أحدث المقالات

التحريف في السيرة الحسينية

دراسة في المظاهر والأشكال

 

الشيخ محمد صحّتي سردرودي(*)

ترجمة: حيدر حب الله

 

المدخل:

في مجال دراسة الظاهرة العاشورائية، ثمة تساؤلات كثيرة تواجهنا، يمكن أن يكون بعضها استفهامات أساسية ومدخلية، وأحد هذه التساؤلات المفتاحية والمفيدة هو السؤال التالي: لماذا وكيف وما هي الأسباب والعوامل التي بعثت على تحريف تاريخ عاشوراء والسيرة الحسينية؟ نحاول هنا – بإعادة قراءة تاريخ عاشوراء وثقافتها – الإجابة عن هذا السؤال؛ لكي نرتّب بشكل متسلسل ونكتشف هذه العوامل التي ساعدت على تحريف هذه السيرة، وذلك بعد أكثر من عشر سنوات من جهدي المتواصل في هذا البحث، على أمل كشف سبل نفوذ التحريفات والمجالات التي تضرّرت منها، وهو عمل مضافاً إلى إرشاده لنا إلى مدى عمق التحريفات التي حصلت، يساعدنا جيداً للحدّ منها والحيلولة دون حصول محتمل لها، مما يجعل دراستنا هذه على درجة من الأهمية.

هناك عوامل عديدة كانت باعثةً على حصول تحريفات في السيرة الحسينية وهي عوامل، إن لم نقل بأنّ جميعها ما يزال فعّالاً في عصرنا، فلا أقلّ من أن أغلبها كذلك، وأهمّها العوامل التالية:

 

1ـ الرواة الأمويّون ومؤرخو السلطة

لا شك أن بني أمية كانوا بحاجةٍ في قتلهم الإمام الحسين(ع)، سيما بهذه الطريقة المذهلة، إلى تغطية إعلامية وترويج واسع النطاق، وهو أمرٌ لم يكن ليحصل سوى بممارسة تزوير لحقائق الواقع واختلاق أمواج من الأخبار والأحاديث المصطنعة، من هنا كان الرواة المرتبطون بالسلطة ومؤرخوها الأداةَ الوحيدة القادرة على جعل الأخبار واختلاق الأحاديث التي تحقّق رغبات السلطة والخلفاء.

وكما تمكّنوا سابقاً من تنحية الإمامة جانباً وعزلها لصالح الخلافة في سقيفة بني ساعدة، سعوا هنا أيضاً للدفاع عن الإسلام عينه، إسلام الخلافة؛ ذلك أن استمرار قافلة الخلافة في السير لم يكونوا يرونه ممكناً سوى مع يزيد بن معاوية.

ومن حيث المبدأ، كان ما تربّوا عليه في مدرسة الخلافة يملي عليهم أنّ الدفاع عن يزيد وظيفةٌ دينية، لا يجوز التخلّف عنها؛ فكانوا مستعدّين للدعاية له وتطهيره من أيّ جرم أو جناية؛ للإقدام على أيّ عمل يحقّق ذلك، حتى لو احتوى تحويراً للحقائق واختلاقاً للأحاديث والأخبار! لقد كانوا يعتقدون أنّ يزيد بن معاوية «أمير المؤمنين»، ومن «أولي الأمر»؛ فتكون إطاعته واجبةً أكثر من وجوب أيّ شيء آخر، وباعتقادٍ من هذا النوع صاروا لا يرون للإمام الحسين(ع) ودمه أيّ حرمة، وهذا الاعتقاد استمرّ حاضراً بعد ذلك مع الخلفاء الأمويين والعباسيين وأمثالهم؛ ذلك أنّ الأصل في إسلام الخلافة هو الخلافة نفسها، ومن ثم فأيّ أمرٍ أو عمل آخر يفترض وزنه بالخلافة نفسها؛ على هذا الأساس الخاطئ نجد استمرار ظاهرة التحريف في قضية عاشوراء لقرون متمادية، فأنصار إسلام الخلافة وورّاثه ظلّوا متابعين لهذا الخطّ جيلاً بعد جيل، يدافعون عن أسلافهم، كما أن السلفيين منهم والفرقة الوهابية ورغم علمها ببعض التحريفات إلا أنّها ظلّت مصرّةً عليها، فتابعوا طريق أسلافهم المنحرف والمعوجّ، وسعوا قدر جهدهم لبث هذه الأخبار والأحاديث التي صنعها واختلقها أعداء أهل البيت(ع) وقتلة الإمام الحسين(ع)، مع نشرها وتوزيعها على نطاق واسع؛ وفي هذا المجال.

وهناك كلام للإمام محمد الباقر(ع) يدلّل فيه بوضوح على عمق الفاجعة التي حصلت فيقول: «… ما لقينا من ظلم قريش إيّانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس! إنّ رسول الله(ص) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثم تداولتها قريش، واحد بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنُكثت بيعتنا، وذهبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود، حتى قتل؛ فبويع الحسنُ ابنه وعوهد، ثم غدر به، وأسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجرٍ في جنبه، ونُهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمّهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليلُ حقٍّ قليل، ثم بايع الحسين(ع) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم، وقتلوه، ثم لم نزل – أهل البيت – نُستذلّ ونستخام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون والجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله؛ ليبغّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن(ع)، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد، إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين(ع)، ثم جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال: شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير – ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً – يحدّث أحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منه، ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ؛ لكثرة من قد رواها ممّن لم يُعرف بكذبٍ ولا بقلّة ورع»([1]).

وقد خصّص ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه الذي كتبه على نهج البلاغة فصلين اثنين للحديث حول هذا الموضوع، وهو ما يمكنه أن يضيء أمام الباحثين، ويكون مفتاحاً لمن يدرس ظاهرة التحريف في قضية عاشوراء([2]).

 

وخلاصة القول: إن زعماء إسلام الخلافة بذلوا قصارى جهدهم عبر استخدام القهر والتزوير والظلم لتضييق الخناق على إسلام الإمامة، حتى لم يكد يتجرأ أحد على ذكر اسم عليّ وآل علي، بل قد كانوا مضطرّين أحياناً للحديث عن هذا البيت بالرمز والكناية، فكانوا يطلقون على عليّ(ع) اسم: أبو زينب([3]).

ولم يقتصر هذا الوضع المؤسف على زمان معاوية والعصر الأموي، بل امتدّ إلى العصر العباسي، وربما كان هناك أسوأ، إلى أن وصل الحال لمحاولة تخريب قبر الإمام الحسين(ع) سبع عشرة مرة، بأمرٍ من المتوكّل العباسي أو تسوية القبر بالأرض([4])، ومن الواضح أن المسألة لا تنتهي عند تخريب قبر سيّد الشهداء، بل كانوا يسعون لإبادة أو تحريف كل شيء – مهما كان صغيراً – يمكن أن يشكّل ذكرى في القلوب له؛ ذلك أن اسمه وقضيّته ستشكّل باعثاً على خلق روح الحماس والثورة والعزّة في قلوب المعذبين وعروقهم، وتبعث فيهم روح الغيرة والشهامة، ورفض الذلّ و.. وهذه هي أخطر الأشياء على الحكّام والسلاطين مما يخشونه أشدّ الخشية؛ لأنّه يبعث على فنائهم وتلاشيهم، وهم لكي يحولوا دونه مستعدّون لارتكاب أيّ جريمة، حتى لو كانت تخريب مقام الحسين(ع) وتحريف تاريخ عاشوراء.

وإذا ما رأينا على امتداد التاريخ مواجهة تمام الزعماء للثقافة العاشورائية، فالسبب هو ما ذكرناه، حتى أنّ ذاك الشاعر المسيحي الذي تذوّق طعم الظلم المرّ في اعتداءات الصهيونية العالمية على بلده المظلوم لبنان يفهم ذلك جيداً حين يقول:

 

 

كلـّما يذكر الحسين شهيداً                      موكب الدهر يُنبت الأحرارا

فينادون دولة الظلم حيدي                       قد نقلنا عن الحسين الشعارا

فليمت كل ظالم مستبدّ                           وإذا لم يمت قتيلاً توارا([5])

 

الأناشيد العاشورائية في محيط القمع والإرهاب

من شدّة عظم عاشوراء أنها تكسر القلوب وتجرحها، فتجلس الجروح على القلوب حتى إذا ما صارت هناك فرصة خرجت إلى اللسان.. وهذا ما حصل بالضبط، فرغم ظواهر القمع والاختناق إلا أنّ مظاهر الألم كانت تخرج على الألسنة شعرَ عاشوراء ونثرها، وكأن الناس وجدت نشيد قلبها بنشيد عاشوراء، فلم ترض بكمّ هذه الأناشيد المنبعثة من القلب؛ ولذلك وجدنا الشعر الشعبي والأناشيد العذبة موزّعةً في كلّ مكان حول هذا الموضوع.

سابقاً، وحيث كان الظرف حسّاساً يُخشى معه من الخطر، كانت هذه الأشعار تنسب الى عناصر غيبية، وفي الأكثر إلى طائفة الجنّ و.. وهو ما حضر تلقائياً عند الناس بوصفه مَخلَصاً من هذا الوضع؛ للتنفيس عن الاحتقان، إلى جانب أنّه عبر هذه الطريقة كان الشاعر أو الشعراء يحمون أنفسهم من مؤامرات بني أمية، كانت هذه الطريقة تتجاوز القبيلة أو القوم ليحظي الشاعر بقبول عام؛ لأن هذا الشاعر أو ذاك لن يكون منتمياً الى قبيلة خاصة حتى يفقد شعره أثره عند القبائل الأخرى، بل ستساهم مختلف القبائل في الدعاية له والترويج([6]).

وفي بعض الأحيان، يتّبع الشعراء الكبار الذين يتمتعون بأدب أكبر وفنّ، سبلاً أدبية تبعث على الإعجاب وعلى ثناء العدو والصديق، مثل تلك الأشعار التي أنشدها شاعر العرب الكبير أبو تمام الطائي (188 – 231هـ)، فقد نظم قصيدةً في مدح رجل يدعى محمد بن حميد الطائي، إلا أن الأمر لم يكن في الحقيقة كذلك([7])، فقد نظمها بشكل يمكن معه القول: إنّها لا تُنظم إلا في حق الإمام الحسين(ع)، فهي لا تناسب سوى حاله وأجواءه، إلا أن الشاعر كان مجبوراً – لخوفه – من أن يسمّي ممدوحَه باسم آخر، وعلى أية حال فهذه المرثية مشهورة جداً، ولعلّه يمكن اعتبارها – من نواحي عدة – أجلّ أشعار أبي تمّام([8]).

لكن، وكما يقول الحسين(ع): «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم»([9])، ظهر في التاريخ شعراء باركوا ليزيد بن معاوية قتلَ الحسين بن علي، فمدحوه على هذه الجناية العظيمة، ولكي نذكر مثالاً على ذلك نسمّي الأخطل، وهو شاعر ذائع الصيت في الوسط العربي، ويُعرف بالأخطل الكبير([10]).

 

2ـ التحريف التبريري، محاولة لتطهير الخليفة، تجربة ابن خلدون

ولكي نقدّم مثالاً، نذكر ما وفّره لنا ابن خلدون في تاريخه من رواية حول عاشوراء، فقد طفحت روايته لهذا الحدث التاريخي بالتحريف، لقد كان يعدّ حتى معاوية من الخلفاء الراشدين، وقد بذل قصارى جهده للدفاع عنه([11])، وقد أطلق على من اعتبر معاوية «كسرى» العرب، وسمّوه بالملك، اسمَ «أهل الأهواء»؛ ولدفع هذا الأمر عن معاوية كان مستعدّاً لتشبيهه بسليمان بن داوود([12]).

وكلّما ذكر ابن خلدون معاويةَ سعى جهده لتبرءته من الأخطاء والجرائم، وقد كان يختم كلامه حول بني أمية بالدعاء التالي: «والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم»([13]).

يتفق المؤرّخون الإسلاميّون كافّة على أن البيعة التي أخذها معاوية لابنه يزيد كانت بالتهديد والترغيب الكبيرين، وقد استطاع معاوية أن ينجح فيها بعد عشرين عاماً من ممارسة ألوان القهر والقوّة والتزوير والترغيب، وهو أمرٌ ليس فقط يخالف الإسلام وسيرة النبي(ص) بشكل واضح، بل يعارض سيرة الخلفاء السابقين، فيُحسب بدعةً تقع لأوّل مرّة في تاريخ الخلافة، ومع ذلك كلّه، يسعى ابن خلدون – بأيّ شكلٍ من الأشكال – لتصوير هذه الجريمة الكبيرة من معاوية والتي أدّت فيما بعد إلى سلسلة جرائم، كانت منها واقعتا: كربلاء والحرّة، على أنها تحتوي على مصلحة اجتماعية وعامة للناس، من هنا يحكم على ذلك بالقول: «والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحلّ والعقد عليه..»([14]).

وبعد عدّة صفحات، يبذل فيها قصارى جهده في مدح بني أمية، وتصويب فعل معاوية مع يزيد، وتوقفه وتحفّظه حول فسق يزيد وفجوره العلني، وهو الأمر الذي لا يمكن إنكاره، ولكي يتحرّر من أيّ محذور في هذا المضمار، يقول: «.. ما حدث  في يزيد من الفسق أيام خلافته، فإياك أن تظنّ بمعاوية أنه علم ذلك من يزيد؛ فإنه أعدل من ذلك وأفضل، بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه، وهو أقلّ من ذلك، وكانت مذاهبهم فيه مختلفة، ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلفت الصحابة حينئذٍ في شأنه، فمنهم من رأي الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك، كما فعل الحسين وعبدالله بن الزبير ومن اتبعهما في ذلك، ومنهم من أباه؛ مما فيه من إثارة الفتنة، وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به؛ لأن شوكة يزيد يومئذٍ هي عصابة بني أمية و..»([15]).

لقد طرق ابن خلدون – بغية الدفاع عن الخلفاء لا سيما معاوية ويزيد – كلّ باب؛ حتى ابتلى هو نفسه بتناقض عجيب في أقواله؛ فقد اعتبر أن يزيداً وأنصاره كانوا مجتهدين في الدين، وأنّ قتلهم للحسين(ع) كان اهتماماً منهم بأمور الدين، دون أن يرضى في الوقت عينه بكلام ابن العربي حين قال: «قتل الحسين بشرع جدّه»([16]).

يكتب ابن خلدون يقول: «.. فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد، ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسقه»([17]). ثم يضيف: «والحسين فيها شهيد مثاب، وهو على حقّ واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضاً واجتهاد، وقد غلط القاضي أبوبكر بن العربي المالكي في هذا؛ فقال – في كتابه الذي سمّاه بالعواصم والقواصم – ما معناه: إن الحسين قتل بشرع جدّه..»([18]).

لقد وقع ابن خلدون هنا في تحريفات عديدة واشتباهات هي:

1ـ لقد تورّط في التناقض البيّن، ففي السطر الأول كان جهاد الإمام الحسين وجناية يزيد غير جائزين، لكنه في الفصل الثاني اعتبرهما اجتهاداً بحقّ!

2ـ التناقض الآخر أنه اعتبر يزيداً والحسين(ع) معاً على حقّ، فعجباً ممّا يفعله التعصّب! فإذا كان الظالم والمظلوم والقاتل والمقتول كلاهما على حقّ، فلا معنى – بعد ذلك – للحقّ والباطل؛ فكيف يمكن أن يكون المقتول شهيداً على حقّ فيما القاتل لهذا الشهيد على حقّ أيضاً؟!

3ـ ومن التحريفات الأخرى التي ارتكبها ابن خلدون في كلامه الآنف الذكر، اعتباره يزيداً والصحابة الذين كانوا معه على حقّ وأنهم عملوا وفق اجتهادهم، فأيّ صحابة هؤلاء؟ أفهل كان أصحاب رسول الله(ص) مع يزيد وأيّدوه فيما فعله من قتل الحسين(ع)؟ أبداً، إنّ هذا كذب آخر نسجه ابن خلدون أيضاً. لماذا يحاول ابن خلدون تحوير الحقائق؟ ولماذا يتجاهل أصحاب رسول الله(ص) الذين كانوا مع الحسين وأنصاره واستشهدوا معه حتى آخر لحظة([19])، دون أن يكتفي بذلك بل يجعل صحابة رسول الله(ص) – كذباً – في صفّ يزيد وموافقيه؟!

والجدير ذكره أنّ قتل الحقيقة التاريخية لا يقتصر على كتابات ابن خلدون،    فثمّة مؤرّخون آخرون كالطبري، وابن الأثير، وابن كثير، لم يكونوا أقلّ منه، إلا أنهم كانوا أمهر منه، فلم يجاهروا أو يصّرحوا أو يتجرّؤا مثلَه، فبالمقدار الذي استطاعوه حاولوا تضليل الآخرين وجذبهم إلى ما يكتبونه، تماماً كما نشاهد اليوم! حيث نرى حتى على مستوى الكتّاب الشيعة الذين يريدون الكتابة حول عاشوراء، نراهم يركّزون أكثر على تاريخ الطبري وكامل ابن الأثير.

والعجيب أنّ علماءنا في مجال استنباط الأحكام العملية ومعرفة الروايات الفقهية يلاحظون قاعدة: «خذ ما خالف العامّة»، أما على صعيد تاريخ حياة الإمام الحسين وملحمة عاشوراء فهم ينسون هذه القاعدة تماماً! وكأنّ أهمية معرفة الإمام والإمامة، وهما من أصول المذهب، أقلّ من أهمية الأحكام الفرعية والأعمال الفردية!

من البديهي أن ننظر بعين الريبة والشك إلى ما كتبه المخالفون، لا سيما في موضوع حسّاس مثل عاشوراء، وفقط من باب التأييد أو «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» يمكن الرجوع إلى مصادرهم، وإلا كيف يمكن الركون إلى كتابات أعداء الشيعة ومحاربيهم في هذا المجال؟!

 

3ـ صناعة الأساطير في مقابل عاشوراء

لقد قام بنو أمية – تبعاً لمعاوية، وهو المحرّف الكبير للتاريخ – بتحريف جزئيات عاشوراء؛ فمعاوية يرسل رسالةً إلى تمام المدن والأمصار الإسلامية يطلب فيها من عمّاله اختلاق فضيلة أو فضائل لكلّ معارض لعليّ، أفضل أو مثل فضائله؛ بهدف مواجهة فضائل علي(ع) التي نقلت عن رسول الله(ص)، وذلك لكي يُنقص من مكانته وهيبته، وقد حاك مؤامرات عديدة في هذا المجال، ففتح بيت المال لصنّاع الفضائل، وقال بصراحة: «والله لأستميلنّ بالأموال ثقات عليٍّ، ولأقسمنّ فيهم المال حتى تغلب دنياي آخرتَه»([20]).

وكما شهد عصر معاوية اختلاق الفضائل مقابل كلّ فضيلة لعليّ(ع) بأمرٍ من معاوية نفسه، واصل أنصار معاوية بعده خلق الفضائل مقابل الفضائل، وحتى مقابل مصائب عاشوراء، ففي مقابل مصيبةٍ تقول: لقد منع الماء عن سيّد الشهداء وأبناء رسول الله(ص)، وأنهم جميعاً استشهدوا عطاشى وقتّلوا ظلماً وعدواناً، رفعوا قميص عثمان عَلَماً ليؤكّدوا أنه قتل مظلوماً، وأنه عندما حوصر منزله لم يسمحوا بإدخال الماء إلى المنزل.

وفي مقابل الفضيلة التي تقول: إن رأس الحسين(ع) تكلّم وهو على الرمح، فقال: >أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً< (الكهف: 9)([21])، اخترعوا أسطورةً ملفتة، يقول عنها بعض الباحثين: «وجاء في تاريخ الخطيب وغيره عن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف، أنّ أحمد بن نصر الخزاعي لما قُتل في المحنة التي وقعت بين المعتزلة والمحدّثين وصلب رأسه، كان رأسه يقرأ – وهو على الخشبة – : > أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ<([22])، كما جاء عن أحمد بن كامل القاضي، نقلاً عن والده، أنه قال: «وكّل برأس أحمد من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، فقال الموكّل به: إنه كان يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة «يس» بلسان طلق فصيح».

وبلا شك، إنّ هذه الأسطورة قد وضعها الحنابلة في مقابل الرواية التي رواها الشيعة وغيرهم عن رأس شهيد الشهداء الحسين بن علي(ع)، وجاء فيها: إنه كان يقرأ وهو على رأس الرمح: >أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً<([23]).

 

4ـ إظهار المظلومية الزائدة عن الحدّ

لم يكن أمام أنصار أهل البيت(ع) في الكثير من العصور سوى مزج صوت العدالة ومظلومية عليّ وآله بالحزن والبكاء، موصلين ذلك إلى أسماع الخلق؛ ليؤكّدوا فضائل المعصومين بذلك، وليحاربوا ويشوّهوا أعداء آل محمد بسلاح البكاء حيث لم يمكن استخدام أيّ سلاح آخر.

لقد كان سلاح البكاء حكايةً عن الظلم، بل مواجهة للظالم، حيث كان يتسنّى استخدامه بسهولة لذمّ الحكام الجائرين، وكان استخدام هذا السلاح عاماً، حتى صار مضرباً للمثل، حيث صار الناس يشبّهون الرقّة ببكاء الشيعة، جاء: «أرقّ من دمعةٍ شيعية تبكي علي بن أبي طالب»([24]).

والسبب الذي يقف خلف عدم اهتمام علماء الشيعة في الماضي بالتحريفات التي طالت عاشوراء وجزئيات حياة الإمام الحسين(ع)، مما يُسرَد في مجالس العزاء والمناسبات العاشورائية، وعدم منعهم الناس من نقل مثل هذه الأخبار.. هو هذا الأمر بالذات، إذ إن الظروف الصعبة التي كانوا يعايشونها جعلتهم قلقين من نسيان عاشوراء نفسها وتلاشيها من وعي الناس، كما حصل في غدير خم؛ حيث طمرت هذه الحادثة عواملُ النسيان في بعض الأزمنة بفعل أيادي بني أمية؛ لذا خافوا من الشيء نفسه في عاشوراء.

 

5ـ مقولة التسامح في أدلّة السنن وفعل التحريف في السيرة

يمكن أن يكون لقاعدة التسامح في أدلّة السنن نشاطٌ على صعيد علم الفقه، إنّ هذه القاعدة تقول: إذا فهمنا من خبرٍ ضعيف لا يحتوي على تمام شرائط الحجية، ثواباً على عملٍ ما، ولم يكن لدينا دليل آخر، أي نحن وهذا الخبر فقط، أمكننا – في هذه الحالة – العمل بهذا الخبر ونحصل على الثواب منه، رغم أنّ هذا الخبر ضعيف وقد يكون مجعولاً موضوعاً، لم يصدر مثله عن أيّ معصوم أصلاً.

وقد استنتج بعضهم تعميم القاعدة ليس إلى ذكر الثواب في الخبر فقط، بل إلى بيان استحباب شيء حتى دون ذكر ثوابٍ له، فيما رفض آخرون ذلك. وعلى أية حال، لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه القاعدة تجري فقط في الفروع العملية، ولا تجري في الفروع ولا الأصول الفكرية أو العقائدية، كما أنها لا تجري في تمام الأعمال الفرعية والفردية، بل تختصّ بدائرة السُنن، أي تلك الأعمال الحسنة، وليس كلّها أيضاً بل خصوص الحسن المقبول الذي ما يزال البحث قائماً حول استحبابه، بل لابدّ أن يمضي العقل حُسن هذا الفعل حتى ندّعي استحبابه أو ترتب الثواب عليه بقاعدة التسامح.

وهنا، لابدّ أن نرى هل يمكن تنشيط هذه القاعدة في المجال الفكري العقيدي بحيث يمكننا في ضوئها الاستناد إلى خبر ضعيف للاعتقاد بأنّ هذا العمل يوجب رضا المعصوم الذي نسب إليه هذا الخبر الضعيف؟

من الواضح أنه لم يفهم أيّ فقيهٍ أو متفقّه استنتاجاً من هذا النوع من قاعدة التسامح، إلا أن المؤسف أن بعضهم يجري هذه القاعدة في كل شيء كأنها الوحي المنزل، حتى في موضوع حسّاس مثل عاشوراء الحسين، وهي أكبر المعالم الثقافية الشيعية، كما أن الآخرين يعرفون الشيعة أكثر ما يعرفونهم عبرها ويقيّمونهم في ضوئها، وكلّ باحث من خارج دائرة التشيّع يريد تقويم الثقافة الشيعية فإنه يركز نظره – في المرحلة الأولى – على مسألة عاشوراء، والآن لننظر: إذا كان الشيعة يقومون بأيّ عمل – معقول وغير معقول – باسم عاشوراء، ألن يؤدّي ذلك إلى الاستهزاء بعاشوراء وبالشيعة؟!

والأكثر إيلاماً في الموضوع، أنّهم قد يجرون قاعدة التسامح حتى في مجال الفكر والعقيدة! وهنا لابدّ من القول: إنّ هذا لن يعود فكراً حينئذٍ، بل سيكون فاجعةً، فكيف يمكن أن نستسيغ تسامحاً من هذا النوع في دراسة القضيّة العاشورائية؟ فهل يمكن دون معرفة الإمام الحسين(ع) أن ندرك جوهر عاشوراء؟ وأليست معرفة هذا الإمام – وكلّ إمام – من أصول المذهب الشيعي؟! لنرى كيف اختلفت السبل، فأين التسامح في الأعمال الفرعية الفردية من التسامح في أصول المذهب؟! علينا أن لا نتعجّب، فقد رأينا – مراراً – في حياتنا من يجيبون عن الإشكالات الموجّهة إليهم حول ما يكتبونه عن عاشوراء وحياة الحسين(ع)، بالتمسّك بقاعدة التسامح، وكلّما واجهوا اعتراضاً: كيف تقولون في الفروع الفقهية بالاحتياط، وفي باب التعارض بمبدأ «خذ ما خالف العامّة»، أما حينما يصل الموضوع إلى الإمام الحسين(ع) وعاشوراء، تسلكون سبيل التساهل والتسامح؟! وهناك تعتمدون حتى الرؤى والمنامات، ويبدأ الحديث عن السُنن والتسامح بها.

يمكن اليوم ملاحظة مَدَيات حضور قاعدة التسامح في أكثر الكتب التي نشرت حول عاشوراء، وهناك نرى اعتماداً – قبل كلّ شيء – على الطبري وابن الأثير! بل نرى أن بعضهم يجعل محور بحثه قائماً على نتاجات هذين الشخصين إلى جانب ابن خلدون، فيما ينظر إلى النتاج الشيعي في هذا المجال، مثل «الإرشاد» للشيخ المفيد، و «اللهوف» للسيد ابن طاووس، بوصفه من الدرجة الثانية، غفلةً عن أن الطبري وابن خلدون لو شكّكنا في كونهما مغرضين، فلا شك في كونهما مخالفين لا ينتميان للمذهب الشيعي!

وللعلامة المامقاني في ردّ نظرية جريان قاعدة التسامح في مجال القصص التاريخية والمواعظ الأخلاقية، كلام هام ومتقن يقول فيه: «.. لا يسوغ نسبة الخبر إلى المعصوم(ع) من دون طريق معتبر، وورود الإذن بالمسامحة في أدّلة السنن عن النبي المختار(ص) والأئمة الأطهار(ع) ممنوع؛ والأخبار التي استدلّ بها قاصرة عن إفادة المطلوب، وإن وافقه في الاستدلال به الأكثر، إلا أنهم – عند التأمل والتحقيق – اشتبهوا في فهم معناها، كما أوضحناه في محلّه»([25]).

 

6ـ تحريف عاشوراء تحت شعار: الغاية تبرّر الوسيلة

يعدّ هذا المبدأ الميكيافيلي المخرّب أخطر عوامل التحريف وأكثرها مدعاةً للأسف، يقول الميكيافيليون: لكي نصل إلى الهدف يمكننا استخدام أي وسيلة، حتى لو اضطررنا لتحريف الحقائق وتحوير الواقع، فصحّة الهدف كافية، حيث المهم نتيجة العمل فحسب!

إن الأخبار الموضوعة الجعلية، وعدد القصص والحكايات الخيالية المنسوجة أكبر مما يتصوّر، فسماع بعض الاعترافات من الوضّاع أنفسهم وصنّاع الأساطير كافٍ للتدليل على عمق الفاجعة، يقول هاشم معروف الحسني: «وجاء عن بعضهم أنه كان يقول: إذا استحسنّا أمراً جعلنا حديثاً، وإذا اتهمهم أحدٌ بالكذب على الرسول، ولم يستطيعوا التخلّص منه التجأوا إلى أسلوب آخر، وقالوا: نحن نكذب له، لا عليه؛ لنرقّق قلوب العامّة»([26]).

أحد الذين اعترفوا بوضع الأحاديث ودسّها، شخصٌ يُدعى «القاضي أبو عصمت المروزي»، وكان صاحب فنون عديدة، وحيث كان له دراية بكل علم من العلوم وكان جمع بين التفسير والحديث والتاريخ والفقه و.. كان يطلقون عليه: «الجامع»، وخلاصة القول: كان جامعاً للأعمال والفنون، ومعروفاً بأنه «جمع كلّ شيء إلا الصدق»([27])، وكانوا سألوه عن أنه من أين أتى بكلّ هذه الرواية التي تتحدّث عن فضيلة قراءة كلّ سورة من القرآن؟ فأجاب: «إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن محمد بن إسحاق؛ فوضعت هذا الحديث حسبةً» ([28]).

والأسوأ من ذلك كلّه، أن بعضاً ممّن كانوا يضعون الأحاديث ويختلقونها كانوا يرون ذلك مستحسناً وجائزاً شرعاً، فيدخلون عملهم هذا في سياق الأحاديث التي ترغّب الناس بالأعمال الحسنة! وكلّما كانا يواجهون اعتراضاً عن سبب عدّهم هذا الذنب الكبير جائزاً، مع نهي النبي عنه، يقولون: «إنما قال: من كذب عليّ ونحن نكذب له، ونقوّي شرعه، ونسأل الله السلامة من الخذلان»([29]).

وبطلان هذه المغالطة واضحٌ لا يحتاج لبيان، فهو عذرٌ أقبح من الذنب، إنه خطأ آخر ارتكبوه في ممارسة تحريف معنوي لكلام الرسول(ص). وإذا ما ألقينا نظرةً على كُتب «المقاتل والمجالس» سنرى سيلاً من التحريفات التي شيدت على أساس هذا المبنى، أي «الوسيلة فداءٌ للهدف»، حتى أنّ بعضهم وفي مقدّمات مقاتلهم يصرّحون بهذا الأمر، فيحسمون الأمر منذ البداية، وكما يقول الشاعر:

لأنّ البنّاء وضع اللبنة الأولى معوجّةً من الأول؛

سيظلّ الحائط مائلاً حتى الثريّا.

 ولكي نقدّم مثالاً على ذلك، نستشهد بمقدّمة كتاب «محرق القلوب»، حيث يكتب صاحبه هناك، وهو الملا مهدي النراقي: «إن نقل الأخبار الضعيفة وغير المعتبرة في حكايات النبي والوقائع التي جرت مع أهل البيت جائز، وكلما دلّ خبرٌ ضعيف على أن البكاء على الإمام الحسين له كذا وكذا ثواب، وسمعه شخصٌ ما، وبكى بنيّة الوصول إلى هذا الثواب ونيله، فسيكرمه الله به.. من هنا ذكرنا في هذا الكتاب الأخبار الضعيفة إلى جانب الصحيحة»([30]).

ويتحدّث المحدّث النوري عن كاتب هذا المقتل، بكلام مفيد، حيث يقول: «إنّ الناقل المتديّن الصالح لا ينبغي له أن يقنع بمجرّد رؤية خبر وحكاية في كتاب، تُنسب إلى عالمٍ، فما أكثر ما يكون هذا العالم قد صنّف هذا الكتاب في أوائل عمره، ولم يبلغ بعدُ مقام تمييز الصحيح من السقيم، والثقة من غيره.. من هنا، نجد في هذه الكتب أخباراً موهونة، ولا أصل لها ولا مأخذ، وتخالف روايات الثقات، بل نجد أخباراً كاذبة باليقين، مثل كتاب محرق القلوب، من تأليف العالم الجليل الآغا الآخوند الملا مهدي النراقي، وهو من أعيان علماء الدهر و.. فضلاً عن أن كبراء الدين ورجالاته العظماء قد اعترفوا له بعلوّ المقام في العلم والفضل، ومؤلّفاته الرشيقة في الفقه وغيره مثل «اللوامع» و «مشكلات العلوم» و.. تمثل شاهداً صادقاً ووافياً على إثبات ذلك، لكن مع ذلك نجد في هذا الكتاب مطالب منكرة يتعجّب الناظر البصير من كتابة مثل هذا العالم لمثل هذه المطالب»([31]).

ثم يستعرض النوري عدّة قصص أسطورية – كمثال – من كتاب «محرق القلوب» ويمارس نقداً لها، ويتحدّث عن وجود نظائر كثيرة لها فيه، وذلك كلّه نابع من ذاك المبدأ القائل: «الغايات تبرّر الوسائل»، والذي أشار له النراقي في مقدّمة الكتاب، غافلاً عن أنّ الكذب من كبائر الذنوب، وأن الأصل المسلّم يقضي: «لا يُطاع الله من حيث يُعصى».

 

7ـ صناعة الأساطير وهواية محرّ في السيرة الحسينية

صناعة الأسطورة وتأليف القصص من دوافع التحريف الأخرى؛ فالإنسان يملك حسّ طلب الكمال والبحث عنه وعن البطولة والشهامة، من هنا يسعى – من حيث لا يشعر – لإرضاء هذا الحسّ الغريزي والفطري عبر صنع الأساطير واختلاق الخرافات الواهمة، وصناعة الأساطير يعود تاريخها إلى زمن سحيق في حياة الإنسان، يمتدّ بامتداد التاريخ، بل ما قبله، وما زلنا نجده حاضراً حتى اليوم في الأمم المتعاقبة والأجيال المتلاحقة، وبين عامة الناس، فالشيء الذي يلقى رواجاً وجاذبيّة هو هذه الأساطير، ولا يمكننا هنا التغاضي عن حقيقةٍ مُرّة، وهي أن أكثر الناس لا يعيشون حياتهم بجدّية، بل يحيونها وسط حجم كبير من الرؤى والأحلام الطويلة، ولهذا نجدهم ميّالين للأساطير والخرافات، يستذوقون من سماعها لذةً وسعادة، حيث يتصوّرون أن ما يحلمون به سيتبلور في قالب هذه الأساطير والموهومات.

من هنا، تتضاعف الأساطير بشكل مستمرّ في حياة الإنسان، وفي كلّ لحظة تضاف أسطورة إليها، وليس هذا أمراً خاصاً بثقافةٍ واحدة أو بعض الثقافات، بل يمكن مشاهدة هيمنة الأساطير على تمام الثقافات الإنسانية، و«ثقافة عاشوراء»، كما أنّها ليست استثناءً على هذا الصعيد، كذلك كانت مسرحاً لمختلف أنواع الأساطير والخرافات وما تزال، بسبب كونها ثقافةً شعبية واسعة، وفي هذا يقول الشهيد مرتضى مطهري: «إنّ قسماً من التحريفات التي وقعت حول حادثة عاشوراء يعود إلى حسّ صناعة الأسطورة، يقول الأوروبيون: إن المبالغات والإغراق في الأمور كثيرة في تاريخ المشرق، وهذا صحيح؛ يكتب الملا الدربندي في «أسرار الشهادات» فيقول: إن فرسان جيش عمر بن سعد كانوا ستمائة ألف شخص، والرجّالة فيهم كانوا مليوناً، أي أنّ المجموع كان مليوناً وستمائة ألف شخص، وكل أهل الكوفة! كم كانت الكوفة كبيرة آنذاك؟ لقد كانت مدينة حديثة الظهور لم يمض على ولادتها أكثر من خمس وثلاثين عاماً؛ ذلك أنّها بُنيت في عصر عمر بن الخطاب، فقد كان هو من أصدر الأوامر ببنائها، وذلك بهدف تمركز جيوش الإسلام بالقرب من إيران، وإيجاد مركز لهم، ففي ذلك الوقت لا يُعلم هل وصل عدد سكّان الكوفة إلى مائة ألف شخص أم لم يبلغ بعدُ؟ إنه لا ينسجم والعقل القولُ بأنه اجتمع مليون وستمائة ألف شخص عسكري، وأنّ الحسين بن علي(ع) قد قتل منهم ثلاثمائة ألف شخص، إنّ هذه القضية ساقطة عن الاعتبار بالكلية وإطلاقاً»([32]).

كما يذكر الأستاذ مطهري مثالاً آخر ملفتاً عن حياة أبي الفضل، فواحدة من موارد حسّ عبادة الأبطال وخلق الأساطير حولهم مختزنة – أساساً – في بطولة قمر بني هاشم المنير أبي الفضل العباس، وهو ما لا ينكر، وفي أنه «عبدالله الصالح، والشهيد الممتاز، ومن يغبطه تمام الشهداء يوم القيامة، والمستعجل إلى الشهادة، وقمة الفداء والإيثار، وأب الفضيلة، وأقرب أنصار الحسين(ع) إليه، وقمر بني هاشم المنير»([33]).

لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: ما المُلزم لقول هذه الأساطير التي لا تنسجم مع العقل والتاريخ؟ وما هي الضرورة التي تفرض نقل قصص لا أساس لها بل هي غير معقولة؛ فنفتح بذلك أفواه الأعداء بالسخرية والاستهزاء؟ إن الشهيد مطهري – مع مدحه لدقّة الشيخ النوري – ينقل مثالاً آخر عنه فيقول: يقول الحاج النوري – هذا الرجل الكبير – في كتابه اللؤلؤ والمرجان، وهو بصدد نقد اختلاق مثل هذا النوع من الأساطير: لقد كتبوا لإثبات شجاعة أبي الفضل أنه في حرب صفين – ولا يُعلم أساساً هل شارك في هذه الحرب أم لا؟ وحتى لو شارك فلا يزيد عمره آنذاك عن الخمس عشرة سنة – رمى بشخصٍ في الهواء، ثم رمى بالآخر، وهكذا إلى ثمانين رجلاً، ولما رمى الرجل الثمانين لم يكن الرجل الأول قد سقط على الأرض بعدُ، وبعد وصول الأول قطعه نصفين، وهكذا الثاني إلى الشخص الأخير»([34]).

إنّ صنّاع الأساطير قد يبلغون حداً في الإفراط يحطّمون فيه حدود العقيدة، وكمثال على ذلك ما يقولونه من أن الإمام الحسين(ع) قد احتمى يوم عاشوراء بأخيه أبي الفضل العباس([35])، أو أنّ الإمام السجاد كان سيموت لو لم تكن السيدة زينب موجودة، وكم هي النصائح التي ينقلونها عن السيدة زينب مما وجّهته إلى الإمام زين العابدين !

لقد كان دور صنع الأساطير في تحريف عاشوراء كبيراً وملفتاً، حتى قيل: «إن الدواعي لجعل الحديث في الأحكام قليلة جداً، وكثيراً ما يكون في أصول العقائد، وأكثر منه في الفضائل والمناقب والأذكار»([36]).

 

8ـ عندما تكون المجالس الحسينية لإبكاء الناس فقط !!

يتوهّم بعضٌ أن عاشوراء والثورة الحسينية تختصر في البكاء والعويل، إنهم يرون أن الأصل الأصيل في الموضوع ليس سوى البكاء والنحيب، وأنّ أيّ شيء آخر لابد أن يُقاس على هذا الأصل وفقط! فكلّ خبر أو حديث صحيح مهما كانت درجة اعتباره وصحّته لا قيمة له عندهم ما لم يوجب إبكاء السامعين، فبعض قراء العزاء والمدّاحين يعيشون دوماً هذا المفهوم، أي أنهم يذهبون ناحية كتب التاريخ والمقاتل ليضعوا يدهم على أكثر ما فيها إحراقاً للقلوب وإدراراً للدمعة من قصص وحكايات، وإذا ما حصلوا على ما هو أعمّ من الصحيح وغيره، أضافوا عليه ما يلزم حتى يخرجوه عن حالته الأولى ليكون نافعاً، فقد يصنعون من جملةٍ لا تزيد على نصف السطر قصةً طويلة، ومن رواية قصيرة يؤلّفون عشرات الروايات الأدبية، الأمر المثير فعلاً للتعجّب!

ومن المناسب هنا التعرّض – ولو العابر – لمسألة البكاء، فلا شك في استحباب البكاء على الإمام الحسين(ع)، والروايات الداعية له على نوعين؛ فبعضها يتحدّث بشكل مطلق مثل: «من بكا على الحسين(ع) وجبت له الجنّة»([37])، وبعضها الآخر مقيّد مثل: «من بكى على الحسين(ع) عارفاً بحقّه وجبت له الجنّة»([38])، ومن الواضح أنه لا يمكن العمل بالمطلق على إطلاقه مع وجود المقيّد، ومن ثم يلزم إجراء القيد الوارد في الروايات المقيّدة على الروايات المطلقة، فنقيّدها به؛ لا سيما وأن قيد «عارفاً بحقه» قد جاء في موارد أخرى – سيما زيارة الإمام الحسين(ع) – في عشرات الأحاديث([39]).

وحتى لو لم يكن هذا القيد «عارفاً بحقه» موجوداً في متن الأخبار لم يكن يمكننا القول: أيّ شخص يبكي على الحسين(ع) في أيّ حال وفي مطلق الظروف يدخل الجنّة حتماً، ولو لم يكن يعرف الإمام الحسين نفسه، ولا معترفاً بحقّه، وبعبارة أخرى: إن القيد المذكور، إضافةً إلى وجود دليل نقلي عليه، له أيضاً دليل عقلي؛ فليس عقلانياً القول بأن أيّ إنسان ولو كان غريباً عن الإمام الحسين يستحق الجنة لزوماً لمجرّد بكائه عليه! وهذا المبدأ الرئيس لا يصحّ التغافل عنه، وهو أن قيمة كلّ عمل تتحدّد بمعرفة فاعله وعلمه، فالمعرفة في القاموس الديني أصلٌ أول وأساس، تماماً كما يقول الإمام علي(ع): «أول الدين معرفته»([40])، أو كما يقول في خطابه لكميل بن زياد: «ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»([41]).

المسألة الأخرى الحائزة هنا على بالغ الأهمية، ما جاء في مفاهيم مفتاحية راقية في بعض الروايات، والتي نشير – من باب المثال – إلى حديثين منها هنا:

1ـ يقول الإمام الصادق(ع) للفضيل بن يسار – أحد تلامذته – : «تجلسون وتتحدّثون؟» قال: نعم، جعلت فداك، قال: «إن تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا، يا فضيل! من ذكرنا – أو ذُكرنا عنده – فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر»([42]).

2ـ عن الإمام الرضا(ع) يقول: «من يذكر مصائبنا فبكى وأبكى، لم تبك عينه يوم تبكى العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»([43]).

والشيء الذي تؤكّد عليه هذه الأحاديث هو أن إحياء الولاية وإبقاء حقّ أهل البيت(ع) حياً هو الهدف الرئيس من تشكيل المجالس والمحافل الحسينية، وفي النتيجة فالبكاء المطلوب والمستحبّ هو الذي يقع في طريق إحياء الولاية وحفظ حقوق أهل البيت(ع).

 

تحريف مفهوم التباكي ومصيبة تجويز الرياء في العزاء الحسيني

من الكلمات الغريبة العجيبة التي قيلت حول العزاء الحسيني، ما جاء في تحريف معنى «التباكي»؛ فقد قيل: «إن لفظ التباكي فيه إشارة إلى أنّ ترتب الثواب الأخروي ليس موقوفاً على البكاء الحقيقي، بل مجرّد قصد البكاء وإظهار النفس بصورة الباكي يجعله مستحقاً للثواب، ففي تمام العبادات تطلب حقائقها، أما في العزاء الحسيني فالدائرة وسيعة، ولعلّه من هذا المنطلق أجاز المرحوم الشيخ جعفر صاحب الخصائص الحسينية – طاب ثراه – الرياء في العزاء على الحسين(ع)»([44]).

نعم، إنّ تصديق هذا الأمر صعبٌ وعسير؛ إذ يمكن أن نصدّق أن مثل هذا الكلام يصدر من عوام الناس، إلا أنّ صدوره من كاتب لا يرى قوله الغريب العجيب هذا صحيحاً فحسب، بل يرى أنّ الشيخ جعفر الشوشتري (التستري) يوافقه فيه، فيستند إلى فتواه ليثبت تحريفاته، ظانّاً أن حكمة التباكي في الحديث يمكنها أن تكون مستنداً لجواز الرياء في العزاء على الإمام الحسين(ع).. إنّ هذا هو الغريب العجيب!

وإذا كانت للشيخ جعفر فتوى عجيبة من هذا النوع، فلا شك في أنه قالها من على المنبر وعند قراءته للعزاء، بحيث كان في حالةٍ عاطفية ودهشة روحية من العشق والعاطفة حلّت محلّ العقل والشرع، مما دفعه لقول ذلك، وإلا فلو كان في حالته العادية لما أعطى فتوى من هذا النوع، ولا شك في أنه لا يقصد بالرياء معناه المصطلح، بل المعنى اللغوي للكلمة، أي إظهار العمل أمام الآخرين، وهذا الاحتمال أكثر صحةً وأقرب إلى الشخصية العلمية التي كان يتمتع بها الشوشتري.

مع كلّ هذه الآيات المحكمة في القرآن المجيد، ومع هذه الروايات الصحيحة والمعتبرة جميعها، والداعية إلى الإخلاص والمقبّحة للرياء وإظهار الذات، كيف يمكن التحدّث بكلام سخيفٍ كهذا، وتجويز الرياء، وهو الشرك الخفي في الثقافة الإسلامية؟!

 

التفسير الصحيح للتباكي

إنّ عدد الروايات التي جاء فيها تعبير «تباكي» قليلةٌ جداً([45])، وقد جاء في إحداها: «من بكى أو أبكى، وأظنّه قال: أو تباكي»([46])، وحتى لو صدر هذا الكلام فعلاً عن المعصوم، فلا يمكن تفسيره كما يريده المحرّفون؛ ذلك أنّ في تفسيره وجوهاً أربعة يمكن تصوّرها هي:

 

1ـ التظاهر بالبكاء والحزن

لكن لا بمعنى الرياء، بل بمعنى نية التقرّب إلى الله وخالصاً لوجهه، بأن يبدي نفسه مغموماً حزيناً، وهذا المعنى – مع الأخذ بالاعتبار زمان صدور الحديث، وهو زمان دولة بني أمية – أصحّ المعاني على ما يبدو، ذلك أن بني أمية كانوا يتخذون – سنوياً – من العاشر من المحرّم عيداً، وكان أنصارهم يتظاهرون في ذلك اليوم بالسرور والسعادة والفرح([47])، فأراد الإمام(ع) بهذا الكلام أن يدعو الشيعة لإظهار الغمّ والحزن في هذا اليوم؛ كي يواسوا بقلوبهم أحباء أهل البيت ويُبدوا تنفّرهم  من آل يزيد.

 

2ـ التكلّف في استدرار الدمعة

قد لا يتمكّن الإنسان في المرحلة الأولى – الأسباب – من أن ينجز عملاً ما، لكن حيث كان قاصداً له يريده فإنه يُبدي من نفسه ميلاً إليه بأيّ شكل ممكن، وما أكثر ما يستتبع هذا التكلّف حصول تحوّل داخلي فيظهر إلى الخارج، ذلك أن الإناء بما فيه ينضح، والملفت أن هذا التكلّف والتشبّه يعطي ثمرةً في نهاية المطاف فيغدو الحال طبيعياً.

ولكي نقدّم مثالاً، نفرض أن شخصاً لا يقدر – بدواً – على البكاء خوفاً من الله على أثر قساوة قلبه أو لأيّ سببٍ آخر، أو أن ينوح على ذكر مظلومية أهل البيت(ع) فيبكي، إلا أنه حيث كان يريد ذلك من أعماق قلبه، وكان يتمنّى أن تكون لديه حالة البكّائين، فهو يحاول التشبّه بهم فيتكلّف فعلَ ما يفعلون، وإذ به يتأثر بذلك وتظهر آثار الغم والهم على وجهه، حتى يزول غبار القساوة عن صفحة قلبه، فينهمر الدمع منه، وهو الأمر الذي نطلبه وننشده.

وخلاصة القول: إنّ التباكي يؤخذ هنا من باب أنه مقدّمة للبكاء، أي مقدّمة طبيعية عادية، فيكون مطلوباً ومستحباً، وعندما تكون مقدّمة طبيعية فلا تشوبها شائبة الرياء والسمعة، غايته أنّ هذه المقدّمة (التباكي) قد تنجرّ إلى تلك النتيجة (البكاء)، وقد لا تؤدي إليها، كما لو كانت قساوة القلب حائلاً شديداً، أو أنّ فرصة الحصول على نتيجة هذه المقدّمة كانت قصيرةً، أو أنه عندما همّ بالوصول إلى النتيجة حصل أمرٌ آخر، بحيث أعجزه ذلك عن عبور مرحلة التباكي إلى مرحلة البكاء.

وعليه، فالأحاديث هنا تفيد أن الإنسان يحصل على الأجر والثواب على تباكيه حتى لو لم يصل إلى مرحلة البكاء، وهذا ما لا ينحصر بالبكاء، بل يستوعب بعض العبادات الأخرى أيضاً، مثل «التحلّم» للوصول إلى الحلم، و«التزهّد» لبلوغ الزهد، وهو ما وقع موقع المدح والحث في كلمات الأئمة المعصومين(ع) ([48]).

 

3ـ حبّ البكاء والميل إليه

ويعني ذلك إذا لم يبك الإنسان، لكن كان لديه ميلٌ إلى البكاء ورغبةٌ قلبية به على مصائب أهل البيت(ع) فإن هذا الأمر مستحب ومطلوب، وهذا هو معنى التباكي الوارد في كلام المعصومين؛ فيكون بين البكاء والتباكي عمومٌ وخصوص مطلق، بمعنى أنّ كل بكاء هو تباكٍ حتماً، وبعض التباكي فقط فيه بكاء، وقد قلنا في التفسير الثاني: إنّ التباكي مقدّمة للبكاء، إلا أنه هنا مصاحبٌ له، ذلك أن من لا يريد فعلاً لا يقوم به، سيما إذا ما ارتبط هذا الفعل بالقلب والتأثر القلبي، بل قد يكون ذلك ضرورياً وقهرياً أيضاً، بمعنى أنه مادام لا يوجد ميل ولا إرادة لفعل الشيء فإن هذا الشيء لن يتحقق في الخارج، تماماً كما جاء في الحديث المنقول عن الإمام علي(ع)؛ حيث يقول: «من لم يتحلّم لم يحلم»([49])، ونحن نقول: من لم يتباك لم يبك، وكل من يتباكى فمعناه أنه يريد أن يبك، وهذه الإرادة ليست مستحبّةً فحسب، بل ضرورية وقهرية أيضاً، فلا وجه لشوبها بالرياء؛ إذ قهرية شيء لا تنسجم مع التصنّع فيه، بل تضادّه.

 

4ـ التعاون على البكاء والعزاء

أي أن لا يُخفي المعزّون تأثرهم وبكاءهم، بل يظهروه ويبدوه لبعضهم كي يحثوا بعضهم على البكاء، فمن لم يقدر على البكاء مع الباكين فلا أقلّ له من مشاركتهم بالنواح والأنين.

وللمحدث النوري هنا كلام لا يمكن أن يشكّل المعنى الصحيح للتباكي؛ إنه يقول: «لا يخفى أن لكلمة «التباكي» الشريفة – مثل ما كان على وزنها من التعاون – معنى لطيفاً آخر لعله هو المراد، وهو أن يبكي المؤمنون بعضهم بعضاً بسلوكهم وعملهم، مثل الإخوة والأخوات الذين يفقدون أماً عزيزةً وحنونة، فيلتقون حول بعضهم ويتذكّرون تلك العزيزة، محاسنها وخصالها المرضية، إحسانها وعملها الصالح، شدّة مصائبها وبلائها، وكلّ واحدٍ منهم يذكر للآخرين ما يأتي على باله وخاطره عنها فيبكون وينوحون. والمؤيد لهذا الاحتمال ما جاء في آداب يوم عاشوراء، من الخبر الشريف في زيارة عاشوراء المعروفة، فقد ورد أن الصادق(ع) أمر بالندب والنواح والبكاء على الحسين وأمر أهل بيته بإقامة العزاء له»([50]).

وبعد استنتاجه لهذا المعنى اللطيف، يضيف النوري: «وعلى أية حال، فلا وجود في التباكي الممدوح والمحبوب – وهو من الطاعات والعبادات – لشائبةٍٍ من الرياء، وهو من أقسام الشرك الخفي، سبحان الله! لقد تحمّل الإمام الحسين(ع) كلّ هذه المصائب كي يُحكم أساس التوحيد ويرفع كلمة الحق، ويوثق أسس الدين المبين، ويحفظه من بدع الملحدين، مع ذلك كيف يحتمل ذي شعور أن تجوز أعظم المعاصي وأكبر الموبقات، وهو الشرك، وهو أكبر الذنوب الموجبة لخلود النار؟! ولعلّ سبب هذا التوهم الفاسد والخيال الشيطاني وهو عدم التأمل في الرياء وقبحه، أو أنهم يريدون بهذا التحريف وهذه المؤامرة تغطية رغبتهم بالذهب والفضة، وقبائح هذا الحرص والطمع»([51]).

 

9ـ القياس على الذات واختراع مقولة لسان الحال

القياس على الذات من عوامل التحريف وأسبابه؛ ذلك أن أكثر الكتب الشعرية يلاحظ فيها أن ناظم الشعر والمقطوعة الأدبية يستخدم لسان حال الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأنصاره فينظم عملَه الأدبي على هذا الأساس، فيما ينظم لسان حاله هو لا لسان حال الإمام(ع)، وهو ما ينتج عنه في النهاية مجموعة من الأعمال والسلوكيات التي تبدي ذاته وأمثاله، لا أهل البيت الأطهار!

ونصوص «الحال» هذه وجدت لنفسها من كتب الشعر والنظم سبيلاً إلى كتب المقاتل والمجالس، فاتخذت صبغةً رسمية، واشتهرت بوصفها حديثاً أو روايةً تاريخية، لتغدو مقبولةً لدى الخاصّ والعام.

ومن الواضح، أنه لا يمكن – تحت ذريعة لسان الحال – نشر شعرٍ يتضمّن ذلّةً لأهل البيت(ع) تحت شعار مدحهم ومراثيهم، فلسان حال الإمام الحسين إذا لم يطابق لسانَ مقاله فلا أقلّ يفترض به أن لا يخالفه، وأكثر أنواع قراءة المقاتل والمراثي والقصائد ونقل الحكايا المذلّة تخالف بوضوح الروح الحسينية الكبيرة والهدف العاشورائي السامي، وسبب ذلك أنّ القرّاء يقيسونه(ع) على أنفسهم، ولا يوجد من يقول لهم:

لا تقس عمل الأطهار علي نفسك

وإن كان في كتابة كلمةِ «شير» «شير»([52]).

يقول الإمام علي(ع): «لا يقاس بآل محمد(ص) من هذه الأمّة أحد، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصية والوراثة..»([53]).

 

10ـ التحريف وإسقاط الصورة المَلَكِية والسلطانية على أهل البيت(ع)

من البعيد جداً في عصر الخلفاء أن يتوهم شخص من أنصار الأئمة المعصومين(ع) أن يقارنهم برجال السلطة وقادة الدولة، لا أقلّ من أننا لم نجد هذا الأمر في أي رواية أو خبر، إلا أن كتب العزاء والمقاتل والنياحة والمجالس في العصرين: الصفوي والقاجاري وغيرهما قد مُلئت بتشبيه الأئمة بالسلاطين، وأولادهم بأولياء عهد السلاطين ومن يخلفهم من أبنائهم، فثمة تراكيب ومفردات كثيرة ظهرت مثل «ملك الدين»، «وولاية عهد الإمام علي(ع)» و«ملك يثرب»، و«ملك خراسان»، و«ملك المظلومين» و«الملك حسين»، و«الأكبر والقاسم أولاد الملك» وعشرات التشبيهات والتراكيب الأخرى، والتي تحكي جميعها عن التحريف الذي طرأ، حتى أنّ قرّاء العزاء وكتّاب المقاتل والمجالس يمارسون في سردهم لوقائع عاشوراء وقراءتهم لمقتل الإمام الحسين(ع) مثل هذه المقاربات التي تشمئز منها القلوب وتنفر، حيث يصوّر رجال الله ملوكاً، ثم يتحوّل هذا الوهم الخاطئ إلى جواب يُفرض على ثقافة عاشوراء، وترتفع حصيلة المعاصي في هذا المجال فيظهر الغلو في عمل المدّاحين، والتملّق في كتابة المقاتل وقراءة العزاء، فمؤلّف كتاب «معالم السبطين» يصوّر خروج الإمام الحسين(ع) من المدينة وكأنه موكب ملكي يصيح بالهيبة والسلطنة، وكذا الحال في مؤلّف كتاب «روضة الشهداء»؛ حيث يضع في أسطورة «شيرين شهربانو» أهل بيت العصمة والنبوة والعدالة في موضع حريم الملوك الصفويين!

في هذه التحريفات، نرى وضع شيء مكان شيء، فيتغيّر موضع المضاف والمضاف إليه، النكرة والمعرفة، المعروف والمنكر، المظلوم والظالم، فالدين يتحوّل إلى دنيا، والديانة إلى دولة، والهداية إلى سلطة، والعقل والتفكير إلى قدرة وسياسة، وفي نهاية المطاف يصير الله الرحمن سبحانه فرعوناً، وفي كلمة واحدة يغدو الملكوت برهوتاً، ولابد أن يقال هنا: >سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ< (المؤمنون: 91)، و> لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ< (الشورى: 11)، و > لِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى< (النحل: 60)، وهنا يسأل: «أين التراب وربّ الأرباب»، ويُضم الصوت إلى صوت يوسف(ع) حين يقول: >أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ< (يوسف: 39).

 

11ـ هيمنة العوام على المجالس الحسينية، ومنطق اللعب بالمريدين

لا ينبغي تخطّي حقيقة مرّة، وهي أن الكثير من «تحريفات عاشوراء» إنما نتجت وتنتج عن نزعةٍ عوامية متأثرة بعوام الناس يعيشها بعض القراء المذهبيين، وقد يبلغ هذا الوضع الفاجعة حداً من الفساد أن نرى أن هؤلاء يفكّرون قبل كلّ شيء بما يريده العوام، وأيّ قصّة أو أسطورة تُسعدهم ويرتاحون لنقلها؛ لذا نراهم يعيشون دائماً في هذه الدائرة الضيقة المظلمة، وهي أن يأخذوا من الأفواه، ويعطوا أسماع الناس، فيظلّون دوماً في تكرارية هذا الدور والتسلسل، دون أن يتعبوا أو يملّوا، وما أكثر الكتب التي ألّفت في المقاتل والمجالس على هذا النحو، وليس لها من مستند ومدرك لما تقوله غير لسان الواعظين وأسماع السامعين، فبدايةً قالوا ما قالوه بلا تفكير، ثم وعلى المنوال ذاته كتبوا قولهم بعد أن رأوا أن ما قالوه قد لاقى استحسان طبع عوام الناس.

مع الأسف الشديد، إنهم يجرّون ثقافة الناس إلى الفساد والهلاك بصنع هذه التحريفات والانشغال بهذه الأساطير والخرافات، حتى أنهم يفسّرون التباكي – خطأ – بالرياء والتزوير، فيجوّزونهما للناس، وهم – من حيث لا يشعرون – يشعلون النار في دنياهم وآخرتهم..

نعم، هناك عوامل أخرى دخيلة في تحريف عاشوراء، ويحتمل أن أثرها التخريبي ليس أقلّ مما ذكرناه، مثل الارتزاق عن طريق الدين والمذهب، والاستبداد الديني والمذهبي، والتأثر بالسياسة، وممارسة التعصبات الفرقية وعصبية الجماعات، بهويّةٍ كان ذلك كلّه أو بدونها، فهذا موضوع آخر، وممارسة التقية والخوف من أيّ شيء، ومع الأسف قلّما نجد في مجال التبليغ الديني من يضع هذه الآية شعاراً لعمله: >قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى< (الشورى: 23)، وكذلك آية التبليغ الديني المحكمة؛ حيث تقول: >الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً< (الأحزاب: 39).

 

مشهورات عاشورائية لا أصل لها

من لسان الحال إلى لسان المقال

ينسب كتّاب المقاتل وقراء العزاء الكثير من الكلمات والنصوص – نثراً أو شعراً – إلى الإمام الحسين(ع)، وهي كلمات لا أساس لها ولا مدرك يُعثر عليه إطلاقاً، وبعض هذه الكلمات رغم كونه مجهولاً إلا أنه مشهور جداً ومتداول أيضاً، وحيث حظي بالقبول العام ظنّ بعض الباحثين المعروفين والكتاب المعاصرين أنّ هذه الكلمات مسلّمة الصدور، ودون تأمل وتحقيق أوردوها في مصنّفاتهم بوصفها كلاماً للإمام الحسين.

واليوم نجد الكثيرين من الكتّاب والمؤلّفين المبلّغين، كما المبلّغين المؤلفين، يوردون هذه الكلمات على لسان الإمام الحسين(ع)، وينشرونها بأعدادٍ كبيرة من النسخ، غافلين عن أنّ الإمام الحسين لم يقل ذلك إطلاقاً، فهذه الكلمات المنسوبة مصداقٌ بارز للمثل المعروف: «ربّ مشهورٍ لا أصل له».

من المرسوم في أوساط كتّاب المقاتل وقرّاء العزاء ومؤلّفي المجالس والواعظين ومنذ قديم الأيام، أن يتحدّثوا بقصص وكلمات عن الإمام الحسين وعاشوراء في مجالس العزاء لعموم الناس، ثم بعد ذلك يوردون ما قالوه في كتبهم، وهم يذكرون هذه المجالس لإبكاء الناس فيتردّدون في البداية، لكن عندما يجدون تفاعل الناس بالبكاء معهم يزول هذا التردّد من نفوسهم؛ فيصدّقون أن الإمام الحسين قال هذا الكلام أو ذاك، أو أنّ هذه الحوادث قد وقعت.

وعلى هذا الأساس، تظهر الكثير من الكلمات طبقاً للسان الحال، لتُسطر – بعد ذلك – في كتب المقاتل والمجالس، وهذه النصوص المصطنعة نفسها تتحوّل – بمرور الزمان وبالتكرار والإعادة المتواصلة، وبصيرورتها مشهورة – إلى نصوص قولٍ بدلاً عن نصوص حال. لقد قيلت هذه الكلمات أو الأشعار – بدايةً – على أساس تصوّر أن الإمام الحسين(ع) قد قالها في هذا الظرف([54])، لكنّ هذه المقولات تتحوّل – بمرور الزمان – من حوادث وأقوال حالٍ إلى حوادث وأقوال واقعية، وبعد أن تحظى بشهرة واعتراف عامَّين تدرج بوصفها من نصوصه(ع) فيتصوّر أنها أحاديث أو روايات.

إنّ هذا النوع من الأحاديث – لا سيما الأشعار منه – مما ينسب إلى الإمام الحسين(ع) كثيرٌ، فهناك العشرات بل المئات من أبيات الشعر لا نجدها سوى في كتاب «أدب الحسين وحماسته» المجهول المؤلّف([55])، إننا نحاول هنا الإشارة فقط إلى بعض هذه الكلمات المشهورة والمعروفة جداً، ويتصوّرها بعض الكتّاب والمؤلّفين من كلمات الإمام الحسين(ع).

 

1ـ «إنّ الحياة عقيدة وجهاد»

تُعرف هذه الجملة بوصفها من كلمات الإمام الحسين(ع) في أوساط العام والخاص، وفقط أهل البحث والتحقيق هم من يعرفون العكس تماماً، يرى الأستاذ مطهري أنّ هذه الجملة لا سند لها ولا مدرك، كما أنها لا يمكن أن تكون – من ناحية المفهوم والمحتوى – صحيحةً([56])، ويكتب المغفور له العلامة محمد تقي جعفري في شرحه لنهج البلاغة يقول: .. أقدس الدماء التي أريقت، دماء المدافعين عن الإيمان بحقائق «الحياة المعقولة»، حيث يقال:

قف دونَ رأيك في الحياةِ مجاهداً                إنّ الحياة عقيدةٌ وجهاد ([57])

 

ويفهم من كلام الأستاذ جعفري أن هذه الكلمات مصرعٌ من بيت شعر، لا حديث أو رواية.

ومنذ سنوات عدّة قرّرت كلية باقر العلوم في مدينة قم في إيران، جمعَ كلمات الإمام الحسين(ع) من الكتب المعتبرة أو شبه المعتبرة، وهو قرار في محلّه يستحقّ المدح والتقدير، وبعد سنوات من العمل الدؤوب، خرجت إلى النور «موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع)»، وصدرت الطبعة الأولى عام 1373ش/1994م، وعندما كانت الموسوعة تطوي مراحلها الأخيرة، جرى حديثٌ مع السيد محمود الشريفي الذي كان مسؤولاً عن قسم الحديث في الكليّة، وكانت الموسوعة تحت إشرافه، وكان التساؤل: هل لهذه الكلمات «إنّ الحياة عقيدة وجهاد» سندٌ ومدرك؟ هل عُثر لها على مستند؟ أجاب السيد الشريفي: إننا لم نجد ذلك في أيّ مكان، ولا في أيّ مصدر أو كتاب، وكأن هذه الكلمات لا يصحّ القول عنها بأنها أحاديث، فسئل: هل وجدتم «إنّ الحياة عقيدة وجهاد» في موضع ما؟ فأجيب: يفهم من شرح نهج البلاغة للعلامة الجعفري أنّ هذا الكلام لابدّ أن يكون شعراً، وقد أورد السيد الشريفي هذه الكلمات الشعرية مع كلام الأستاذ جعفري في مقدّمة الموسوعة.

إلا أنه مع ذلك، ثمة شك في أن تكون هذه الجملة قد أدرجت في مصدرٍ ما؛ ذلك أن عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، وأخيراً استطاع أحد الباحثين المعاصرين، بنشره مقالةً في هذا المجال، كشف هذا اللغز لنا، وأثبت أنّ هذه الجملة ليست روايةً ولا حديثاً، وأنها لم تنقل عن الإمام الحسين(ع)، وإنما قالها أحد الشعراء المصريين المعاصرين، وهو أحمد شوقي([58]).

وتغدو القضية أكثر سوءاً عندما يروّج هذا الشعر أو الأشعار في الصحف والمجلات والنشريات، وعلى المنابر الدينية وفي المساجد، بوصفها أحاديث أو روايات، سيما مع وجود قيد «إنما»، وبعد عبارة صريحة مثل: «قال أبو عبد الله الحسين»، والمراد من العقيدة ليس الدين والمذهب بصورته السياسية النازلة، أي الأيديولوجيا، كما أنّ مرادهم من الجهاد ليس الجدّ والجهد والسعي، أو الاجتهاد لكسب الكمال والتعالي، وإنما القتال والمقاتلة والحرب والجدال والقتل، سيما أحياناً مع تركيبات غريبة عجيبة مثل: «العمليات الانتحارية الاستشهادية» أو «كسر العدو»، بما يرجع إلى التفسير السياسي.

كيف يمكن أن تكون الحياة مختصرةً في هاتين الكلمتين، أي العقيدة والقتال؟ فإذا كنّا مضطرّين لاختصارها في كلمتين – ولسنا كذلك – كان بإمكاننا استخدام مفردات أكثر دقة واستحكاماً مثل: الإيمان، والعشق، والفكر، والعقل، والمحبة، والكمال، والجمال الإلهي – الإنساني، والتعالي، والرقي، ومع النظر إلى أنموذج الحياة الإنسانية – علي(ع) – نقول: «إن الحياة عدالة وجود، فأعدلوا وأنفقوا  تسودوا»، ومع النظر إلى السبط الأكبر الإمام الحسن(ع) يمكن القول: «إن الحياة كانت في الحياة لا في اغتيال الخصم والممات»، ولا يجدر نسيان كلمات سفير الحسين(ع) مسلم بن عقيل، فيما رواه عن رسول الله(ص) من قوله: «إنّ الإيمان قيد الفتك»([59]).

 

2 – إن كان دين محمد(ص) لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني

لقد شغلت هذه الجملة تفكيري منذ سنوات، وفتشت عنها في كل موضعٍ احتملته، فلم أجد مدركاً لها، لم نترك أحداً إلا وسألناه عنها فلم يذكر أنه رآها في موضع أو مصدر، بل إما يُبدون عدم اطلاعهم على الموضوع أو يُرجعون إلى كتاب ألّف خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

وبعد المراجعة والفحص، وجدت أنّ كل من سطر هذه الجملة لم يذكر لها مدركاً أو مصدراً، وإنما قالها اعتماداً على شهرتها وذيوعها، فأدرجها في كتابه بوصفها من كلمات الإمام الحسين! وبعض الكتّاب – وهم من أهل البحث والتحقيق والدقة – عندما كانوا يذكرون هذه الجملة أو بعض العبارات، كانوا يُبدون شكّهم وترددهم فيها([60]).

وفي نهاية المطاف، كنت أبحث عن شعراء كربلاء؛ لإكمال الفصل الخاصّ بهم في كتاب «سيماي كربلاء حريم حرّيت» ووصلت إلى شاعر يسمّى الشيخ محسن أبو الحبّ الحويزي، وكان من شعراء كربلاء وخطبائها، كان يعيش بين عامي 1235 – 1305هـ، وهناك فهمت أنّ هذه الجملة التي نتحدّث عنها إنما هي بيتٌ من قصيدة شعرية له([61])، وكتبنا هناك: «الشيخ محسن الهريزي الحائري» المعروف بـ «أبو الحب الحويزي»، من الخطباء الحسينيين المعروفين، ومن شعراء الشيعة، له ديوان شعر باسم «الحائريات»، ويكفي في لطف كلامه ونجاح هذا الشاعر بيتٌ من قصيدته الرائعة، الذي أخذ شهرةً عجيبة، بحيث صار ينقل في كلّ مكان وفي أكثر الكتابات باسم الإمام الحسين(ع) وبوصفه حديثاً وروايةً عنه، أي أنه لسان حال أبي الأحرار الذي يقوم مقام لسان مقاله، وذلك حين قال: وثمة أمران آخران يتعلّقان بأشعار أبي الحب الحويزي العاشورائية:

أـ إن له شعراً آخر معروفاً جداً ومتداولاً، وينسب أحياناً إلى حفيده، وهو ابن ابنه الذي كان شاعراً ومن الخطباء والشعراء الكربلائيين والعاشورائيين، وقد وضع شعر الجدّ في ديوان أشعار حفيده([62])، ومنشأ هذا الاشتباه إنما جاء من حيث إن اسمهما متحد، وهو «محسن»، كما أنهما معاً مشهوران بالأشعار العاشورائية، كما أنها مشتركان في الكنية والنسبة، أي «أبو الحب الحويزي»، ومشتركان نوعاً ما في الأرقام على مستوى تاريخهما؛ ذلك أن تاريخ ولادة الحفيد مطابق لتاريخ وفاة الجدّ، وهو (1305هـ)، والشعر الذي نتحدّث عنه هو:

الله أكبر ماذا الحادث الجللًُ             وإن عاشورا لو عمّ الهلال به

ما هذه الزفرات الصاعدات أسى                فقد تزلزل مسهل الأرض والجبلُ

كأنّ نفحة صدر الحشر قد فجئت                كأنّها شعل يرى بها شعلُ

فالناس سكرى ولا سكر ولا ثمل        كأنما هو من شؤم به زحلُ

وإن عاشورا لو عمّ الهلال به

 

ب – هذا الشعر لأبي الحبّ الحويزي الذي انتخبنا منه بعض الأبيات فقط، يكتب عادةً باسم السيد بحر العلوم، وهو مشهور في إيران – في كل مكان – باسمه، كما أنهم يقرؤونه عن لسانه، ولعلّ هذا الاشتباه ناشئ عن أن أحد أحفاد([63]) السيد بحر العلوم كان اقتبس بعض أبيات شعر أبي الحب، وجعلها تضميناً في بداية خماسيّته المعروفة، والفاضل البسطامي – وهو الذي كتب شرحين على المقاطع الاثني عشر للسيد بحر العلوم باسم: «لؤلؤ البحرين» و«سفينة النجاة در (في) شرح قصيدة سيّد السادات» – لم يلتفت إلى هذا التضمين؛ فذكر تمام الأشعار باسم السيد بحر العلوم ونشرها كذلك، فتابعه الآخرون، واشتهر الأمر على هذه الحال.

وعلي أية حال، فهذه الأشعار التي نتحدّث عنها موجودة – منذ قديم الأيام – فوق رأس الإمام الحسين(ع) في كربلاء باسم الشيخ أبي الحبّ الحويزي، فلا يمكن أن تكون للسيد بحر العلوم؛ ذلك أنها تتناغم مع سبك الأشعار الأخرى لأبي الحب، كما لا يمكن أن تكون لأبي الحبّ الحفيد؛ ذلك أنها كان موجودةً فوق الرأس في كربلاء قبل ولادته([64]).

 

3 – اسقوني شربةً من الماء

كنا سابقاً ننـزعج جداً عندما نسمع هذه الجمل على لسان قراء العزاء المستعدّين لقراءة أيّ عزاء لا أساس له لأجل إبكاء الناس، وكنا نقول في أنفسنا: كيف يمكن للإمام الحسين(ع)، وهو أبو الأحرار وسيّدهم، أن يتلفظ بكلمات ذليلة مثل هذه أمام عدوّه، فينطق بلسان الالتماس ذليلاً حقيراً، ويترجى أولئك المنحطّين العازمين على قتله أن يسقوه جرعةَ ماء بحقّ جده رسو ل الله2!

إنّ الشهيد عزيزٌ، شعارُه «هيهات منا الذلّة»([65])، وقوله: «موتٌ في عزّ، خيرٌ من حياة في ذلّ»([66])، وكان يقول:

        الموت أولى من ركوب العار            والعار أولى من دخول النار([67])

 

فكيف يمكن أن ينسجم هذا الإباء ورفض الذلّ وقوّة القلب وصلابة الموقف أمام العدو مع طلب الماء بهذا الشكل؟ والأكثر إثارةً للعجب ما ذكره بعضهم في تبرير مضمون هذه الرواية الموضوعة من أنّ الإمام(ع) كان يريد بهذا الكلام إتمام الحجّة عليهم، لكننا لا نعرف أين تكمن الحجّة والبرهان في هذه الجملة؟!

من حيث الأساس، إنما يُلجأ إلى التأويل والتبرير عندما يكون للرواية سند، أما عندما تفتقد أيّ مدرك أو مستند ويكون محتواها ومضمونها موهنين مذلّين فلا معنى بعد ذلك للتأويل. إنّ هذه الجملة لم ترد في أيّ كتاب معتبر أو شبه معتبر، وإنما وجدناها في بعض الكتب القليلة التي لا تزيد عن أصابع اليد والمليئة بتحريفات عاشوراء والطافحة بالكذب والاختلاق، فهذا النصّ نفسه شاهدٌ على جعله، وجاعلوه عرضوا القضية على الشكل التالي: «.. ثم إن الحسين(ع) أقبل على عمر بن سعد، وقال له: أخيّرك في ثلاث خصال، قال: وما هي؟ قال: تتركني حتى أرجع إلى المدينة إلى حرم جدّي رسول الله. قال: مالي إلى ذلك سبيل. قال: اسقوني شربةً من الماء فقد نشفت كبدي من الظمأ. فقال: ولا إلى الثانية سبيل. قال: وإن كان لابد من قتلي فليبرز إليّ رجلٌ بعد رجل، فقال: ذلك لك، فحمل على القوم..»([68]).

والإنصاف أن أفضل دليل على جعل هذا الحديث هو هذا النصّ، فهو يصيح بمائة لسان على وضعه واختلاقه؛ إذ يشبه الأخبار التي اختلقها بنو أمية، ليعكس لنا تحريفاً آخر.

إضافةً إلى ذلك، ثمة دافع آخر لاختلاق هذا الخبر، وهو توفير الظروف قدر الإمكان لإبكاء الناس، ذلك أن أكثر قرّاء العزاء والمداحين يتتبّعون على الدوام أخباراً من هذا النوع، كي يدرّوا دمعة الناس بأيّ شكل من الأشكال، حتى لو أدّى ذلك إلى توهين الساحة المقدّسة للإمام سيد الشهداء؛ ولهذا نرى أنّ هذا الخبر لم يظهر إلا في الكتب التي تهيمن عليها مسألة إبكاء السامعين، وفي مثل هذه الكتب (المتأخرة) التي تدور على الإبكاء نجد الكثير من الأخبار الموضوعة والمذلّة، فقد جاء في خبرٍٍ آخر فيها: «بينما الحسين(ع) واقف في ميدان الحرب يوم الطف، وهو يستعطف القوم شربة ماء، وهو ينادي: هل من راحم يرحم آل الرسول المختار؟ هل من ناصر ينصر الذريّة الأطهار؟ هل من مجير لأبناء البتول؟ هل من ذابّ يذبّ عن حرم الرسول؟ إذ أتى الشمر اللعين إليه حتى صار بالقرب منه ونادى: أين أنت يا حسين؟ فقال: ها أنا ذا. فقال: أتطلب منّا شربةً من الماء، هذا مطلب محال»([69]).

وعقب هذا الخبر جاءت أمور أخرى نعتذر عن نقلها، فهذا يكفي؛ إذ نقول – كما في القول الفارسي المعروف – : لقد وصل القلم إلى هنا وانكسر رأسه، وعلى أية حال فقد كانت للأستاذ مرتضى مطهري هنا كلمات مفيدة جداً؛ حيث يقول: «لقد كان عطش الإمام الحسين(ع) كثيراً إلى حدّ أنه عندما كان ينظر إلى السماء لم يكن يرى ما فوق رأسه جيداً، إنها ليست مزحة، إلا أنني كلّما بحثت في المقاتل – بالقدر الذي استطعت – لأجد هذه الجملة المعروفة له(ع): اسقوني شربةً من الماء، لم أجدها أبداً، لم يكن الحسين(ع) شخصاً يطلب من أولئك القوم مثل ذلك، نعم هناك موضع واحد عندما كان يهمّ بالحملة على الأعداء ذكر فيه أنه كان يطلب الماء، والقرائن تشير أن المقصود بذلك توجّهه نحو شريعة الفرات (بحثاً عن الماء يأخذه من الشريعة)، لا طلبه من الناس هناك»([70]).

 

أسفٌ على قليل من التفكير!

نواجه وسط التحريفات التي طالت قضية عاشوراء ما يهزّ الإنسان ويعدّ مهيناً للغاية، بل يمكن القول: إن قدراً بسيطاً من التفكير في هذه المضامين لم يمارسه كتّاب هذه التحريفات وناشروها؛ فقد كتب بعضهم يقول: عندما جلس الشمر على صدر الإمام الحسين(ع) مريداً قطع رأسه عن بدنه، قال له(ع):

 

أيا شمر خاف الله واحفظ قرابتي
أيـا شمــر تـقـتـلني وحـيدرة أبي
وفاطمة أمـي والزكيّ ابن والدي



 

من الجدّ منسوباً إلى القائم المهدي
وجــدّي رسـول الله أكـرم مهتـدي
 وعمّي هو الطيار في جنّة الخلدي



 

 

 

 

إن الشاعر، والأفضل أن نقول: جاعل هذه الأشعار، بعد ذكره في شعره – عقب ذلك – حرم الحسين(ع)، كزينب وأم كلثوم وسكينة ورقيّة، يتجه في حديثه إلى الإمام زين العابدين(ع) ويذكر بكل جسارةٍ ووقاحة على لسان الإمام الحسين(ع) شعراً للشمر بن ذي الجوشن يقول فيه:

 

أيا شمر ارحم ذا العـلـيل وبعده



 

حريماً بلا كفل يلي أمرهم بعدي([71])

 

 

ففي هذا البيت ارتكب الشاعر عدداً من الإهانات بحقّ سيد الشهداء(ع) هي:

1ـ مع وجود الإمام السجاد، اعتبر الشاعر أن عائلة الإمام الحسين(ع) وحرمه لا كفيل ولا راعي لهم.

2ـ لقد أطلق – على لسان الإمام الحسين(ع) – على الإمام السجاد لقب «العليل والمريض»([72]).

3ـ إن الإمام السجاد وأهل بيت الحسين قد أودعهم  الحسين(ع) عند الشمر!

4 – هل من ناصر ينصرني؟

يشتهر جداً نسبة هذه الجملة إلى الإمام الحسين، ولا مدرك ولا مستند لها، ومعنى هذه الجملة أنّ قراء العزاء ولكي يدّروا دمعة الناس اختلقوا هذا النصّ على لسان الحسين، إلا أننا لم نجد نصاً مثله ولا قريباً منه في المصادر المعتمدة المعترف بها([73])، فاستناداً إلى الكتب والمصنّفات والدراسات التي قام بها المتأخرون لا يمكننا نسبة هذا الشعار، بوصفه روايةً أو حديثاً، إلى الحسين.

 

5 – عاشوراء وتفسير«كهيعص»

هذه الكلمة من الحروف المقطّعة في القرآن الكريم، وهي الآية التالية للبسملة في سورة مريم، وقد ذكروا لتأويلها وتفسيرها روايةً، نجد لها حضوراً حتى في الكتب القديمة جداً ([74])، وتقول: «.. فأخبرني يا ابن رسول الله عن تأويل «كهيعص» قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبدَه زكريا، ثم قصّها على محمد(ص)، وذلك أن زكريا سأل ربّه أن يعلمه الأسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن سري عنه همّه، وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة، فقال ذات يوم: يا إلهي! ما بالي إذ ذكرت أربعاً منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تعالى عن قصّته، وقال: كهيعص، فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد، وهو ظالم الحسين(ع)، والعين عطشه، والصاد صبره، فلما سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام و..»([75]).

إلا أن المحقق الناقد الشيخ محمد تقي التستري (الشوشتري)، المعروف بكتابه الكبير في علم الرجال «قاموس الرجال»، يتعرّض لهذا الحديث في كتابٍ آخر قيّم له هو «الأخبار الدخيلة»، فيخصّص في هذا الكتاب قسماً تحت عنوان «الباب الثاني في الأحاديث الموضوعة»، ويجعل أوّل هذه الأحاديث هذه الرواية الطويلة التي اقتطعنا قسماً منها هنا والموجودة في كتاب كمال الدين للصدوق، ويخوض التستري بحثاً مفصّلاً في نقد هذه الرواية وردّها، مخصّصاً تسعة صفحات من
كتابه (96 – 104) لها.

وعندما يتحدّث عن المقطع الذي يفسّر «كهيعص»، يعرض ستة أحاديث أخرى، ويتفق أنها جميعاً مروية في كتب الصدوق، تحكي أن هذه الآية من الأسماء المقطعة الإلهية، ومن جملة هذه الأحاديث هذه الرواية عن كتاب «وقعة صفين» جاء فيها: «ما كان علي(ع) في قتال قط إلا نادى: يا كهيعص»([76]).

ويكتب باحثٌ آخر (وهو السيد هاشم معروف الحسني) حول الموضوع عينه فيقول: «.. إلى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه الرواية من الغرائب التي يجب الوقوف عندها وإن كان ما نقلناه منها ليس بأقلّ غرابة مما أجملنا ذكره.. وأما التفسير الذي اشتملت عليه الرواية لكهيعص، فتنافيه الأخبار الكثيرة التي وردت في تفسير هذه الحروف، فقد جاء في بعضها أن المراد في هذه الكلمة أن الله هو الكافي الهادي الوالي العالم الصادق في وعده»([77]).

وبعد ذكره العديد من الروايات في تفسير >كهيعص<، وكلّها روايات معارضة للرواية المذكورة هنا، يقول: «هذا كلّه، بالإضافة إلى أن سند الرواية قد اشتمل على بعض الأشخاص المتهمين بالكذب في الحديث، منهم محمد بن بحر الشيباني، فقد جاء عنه أنه من القائلين بالتفويض ومن المغالين، وممّن يعتمد على الضعفاء..»([78]).

ويقول الأستاذ علي أكبر الغفاري، مصحّح كتاب «كمال الدين»، في ذيل الرواية التي نتحدّث عنها: «رجال السند بعضهم مجهول الحال وبعضهم مهمل، والمتن متضمّن لغرائب بعيدٌ صدورها عن المعصوم(ع)، ويشتمل على أحكام تخالف ما صحّ عنهم(ع)، مضافاً إلى أنّ الواسطة بين الصدوق وسعد بن عبدالله في جميع كتبه واحدة، أبوه، أو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، كما هو المحقق عند من تتبّع كتبه ومشيخته، وهنا بين المؤلف وسعد خمس وسائط، وقد رواه الطبري في الدلائل بثلاث وسائط هم غير ما هنا»([79]).

وقد سجّل الأستاذ الغفاري في عدة مواضع أخرى ملاحظاته على هذه الرواية([80])، من جملتها قوله: قال في هامش البحار الطبع الحروفي كذا: «فيه غرابة..»([81])، ذاكراً جملة إيرادات في هامش البحار هنا.

وإضافةً إلى هذه الإشكالات الواردة كلّها، هناك إشكالٌ آخر في متن الحديث، لم يذكره العلماء، وهو تحريف كبير اشتمله هذا الخبر، ويتعلّق بتفسير حرف «الهاء» من حروف >كهيعص< فهو يقول: إنّ الهاء هلاك العترة، ومن الواضح جداً أنّ صنّاع هذا الحديث يريدون تسمية شهادة عترة رسول الله(ص)، وأبناء علي(ع)، خصوصاً شهادة الإمام الحسين(ع)، حيث الحديث في عاشوراء والحسين وأصحابه.. يريدون تسمية ذلك كلّه هلاكاً، ولا شك في أن تسمية الشهادة هلاكاً، سيما شهادة شهداء كربلاء وسيد الشهداء(ع)، تحريفٌ كبير وغير شريف.

 

تحريف في متن إحدى الروايات

كتبوا أن رجلاً من قبيلة بني تميم، يدعى عبدالله بن حوزة، ركب يوم عاشوراء على فرسه متجهاً بسرعة إلى عسكر الإمام الحسين(ع)، فناداه أنصار الإمام(ع) بأنّ أمك ستجلس في عزائك! فإلى ما أنت مسرع؟ فأجاب: إني أقدم على ربّ رحيم وشفيع مطاع، فسأل الإمام الحسين(ع) أصحابه عنه، فقالوا: ابن حوزة، فدعا الله عليه أن يلقيه في النار، فغضب من دعاء الإمام الحسين عليه، فسقط من على فرسه، فعلقت رجله اليسرى بركاب الفرس، فيما ظلّت رجله اليمنى في الهواء، وسحبه الفرس، في هذا الوقت، صار مسلم بن عوسجة قريباً منه، فقطع رجله اليمنى بالسيف، وبينما كان فرسه يذهب به يمنةً ويُسرى، ارتطم رأسه شديداً بالأحجار والأشجار حتى تحطّم، ثم مات، فأرسل الله روحه بسرعةٍ إلى جهنم([82]).

إلا أنه وبمراجعة المصادر والنصوص الأخرى، يُعلم أن تحريفاً قد وقع في هذا الخبر، وأنّ جملة: إني أقدم على ربّ رحيم وشفيع مطاع، هي للإمام الحسين، إلا أن النسّاخ نسبوها – اشتباهاً – أو غيرهم إلى عبدالله بن حوزة؛ ذلك أنه لا يوجد أيّ تناسب بين هذا الرجل الجسور الضال وتلك الظروف المحيطة وهذه الجملة، والصحيح هو ما ذكرته بعض المصادر الأخرى للقصّة على الشكل التالي: «.. تقدّم رجل من القوم، يقال له: ابن حوزة، فقال: أيّكم حسين؟ فسكت الحسين(ع)، فقالها ثانية، فسكت، حتى إذا كانت الثالثة، قال(ع): قولوا له: نعم، هذا حسين فما حاجتك؟ قال: يا حسين! أبشر بالنار، قال: كذِبت، بل أقدم على ربّ غفورٍ وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قال: ابن حوزة..»([83]).

وبقية الخبر مذكور بقليل من التفاوت كما مرّ، ومن ملاحظة المصادر المختلفة يُعلم – إضافةً إلى التحريف المذكور – حصول تحريفات أخرى حوله، لا سيما فيما يخصّ أسماء الأشخاص، وقد بحث العلامة التستري في هذا المجال وحول الأسماء وأسماء عدّة شهداء آخرين من شهداء كربلاء، وكشف الستار عن بعض التصحيفات والتحريفات التي حصلت([84]).

 

وقفة مع تصحيف في زيارة عاشوراء

ثمّة في متن زيارة عاشوراء فقرة تُقرأ كما يلي: «اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين..»([85])، ومن الواضح أن تحريفاً ما قد حصل في هذه الفقرة، وأن الشكل الصحيح لها، إحدى صيغتين:

«اللهم العن العصابة التي حاربت الحسين(ع)»([86]).

«اللهم العن العصابة التي جاحدت ([87]) الحسين(ع)»([88]).

ذلك أنه من المحتمل أن يكون راوي زيارة عاشوراء أو غيره قد وقعوا في اشتباه عند سماعهم أو كتابتهم واستنساخهم لها، فسمعوا أو كتبوا خطأ عبارة «جاحدت» على نحو «جاهدت».

إلا أنّ الاحتمال الأكبر الأقرب إلى الواقع، هو الصورة الأولى، أي «حاربت»، وهي التي جاءت في «كامل الزيارات»، وهذا الكتاب الشريف، من تأليفات الفقيه والمحدّث الجليل القدر أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه (367هـ)، وإضافةً إلى كونه كتاباً معتبراً جداً ومستنداً أيضاً، وقد اهتمّ به علماء الشيعة اهتماماً خاصاً، فهو أقدم الكتب التي ذكرت متن زيارة عاشوراء، ومؤلّفه أقرب من جميع المؤلفين الذين كتبوا «جاهدت» إلى عصر النص؛ ذلك أنه وسط المصادر القديمة ليس هناك سوى كتاب مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي (460هـ) ذكر كلمة «جاهدت» وقد أخذها القمي وغيره في المفاتيح و.. عن مصباح الشيخ، إلا أنه – وكما مرّ – فإن ابن قولويه أسبق بقرنٍ من الشيخ الطوسي، وقد ذكر العبارة الصحيحة، ألا وهي «حاربت».

كما أنّ التركيز على مدلول كلتا الكلمتين: حاربت، جاهدت، يفضي إلى الاقتناع بصواب «حاربت»، وأنّ «جاهدت» لا يمكن أن تكون صحيحةً بأيّ وجه؛ ذلك أن جرائم أعداء الحسين(ع) وجناياتهم لا يمكن أن تسمّى جهاداً، فإذا راجعنا معاجم ألفاظ القرآن الكريم والصحيفة السجادية ونهج البلاغة، والمصادر المعتبرة، مثل الكتب الأربعة، نجد أنّ كلمة «جهاد» و «مجاهد» وسائر المشتقات كانت تستعمل – دائماً – في مضمون ذي طابع مقدّس، وكان توظيفها دوماً في الحروب الإيجابية، وهذه الكلمة – بما تحمله من مضمون مقدّس في النصوص الدينية – لا يمكن بأيّ حال أن تطلق على أعداء سيد الشهداء(ع) وقاتليه؛ فلا شك في أن جنايتهم كانت محاربةً، وأنّ مجرمي عاشوراء كانوا محاربين لله ورسوله ولسيد الشهداء(ع)، كما أن التدقيق في متن زيارة عاشوراء يعطي هذه النتيجة – أي حاربت – حيث يوجد فيها: «إني سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم».

كما أننا نجد تعبير المحاربة أيضاً في إحدى الزيارات المروية عن الإمام الصادق(ع) في يوم عاشوراء، فبعد ذكره(ع) مقدّمات لزيارة الإمام الحسين في عاشوراء، لا سيما بيانه للصلاة الخاصّة، يقول: تتوقف في مصلاك وتقول سبعين مرّة: «اللهم عذّب الذين حاربوا رسلك وشاقّوك، وعبدوا غيرك و..»([89]).

 

6ـ كل يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء

ينقل بعضهم هذه الجملة – دون مستند – عن لسان الإمام الصادق(ع)([90])، ولم نستطع العثور على مدرك لهذا الحديث المشهور جداً، بل وجدنا عدداً من الروايات والأحاديث الواردة في النصوص المسندة المعتبرة تعارض هذا المفهوم معارضةً واضحة؛ ونستعرض هنا بعض العيّنات من هذه الروايات:

1ـ الصدوق، بإسناده عن مشايخه، عن الصادق(ع)، عن أبيه الإمام محمد الباقر(ع)، عن جدّه الإمام زين العابدين(ع)، عن الإمام الحسن المجتبى(ع) في تنبّئه بشهاده أخيه الإمام الحسين(ع) أنه قال: «لا يوم كيومك يا أبا عبدالله»([91]).

2ـ الصدوق في حديثٍ آخر، بسنده إلى الإمام السجاد(ع) أنه قال: «لا يوم كيوم الحسين(ع)»([92]).

3ـ العلامة الحلّي – نقلاً عن أحمد بن يحيى البلاذري (279هـ) صاحب كتاب «أنساب الأشراف» – عن عبدالله بن عمر أنه قال: «لا يوم كيوم قتل الحسين»([93]). ومع هذا كلّه، لا ينقضي العجب بنسبة تلك الجملة الموضوعة (كل يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء) إلى الإمام الصادق(ع) بلا دليل ولا مستند، وذكرها على الملأ والعموم في وسائل الاتصال العامة وفي الاحتفالات الدينية، والترويج لها ونشرها، بل إن بعضهم يذكر بقدرٍ من التفصيل الزائد حين يقول: «كل يوم عاشورا، كل أرض كربلاء، كل شهر محرم، وكل فصل عزاء»([94])، غفلةً عن أن هذا الكلام لا أساس له ولا مستند، حتى على نحو الحديث المرسل أو المقطوع أو الضعيف الهزيل، والذي يبدو أنّ هذه الجملة إنما هي شعار أو شعر من شاعر ينتمي إلى حزبٍ ينادي بالحرب.

إنّ معنى هذا الشعار ومضمونه ينسجم مع فرقة الزيدية أو الكيسانية أو الإسماعيلية، أكثر من انسجامه مع مذهب العدل العلوي، أو مع التشيّع الحسني والحسيني والسجادي الأخضر، إننا نرى أنّ هذه الجملة لا تنسجم مع الشيعة الإثني عشرية والمذهب الجعفري، فرئيس مذهبنا وهو الإمام الصادق(ع) ـ كوالده الباقر(ع) ـ من أهم معالمه وميزاته البحث والدرس، بل إن الإمامة في المذهب الجعفري والإمامي تعني الهداية أكثر، والإمام يُعرف أكثر ما يُعرف بالعلم والمعرفة، على خلاف الفرقة الزيدية التي يتميّز الإمام فيها بالدم والسيف، فهم يعتقدون أن الشرط الأول والامتياز الأهم في الإمامة والإمام هو الثورة المسلّحة، وقيام الإمام بالسيف؛ ولهذا بدا لنا أن الجملة التي نتحدّث حولها منبثقة من التفكير الزيدي.

أما تفسير هذه الجملة بتواصل الخصام والتعارض بين الحقّ والباطل، فهو مغالطة ليس إلا؛ إذ حقّ المواجهة مع الباطل أن تكون دوماً بالعلم والمعرفة، والحقّ ينتصر دائماً بصراحة العلم وصدق المنطق، وهو ما يُرى بوضوح في السيرة الخضراء الناصعة لرادة الهدى والهداة الصادقين.

من مجلة نصوص معاصرة العدد الثامن

الهوامش

 




(*) باحث متخصص في دراسة المصادر التاريخية، وفي تاريخ الإمام الحسينB.

[1] – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 11: 43؛ وهاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار (المترجم إلى الفارسية بعنوان أخبار وآثار ساختكي): 145، 146.

[2] – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 4: 56 ـ 73.

[3] – المصدر نفسه 4: 73؛ وقد استمرّت هذه الحالة الخانقة سنين طويلة، حتى أنها شملت الأئمة المعصومين (، بحيث نجدهم أنفسهم يعبّرون عن الإمام الحسين بالرمز والكتابة، فيستخدمون ألقاباً عامة في حقه مثل: المظلوم، انظر: المحدّث النوري، مستدرك الوسائل 10: 253.

[4] – المحدّث القمي، تتمّة المنتهى: 241.

[5] – بولس سلامة، عيد الغدير: 281 ـ 282.

[6] – أكثر هذه الأشعار التي أنشدت في القرن الهجري الأول مذكورة في المجلد الرابع والخمسين من دائرة المعارف الحسينية، وقد عنونت بـ «ديوان الهاتف»، وهي مطبوعة منشورة؛ انظر: فرهاد ميرزا، قمقام زخّار: 509 ـ 531.

[7] – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 3: 249.

[8] – دائرة المعارف بزرك إسلامي 5: 274.

[9] – الخوارزمي، مقتل الحسين%1: 237.

[10] – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 7: 118؛ ودائرة المعارف الحسينية: ديوان القرن الأول.

[11] – تاريخ ابن خلدون 2: 621 ـ 622؛ ومقدّمة ابن خلدون: 205 ـ 216.

[12] – تاريخ ابن خلدون 2: 621؛ ومقدّمة ابن خلدون: 206.

[13] – إدريس الحسيني، الخلافة المغتصبة، أزمة تاريخ أم أزمة مؤرّخ: 182؛ ومقدّمة ابن خلدون: 212.

[14] – تاريخ ابن خلدون 1: 221؛ ومقدّمة ابن خلدون: 210.

[15] – مقدّمة ابن خلدون: 212.

[16] – هذا ما ذكره القاضي أبوبكر بن العربي في كتابه mالعواصمn.

[17] – مقدّمة ابن خلدون: 216.

[18] – المصدر نفسه؛ وهذا الكتاب طبع في الجزائر باسم mالعواصم من القواصمn، لكن ابن خلدون يطلق عليه الاسم المذكور أعلاه.

[19] – أكثر من خمسين شهيداً من شهداء كربلاء كانوا من أصحاب رسول الله 2، وقد تحدّثنا عنهم في mسيماي كربلا، حريم حريّتn.

[20] – نصر بن مزاحم، وقعة صفين: 436؛ وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 8: 77.

[21] – الشيخ المفيد، الإرشاد 2: 117؛ وأبو جعفر الطبري، دلائل الإمامة: 78؛ كما نقل تلاوة القرآن السيوطي في الخصائص الكبرى 2: 127.

[22] – هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 312.

[23] – المصدر نفسه.

[24] – نعمان القاضي، الفرق الإسلامية في الشعر الأموي: 373؛ نقلاً عن ميداني، مجمع
الأمثال 1: 179.

[25] – المامقاني، مقباس الهداية في علم الدراية 1: 196.

[26] – هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 198.

[27] – المامقاني، مقباس الهداية في علم الدراية 1: 400 ـ 401.

[28] – المصدر نفسه: 401، 410 ـ 412.

[29] – المصدر نفسه: 415.

[30] – الملا مهدي النراقي، محرق القلوب: 2، 3، نسخة خطيّة موجودة في مكتبة آية الله المرعشي النجفي، بالرقم المسلسل: 10069 (مع تلخيص).

[31] – المحدث النوري، اللؤلؤ والمرجان: 156.

[32] – مرتضى مطهري، حماسه حسيني (الملحمة الحسينية) 1: 44 ـ 45.

[33] – هذه الأوصاف مذكورة في مصادر معتبرة، راجع: الصدوق، الخصال: 68؛ والشوشتري، قاموس الرجال 6: 29؛ والمفيد، الإرشاد 2: 90، 95، 109؛ وابن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف (اللهوف): 151؛ وابن شهر آشوب، المناقب 4: 108؛ والسماوي، إبصار العين: 27؛ والمجلسي، بحار الأنوار 44: 298.

[34] – مطهري، حماسه حسيني 1: 44، 45.

[35] – سمعت هذا شخصياً من عدد من مدّاحي أهل البيت ( مراراً.

[36] – المامقاني، مقباس الهداية 6: 38.

[37] – أكثر هذه الروايات الواردة بهذا المضمون موجودة في اللؤلؤ والمرجان: 4 ـ 8.

[38] – راجع: المجلسي، بحار الأنوار 100: 293؛ والشجري، فضل زيارة عاشوراء: 65، 72، 75، 78.

[39] – المجلسي، بحار الأنوار 100: 184، 257، 293، 306، 337، 341، 342، وج 101: 19 ـ 42،
213، 267، 350 و..؛ وابن طاووس، مصباح الزائر: 261؛ والمحدث النوري، مستدرك الوسائل 10: 233، 250 ـ 298؛ والصدوق، ثواب الأعمال: 317 ـ 319.

[40] – نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

[41] – الحكيمي، الحياة 1: 25، نقلاً عن ابن شعبة في تحف العقول.

[42] – الحميري، قرب الإسناد: 36، ح 117؛ والصدوق، ثواب الأعمال: 101.

[43] – دانشيار شوشتري، حول البكاء على الإمام الحسين %: 111، نقلاً عن الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا، والطوسي في الأمالي؛ والأعرجي الفحام، أحسن الجزاء في إقامة العزاء على سيّد الشهداء 1: 152 ـ 156، نقلاً عن الصدوق في الخصال.

[44] – نخجواني، محمد علي، دعات الحسينية: 4، 5، طبعة بومباي، 1330هـ.

[45] – نقل إحدى هذه الروايات ابن طاووس بعبارة: mروي عن آل الرسولn، مما يجعلها مرسلةً وضعيفة السند. راجع: المجلسي، بحار الأنوار 44: 288، نقلاً عن اللهوف، كما جاءت الرواية الأخرى منقولةً عن مجاهيل في سندها، فانظر: المصدر نفسه: 282.

[46] – المجلسي، بحار الأنوار 44: 289، نقلاً عن كامل الزيارات وثواب الأعمال.

[47] – يلاحظ في هذا المجال كتاب السيد جعفر مرتضى القيّم، وهو mالمواسم والمراسمn: 82 ـ 85.

[48] – بل جاء في صريح رواية عن الإمام علي %: mالتزهّد يؤدي إلى الزهدn، راجع: الآمدي، غرر الحكم 1: 291.

[49] – المحدث النوري، اللؤلؤ والمرجان: 36، نقلاً عن غرر الحكم.

[50] – المحدث النوري، اللؤلؤ والمرجان: 38.

[51] – المصدر نفسه: 38 ـ 39 (مع تصرّف)، والجديد ذكره أن الجملة الأخيرة من هذا النص تعريضٌ بأولئك الذين يرتزقون باسم الحسين وعاشوراء، فيجعلون الدين دكّاناً لدنياهم، وهو ما تحدّث عنه أيضاً النوري في الصفحات الأولى من كتابه نفسه.

[52] – شير في اللغة الفارسية لها عدّة معاني، منها الأسد، ومنها الحليب (المترجم).

[53] – نهج البلاغة، الخطبة: 2؛ وانظر: محمد تقي جعفري، ترجمة وتفسير نهج البلاغة 2: 234.

[54] – إن مصطلح mلسان الحالn المتداول اليوم في أوساط قرّاء العزاء والمدّاحين يحكي عن هذه الظاهرة عينها.

[55] – لقد نشر هذا الكتاب من جانب mانتشارات إسلاميn التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم! وقد جدّد طبعه مرات عديدة! كما يصدق قولنا أعلاه على كتاب mديوان الإمام الحسينn المنشور أيضاً، والغريب أنّ هذين الكتابين ليسا خافيين على باحث المعارف الإسلامية.

[56] – مطهري، مرتضى، إنسان كامل: 130 ـ 131، 240 ـ 244.

[57] – محمد تقي جعفري، ترجمة وتفسير نهج البلاغة 8: 118، الطبعة الأولى، 1360ش/1981م.

[58] – چکيده مقالات کنكره بين المللي امام خمينی وفرهنك عاشورا: 152، الطبعة الأولى، لكنني لم أجد في أشعار أحمد شوقي (1351هـ) هذه الجملة، رغم أن معناها ومضمونها موجودٌ في ثنايا كلماته، وهذا الأمر ما يزال بحاجة إلى دراسة أكثر، وهو أنّ هذا الشعر مع شعر قادم mكل يوم عاشوراء..n ينتميان إلى مناخ شعري وشاعري واحد، والذي يبدو أن ناظمهما رجل واحد، أو رجلين من جماعة واحدة وأيديولوجيا مشتركة، وعلى أية حال، لا ينبغي الغفلة عن أن العقيدة بما هي عقيدة ليست مطلوبةً، كما أنها ليست مرفوضة بنحو مطلق، وإن الذين قبلوا هذا الشعر mإن الحياة عقيدة وجهادn ونشروه، لهم عقائد وأفكار مختلفة، رغم أن أكثرهم متّحدون في الرأي، إزاء محبّة الإمام الحسين وتكريمه، واختلاف الرأي لا يفسد في الودّ قضيّةً.

[59] – عابدين، محمد علي، مبعوث الحسين: 150، نقلاً عن الفتوح.

[60] – راجع: الحكيمي، محمد رضا، إمام در عينيت جامعة: 95، الطبعة السابعة، دفتر نشر فرهنك إسلامي، 1367ش/1988م.

[61] – سلمان هادي طعمة، تراث كربلاء: 53.

[62] – ديوان أبي الحب: 161، قم، انتشارات الرضي، الطبعة الأولى، 1371ش/1992م.

[63] – وهو السيد حسين الطباطبائي (1306هـ)، ولا يجدر الغفلة عن أن الأشعار المذكورة أعلاه ـ ممّن كانت ـ فهي تعريب وترجمة للمقاطع الاثني عشر المعروفة جداً لمحتشم الكاشاني (الشاعر المعروف)، والتي مطلعها المشهور بالفارسية:

باز اين چه شورش است كه در خلق عالم است     باز اين چه نوحه وچه عزا وچه ماتم است

[64] – صحتي سردرودي، سيماي كربلا، حريم حرّيت: 217.

[65] – ابن نما، مثير الأحزان: 28؛ والطبرسي، الاحتجاج 2: 99.

[66] – ابن شهرآشوب، المناقب 4: 68.

[67] – ابن طاووس، الملهوف: 170؛ والديلمي، أعلام الدين: 298.

[68] – الطريحي، المنتخب: 439؛ والدربندي، أسرار الشهادة: 409؛ وأشرف الواعظين، جواهر الكلام في سوانح الأيام 1: 382.

[69] – الطريحي، المنتخب: 379.

[70] – مطهري، حماسه حسيني 2: 218.

[71] – الدربندي، أسرار الشهادة: 426؛ وأدب الحسين وحماسته: 46.

[72] – ولعلّه ليس من البعيد أن يكون سبب شهرة الإمام السجاد بالإمام العليل هو هذا الشعر المصطنع المنسوب إلى الإمام الحسين.

[73] – محدثي، جواد، فرهنك عاشوراء: 470 ـ 472.

[74] – الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: 454 ـ 465، الطبعة الثانية، دار الكتب الإسلامية، 1395هـ، وهو خبر طويل، اقتطعنا منه ما يرتبط بعاشوراء.

[75] – المصدر نفسه: 461.

[76] – التستري، الأخبار الدخيلة 1: 100 ـ 101.

[77] – هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 248.

[78] – المصدر نفسه: 249.

[79] – الصدوق، كمال الدين: 454، الهامش.

[80] – المصدر نفسه: 457، 459، 460، 461، 463، 465.

[81] – المصدر نفسه: 457، الهامش.

[82] – انظر: الشيخ المفيد، الإرشاد 2: 102.

[83] – المحقق التستري، الأخبار الدخيلة 3: 191 ـ 192، الباب الأول في الفصل التاسع، نقلاً عن تاريخ الطبري وابن نما الحلّي، مثير الأحزان؛ وموسوعة كلمات الإمام الحسين %: 436، نقلاً عن تاريخ الطبري 3: 322؛ والكامل في التاريخ 2: 564، مع اختلاف بسيط في العبارات الأخرى، لا سيما في اسم ذلك الرجل المدعو: عبدالله بن حوزة.

[84] – التستري، الأخبار الدخيلة: 190 ـ 202.

[85] – المحدّث القمي، مفاتيح الجنان: 810، زيارة عاشوراء.

[86] – ابن قولويه، كامل الزيارات: 176، الباب 71؛ والتستري، الأخبار الدخيلة 4: 254.

[87] – جحد: أنكر، كذّب، وجاحدت: أنكرت، وعاندت، وكذّبت.

[88] – التستري، الأخبار الدخيلة 3: 318.

[89] – ابن طاووس، إقبال الأعمال 3: 67.

[90] – عزيزي، عباس، بيام عاشورا: 28، عن الصادق % دون مأخذ ومستند؛ وراجع: جواد محدّثي، فرهنك عاشوراء: 371.

[91] – الصدوق، الأمالي: 177؛ وإضافةً إليه نقل هذا الحديث علماء شيعة آخرون، فراجع: ابن نما الحلّي، مثير الأحزان: 23؛ وابن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف: 99.

[92] – الصدوق، الأمالي: 547.

[93] – العلامة الحلي، نهج الحق وكشف الصدق: 356.

[94] – وعلى هذا المنوال، لابد من القول أيضاً: وكل قتل شهادة، وكل إمامٍ حسين!

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً