أحدث المقالات

ثمة ظاهرة منتشرة في أوساط المؤمنين من أتباع أهل البيت(ع)، هي ظاهرة الاعتماد على الاستخارة في الكثير من الأمور والقضايا سواء التجارية منها أو الاجتماعية أو الشخصية، من قبيل ما يتّصل بأمر الزواج أو السفر أو غير ذلك من الحاجات، وهذه الظاهرة تستوقف الكثيرين ويتساءلون عن مغزاها وجدواها ومشروعيتها؟

   وقد يعتبرها البعض من جملة الأسباب المعيقة لتطوّر الإنسان، لمخالفتها لقانون العليّة والسّنن الطبيعية القائمة على أنّ الأمور إنّما تُعرف بأسبابها، ويستدلّ عليها بالتبصّر في عواقبها ونتائجها، لا بعدد حبات السبحة ولا بالقرعة ولا بالرقاع. إنّ الأخذ بالاستخارة –بنظر هؤلاء- يعني تجميد العقل وتعطيله عن التفكير، ولذا ارتأينا أن من المناسب بل الضروري التطرّق إلى هذا الموضوع، لأهميته، وينبغي هنا أن نتحدّث:

 أولاً: عن مفهوم الاستخارة.

 ثانياً: عن مشروعيتها.

 ثالثاً: عن ضوابط العمل بها وموارد استخدامها.

   وسنحرص في هذا البحث أن نبتعد قدر المستطاع عن استخدام اللغة الفقهية واستدلالاتها التفصيلية في تناول هذه المسألة، فإنّ ذلك متروك إلى مباحث علم الفقه.

مفهوم الاستخارة:

   الاستخارة في اللغة تأتي بمعنى طلب الخير، كما أن الاستنصار يأتي بمعنى طلب النصر، وهكذا.. وأما في المفهوم الشرعي، فإنّ الاستخارة تأتي بمعنيين:

 المعنى الأول: أن يراد بها طلب الخير من الله، انسجاماً مع معناها اللغوي بحيث يتوجّه العبد إلى الله سبحانه بالدعاء، طالباً منه أن يختار له الأصلح فيما يريد أن يقدم عليه من زواج أو سفر.. من دون أن يلجأ إلى وسيلة معينة للتعرف على وجه الخير، بل يعتمد على ما يلهمه الله ويلقيه في قلبه، وقد يراد بها طلب الخير من الله، ثم يمضي العبد إلى عمله.

   المعنى الثاني: أن يستخير العبد ربه ويستشيره، طالباً منه أن يريه وجه الخير فيما يقدم عليه من خلال وسيلة معينة، كالرقاع، أو حبات السبحة، أو من خلال مضمون آيات القرآن، أو غير ذلك .

 دليل المشروعية :

 والسؤال: ما هو الموقف الشرعي من الاستخارة بمعنينها المتقدمين؟

   والجواب: أما بالنسبة للمعنى الأول، فلا شبهة في مشروعيته، لأنه مظهر من مظاهر التوكل على الله والاعتماد عليه، وهو يعبر عن إيمان العبد واعتقاد بأنّ أموره هي بيد الله، وهذا ينسجم كامل الإنسجام مع عقيدة التوحيد، فعندما يرغب العبد في أن يُقدم على الزواج والارتباط بشريك، أو على عمل تجاري معيّن، ويتوجّه إلى الله، مبتهلاً إليه أن يجعل الخير رائده والتوفيق قائده، ويوفّقه في ما يقدم عليه، فإنّ ذلك يختزن إيماناً واعتقاداً لديه بأنّ الله سبحانه وتعالى هو الرازق والمالك والمقدّر وبيده خزائن السماوات والأرض، ولهذا فإنّ الاستخارة بهذا المعنى تعبّر عن أدب إسلامي رفيع في التوكّل على الله واستحضاره عند كلّ الحاجات والملمّات والطلبات حتى لا يغيب الله عن أذهاننا طرفة عين أبداً، أو نتوهّم أن لنا قدرة بصرف النظر عن قدرته، أو طولاً بعيداً عن طوله.

وفي ضوء ذلك، يتضح أن مشروعية هذا النحو من الاستخارة جارٍ على طبق القاعدة، ولا يحتاج إلى دليل خاص، لأن الاستخارة بهذا المعنى تمثّل مصداقاً من مصاديق الدعاء والابتهال إلى الله، ومع ذلك فإنّ بالإمكان الاستدلال على مشروعيتها واستحبابها، استناداً إلى النصوص الواردة في ذلك من طرق السنة والشيعة معاً، ولذا لم يشكك أحد من المسلمين في مشروعيتها، بل أجمعوا على استحباب ذلك ومطلوبيته، ففي الحديث عن رسول الله (ص): "إذا همَمْتَ بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه"[1][1].

   وفي حديث آخر عنه(ص): "من سعادة ابن آدم استخارته لله، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله"[2][2]..

 وفي الحديث عن أبي عبد الله الصادق(ع): "إذا عَرَضَتْ لأحدكم حاجة فليستشر الله ربه، فإن أشار عليه اتبع، وإن لم يشر عليه توقف، قلت: يا سيدي، كيف أعلم ذلك؟ قال: يسجد عقيب المكتوبة ويقول اللهم خر لي، ثم يتوسل بنا ويصلي علينا ويستشفع بنا، ثم تنظر ما يلهمك تفعله، فهو الذي أشار عليك به"[3][3].

 وتُحَدِّثنا بعض الروايات الواردة من طرق السنة والشيعة أيضاً أنّ ثمة صلاة خاصة للاستخارة بهذا المعنى، ففي الحديث عن جابر بن عبدالله قال: "كان رسول الله (ص) يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلمُ أنّ هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، (أو قال: في عاجل أمري وآجله) فاقدره لي ويسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: في عاجل أمري وآجله) فاصرفه عني واصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به، ويسمي حاجته"[4][4].

   وعن الإمام الصادق(ع): "إذا أراد أحدكم شيئاً فليصل ركعتين، ثم ليحمد الله ويثني عليه ويصلي على محمد وأهل بيته، ويقول: اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي فيسره لي، وأقدره، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني"[5][5].

  الاستخارة المتداولة

   هذا كلّه فيما يرتبط بالمعنى الأول للاستخارة، أما المعنى الثاني وهو الذي يُراد به اكتشاف وجه الخير واستعلام ذلك من خلال بعض الأدوات كالسبحة أو نحوها، وهو الشائع في أوساط المؤمنين الشيعة  ـ دون بقية المسلمين ـ منذ قرون عديدة، وإن كنا لا نعلم على وجه التحديد متى انتشر ذلك وشاع الأخذ به[6][6]،  وأول ما يواجهنا في هذا النحو من الاستخارة هو سؤال الشرعية؟

   ففي حين يظهر من مشهور الفقهاء مشروعية الاستخارة بهذا المعنى، وعلى ذلك جرت سيرتهم العمليّة، فإنّ بعضهم يشكّك في شرعيتها، ويأتي على رأس هؤلاء ابن ادريس الحلي، فقد أنكر الاستخارة بالرقاع واصفاً رواياتها بأنّها من أضعف أخبار الآحاد وشواذ الأخبار، ووافقه المحقق الحلي فقال: "وأما الرقاع وما يتضمن إفعل ولا تفعل، ففي حيّز الشذوذ فلا عبرة بها"[7][7].

وهكذا فإنّ المحقق الأردبيلي[8][8] قد استشكل في شرعية الاستخارة لاندراجها – على بعض التفاسير- في مفهوم الاستقسام بالأزلام، ، الذي حرمه الله في القرآن الكريم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}[المائدة:3] حيث فُسِّر الاستقسام بالأزلام بأنه عبارة عن الضرب بالسهام لاستعلام الخير والشر في الأفعال، وتمييز النافع من الضار، فقد كان شائعاً عند العرب أنَّ مَنْ يريد سفراً أو زواجاً، أو ما شاكل ذلك يضرب بالسهام لتشخيص ما فيه الخير فيعمل به، وقيل: "إن الرقاع التي كانوا يضربونها لهذا الغرض مكتوب على بعضها: "أمرني ربي" وعلى بعضها الآخر: "نهاني ربي"، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا سفراً، أو أمراً يهتمون به، ضربوا على تلك الأقداح، فإن خرج السهم الذي عليه "أمرني ربي" مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه "نهاني ربي" لم يمضِ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها"، ، ومن المعلوم أن الاستخارة المتداولة اليوم، ولا سيما خيرة ذات الرقاع هي من قبيل الاستقسام بالأزلام.

   وقد يعترض على المحقق الأردبيلي بأن الاستقسام بالأزلام له معنى آخر، وهو عبارة عن شراء جزور وتقسيمه إلى عشرة أقسام: سبعة ذات نصيب، وثلاثة بلا نصيب، ويكتب ذلك على سهام عشرة، ثم يجال عليها، فمن خرج باسمه أحد السهام السبعة دفعت له حصة من الجزور بلا ثمن، ومن خرج له أحد السهام الثلاثة تكفل بدفع ثلث قيمة الجزور من دون ان يحصل على أي شيء من اللحم، وهذا المعنى لا يلتقي بالاستخارة في شيء، كما هو واضح، بل هو نوع قمار، ويشهد له سياق الآية، الذي يتحدث عن حرمة اللحم على اختلاف أنواعه من الميتة إلى لحم الخنزير والمنخنقة… كما أن هذا المعنى ينطبق عليه عليه الاستقسام، بخلاف المعنى الأول، فليس فيه استقسام ولا طلب للقسمة.

   ويؤيد تفسير الآية بالمعنى الثاني أيضاً الحديث المروي عن الإمام الباقر(ع)، حيث فسَّر(ع) الاستقسام بالأزلام بأنهم "كانوا يعمدون إلى الجزور فيجزونه عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، والسهام عشرة: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها…"[9][9].

أدلة شرعية الاستخارة:

   ولكن ما هو دليل القائلين بشرعية الاستخارة فإنّ تفنيد دليل الرافضين لها لا يكفي لإثبات شرعيتها؟

   والجواب: إنّ ما يمكن أن يستدل به لإثبات شرعية الاستخارة بالمعنى الثاني هو عدة أمور:

1-  التمسك ببعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت(ع)[10][10] .

   ولكن الظاهر أن الروايات المشار إليها تفتقر إلى السند الصحيح، سواء فيما ورد في شأن خيرة ذات الرقاع أو الاستخارة بالسبحة[11][11]،  الأمر الذي يمنع من الاعتماد عليها في إثبات الشرعية .

2-  التمسّك بروايات القرعة[12][12] من قبيل صحيحة محمد بن محمد حكيم: "كل مجهول ففيه القرعة"[13][13]،  وفي صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله(ع): "ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق .."[14][14].

   لكن هذا الدليل غير تام، لأنّ عمومات القرعة يُشك في شمولها لما نحن فيه، أو يقال: إنّها منصرفة عرفاً عما نحن فيه، فالقرعة منتشرة في حياة العقلاء، وموردها هو الحالات التي نفتقر فيها إلى أي دليل لحسم الموقف مع أنّ من الضروري حسمه، ولا يستخدم العقلاء القرعة لاستعلام المغيبات ومعرفة ما إذا كان هناك مصلحة في الإقدام على هذا العمل أو ذاك، وأمّا عموم صحيحة محمد بن حكيم فهو غير مراد حتماً ولم يلتزم به أحد، وصحيحة أبي بصير موردها حالات التنازع ولا يمكن إلغاء الخصوصية عنها.

3-  الاستدلال على شرعية الاستخارة بأدلّة الدعاء، "فإنّ المستخير إنما يدعو الله ويلح عليه، طالباً منه أن يظهر له وجه الخير فيما يريد فعله أو تركه من خلال السبحة مثلاً، وأي محذور في تشخيص الواقع المجهول له من خلال السبحة وغيرها؟"[15][15]  

ويؤيد ذلك أنّ الاستخارة من المجرّبات التي ثبتت فاعليتها.

   ولكن لنا أن نتأمّل في هذا الاستدلال، لجهة أنّه وإن لم يكن هناك محذور في أن يرشد الله عبده إذا ما توجّه إليه وأقبل عليه إلى ما هو الأصلح له، إلاّ أنّ الكلام ليس في الإمكان أو في وجود مذور يمنع من أن يكشف الله الواقع لعبده من خلال السبحة وإنّما الكلام في دليل الشرعية، والإمكان لا يثبت الشرعية، أضف إلى ذلك أنّ للمرء أن يتساءل: إذا كان للاستخارة هذه الأهمية كوسيلة لاستكشاف الواقع المجهول، لِمَ لَم يتم العمل بها من قبل النبي(ص) والأئمة (ع)، ولا عمل بها أصحابهم، وإلاّ لبلغنا ذلك من خلال الأخبار المستفيضة، ولَنُقِلَ ذلك إلينا، مع أنّنا لم نجد في الروايات شيء من ذلك، بل إنّ بعض أخبار الاستخارة كأخبار الخيرة بالسبحة- لم تُذكر في المصادر الحديثية الأساسية، وإنّما أورده السيد ابن طاووس في كتابه في الاستخارات مرسلة عن صاحب الزمان!

فلا يبقى إلاّ أن يُقال: إنّه قد حصل لنا الاطمئنان بشرعية الاستخارة، استناداً إلى الروايات المذكورة مؤيّدة بالتجربة وعمل الأصحاب.

 الخيرة في ميزان العقل:

  وبعد الفراغ من سؤال الشرعية فإنّ ثمة سؤالاً آخر يطرح نفسه في المقام حول موقف العقل من الاستخارة.

ويمكننا القول: إنّه في حال لم تتمّ عندنا أدلّة القرعة ولم تثبت شرعيتها فلا داعي عندها لمحاولة تبريرها وتوجيهها من الناحية المنطقية، وأما لو أننا ارتضينا بعض الأدلة المتقدمة لإثبات شرعية الاستخارة فهنا يكون التوجيه ضرورياً، ويمكن لنا عندئذ توجيه الاستخارة بأحد توجيهين:

التوجيه الأول: أن نؤمن بها إيماناً تعبّدياً منطلقاً من إيماننا الديني العام، وهذا الإيمان كما يثبت شرعية الاستخارة، فإنّه سيجعل منها عملاً مفهوماً وكاشفاً عن الواقع، وذلك على قاعدة اللطف الإلهي واستجابة الله  دعاء عبده، وهو القادر على كلّ شيء، وهذا التوجيه من الطبيعي أن يكون مقبولاً عند المؤمنين بشرعية الاستخارة وكذا عند مَنْ يؤمِن بمرجعية النص الديني بناءً على ثبوت روايات الاستخارة.

التوجيه الثاني: أن نتعامل مع الاستخارة وننظر إليها باعتبارها طريقة لحسم الموقف عند التحيّر وضبابية الصورة، الأمر الذي يُسبِّب ارباكاً وربما عجزاً عن إتخاد القرار المناسب بسبب تعارض الوجوه المرجحة للفعل مع الوجوه المرجحة للترك، وكثيراً ما يصل المرء إلى مثل هذه الحالة من التردد لا بسبب ضعفه عن اتخاد القرار الحاسم أو تهربه من تحمل المسؤولية، وإنّما لأن الموقف قد تشابكت فيه الوجوه وتساوت مرجحات الفعل والترك، فيحار الشخص، ويحتاج إلى أدنى دافع، أو مرجح ولو كان غير منطقي ليختار أحد الوجوه، فعلاً أو تركاً، وإذا سألته لما اخترت هذا الطريق دون سواه فلن يجد جواباً مقنعاً أفضل من القول: هذا ما جرى، ولم أجد مرجحاً لسبيل على آخر.

   وهذا التفسير أو التوجيه قد يكون هو الجواب الأقرب على سؤال من يسأل عن موقف العقل من الاستخارة ـ  بمعناها الثاني ـ ومبررها المنطقي؟ فإنه إذا وضعنا الاستخارة في النطاق المشار إليه وهو اعتبارها مرجح الإختيار في حالات تكافؤ المصالح والمفاسد، فسوف تكون مفهومة عقلائية، أو على الأقل ليست مستنكرة لدى العقل والعقلاء، تماماً كما لا تكون القرعة مستنكرة عندهم، بل هي مقبولة لديهم ويعملون بها في بعض الحالات.

   إن قيل: إن الاستخارة بنظر من يعمل بها من المؤمنين هي طريق إلى الواقع، فهي تكشف وجه المصلحة أو المفسدة المجهولة لهم، ولا ينظرون إليها باعتبارها مجرد وسيلة للخروج من حالة التردد، وإلا فما الفرق بينها وبين أي وسيلة أخرى لا تعتمد الدعاء والتوجه إلى الله؟ ولم لا يعتمد اسلوب القرعة مثلاً، فإنها ـ أعني القرعة ـ على ما هو المعروف وسيلة لحسم الموقف ورفع التردد؟

   كان الجواب: إن هذا صحيح عند من تتم عنده أدلة الاستخارة، وأما من لا يؤمن بها ولا يقتنع بكاشفيتها عن الواقع – مع أن الكاشفية  ممكنة بعد لجوء الإنسان إلى الله وطلبه إليه أن يظهر له وجه الخير فيما يريد أن يقدم عليه من فعل أو ترك – فليس له أن يُسفِّه الآخذين بها، أو ينعتهم بالتخلف أو غيره من النعوت، وذلك لثبوت مشروعيتها عندهم، ولأن بالامكان تفهمها ـ عقلاً ـ باعتبارها وسيلة لحسم الموقف في حالات التردّد  وعدم وجود المرجح لخيار على آخر، لكن دون أن يتم إسنادها إلى الدين حينئذٍ، حذرا من الوقوع في شرك التشريع والابتداع.

شروط وضوابط:

   ثم إنّ الالتزام بالاستخارة بعد الإقرار بشرعيتها، لا ينبغي أن يفهم خطأً، فنتوسع في استخدامها في غير موردها، ونبادر اليها في الصغير والكبير، وبسبب أوبدون سبب، ونربط كلّ أعمالنا وحركتنا اليومية ونعلقها على الاستخارة؛ إن هذا مرفوض بالتأكيد، فالاستخارة – بناءً على مشروعيتها- لها مواردها وظروفها وشروطها، وإليك التوضيح والتفصيل:

الخيرة عند الحيرة:

   الشرط الأول: أن لا يتم اللجوء إلى الاستخارة إلاّ بعد أن تتشابك الأمور عند الإنسان وتتشابه عليه الخيارات، ولا يتضح له وجه المصلحة من المفسدة، فيظل محتاراً متردداً لا  يهتدي سبيلاً ولا يعرف ماذا يفعل، في هذه الحالة يكون للاستخارة مجال واسع، أما مع اتضاح الصورة لديه وتشخيصه  ـ ولو بمشورة الآخرين ـ أنّ في الإقدام على هذا العمل أو ذاك مصلحة بيّنة، أو مفسدة بيّنة، فلا مجال للاستخارة حينئذ.

   وعلى سبيل المثال: لو أنّ بعض المؤمنين ابتلى هو أو أحد أطفاله بمرض، فلجأ إلى الاستخارة، ليحدد على ضوئها إذا كان ثمة مصلحة في أن يذهب إلى الطبيب أم لا،  فإنه بذلك يرتكب خطأً، لأنّ هذا ليس مورداً للاستخارة، إذ الموقف في هذه الحالة واضح وبيّن، وهو أن عليه أن يذهب إلى الطبيب بهدف العلاج، لأنّ الذي خلق الداء خلق الدواء، والرجوع إلى أهل الخبرة يمثّل قاعدة عقلائية وشرعية، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الأنبياء: 7]، نعم لو أنّه عزم على مراجعة الطبيب، لكنه تردّد بين طبيبين ماهرين من أهل الاختصاص عينه، فهنا لا مانع من الرجوع إلى الاستخارة لحسم الموقف وترجيح أحد الطبيبن.

الاستخارة ليست بديلاً عن التفكير:

   الشرط الثاني: أن يستنفذ المرء التفكير في المسألة ودراستها من جميع جوانبها بهدف التعرف على ما فيه مصلحته أو مفسدته ليقدم على الفعل أو الترك وهو على بصيرة من أمره. إنّ هذه الدراسة لا بدّ منها، لأنّ الاستخارة ليست بديلاً عن التفكير، ولا ترمي إلى تجميد العقل، أو إقالته من مهامه، والله سبحانه وتعالى أراد لنا ان نتحرك وفق منطق السنن، وأن ندرس الأمور بروية وتدبر، وعليه فما يفعله بعض المؤمنين من المبادرة إلى استخدام الاستخارة قبل أن يُكَلِّف نفسه عناء البحث ودراسة الأمور في سبيل التعرف على ما هو الأصلح له، إنّ ذلك ـ بالتأكيد ـ عمل غير مرضي من الناحية الدينية، وربما مثّل نوع انحراف عن المسار العقلائي العام الذي أرادنا الله أن نتحرك في ضوئه في حياتنا، كما أن ذلك يعكس أيضا شخصية اتكالية متردّدة لا تملك الثقة  بالنفس، وليس لديها جرأة اتخاذ القرار، ولذا تلجأ إلى الاستخارة، تهربا من تحمل المسئولية.

 الاستشارة قبل الاستخارة :

   الشرط الثالث: كما أنّ التفكير العقلائي الجاد لا بدّ أن يسبق الاستخارة، فإنّه لا بدّ أن تسبقها المشورة أيضاً، فبعد أن تتم دراسة المسألة من جميع وجوهها ولا يصل المرء إلى نتيجة مرضية، أو يبقى حائرًا، فيجدر به  ـ وقبل اللجوء إلى الاستخارة ـ أن يلجأ إلى أهل الرأي والعقل، ليستشيرهم ويستنير بآراهم، قال أمير المؤمنين(ع): "من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها"[16][16] ، وإذا بقي المرء محتارًا ومتردداً حتى بعد مشاورة الآخرين من ذوي الرأي والتجربة، فبإمكانه – آنذاك- أن يلجأ إلى الله من خلال الاستخارة.

لا خيرة في أحكام الله:

   الشرط الرابع: أن نبتعد عن العمل بالاستخارة في ما يكون حكمه الشرعي واضحاً، فالاستخارة ليس لها مجال في أحكام الله ولا في موضوعات الأحكام الشرعية، فحينما يستخير شخص على ترك الصلاة، أو على شرب الخمر، أو على ارتياد نادي للقمار، أو على قطيعة الأرحام، أو على الفرار من الزحف والجهاد، فهو بذلك يرتكب خطأ كبيراً، وينحرف عن الصراط السوي، لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يُعلِّق امتثال أحكامه الشرعية على أذن أحد، ولا ربطها بتحقّق شرط أو قيد، باستثناء شروط التكليف العامة من البلوغ والعقل والقدرة، أوالخاصة والتي تختلف من مورد لآخر، أما ما سوى ذلك، كمشورة الأخرين أو الاستخارة ـ مثلاً ـ فلا تناط بها أحكام الشرع لا ثبوتاً ولا امتثالاً وسقوطاً، تماماً كما لم تعلق أحكام الله على القرعة.

 وما قلناه في الأحكام الشرعية نقوله أيضاً في موضوعات الأحكام، فلا تشرع الاستخارة لتحديد وتعيين الطاهر من النجس من الثياب أو الأواني.. ولا لتحديد أن هذا اليوم من رمضان، أو شوال، مثلاً، إلى غير ذلك..

 الخيرة والتنبؤ بالمستقبل:

   وربما يلجأ بعض الناس إلى الاستخارة للتعرف على المغيبات والتعرف على ما سيحدث في مستقبل الأيام، وما تخبأه له الأيام، وهل أن المولود الذي سيرزق به ذكر أو أنثى، أو أنه سينجح في الامتحان أو لا، وهذا أيضاً يمثّل استخداماً خاطئاً للاستخارة، ولا تساعد عليه أدلتها، ولم يلتزم به أحد من الفقهاء، وباختصار إنّ هذا ليس مورداً سليماً للاستخارة.

 تكرار الاستخارة:

   ومن موارد استخدام الاستخارة بطريقة خاطئة، تكرار الاستخارة على الأمر الواحد لمرات عديدة، كما يحصل مع بعض الأشخاص، فإنّ هذا لا مبرّر ولا وجه له، فإن الاستخارة في كلّ أمر تكون مرة واحدة[17][17]، اللهم إلاّ إذا تغيّرت الظروف وتبدّل الموضوع، وقد يكون دفع الصدقة عاملاً في تبدل الموضوع، لأنّ الصدقة تدفع البلاء، وعلى سبيل المثال: لو أنّ شخصاً استخار على السفر فخرجت نهياً، فعاود الاستخارة في الوقت عينه على السفر نفسه، فإنّ عمله هذا يُعتبر لعباً وعبثاً غير مقبول.

 الابتعاد عن مخالفة الخيرة:

   إننا وإن كنا لا نستطيع تبني حرمة مخالفة الخيرة شرعاً، لعدم الدليل على الحرمة، ولكن من الأفضل عدم مخالفتها، لأنّ من استخار أحداً أو استشاره فأشار عليه بأمرٍ، لكنه خالفه، فإنّ فعله مستقبح عقلاً، فكيف إذا استخار العبد ربّه، ثم لم يرضَ بما اختار الله له؟! وإذا كنا نفترض ونؤمن أن الشخص في حال توجّه إلى الله طالباً منه إظهار الخير، فالاستخارة والحال هذه تعيّن له المصلحة وتكشف الواقع، ما يعني أنَّ المصلحة في اتباعها، أمّا مخالفتها فقد تجرّ عليه المتاعب، أو تبعث على الندم، فمخالفة الاستخارة هي من قبيل مخالفة الأمر الارشادي  لا المولوي




[1][1]  كنز العمال ج7 ص813

[2][2]  مستدرك الحاكم ج1 ص518

 

[3][3]  وسائل الشيعة الباب 5 من أبواب الاستخارة الحديث 3

[4][4] صحيح البخاري ج6 ص162

[5][5]  الكافي ج3 ص472

 

[6][6]  الذي يظهر من بعض الفقهاء أن الاستخارة بالسبحة لم تكن معروفة قبل زمان السيد الآوي الحسني، قال في الذكرى حول الاستخارة بالعدد: "ولم تكن هذه مشهورة في العصور الماضية قبل زمان السيد الكبير العابد رضى الدين محمد بن محمد الآوي الحسني المجاور بالمشهد المقدس الغروي(رضي الله عنه)(ذكرى الشيعة ج4 ص269)، وأمّا استخارة ذات الرقاع فيبدو أنّها كانت معروفة قبل ذلك، فإنّ نصوصها موجودة في الكافي، وقد أنكرها ابن ادريس الحلي، والذي يظهر من موقف المحقق الأردبيلي الرافض لهذا النوع من الاستخارة أنها كانت منتشرة في زمانه، ويشير الشيخ محمد حسن النجفي الشهير بصاحب الجواهر إلى اشتهار الاستخارة في زمانه وما تقدمه، أنظر: جواهر الكلام ج12 ص175

[7][7]  أنظر: الحدائق الناظرة ج10 ص528

 

[8][8]  راجع زبدة البيان ص 626.

[9][9]  الخصال للصدوق ص452

 

[10][10]  أورد أخبارها الحر العاملي في وسائل الشيعة ج8 ص68 وما بعدها، أبواب الاستخارة وما يناسبها، والمجلسي في بحار الأنوار ج88 ص247، والبروجردي في جامع أحاديث الشيعة ج8 ص234

[11][11]  وقد أشار بعض الأعلام إلى ضعف هذه الأخبار، أنظر: الأحاديث المعتبرة في جامع أحاديث الشيعة ص164-165، فقد أكد على أنّ أخبار الاستخارة على أنواعها ضعيفة، ولذا فقد ترك هو –كما يقول- منذ زمن الاستخارة بالسبحة..

 

[12][12]  أنظر: القواعد الفقهية للأيرواني ج2 ص31

[13][13]  وسائل الشيعة ج ص الباب 13 من أبواب كيفية الحكم الحديث11

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً