحلة ما بعد الحداثة هما من نتاج الغرب، مثل الحداثة.

6ـ الوجود والموجود في الواقع عبارة عن حقيقة غير قابلة للتفكيك؛ ذلك أن العدم هو نقيض الوجود، والموجود ليس بعدم، فهو وجود. وبناء على ذلك للوجود معنى عام، وهو مشترك معنوي يشمل واجب الوجود وممكن الوجود، بالرغم من أن الوجود في العرفان هو بمعنى لا بشرط مقسم. وفي هذه الحالة يطلق على الواجب تعالى فقط، وما سوى ذلك وجود معدوم. فللوجود إطلاق خاص في العرفان، وإطلاق عام في الفلسفة. ولا ينبغي الخلط بين الاثنين.

7ـ انتقادات فرديد على الملا صدرا سطحية جداً، وناجمة عن عدم امتلاك المعلومات الكافية لأفكاره. والسؤال المهم الذي أوجهه لفرديد في هذا الباب: كيف يدافع عن نظرية وحدة الوجود وكثرة الأسماء لابن عربي، بينما يصف الملا صدرا بأنه متغرّب، في حين أن الملا صدرا يقترب من ابن عربي في رأيه النهائي، ويوافق في المجلد الثاني للأسفار، وفي المشهد الأول من الشواهد الربوبية، على نظرية وحدة الوجود، وكثرة الأسماء، لابن عربي، ويبرهنها. فالسيد فرديد لم ينتبه إلى هذا الرأي المهم للملا صدرا.

8ـ لم يكن للسيد فرديد منهج منسجم في ميدان السياسة أيضاً. وبناء على ما قيل فإنه شارك في العهد الشاهنشاهي الظالم بكتابة نظرية حزب (رستاخيز)، أي حزب النهضة، في الأعوام 1355 ـ 1356، وكان يمدح الشاه في التلفزيون الحكومي. ولكن مع انتصار الثورة الإسلامية نجد أنه يتغير تغيُّراً جوهرياً. فلو كانت هذه الأمور صحيحة لا يمكن الأخذ بنظريته في باب الجهاد. وفي كل الأحوال لا يلاحظ لفرديد أية مشاركة جهادية خلال عمره السياسي. وكان المفروض أن يناضل فرديد ضد الوضع القائم، والحكومة الطاغوتية، إلا أن مزاعمه غير منسجمة مع أفكاره ونظرياته.

9ـ يمكن تقسيم مرحلة الحكمة الإسلامية إلى مرحلتي: الحكمة البحثية؛ والحكمة الكشفية والذوقية. وكان فرديد يعبر عن حبه للحكمة الذوقية في مقام الإثبات، ويعبّر عنها بالحكمة المعنوية، والحكمة الإنسية، إلا أن الحياة الفردية لفرديد لا تشير إلى أنه خطا خطوة في هذا المسار، ولا يُعرف كيف أنه أراد أن يصل إلى الحكمة المعنوية والإنسية من غير أن يسير على هذا الطريق، ويستفيد من أساتذة العرفان والسلوك المجرّبين. وبالإضافة إلى هذا الأمر يجب أن يلتفت القرّاء إلى أنواع الصيغ العقلية، ومدى تأثيرها في المجتمع. وأرى أن العقلية الصوفية تعدّ من أكبر الموانع أمام الإنتاج والتطور العلمي في العالم. وفي هذه الحالة إذا كان فرديد يريد الوصول إلى الحكمة الإنسية عن طريق الاستعانة بالعرفان والتصوّف فلا شك في أنه كان سيصل إلى العقلية التي تمنع إنتاج العلوم([30]).

10ـ رغم أن فرديد يسجِّل ملاحظاته السلبية على تفاسير السيد قطب، والطالقاني، فإنه لا يطرح منهجاً معيناً لتفسير القرآن، بل يكتفي بإظهار سلبيات الآخرين فقط. بالإضافة إلى أن الفكر المترقب لهايدگر، أي انتظاره للظهور، يوحّد بين أسلوب جديد من الفكر غير الميتافيزيقي في المستقبل مع فكرة الموعود الشيعية والاعتقاد بظهور الإمام الثاني عشر للشيعة في آخر الزمان، ويبتليه بالتفسير المقارن([31]).

11ـ ينظر فرديد إلى الغرب كوحدة واحدة، ويعترف لها بالوحدة الشخصية، فكيف يدافع عن المذهب الهاييدي (نسبة إلى هايدگر) غير المنقطع عن الغرب، وغير معلوم الإله، في حين أنه يعتبر الملا صدرا الشيعي والمؤمن بالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد متغرّباً وطاغوتياً؟!

12ـ تفتقد مواضيع فرديد في باب التصورات، والتصديقات، والقياس، والعلم الحضوري، إلى الدليل والاستدلال. فضلاً عن أن إشكالية فرديد على القياس هي واحدة من الإشكاليات القديمة التي أجاب عنها ابن سينا. يقول الأستاذ مطهري، في توضيح هذا الإشكال والردّ عليه: «قيمة المنطق مرتبطة بقيمة القياس؛ لأن (المنطق) يبيّن القواعد الصحيحة لمنهج القياس. أهم أنواع القياس هو القياس الاقتراني، والأساس في القياسات الاقترانية، التي تتم بأربعة أشكال، هو الشكل الأول؛ لأن الأشكال الثلاثة الأخرى تستند على هذا الشكل. الشكل الأول، وهو القاعدة الأولى والركن الأساس في المنطق، دورٌ وباطلٌ. وعليه فإن علم المنطق باطلٌ من الأساس. وتوضيح هذا الأمر كما يلي: عندما نقول في الشكل الأول ـ مثلاً ـ: كل إنسان هو حيوان (صغرى)، وكل حيوان جسم (كبرى)، فالإنسان إذاً جسم (النتيجة). فقضية (كل إنسان جسم)؛ بلحاظ أنها مولود ونتيجة لقضيتين أخريين، ستُعرف من قبلنا عندما نكون قد عرفنا مقدَّماً كلا المقدمتين، ومنها: الكبرى. وبعبارة أخرى: العلم بالنتيجة متوقِّف على العلم بالكبرى. ومن ناحية أخرى القضية الكبرى؛ بحكم أنها قضية كلية، ستكون معلومة لدينا عندما يكون كلّ واحد من أجزائها معلوماً عندنا مسبقاً. إذاً فقضية «كل حيوان جسم» ستكون معلومة لدينا عندما نكون على علم مسبق بكل أنواع الحيوانات، بما في ذلك الإنسان، بأنها جسم. فالعلم بالقضية الكبرى «كل حيوان جسم» متوقِّف إذاً على العلم بالنتيجة، وهذا في حدّ ذاته دورٌ صريح. وهذا الإشكال هو ذاته الذي أثاره أبو سعيد أبو الخير على ابن سينا، عند لقائه في نيشابور، وأجاب عنه ابن سينا، نقلاً عن «رسالة العلماء». وبالنظر إلى أن إجابة ابن سينا تمتاز بالإيجاز، ومن الممكن أن تكون غير مفهومة للبعض، سنجيب عليه بتوضيح أكثر، مع بعض الإضافات، ومن ثم نذكر إجابة ابن سينا كما هي. إجابتنا على النحو التالي: أولاً: هذا الاستدلال هو عبارة عن قياس بالشكل الأول؛ لأن خلاصته كالتالي: الشكل الأول هو دور، والدور باطل. فالشكل الأول إذاً باطل. ومن ناحية أخرى بما أن الشكل الأول باطل فبحكم أحد القياسات، القائل بأن كل ما يبنى على الباطل فهو باطل، فإن جميع أشكال القياس الأخرى المبنية على الشكل الأول باطلة. وكما نرى فإن استدلال أبو سعيد على بطلان الشكل الأول هو قياس من نوع الشكل الأول. ونقول الآن: لو أن الشكل الأول باطل فإن استدلال أبو سعيد، الذي يعود إلى الشكل الأول، باطلٌ هو الآخر. فقد أراد أبو سعيد أن يبطل الشكل الأول بالشكل الأول، وهذا خلاف. ثانياً: الرأي القائل بأن العلم بالقضية الكبرى يتوقَّف على العلم التفصيلي بأجزائه يجب أن يبسّط. فلو كان المراد أن العلم بالكبرى يتوقف على العلم التفصيلي بأجزائه، بمعنى أنه يجب القيام ابتداءً باستقراء الجزئيات واحداً فواحداً، ليتحقق العلم بأحد الكليات، فهذا الرأي ليس صحيحاً من حيث المبدأ؛ لأن السبيل إلى العلم بأحد الكليات ليس مقصوراً على استقراء الجزئيات. فبعض الكليات معلومة لدى الإنسان بدون اختبار علمي واستقرائي، من قبيل: العلم بأن الدور محال؛ وبعض الكليات نحصل عليها عن طريق تجربة بعض الأفراد، ولا توجد ضرورة لأن نقوم بتجربة كل الحالات، مثل: علم الطبيب بخاصية الدواء، وتفاصيل حالة المريض. فعندما نحصل على إحدى الكليات عن طريق تجربة عدد من الحالات يعمم على سائر الحالات الأخرى بقياس واحد. ولكن إذا كان المراد بذلك أن العلم بالقضية الكبرى هو العلم الإجمالي بجميع الجزئيات، ومنها: النتيجة، أو أن العلم بالنتيجة يكمن في العلم بالكبرى، فهو أمر صحيح، ولكن ما هو مطلوب في النتيجة، وينعقد القياس من أجله، هو العلم التفصيلي بالنتيجة، وليس العلم البسيط الإجمالي والانطوائي. وعليه فالعلم التفصيلي بالنتيجة يتوقف في كل قياس في الواقع على العلم الإجمالي والانطوائي بالنتيجة ضمن القضية الكبرى، وهذا لا مانع فيه، وليس دوراً؛ لأنه نوعين من العلم. والإجابة التي أعطاها ابن سينا لأبي سعيد هي أن العلم بالنتيجة يكمن في النتيجة التفصيلية، والعلم بالنتيجة ضمن الكبرى هو إجمالي وانطوائي. وهذان هما نوعان من العلم. والإشكال الآخر هو أن كل قياس تكرار معلوم أو مصادرة للمطلوب؛ لأنه عندما نذهب إلى القياس نقول: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم. أو أنه ضمن قضية «كل حيوان جسم» (الكبرى) هل نعلم أن الإنسان، وهو أحد أنواع الحيوانات، جسم أيضاً أم لا نعلم؟ لو كنا نعلم فالنتيجة كانت معلومة في الكبرى سابقاً، وتم تكرارها مرة أخرى، إذاً فالنتيجة هي تكرار نفس الشيء المعلوم في الكبرى، وهذا ليس شيئاً جديداً. ولو كان مجهولاً فنعتبره نفسه، الذي ما يزال مجهولاً، دليلاً على نفسه، وجعلناه ضمن الكبرى، وهذا هو المصادرة للمطلوب، ويعني ذلك أن شيئاً مجهولاً أصبح في حدّ ذاته دليلاً على نفسه. وهذه الإشكالية هي من الفيلسوف الإنجليزي المعروف «ستيوارت ميل»، الذي كان يعيش في القرن الثامن عشر الميلادي. وكما نرى فإن هذا الاستدلال لا يحتوي على موضوع جديد، وله جذور مشتركة مع الإشكال الذي أثاره أبو سعيد أبو الخير؛ وذلك أن العلم بالكبرى يحصل عندما يحصل العلم بالنتيجة (عن طريق الاستقراء) مسبقاً. وإجابته هي التي سبق أن ذكرناها. والجواب عن قوله: هل أن النتيجة معلومة ضمن الكبرى أم مجهولة هو ذات الإجابة التي أعطاها ابن سينا لأبي سعيد، من أن النتيجة معلومة إجمالاً، ومجهولة تفصيلاً. ولهذا لا التكرار المعلوم يصبح ضرورياً، ولا المصادرة للمطلوب»([32]).

13ـ الأمر الآخر أن العالم بأجمعه، والحقائق الممكنة، هي أسماء الله تعالى. وهذه الحقيقة ليست لها أية علاقة بالإنسان.

14ـ استعان فرديد في تفسير علم الأسماء بابن عربي، والذين قاموا بشرح مدرسته. ولكني أرى أنه تناول شرح أسماء الله بالتفسير الهيغلي والماركسي. إنه، كالماركسيين الذين يؤمنون بأن كل مرحلة من مراحل التاريخ والمجتمع تنسخ عن طريق مرحلة أخرى، يؤمن بأن الأسماء تأتي بالتاريخ، ويتم نسخ أحد الأسماء، فيأتي تاريخ آخر ووقت آخر([33])، بالرغم من أن التاريخ في فلسفة ماركس عبارة عن الحوادث المتعاقبة، التي تنتهي إلى كشف السنن التاريخية، والتاريخ لدى الدكتور فرديد يكمن في الوقت الذي تكون فيه مع الحق، ومنه مع الموجودات. وهذا التأثُّر بمدرسة ابن عربي، وتفسير ذلك بفلسفة التاريخ الهيغلي والماركسي، تسبَّب بإيجاد خليط وتركيب لنظرية فرديد، غير منسجم مع أسس هاتين المدرستين.

15ـ الإبهام الآخر في نظرية فرديد أنه كيف أقام علاقة بين النطق الإنساني والمظهرية التامة؟ ولماذا؟ وإن الإنسان بما أنه المظهر التام لأسماء الله فهو ناطق، أو بما أن الحيوانات هي مظهر لاسم واحد فهي غير ناطقة. هذا النمط من الأقوال لا يستند إلى أي دليل رصين، ويعد نوعاً من الأقوال ذات الطابع الشعاري. فلكلّ مخلوق لغة تتناسب وطبيعته، والآيات 18 إلى 28 من سورة النمل المباركة تؤيد هذا القول، وهي تدل على أن للنمل والهدهد لغة يتحدثان بها. ويبدو أن فرديد قد خلط بين الاسم واسم الاسم، والأمر الذي يوجد صلة بين الاسم واللغة هو الاسم، بمعنى اسم الاسم، وليس الاسم بالمعنى الحقيقي الخارجي.

16ـ الأمر العجيب الآخر أن السيد فرديد يقول: عندما يذنب آدم يصبح مظهراً للأسماء، ويتحرر([34]). في حين أن آدم×، وطبقاً لآيات سورة البقرة، أصبح في البداية مظهراً لأسماء الله، ومعلِّماً للملائكة، وبلغ مرتبة التكليف، وعندها ابتلي بترك الأَوْلى؛ بسبب الغفلة.

17ـ بالرغم من أن فرديد كان يتوجس من الغرب والحداثة إلا أنه لم يكن متوجِّساً بشكل حقيقي من العلاقة بين الدين والحداثة. ولعله كان كثير التفكير بالتلاقي وإقامة الجسور بين الشرق والغرب، على الرغم من أنه لم يقدم مقولة واضحة وميسّرة في هذا الشأن. والأهم من ذلك كلّه أنه لم يعطِ حلاًّ للمشكلة المعرفية والفلسفية للعلم الحديث، ولم يقترح نموذجاً لتحقيق العلم غير الغربي. وأرى أن الدكتور نصر خطا خطوات أبعد وأكثر تأثيراً من الدكتور فرديد، وإن كان هو الآخر غير موفَّق كذلك في حل المسألة. هذا النقص والانحسار في أقوال فرديد ليس مقصوراً على العلم بمعنى الخبر العلمي فقط، بل العلم بمعنى النظام وتنظيم الأخبار العلمية إلى جانب بعضها البعض؛ إذ تعاني هي الأخرى من هذا النقص والعمومية في القول. وحتّى لو كان يقصد من نقد العلم الحديث النقد الشكلي والصوري، وليس المضموني، فهو لم يقدِّم مقترحاً جديداً للشكل المتغير. وإني لأعرف أن الغرب برأي فرديد لا يعني الغرب الجغرافي، كهايدگر، بل المراد من الغرب العلاقة التي أقامها الإنسان الغربي مع الوجود، وإجابته عن أسئلته في شأن الوجود. فالتغريب لدى فرديد كالأنفلونزا، يعني خروج الإنسان عن الطبيعة والفطرة. والتغريب في اليونان القديمة والقرون الوسطى بسيط، وفي العصر الراهن مضاعف.

 

(g)      ج ـ جلال آل أحمد ـــــــ

جلال آل أحمد (1302 ـ 1348هـ. ش) هو إحدى الشخصيات الأدبية لتيار مناهضة الحداثة. ولد في طهران من أسرة دينية، وبعملية عجيبة طوى خلال مسيرته مراحل متعددة، بدءاً من الدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، إلى الدراسة في المعهد العالي، وجامعة طهران، وناشطاً في التيار الديني، والحزب الشيوعي، وحزب الكادحين الإيراني. وبعد أحداث انقلاب سنة 1322هـ. ش (1941م) انتقل إلى العمل الأدبي، والنشاط السياسي المستقلّ. وتأثرت النشاطات الشعرية والسياسية والثقافية لجلال آل أحمد في الأعوام 1320 إلى 1350هـ. ش بأفكار كسروي، وصادق هدايت، ونيمايوشيخ، وخليل ملكي، وأحمد فرديد. وفشل في قضيتي الليبرالية والاشتراكية، ولم يوفق فيهما، وعاد إلى المنهج التقليدي، وانتهج مناهضة الحداثة والتجدُّد. وقام بتأليف كتب «غربزدگي (التغريب)»، و«در خدمت وخيانت روشن فكران (في خدمة وخيانة المثقفين». وأثار الانتقادات الأساسية على قضية التنوير والحداثة. ويصف المؤسسة الدينية الشيعية بأنها السد المنيع أمام المثقفين المتأثرين بالغرب والاستعمار، ويمدحها. ويرى أن المذهب الشيعي هو النظرية المناسبة لحشد الطاقات([35]). ونظرته إلى الغرب كنظرة هايدگر، حيث يعتبره نمطاً من التفكير، وإن التغريب مرض مهم ينتهي إلى زوال الأصالة الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، لإيران. وبالرغم من أن المواضيع الأدبية لجلال آل أحمد في عقد الأربعينات (من السنة الشمسية الإيرانية) تركت بصماتها وتأثيرها على شريحة الشباب وقضية الحداثة والتجديد، وبخاصة على الدكتور علي شريعتي، إلا أنه كان سلبياً في منهجه، كأحمد فرديد، ولم يحلّ المشكلة الأساسية في علاقة الدين بالحداثة.

د ـ داريوش شايگان  ـــــــ

الدكتور داريوش شايگان أقرب إلى التيار التقليدي، ولكن أشرنا إليه بسبب انتقاداته للتيار المناهض للحداثة. ويجب أن نقرأ انتقادات داريوش شايگان للغرب على أنها معتدلة، وأنه الشخصية المعتدلة للتيار المناهض للحداثة، وبالشكل الذي يمكن أن نجعله ضمن التقليديين. ولد في طهران في شهر بهمن (الشهر الحادي عشر من السنة الإيرانية) سنة 1313هـ. ش. وأكمل دراسته في طهران، وإنجلترا، وسويسرا. وفي سنة 1341 عاد إلى طهران؛ لتدريس اللغة السنسكريتية، ولكنه ذهب فيما بعد إلى جامعة السوربون، وشرع بدراسة الديانة الهندوسية، والتصوُّف، بإشراف هنري كُرْبُن([36])، وعاد مرة أخرى إلى جامعة طهران بتنسيق من السيد حسين نصر، وقام بتدريس الديانات الهندية، بالإضافة إلى اللغة السنسكريتية، إلى عام 1359([37]). وقام شايگان بتأسيس المركز الإيراني لدراسة الثقافات من خلال جمع البعض من الشخصيات العلمية، مثل: داريوش آشوري، ورضا علوي، ومير شمس الدين أديب السلطاني، ورضا داوري، وآخرين. وكتب عن منهجه الفكري يقول: «لابد لي من القول: إن عملي ليس مختصّاً بدراسة الإسلام، بنفس الشكل الذي لا أرى نفسي اليوم عالماً بالديانة الهندوسية. فالأمر المهم عندي في هذه اللقاءات هو روح هؤلاء العظماء، وأنفاسهم، وانسجامهم الذي كانوا ينفخونه فيّ. ولم يكن لديّ أيّ هدف سوى الفهم؛ لأني كنت أعرف جيداً بأني لم أكن متحمساً لأصبح خبيراً في شؤون الإسلام، أو الهند، أو أي شيء آخر من هذا القبيل. وكل ما كنت أصبو إليه أن أصبح مفكِّراً متحرِّراً من قيد جميع المتعلقات»([38]). ويبدو أن شايگان ينظر إلى الدين بمستوى الحد الأدنى، ويحدده بالمعنويات والأمور الروحية، ويقول: «أعتقد أنه يجب أن نضع الدين في مكانه الصحيح. وأرى أن الدين يمثِّل مائدة وغذاء أساسياً للروح»([39]). وقد تأثَّر شايگان بدرجة كبيرة ببعض الشخصيات، مثل: هايدگر، ورينيه گنون، وهنري كربن. فهو يقول: «لقد كنتُ متأثِّراً بشدة في بعض الفترات بهايدگر. وكما كانت لي مرحلة گنونية (نسبة إلى رينيه گنون) فقد كانت لي مرحلة هايدگرية أيضاً، وبنفس القدر الذي كنت فيه مغرماً بأفكاره حول الوجود فقد كنت مشدوداً لأقواله حول الموت، وحول أفول الوجود»([40]). ويؤمن شايگان أنه «طالما لم تتم مناقشة هذا الموضوع، ولم نعرف بعد حقيقتنا، وحقيقة المدنية المعروضة علينا، ولم نُثِرْ التساؤلات حولها، سوف لن يكتب لنا أي نجاح في هذا الشأن. إثارة التساؤلات تعني اتخاذ منهج التفكير الفلسفي. وبهذا المنهج فقط يمكننا الوقوف على ماهية التفكير الغربي وتحديد هويتنا»([41]). كما يقول في إجابته عن السبب في اختيار أسلوب الفلسفة: «السبب في اختيار هذا الأسلوب أنه عند طرح المسألة التاريخية للحضارات الآسيوية لم تتم الإجابة عنها من قبل، وما تزال ماهيتها مجهولة… وبعبارة أخرى: ماهية المسألة وطريقة السؤال هما اللذان يحددان نمط التفكير»([42]). وقام بنقد الفكر الفلسفي للغرب بالأسلوب الفلسفي، والإيمان باختلاف النظرة للوجود بين الأوساط الشرقية والغربية. فالفلسفة الشرقية قائمة على أساس المكاشفة، والإيمان والفلسفة الغربية قائمة على أساس التفكير العقلي، وظهرت بالأزمات الأربعة، المتمثِّلة بانحطاط الثقافة، وأفول الآلهة، وموت الأساطير، وسقوط المعنوية. وهذه الأزمات هي وليدة الحركات التسافلية الأربعة، أي تكنكة الفكر، وجعل العالم دنيوياً، وجعل الإنسان طبيعياً، والقضاء على الأساطير. ويرى شايگان أن التطورات الظاهرية في إطار التكنولوجيا هي السبب في القضاء على جميع القيم، ويعتقد أننا بقبولنا للتكنولوجيا والعلوم الاجتماعية في العالم الغربي إنما نذهب إلى عملية التغريب بشكل لا إرادي. وفي باب الترابط بين السنة والتكنيك يقول: «هل يمكن يا ترى مصالحة التكنيك والأسلوب التقليدي، وإنقاذ الفكرة القومية؟… نحن نريد دائماً أن نعتبر التكنيك أمراً غير مزعج؛ إذ إن ماهية التكنيك ليس التكنيك. والواقع أن السذاجة الطفولية هي في أن نعتقد أنه يمكن أن نفصل التكنيك عن القيم المعجونة معها. فنحن ننسى دائماً أن العلم والتكنيك والتكنولوجيا ليست ظواهر منفصلة عن بعضها البعض في الفكر الغربي على الإطلاق»([43]). ولكنه لا يملك رؤية متطرفة في نقد التغريب، ولا ينقد الغرب وثقافته، ولا يرفضهما جملةً وتفصيلاً. يقول: «مسألة التغريب، وكما سبق أن قلنا مراراً، هو الجهل بالماهية الحقيقية لحضارة الغرب. وهذا الجهل يصبح السبب وراء خلطنا لظاهر الأمر بالأمر نفسه، وأن نحدد مظاهر الحضارة الغربية بالفاعلية المذهلة لنتاجاته التكنيكية، ونبقى بالتالي في حالة جهل بالفكر الذي يقف وراء هذا التطور»([44]). ولغرض الرجوع إلى الإرث الثقافي يقترح امتلاك المعرفة الدقيقة بالفكر الفلسفي للغرب، ويصف إيران، والإسلام، والهند، والصين، واليابان، بأنهم يمثِّلون الأركان الأربعة الكبرى للثقافة الآسيوية. ويصف شايگان الرسالة الفكرية لإيران بأنها جاءت قبل الدول الأخرى، معتبراً الفكر الفلسفي الإيراني، مثل: ابن سينا، والسهروردي، والملا صدرا، العامل المؤدي إلى خلق الانسجام بين الدين والفلسفة والإشراق. ويقول شايگان: «الصفة الغالبة على الحضارة الإيرانية أن الإشراق ـ وهي الصفة المميِّزة لها ـ أدى إلى أن يمتزج هذا العنصر الدخيل، أي العنصر اليوناني، بقوة في فكر الملا صدرا مع العرفان والإشراق وقواعد الفكر الشيعي، وتحقُّق الوحدة بين الدين والفلسفة والإشراق، في الوقت الذي كان فيه الغرب ينهار إلى الأبد»([45]). إنه يعتقد أن المؤسَّسة الدينية هي وحدها التي تحافظ على الأمانة السابقة لإيران والإسلام والسنّة([46]).

توضح المواضيع المتقدمة لنا أنه لا يمكن أن نسجن شايگان في طبقة معيَّنة كمثقف، وفيلسوف، وعالم دين، وغير ذلك. وحسب قوله: «لا أحب في الحقيقة أن أسجن نفسي، وأقيدها في دائرة واحدة، وكما أني لست عالماً من الطراز الأول بشؤون الهند فلم أصبح سالكاً كبيراً أيضاً، فقد كنت أريد دائماً أن أنتقل من حدٍّ إلى حدٍّ آخر؛ لأني أخشى دائماً من المسالك الممحية والمسحوقة. ومهما كان الدين والتعاليم فإنه يخنق نظامي المغلق، وفي الزنزانة الضيقة أشعر بالضيق وعدم الارتياح دائماً، وهذا هو السبب في ذهابي يميناً ويساراً»([47]). وشايگان، كباقي رفاقه في أفكاره، لم يقدِّم سبيلاً ومنهجاً إيجابياً واضحاً؛ لمواجهة الحداثة، ولا يحل المشاكل المتعلقة بدراسة الدين في هذه المرحلة. كما أن نظرة شايگان إلى الدين عبارة عن رؤية علمانية ومعنوية؛ إذ إن هذه الرؤية ممكنة التحقيق كذلك مع الأديان الشرقية، والأرضية؛ وغير الإلهية. أي من دون أن يصرّح بذلك يمكن أن نجد آثار التعددية الدينية عنده. المشكلة الرئيسية التي يعاني منها شايگان أنه، وبالرغم من كل الانتقادات التي يوجهها إلى الغرب، وميوله نحو الشرق، لم يتمكن من الخروج من دائرة الغرب أبداً. فكيف يمكن الوصول إلى مرتبة الروح والمعنوية في الوقت الذي يعتبر فيه الغرب ـ باعتقاد شايگان ـ حقيقة لابدّ منها؟([48]).

هـ ـ رضا داوري ــــــ

الدكتور رضا داوري أردكاني (1312هـ. ش ـ …) هو أحد المناهضين للحداثة، الذين تأثروا كثيراً بالدكتور فرديد. وأخذ يناهض الغرب بالأسلوب الفلسفي في مؤلفاته، ومنها: «فلسفة چيست؟ (ما هي الفلسفة؟)»، و«انقلاب إسلامي ووضع كنوني عالم (الثورة الإسلامية والوضع الراهن للعالم)»، و«فلسفه وإنسان معاصر (الفلسفة والإنسان المعاصر)»، و«فلسفه معاصر إيران (الفلسفة المعاصرة لإيران)»، و«شمه إى أز غرب زدگي ما (لمحة عن تأثرنا بالغرب)»، و«فلسفه وبحران غرب (الفلسفة وأزمة الغرب)»، و«مباني نظري تمدّن غرب (الأسس النظرية لمدنية الغرب)». ويرى داوري أن الغرب ليس مجرد حقيقة سياسية، بل هو عبارة عن مجموعة متكاملة، وجوهر واحد. ويعتقد أن مشكلة الغرب الرئيسة في أنه لم يتطوَّر في الجانب المعنوي بقدر تطوره في العلم والتكنولوجيا. وكان العلم الجديد يسعى في البداية إلى السيطرة على الطبيعة لصالح الإنسان، ولكنه الآن لا يفكر بمصلحة البشرية. وقد تسببت هذه التنمية في أن تصل البلدان غير الغربية إلى مرحلة الأزمة والحيرة، بعدما طوت مرحلة الحيرة والسكوت، ومرحلة الإعجاب والتقليد. إنه يؤكد على النقطة التالية، وهي أنّ المهم أن نعلم أنّ الحصول على العلوم والفنون له شروط معينة، والذين يطلبونها بدون النظر إلى تلك الشروط لن يحصلوا عليها، بمعنى أن العلوم والفنون لن تظهر في كل الظروف، ولن تتضح، وهي ليست في معزل عن الزمن والتاريخ. فهو يرى أن الغرب ظهر في وقت تاريخي معين، وبلغ آخر مراحله، أي بلغ إلى مرحلة العلم والتكنولوجيا المطلقة، بحيث إن تقدير البشرية مرتبط بالتكنولوجيا. والغرب ـ برأي داوري ـ عبارة عن غروب الحقيقة القدسية، والظهور البشري، الذي يرى أنه يملك كل شيء، وإلى الحدّ الذي لا يريد معه أن يؤمن بالعبودية وطاعة الله، حتى مع إثبات وجود الله([49]). كما يقول أيضاً: إنه لابد من القيام بصياغة الهوية الإسلامية في مواجهة الغرب. ويرى أن المذهب الإنساني، أو القول بأصالة البشر، في الغرب ليس مجرد نظرية، بل هو الأساس الذي تقوم عليه جميع الفلسفات، ونظريات العلوم الجديدة([50]). وعلى أية حال لم يؤمن داوري بتجزئة الغرب، وتشذيبه، ويصرّ على قلع الغرب من جذوره، ويلوم الغرب؛ بسبب ابتعاده عن الميتافيزيقيا([51]). ويقول داوري في أحد المواضع بتعارض الدين والتنمية؛ وفي موضع آخر يقول: إن المقولتين مستقلتين ومنفصلتين عن بعضهما؛ إذ لا يمكن المقارنة بينهما. ويعتقد أنه لا ينبغي المقارنة بين لغة العلم ولغة الدين؛ لأن أحكام العلم ليست من سنخ قواعد الدين. ويعارض داوري كلا المرحلتين اللتين ارتبط فيهما العالم الإسلامي بالغرب، وهي مرحلة ارتباط العالم الاسلامي باليونان؛ وكذا مرحلة العلم والتكنولوجيا. وهو يعارض المثقَّفين، ويقول: لو عمل هؤلاء في الفلسفة لجعلوا الفلسفة مبتذلة، وجعلوها في خدمة السياسة والأيديولوجيا؛ لأنهم يحبون السلطة، ولا شأن لهم بالعلم والعمل([52]). أقوال داوري هذه لا تبشر بأية نتيجة أخرى سوى النتيجة السلبية. على السيد داوري بصفته عضو اللجنة العليا للثورة الثقافية في البلاد أن يوضح لنا دور العلم والتكنولوجيا. فلو كان يعارض الغرب جملةً وتفصيلاً فما هو التدبير الإيجابي الذي يحمله لتنمية البلاد؟ وهل يعرف العلم والمعرفة حدوداً أو جغرافيا أو زماناً أو مكاناً؟ هل أن المنهج العلمي لا يملك القدرة على كشف الواقع؟ وهل أن العينية والواقعية وما بين الأذهان لا تقبل النظريات العلمية؟ هل أن هذه الرؤية في شأن الغرب والعلم والإسلام والفلسفة مما يمكن الأخذ بها أم لا؟ وهل هي قابلة للفهم من قبل المخاطبين على مختلف مستوياتهم أم لا؟ هل أن أقوال داوري تبشر بنتائج إيجابية أيضاً، غير النتائج السلبية؟ هل أن الدكتور داوري قادر على حلّ مشاكل إنتاج العلوم، وثورة التقنيات البرامجية، أو يعطي على الأقل مخطَّطاً لذلك، من خلال نظرياته حول العلم والغرب؟ ويوضِّح لنا أسس الخريطة العلمية الشاملة الجامعة للبلاد، وتوجُّهات الجمهورية الإسلامية في إيران نحو العلم والإبداع؟ وإذا كان لابد من نقد الغرب بكل ما فيه فكيف يمكن إدارة بعض المؤسسات، مثل: معهد العلوم، ووزارة العلوم والإبداع؟ وبكلمة واحدة: ما الذي تحمله هذه الأقوال من تدبير إيجابي لتنمية البلاد وتطويرها؟ هل أن مقولة علم المعرفة للدكتور داوري واقعية أم مثالية؟ هل يأخذ بالهرمنوطيقيا الفلسفية لهايدگر وگادامر أم لا؟ لو كانت الإجابة بنعم فهل يمكن حلّ مشاكل النسبية المعرفية والهرمنوطيقية أم أنها تلغيها؟ ألا يرى هذا النموذج الفلسفي أنه يمكن الإتيان بعلم جديد، وتطويره من خلال تطوير الدين والمذهب؟ لماذا لا يمكن فصل ثقافة الغرب عن علمه وتكنولوجيته؟ كيف يمكن أن ننقل الإيرانيين، الذين عاشوا لسنوات عدة مع الثقافة الإيرانية والإسلامية والغربية، إلى ثقافة أخرى غير مدونة؟ وعشرات الأسئلة الأخرى التي نودّ كثيراً أن نسمع أجوبتها بالتفصيل من لسان هذا العالم الكبير، وبقية السلف لهذا البلد. لقد طلبت مراراً من سيادته الحضور في جلسة ودّية مع علماء الحوزة العلمية، ويقوم بتوضيح آرائه لنا، ويجيب عن هذه الأسئلة، إلا أن مشاغل الأستاذ لم تسمح له حتى الآن بتلبية الدعوة، ولكن الإخوة ما زالوا ينتظرون، وطالما لم يحصل هذا الأمر سيبقى تأثير الفكرة محدوداً ومبهماً. ولكن لابد لي من القول: إن بعض من هذه الأسئلة قدمتها للأستاذ بشكل مكتوب، وتفضَّل الأستاذ داوري وأجاب عنها بشكل مختصر، وأفادني بها كثيراً، ولكنّ قطرات الماء يمكن أن تروي ظمأ طالب العلم الباحث عن الحقيقة، إلا أن العثور على اللؤلؤ يتطلب الغوص في المحيط. ويبدو أن على الأستاذ داوري في هذه المرحلة من عمره أن يقوم بتنظيم مجموعة مؤلَّفاته ونتاجاته، وأن يخرجها على شكل هندسة معرفية، إذا كان يرغب أو يوافق على ذلك. وفي الختام أسأل الله تعالى أن يمن على هذا العالم النحرير بتمام الصحة والعافية، والسؤدد والرفعة، آملاً له الموفقية في ظل رعاية السيد الوليّ، ومولاه الإمام المهدي#، وأن يقدم دائماً المزيد من الخدمة لبلد العلم والفلسفة.

الهوامش:

(*) أستاذ جامعي، ورئيس مركز الدراسات والأبحاث في الحوزة العلمية في مدينة قم، وعضو الهيئة العلمية في مركز الدراسات الثقافية (قسم الفلسفة والكلام) في إيران، له مؤلفات عدة في فلسفة الدين والكلام الجديد.

([1]) حسين كاظم زاده (20 دي 1262 في تبريز ـ 27 إسفند 1340هـ.ش في سويسرا)، المعروف بـ (إيرانشهر)، هو من المثَّقفين والكتّاب الإيرانيين المعروفين. وجاءت شهرته بتسمية «إيرانشهر» على خلفية إصداره مجلة تحمل هذا الاسم بين الأعوام 1301 إلى 1306هـ.ش. وهو شقيق الديمقراطي المعروف الدكتور زين العابدين. وعمل كدبلوماسي في السفارة الإيرانية في لندن لفترة من الزمن. ولد حسين ابن الحاج الميرزا كاظم في مدينة شيراز. وأسس في إسطنبول مؤسسة سرية باسم (مؤسسة الإخوة الإيرانيين)؛ لرفد الثورة الدستورية. وشرع إيرانشهر منذ عام 1315هـ.ش في قرية دكرسهايم في ولاية سانت كالن السويسرية بتأليف الكتب المختلفة. وكانت له دراية باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وقام بتدريس اللغة الفارسية لفترات طويلة في جامعة كامبريج، بصفته معاوناً للبروفسور إدوارد براون. وأصدر كاظم زاده مجلة إيرانشهر في برلين، بالتعاون مع إبراهيم پور داوود وعدد آخر من الأفراد. وصدر العدد الأول من هذه المجلة في 22 حزيران عام 1919م، في 16 صفحة. واتجه كاظم زاده في أواخر أيام حياته في سويسرا نحو العرفان، وأسس مدرسة العرفان الباطني. وأصدر العديد من المؤلَّفات، ومنها: الكتب التالية: أصول أساسي فن تربيت، راه نو در سير نژاد نو، راه نو در تعليم وتربيت، رهبر نژاد نو، شرح زندگاني زرتشت، شرح زندگاني پيامبر إسلام، شرح حال وآثار مولانا، أسرار هبوط، حوا وقصه بهشت، كيمياي حقيقي، مناجات باطني (راجع: موقع ويكي پيديا ورضا بيگدلو 1380، باستان گرايي در تاريخ إيران معاصر، الطبعة الأولى: طهران، إصدار مركز وموقع http://www. Radiozamaneh.org).

([2]) روشن فكران إيراني وغرب (المثقفون الإيرانيون والغرب): 89 ـ 91.

([3]) راجع: «تسخير تمدن فرنگي»: 45 ـ 84؛ تراژدي فرنگي: 18 ـ 291.

([4]) مهدي صادقي خلخالي، علاقة فرديد برجال الدين، وكالة أنباء انتخاب، 11/2/1385.

([5]) سيد عبد الجواد الموسوي، سلوك وارونه، صحيفة همشهري، الجمعة 27 شهريور 1383.

([6]) إشارة إلى ملاحظات داريوش آشوري في (نگاه نو): 155 ـ 156، مهر وآبان 1373، ومقالته بعنوان أسطوره فلسفه در ميان ما، في مجلة آيينه أنديشه، العدد 4: 3 ـ 28، وكذلك حديث الدكتور سروش مع صحيفة روز آنلاين الإلكترونية في 10 بهمن 1383، و آيينه أنديشه العدد 6: 91.

([7]) محمود صدري، تأملاتي در باب أحمد فرديد، ترجمة: أمير حسين تيموري، صحيفة الشرق، أول آبان 1384.

([8]) روشن فكران إيراني وغرب (المثقفون الإيرانيون والغرب ): 106 ـ 107.

([9]) ولد هايدگر سنة 1889م في ألمانيا، وكان متأثراً بأفكار هوسلر، وفلسفة فرانتزبرنتانو وكيركگارد، والنقد الأصيل لكانت، ومن منتقدي التكنولوجيا والمجتمع الغربي الحديث. وكان يعتقد أن «البشرية والشعوب قد تعرضت للانحطاط؛ لأنها خرجت من دائرة الوجود. وبالتالي وجد الإنسان الغربي نفسه في أجواء روحية شديدة الانحطاط في العصر الذي غادر فيه الزمن، كالتاريخ، حياة جميع مواطنيه. ولهذا السبب فقد دخلنا عصر «الظلام»، ولهذا السبب أيضاً فإن تاريخ الغرب هو تاريخ العدمية (نيتشه، هايدگر وگذار به پسا مدرنيته: 266 ـ 268).

([10]) راجع: محمد مدد پور، ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، مؤسسة نظر الثقافية للطباعة والنشر والأبحاث، 1381.

([11]) ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان: 142.

([12]) راجع: مهدي صادقي الخلخالي، فقر فلسفه وفلسفه فقر، موقع آفتاب، 28/12/1384، وآيينه أنديشه، العدد 4: 127.

([13]) بيژن عبد الكريمي، ميراث سيد أحمد فرديد، صحيفة إيران، 21 ـ 24/1/85، وآيينه أنديشه، العدد 6: 145 ـ 158.

([14]) ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان: 18.

([15]) المصدر السابق: 19 ـ 21.

([16]) المصدر السابق: 22 ـ 25.

([17]) المؤلفات الثلاثة عبارة عن: نگاهي دوباره به مبادي حكمت إنسي، للمرحوم السيد عباس عارف، طهران، رازن، 1380، ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، لمحمد مدد پور، طهران، نظر، 1381؛ آراء وعقايد سيد أحمد فرديد، للسيد مصطفى ديباج، طهران، علم، 1386.

([18]) المصدر السابق: 29.

([19]) المصدر نفسه.

([20]) راجع: محمد فنائي إشكوري (حكمت فرديدي)، نقد وتحليل للحكمة الإنسية وعلم الأسماء التاريخية للسيد أحمد فرديد، المعرفة الفلسفية، السنة الخامسة، العدد الثاني: 11 ـ 5. شتاء 1386.

([21]) المصدر السابق: 213.

([22]) ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان: 276.

([23]) المصدر السابق: 277.

([24]) المصدر السابق: 380.

([25]) داريوش آشوري، أسطوره فلسفه در ميان ما (أسطورة الفلسفة عندنا)، قراءة لأحمد فرديد ونظرية التغرّب، مجلة آيينه أنديشه، العدد: 4.

([26]) سيد عباس معارف، نگاهي دوباره به مبادي حکمت إنسي، دار نشر رايزن، شتاء 1380؛ سيد أحمد فرديد، ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، بجهود: محمد مدد پور، مؤسسة نظر للطباعة والنشر، 1381؛ محمد منصور هاشمي، هويت أنديشان وميراث فرهنگي أحمد فرديد، دار نشر كوير، 1383.

([27]) راجع: آيينه أنديشه العدد 6: 171 ـ 207.

([28]) راجع: آيينه أنديشه، مناقشات درباره دكتر أحمد فرديد، العدد الرابع: ر، خرداد 1385.

([29]) سيد عباس معارف، نگاهي دوباره به مبادى حكمت إنسي، رايزن، طهران، 1380.

([30]) شرحت هذه المقولة بالتفصيل في مقالة بعنوان: (عقلانيت وتوليد علم)، أي العقل وإنتاج العلم.

([31]) محمد منصور هاشمي، (هويت أنديشان وميراث فكري سيد أحمد فرديد): 149، طهران، دار نشر كوير، 1380.

([32]) مرتضى مطهري، آشنايي با علوم إسلامي (التعرف على العلوم الإسلامية) 1: 124 ـ 127، المنطق ـ الفلسفة، طهران، صدرا.

([33]) ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان: 22.

([34]) المصدر السابق: 23.

([35]) راجع: روشن فكران إيراني وغرب (المثقفين الإيرانيين والغرب): 110 ـ 123؛ وغربزدگي: 123؛ و در خدمت وخيانت روشن فكران: 131 ـ 170.

([36]) ولد هنري كُرْبُن في باريس سنة 1903م. وصاغ أفكاره بواسطة فلسفات جيلسون، وهوسرل، وهايدگر، ولوبي ماسينيون، والسهروردي. وقبل أن يتعرف كربن على الفلسفة الإسلامية، واعتناق المذهب التقليدي، تأثَّر بأفكار الغرب، ومناهضة هايدگر للحداثة، ولكنه لم يقع في فخ الماركسية، وكان يقول بصراحة بعدم وجود مشتركات لغوية أو تعبيرية بينه وبين الماركسيين، وكان يعبِّر عن قلقه من زوال مفهوم الحياة، وتفكيك الفلسفة عن المعنوية، وشيوع المذهب التجريبي والمذهب المادّي. ولهذا السبب أقبل على فلسفة الشرق، وحكمة الإشراق، والفلسفة الصدرائية (راجع: يادي أز هنري كربن: 10 ـ 12؛ أز هايدگر تا سهروردي: 10 ـ 170 ).

([37]) راجع: روشن فكران إيراني وغرب: 10 ـ 122؛ غربزدگي: 64 ـ 123؛ در خدمت وخيانت روشن فكران: 131 ـ 170.

([38]) زير آسمان هاي جهان أي (تحت سماوات العالم): 74.

([39]) المصدر السابق: 153.

([40]) المصدر السابق: 102.

([41]) آسيا در برابر غرب (آسيا في مواجة الغرب): 4.

([42]) المصدر السابق: 5.

([43]) بت هاي ذهني وخاطره أزلي: 31.

([44]) آسيا در برابر غرب: 56.

([45]) المصدر السابق: 185.

([46]) المصدر السابق: 228، 4 ـ 8؛ زير آسمان هاي جهان: 24 ـ 35؛ روشن فكران إيراني وغرب: 228 ـ 239.

([47]) زير آسمان هاي جهان: 205.

([48]) مونيسم يا پلوراليسم:51 ـ 56.

([49]) فلسفه در بحران: 17 ـ 19، دار نشر أمير كبير، 1373.

([50]) انقلاب إسلامي ووضع كنوني عالم: 56، دار نشر المركز الثقافي للعلامة الطباطبائي، طهران، 1363.

([51]) ميعادگاه كجاست؟: 35 ـ 37، مجلة كار وتوسعه (العمل والتنمية)، العدد الأول، 1369.

([52]) إنسان وجهان: 125 ـ 132؛ ما وراه دشوار تجدد: 110 ـ 212، 8 ـ 10؛ فرهنگ خرد وآزادي: 107 ـ 152؛ انقلاب إسلامي ووضع كنوني عالم: 46.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً