أحدث المقالات

الصدر في عيون الغرب

إيمان شمس الدين

مقدمة:

الشهيد محمد باقر الصدر هو الفيلسوف والمرجع العراقي الذي اغتالته يد الغدر وأفقدتنا علما من أعلام المعرفة المعاصرة، التي طرقت أبوابا سبقت الزمان والمكان في كثير من أطروحاتها، حيث استطاع مناقشة إشكاليات عصرية لها امتدادات في عمق التاريخ، لكن أعاد طرحها الغرب من زاوية نظر مغايرة.

فنظرية الجبر والتفويض إشكالية طرحت في صدر العهد الأموي و تم توظيفها في تمكين السلطة وشرعنتها، وتقييد حرية الإنسان في الاختيار، وهدم كل قدرته في الرفض والثورة بتأويل لفقهاء السلطة يعزز من ولاية الحاكم ويربطها بشرعية إلهية يعتبر الخروج عليها هو خروج على الله. وبذلك يكون لا مدخلية للإنسان في صناعة الحدث التاريخي، ولا في تغيير الواقع.

و طرح المعنى نفسه لكن في عصرنا الحاضر من زاوية نظر أخرى عند علماء النفس السلوكي الغربيين، حيث يقول ريتشارد لوكس في دراسته المخصصة عن السنن التاريخية عند الشهيد محمد باقر الصدر حول الجبر في علم النفس السلوكي:

“ ثمة طرائق كثيرة تقود الناس إلى ما قد يسمى بـ”تصور جبري” للكون. بعض هذه الطرائق ديني قائم على نُسُقٍ كلامية لاهوتية وبعضها الآخر يعود إلى مدارس معاصرة في علم النفس السلوكي التي تختصر الإنسان في “كائن حي” لا يملك من أمره شيئاً إلا آليات الاستجابة للمحفزات من حوله، لا يختلف بذلك عن “جرثومة الأميبا”، اللهم إلا بمقدار تعقيد تركيبته وإن كان معادلاً لها في مستواه الوجودي والتي منها مدرسة علم النفس السلوكي الأميركية التي أسس لها سكينر وزملاؤه، والذين لم يروا في الإنسان إلا ردود فعل أوتوماتيكية بحسب آلية اتخاذ القرارات “المركبة” داخله، أي مجرد مجموعة من التشابكات العصبية و”آلات البث” الكهرو-كيميائية التي لا يمكنها إلا أن تستجيب للمحفِّزات بطريقة محددة تنتج عن “بنية الإنسان العقلية البيولوجية”. وبالتالي فمن الممكن لنا – بناء على هذه النظرة- التنبؤ بسلوكيات الإنسان وأفعاله “المجبور عليها” والمقررة له سلفاً في عين تركيبه البيولوجي الناجم عن الموروث الجيني والعوامل البيئية. كذلك يمكن للناس الوصول إلى نظرة جبرية للعالم إذا ما فهموا إحاطة قدرة الله وسعة علمه بأنهما يلغيان دور الفعل الإنساني إلغاءً تاماً.”

وتجدد طرح مسألة الجبر التاريخي في الغرب الذي اعتبر أن مصادر المعرفة الحس والتجربة، وسقط في خطأ المقايسات المغلوطة،فبعد اكتشافه لقوانين الطبيعة توهم أن الإنسان أيضا تنطبق عليه نفس القوانين، وأن لا مدخلية له في اختيار مسار التاريخ وصناعة الحدث.

وكانت أيضا هناك نقاشات كثيرة حول هذه الجزئية، إلا أن تناول الشهيد محمد باقر الصدر في ذلك الوقت لهذه المسألة العقدية المهمة، حول مسار الفهم تحويلا مهما في الفكر الإنساني.

ولكي نفهم ما أنجزه الشهيد في هذا الصدد لا بد لنا من معرفة الظروف المحيطة في زمانه، وكافة الملابسات التي من خلالها ننتزع تصورا كاملا حول ظروف محاكاة الصدر الأول لهكذا إشكاليات عقدية وفلسفية عميقة.

الصدر والنجف و أدوات المعرفة:

من داخل البيئة النجفية العلمية ومن أحضان الحوزة تخرج الشهيد محمد باقر الصدر حاملا في ثناياه تساؤلات وجودية مستحقة، لكنها ليست من وحي بيئته العلمية المحيطة الموغلة في عمق التراث والفقه والأصول، بل هي تساؤلات تنتمي لزمان معرفي تجددت فيه الإشكاليات والتساؤلات حول الإنسان ومحيطه، ورغم أنها تساؤلات ليست جديدة من حيث الجوهر، لكنها هذه المرة طرحت من زوايا جديدة تتعلق بفلسفة التاريخ ودور الإنسان في صناعة أحداثه. خاض الصدر في حقول الفلسفة رغم غيابها عن صفوف التدريس الحوزوية، واستطاع أن يضفي نكهة إبداعية معرفية جديدة في المنهج، حيث زواج بين الفلسفة والواقع وبين الحداثة والإسلام، لا مزاوجة ترقيع ولا انصهار ولا انبهار، بل مزاوجة معرفية تعارفية اتسمت بالتقوى الداخلية الشديدة للشهيد، والموضوعية العلمية الساطعة والناقدة في ذات الوقت.

كان الغرب يتموج و تجول أفكاره بين طرقات  الجبر التاريخي كمسلمة، حيث لا خيار للإنسان في هذا التاريخ وأحداثه، لا فعل بل انفعال جبري باتجاه مرسوم يؤدي فيه الإنسان دور المنفعل مع قوانينه.

هنا تدخل الشهيد محمد باقر الصدر، فنسج من أفكاره خيوطا ربطت بين العقيدة وعلم الاجتماع خيوطا تفعيلية لم تمس هالة القداسة الالهية، لكنها فعلتها في هذه الحياة وجلّت معالمها، لتظهر موقعية الإنسان كخليفة في مسرح الحياة و التاريخ، وتؤكد فاعليته التي تقع في طول فاعلية الله تعالى وتوظفها ببراعة تامة في التأكيد على دوره كإنسان متأله مزج بين أفكار السماء و أفكار الأرض ليفعل منهج القراءة الزمكانية بعقل بارع أصاب الغرب في مقتل فكري ملهم و حركي ليحرر إرادة الإنسان من اعتقال الجبر و سجن الطبيعة.

وظف الصدر أدواته المعرفية وفهمه العميق في العقيدة والفلسفة، ليوائم بين العقل كأداة معرفية محورية والنص الديني كمصدر معرفي وارد عبر وسائط من السماء، لكنه لم يهمل التجربة كرافد معرفي هام في الاطلالة على تلك الأصول من واقعه ومعطياته الزمانية والمكانية، فاستخدم مبضعه المعرفي في قراءة التجربة الغرببة في فهمها لفلسفة التاريخ، دون فصل تلك التجربة عن محملاتها المعرفية التاريخية، وقراءتها في سياقها المعرفي التاريخي، ومن ثم الدخول لمعالجتها بأدواته المعرفية وبموضوعية استطاعت وضع يدها على موضع الخلل الذي وقعت به التجربة المعرفية الغرببة.

فكان محمد باقر الصدر طالبا في حوزة النجف هذا الصرح العلمي الموغل في التاريخ الماضي والحاضر، وكان المحيط العلمي للشهيد مليئا بجهابذة فقه وأصول، لكنه بعيدا إلى حد كبير عن العلوم المعاصرة له خاصة تلك العلوم الغربية والفلسفات التي طرحت إشكاليات عقدية مهمة، كانت تشكل فيصلا عقديا هاما في تلك الفترة لجيل كبير من المثقفين الذين تأثروا إما بالشيوعية أو الفلسفات الغربية، مع غياب واضح للمواكبة العلمية من قبل الحوزة، واكتفاءها بخوض المسائل الفقهية والأصولية في جو تقليدي بعيد عن المواكبة إلى حد كبير.

طرح الصدر في ظل هذه الأجواء التي غاب فيها حضور القرآن عن التدريس والتفسير، نظريته حول التفسير الموضوعي للقرآن، وبعد ذلك استحضر تطبيقا عمليا لهذه النظرية بعنوان السنن التاريخية في القرآن الكريم استطاع من خلالها أن يعالج إشكالية عصرية عقدية حول الجبر التاريخي، حيث اعتقد الغرب أن لا مدخلية للإنسان بصنع التاريخ، ولا قوانين تحكم التاريخ، مما يعطل إرادة الإنسان واختياره الحر، ويظهره مسلوب الإرادة ومجبرا مسيرا.

ولهذا الاعتقاد وجها آخرا يحقق في عمقه ولا وعي العقل البشري سيطرة خفية على المجتمعات، لكن بطريقة علمية وليست فتوائية.

ففي العهد الأموي عطل فقهاء السلطة تحت سياط الفتوى إرادة الإنسان وجعلوه مجبرا فمكنوا لبني أمية سلطانهم. أما الغرب فغرسوا في اللاوعي البشري أيضا نظرية الجبر التاريخي، وغياب القوانين الحاكمة له، بعد أن أنكر كبار فلاسفتهم نظام العلة والمعلول، واعتبروا أن التاريخ يسير بشكل جبري لا مدخلية للإنسان في صناعة أحداثه، وبذلك قيدوا حركة الإنسان نحو التغيير، وبنوا في إدراكه قناعات تصب في صالح هيمنة القوي العالمية. وكانت النظرية التاريخية التي سادت ساحة الفكر الغربي هي النظرية التاريخية المادية أي الديالكتالية.

وبرع الشهيد محمد باقر الصدر في الرد على هذه الإشكالية من خلال نظريته في سنن التاريخ، حيث عرضها على القرآن واستقرأ إجاباته المنهجية ليخرج برؤية تقريبية تعالج هذه الإشكالية وتجيب على تساؤلات كثيرة.

 

بين جبر الغرب و وقراءة الصدر:

كتب ريتشارد لوكس عالم الاجتماع الأمريكي محاولة معرفية لاستقراء فكرة التغيير التي طرحها العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه: “السنن التاريخية في القرآن الكريم”، بعنوان “ الأسس الكلامية الإسلامية للتغييرـ  مقاربة لنظرية “السنن التاريخية” عند العلامة محمد باقر الصدر.

 أطل من خلالها على بعض وجوه هذه النظرية الاجتماعية محاولا تقديمها كفهم عميق ومعقد للساحة التاريخية، في ظل تشابكات في فهم تلك الساحة بين فهم قوانين الطبيعة وتعميمها على الساحة التاريخية، وعدم قدرة الإنسان صناعة التاريخ وكتابته، وهي قناعة الغرب في رؤيته للتاريخ وقوانينه.

وقد قال في تلك الدراسة: “إن رسالة السيد محمد باقر الصدر: “السنن التاريخية في القرآن”، لافتة للنظر بقدر ما هي قصيرة. فلقد حاول أن يصل إلى حل –في الإطار الإسلامي طبعاً- للمشكلة الكلامية القديمة المتعلقة بالقضاء والقدر وحرية الإنسان. ولربما كان الاختصار الذي امتاز به تصوره في هذا العمل هو سبب نجاح نموذجه المرسوم فيه.

ولكن قبل دراسة آليات هذا النموذج وطريقة الصدر الممتازة في عرضها، من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار الهدف العام الذي يسعى هذا الجهد إلى تحقيقه؛ فهذه الرسالة في الأساس هي إسلامية في أساسها ومنظورها يدور حول طبيعة التغير التاريخي حين تتزاوج الإرادة الإنسانية مع توجهات غائية نحو مثال أعلى في العقل الإنساني. وبهذا يصبح تغيير مسار التاريخ ممكناً، ويشكل هذا بحد ذاته “سنَّة إلهية” هي في نفس الآن السنَّة التاريخية. باختصار شديد، إن عمل الصدر الفريد هذا يتركز على فهم معضلة التغيير في علم الكلام الإسلامي. وهكذا يبدأ الصدر عمله من دون كثير مناقشة للسنن الإلهية التاريخية هذه والنظريات حولها ومصادرها وتطوراتها.

شكل موضوع الإرادة الحرة والاختيار موضوعا جدليا مع القضاء والقدر والجبر والتفويض، حيث تم تفسير هذه القضاايا العقائدية بطريقة تعطيلية بحجة خلوص التوحيد، وسخرت هذه التفاسير في تعطيل التغيير الاجتماعي ونهضته، في تسليم المجتمعات الاسلامية للحكام تسليما مطلقا أدى لشيوع الظلم وغياب العدالة وهدر كرامات الناس، وتعطيل مسيرة التقدم البشري في المجالات العلمية والفكرية.

فكان تولي الحاكم الغير صالح للسطلة يتم تفسيره بأنه جبر إلهي لا خيار للإنسان فيه، وأي نهوض ضد ه مهما كان فاسدا أو منحرفا وظالما فهو نهوض ضد الله.

فتم توجيه اللاوعي البشري بشكل تعطيلي، راكم من عملية الصمت والقبول عبر التاريخ، وراكم القناعات في الأوساط العلمية حول تلك التفاسير المعطلة لإرادة الإنسان وقدرته في الاختيار الحر.

بالتالي انعدمت الهدفية وصناعة الحاضر والمستقبل من أفهام الناس وتطلعاتهم، وحينما تنعدم الهدفية تنعدم معها الإرادة ويخبو عزم الإنسان ليرضى بما هو عليه الحال بحجة أنها قدر الله وقضائه، ولا خيار لهم أمام خيار الناس.

وبقي تفسير التاريخ وفلسفته رهينا لهذه الآراء المعطلة مدة زمنية طويلة، طرحت خلالها تساؤلات منهجية في قراءة التاريخ ومحاولة معرفة قوانينه ودور الإنسان وإرادته في صناعته، ولكن كان للشهيد محمد باقر الصدر جولة معرفية هامة في هذا الميدان، وتكمن أهميتها في إحداث انزياح معرفي متقدم في وعي النخب، شكل هذا الانزياح من وجهة نظري فتحا معرفيا هاما في الساحة التاريخية أبدع فيه بإحداث توازن في فهم التوحيد وتحقيق العدالة الإلهية.

أقحم الصدر إرادة الإنسان واختياره بقوة في صناعة التاريخ وإحداث التغيير وفق أهداف هو يرسمها في ذهنه ثم ينهض لتحقيقها وتذليل السبل لأجل الوصول إليها وفق شروط معينة كي تتحقق السنن التاريخية.

وهو من وجهة نظري رسم خارطة طرق تاريخية وفق سنن انتزعها من القرآن، ولكل طريق يختاره الإنسان نهاية هو يشكلها بخياره. واستطاع بعمق أن يجلي رد الإمام على الجبريين والمفوضة حينما قال: لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين الأمرين.

فلا إلغاء لله وقضائه وقدره، ولا إلغاء لدور الإنسان واختياره، فالله رسم المعالم وشاء أن لا تتم العلة التامة للسنة التاريخية إلا باختيار الإنسان وإرادته.

وقد طرح الشهيد الصدر مثالا قرآنيا لأحد أنواع السنن التاريخية  حول عملية التغيير الاجتماعي ودور الإنسان فيه.

“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وهي سنة قرآنية تاريخية ثابتة تتحدث عن سنة التغيير الاجتماعي وشروطها المحورية التي تكمن في أن يعمل مجموعة كافية على تغيير المحتوى الداخلي لكل فرد ليتوافق مع الإرادة لإلهية ومن ثم يحققون بذلك الشرط لتحقيق الهدف وهو التغيير الاجتماعي في الساحة الاجتماعية بحيث ينسال التغيير الداخلي لتلك المجموعة إلى الخارج الاجتماعي، فإن تحقق وسعوا للتغيير فإن هذا الهدف سيتحقق لا محال.

تفسير الشهيد الصدر لهذه السنة التاريخية القرآنية تفسير حركي ناهض، يحقق خلافة الإنسان على الأرض ويدفع نحو التطوير المستديم الذي تتطلبه عملية الكمال التي خلق لأجلها الإنسان.

فحينما تتوافر الشروط الكاملة والتي محورها إرادة الإنسان واختياره لتحقيق هدف التغيير ومن ثم سعيه الحر لتوفير كافة الشروط فإن تكامل كل هذه الشروط يحقق لا محال هدف التغيير الإجتماعي، وهو فهما مغاير جدا لما ساد في قرون زمنية سابقة. وفي تفسير الشهيد محمد باقر الصدر للسنن التاريخية قفزة معرفية هامة في مفهوم التوحيد والعدل الإلهي.

كون تحقيق حاكمية الله على الإض لا تكون بالظلم وإنما بالعدل، وهذا لا يتم إلا بسعي الإنسان وإرادته لتحقيق الحاكمية الإلهية بسيادة العدل، بالتالي يحتاج ذلك فهم حركي للنص يفسر فلسفة التاريخ على ضوء القرآن ويستجلي عمق التوحيد في المجتمع من خلال الجامعية بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية لتكون في طول بعضها البعض لا في عرض بعضها البعض كما طرحه المتقدمون لتمكين الحكام الفاسدين من رقاب الناس ولو بسيادة الظلم وإن بعناوين توحيدية. فالله هو الفاعل والمفيض لكل تلك السنن والقوانين، والإنسان هو القابل، بالتالي فاعلية الفاعل تستلزم قابلية القابل، والقابلية في حال نهضت وتهيأت ستكون ساحتها جاهزة لفاعلية الفاعل فيها وفق ما أفاضه من قوانين وسنن.

وقد وقع الغرب في فخ الجبر مجددا حينما طبقوا فهمهم للطبيعة وملابساتها وإخضاعها معرفيا للحس والتجربة علي فهم التاريخ، وأنكروا أي دورلإرادة الإنسان الحرة في صناعة التاريخ وحركة  التغيير.

 دراسة ريتشارد لوكس حول الأسس الكلامية الإسلامية للتغيير سلطت الضوء على رؤية الشهيد محمد باقر الصدر حول السنن التاريخية في مقارباته حول التغيير، وروى حكاية الصدر وإبداعه في هذا الصدد.

يقول لوكس في دراسته: يعكف السيد الصدر على الأجوبة، ليصف سنن التاريخ هذه بأنها مشتقة من القرآن نفسه، سواء من حيث أهمية آياته، أو من حيث الاصطلاحات المستخدمة لتوصيفها. لذا يبدأ بإيضاح وجهين أو اعتبارين لهذه السنن، الأول يتعلق بالله تعالى فقط، ولذلك فهو “فوق” منظور التاريخ، أما الثاني فهو مرتبط بالبشر وتالياً بالمساعي الإنسانية القائمة على الإرادة والاختيار، يقول في هذا الصدد:

… “القرآن الكريم ليس كتاباً كسائر الكتب، ولم يقدم نفسه ليجمِّد في الإنسان طاقات النمو والإبداع والبحث، وإنما هو كتاب هداية. لكن مع هذا يوجد فرق جوهري بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون. هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سننها أمراً مرتبطاً أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هداية، وذلك خلافاً لبقية الساحات الكونية الأخرى للمعرفة البشرية. ومع أن القرآن الكريم كتاب هداية إلا أنه يختزن عملية تغيير عُبِّر عنها في الآيات بإخراج الناس من الظلمات إلى النور. وعملية التغيير هذه فيها جانبان: الجانب الأول: جانب المحتوى والمضمون، في ما تدعو إليه هذه العملية التغييرية من أحكام ومناهج وما تتبناه من تشريعات. وهذا الجانب من عملية التغيير هو جانب رباني سماوي يمثل شريعة الله سبحانه التي نزلت على النبي محمد (ص) وتتحدى بنفس نزولها كل سنن التاريخ المادية، لأن هذه الشريعة كانت أكبر من الجو الخاص الذي نزلت فيه، ومن البيئة التي حلت فيها، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تكليفها.

الجانب الثاني: عملية التغيير التي أطلقها النبي (ص) وأصحابه الأطهار. هذه العملية ينبغي أن تُلحظ بوصفها عملية اجتماعية متجسدة في جماعة من الناس هم النبي والصفوة من الصحابة، وبوصفها عملية واجهت تيارات اجتماعية مختلفة من حولها واشتبكت معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي الاجتماعي والسياسي والعسكري. حينما تؤخذ هذه العملية التغييرية بوصفها تجسيداً بشرياً واقعاً على الساحة التاريخية، ومترابطاً مع الجماعات والتيارات الأخرى التي تكتنف هذا التجسيد، والتي تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد، من هذه الزاوية تكون عملية بشرية، حيث يكون هؤلاء أناساً كسائر الناس تتحكم فيهم إلى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات وفي بقية الفئات على مر الزمن.

إذن، عملية التغيير القرآنية التي مارسها النبي (ص) ذات وجهين كما يبين السيد باقر الصدر: أولاً، من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي هي ربانية، فوق التاريخ؛ وثانياً، من حيث كونها عملاً قائماً على الساحة التاريخية، أو من حيث كونها جهداُ بشرياً يقاوم جهوداً بشرية أخرى تعتبر عملاً تاريخياً تحكمه سنن التاريخ، وتتحكم به الضوابط التي وضعها الله سبحانه لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية… لذا لا تتخيلوا – كما يذكر الصدر- أن النصر حق إلهي لكم، وإنما النصر حق طبيعي لكم، بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب السنن والشروط المنطقية التي وضعها الله سبحانه كونياً لا تشريعياً… فالكلام هنا كلام مع بشر، مع عملية بشرية لا مع رسالة ربانية. بل ان القرآن الكريم يذهب إلى أكثر من هذاـ يهدد هذه الجماعة البشرية التي كانت أنظف وأطهر جماعة على مسرح التاريخ باستبدالها بغيرها ما لم تقم بدورها التاريخي، أو إذا لم تكن على مستوى مسؤولية رسالة السماء. هذا لا يعني أن تتعطل رسالة السماء، ولا يعني أن تسكت سنن التاريخ عنهم، بل ثمة عملية تغيير تتم عبر عملية الاستبدال الإلهي للجماعة البشرية المقصَّرة. إن سنن التاريخ سوف تعزل تلك الجماعة، وسوف تأتي بأمم أخرى تهيأت لها الظروف الموضوعية الأفضل كي تلعب هذا الدور لكي تكون شهيدة على الناس إذا لم تتهيأ لهذه الأمة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة: “إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)” (سورة التوبة 39) “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)” (سورة المائدة: 54).

إذن، فالقرآن الكريم إنما يتحدث من خلال هذا الوجه الثاني في عملية التغيير، مع البشر في ضعفه وقوته، في استقامته وانحرافه، في توفر الشروك الموضوعية له وعدم توفرها[1].

إن ما صاغه الصدر هنا، بالإضافة للكلمات التي اختارها، ومع أنه مستمد من القرآن مباشرة إلا أن مضامينه راديكالية بكل معنى الكلمة. وما أعنيه براديكالية هو أن الذين كانوا سيتوصلون إلى هذه النتائج المنطقية من هذه الآيات القرآنية لا يتجاوزون القلة اليسيرة. أي القول بأن المسؤولية الإنسانية القائمة على تكليف الإرادة البشرية إنما يشمل حتى النبي وأصحابه؛ أي في سياق إيصال “الرسالة السماوية” التي تقول ان الناس إذا فشلوا في إيجاد الظروف الموضوعية المؤدية للنصر وإيصال الرسالة، فمن المتصور أن تؤخذ الرسالة منهم وتعطى مسؤولية تبليغ الإسلام إلى مجتمع آخر. بالطبع يظهر التاريخ أنهم نجحوا آخر الأمر، ولكن التكليف الوارد في الآيات يشير إلى أن هذا –وعلى الأقل بالنسبة لمتلقِّي الرسالة- لم يكن أبداً أمراً مفروغاً منه خاصة أنه يعتمد على صراع الإنسان مع نفسه ومع الآخرين. وبالطبع فإن المضمون الأكبر لهذه النظرة، هو أن التاريخ حمّال أوجه بالنسبة إلى البشرية جمعاء؛ يتماهى هذا مع طبيعة القرآن الجوهرية ككتاب هداية يسعى إلى إخراج الناس “من الظلمات إلى النور”، أي إنه ببساطة: كتاب تغيير.

وعلى ما أورده السيد الصدر، فإن التاريخ الإنساني قابل لمجموعة مميزة للغاية من السنن المتعلقة باجتماع الإرادة الإنسانية مع الجهد الموجَّه نحو هدف مستقبلي. ولعل أحد أبرز وجوه هذه النظرية هي أن النصر أو الهزيمة في جميع مساعي الإنسان يعتمد على توفير الإنسان “الشروط الموضوعية”، أو الظروف الموضوعية لتحقيق مسعاه.”

وهنا يبرز بشكل جدا جلي أن هذه السنة القرآنية في عملية التغيير الاجتماعي تشمل حتى الأنبياء، بل هم الأولى بها كونهم بعثوا لإحداث التغيير الاجتماعي وتحقيق النهضة والعدالة، بالتالي هم الأولى في تقديم نموذج في تجلية هذه السنن الإلهية وتأدية تكليفهم على أكمل وجه، في توفير كل الشروط الموضوعية لتحقيق هذا الهدف الإلهي المنشأ، والبشري الطموح والسعي.

ولا أعتقد أن ما توصل إليه الشهيد محمد باقر الصدر يمكن توصيفه بالراديكالي إلا من وجهة نظر الكاتب، فالسنن قوانين تحكمها شروط كي تتحقق، وهي بذلك لا تميز بين أفراد البشر، بل كسنة مرتبطة تكوينيا بالنظام الكوني، فلتحقيق النتيجة (الهدف ) لا بد من إحراز المقدمات ومجموعة الشروط الموضوعية، وإرادة الإنسان وهدفيته هي شروط لتحقيق العلة التامة لإحداث التغيير الاجتماعي، كما أن المطر كي يحدث لابد من توافر مجموعة من الأسباب والشروط وبدونها لا ينزل المطر.

وكما استطاع علماء الطبيعة الوصول لمرحلة التحكم في قوانين الطبيعة، وتوفير شروط ومتطلبات المطر، كذلك يستطيع الإنسان التحكم ورسم مصيره وقدره، من خلال هذا النظام السنني القرآني، الذي شاء الله تعالى أن يكون بإرادة واختيار الإنسان، وهذا لا ينفي التدخل الإلهي بل يعني تحديد المساحة الكبيرة في هذه الحياة الدنيا ليمثل الإنسان فيها وظيفته الاستخلافية، حيث الاستخلاف كي يتم كوظيفة لابد من توفير مجموعة شروط وأهما إرادة الإنسان وهدفيته وحرية اختياره، وهنا يقول ريتشارد حول هذا الموضوع:

“تعمل السنن التاريخية بالترافق مع السنن الطبيعية، لذا يمكن لبعض السنن التاريخية، ان تؤدي إلى حصول سنن كلية أو طبيعية أخرى، ويمكن لهذه الأخيرة أن تكون لها نتائج إيجابية أو سلبية للإنسان، فالله تعالى يُظهر قدره من خلال سننه هذه، بل يمكن القول إن عمل هذه السنن هو عمل القدر نفسه.

إن ما ينتج عن هذه النظرية هي أن الإنسان يشكل أفكاره وأهدافه، وبالتالي أفعاله، على أساس غايته، أو ما أسماه السيد الصدر: “مثله العليا”. قد تكون هذه المثل هي الله تعالى نفسه، أو قد تكون الشر، أو قد تكون الكسب الدنيوي، ولذلك يتوجب على المسلم أن يقوم بالجهاد الأكبر، جهاد النفس، حتى يستوثق من أن محتواه الداخلي متوجه إلى الله تعالى وليس إلى الحياة الدنيا. على جميع الأحوال فليس بالكافي أن يغير فرد أو فردان أو عدد محدود من الأفراد محتواهم الداخلي ليؤثروا في التاريخ، بل يتطلب الأمر عدداً كافياً من الأفراد من أصحاب العقليات المتشابهة، أن يعملوا سوية ليؤثروا في مجتمع كامل من الناس وبالتالي ليغيِّروا مسار التاريخ.”

لكن الكاتب يحاول مطابقة فهم الشهيد الصدر للسنن التاريخية مع الفهم الغربي لها وهو ما عرف بالمادية التاريخية أو الديالكتيكية فيقول:

“فإذن، من حيث الوظيفة التي تحملها السنن عموماً والسنن التاريخية خصوصاً فإن هذه النظرية تجعل الإسلام، والقرآن، على علاقة متسقة مع القراءة المادية للتاريخ؛ أو –كما أكد السيد الصدر- فإن القرآن يستبق ويتوقع ويؤكد على قراءة للتاريخ تشابه معها ما أصبح يعرف لاحقاً بـ”المادية التاريخية أو الديالكتيكية”. لذلك تلعب السنن التاريخية دوراً مزدوجاً: فمن ناحية هي تتيح المجال أمام المسلمين كي يقوموا بقراءة “علمية” لجميع الأحداث التي يمكن لها أن تستوعب فقط من خلال “العقل”، كما تحل إشكالية كلامية كبرى هي مفهوم القضاء والقدر على أنه عمل إرادة الله والتي تجري ببساطة عبر ظواهر و”قوانين” موضوعية قابلة للرصد في الكون بدلاً من أن تلعب وظيفة تتطلب تفسيراً غيبياً. أما الدور الثاني والأهم فهو أنه من الواضح أن المراد بهذه النظرية هو توجيه المسلمين إلى العمل في المستوى والمجالات والتوجهات ذاتها التي تشغل الماديين؛ إذ توضح هذه النظرية أن نجاح الماديين (المراد بهم هنا: “الغربيين”) وخاصة في المجال العلمي التكنولوجي هو نتيجة رصدهم الصحيح وتحكمهم بهذه السنن؛ وبينما كان ابن خلدون سباقاً لهذا الفهم، فقد “ضيع” المسلمون جهده بينما قامت المدارس الأوروبية بالتوصل عبر جهودها إلى هذه السنن والقوانين ذاتها  والتي –بحسب وجهة النظر هذه- ليست إلا ما أعلنه القرآن ودعا إليه. فما يقوله السيد الصدر هنا باختصار أن المدرسة المادية توصلت إلى النتائج ذاتها التي أخبر عنها القرآن، والتي كاد ابن خلدون أن يتوصل إليها في نظريته حول التاريخ.”

وهنا أول الكاتب فهم الشهيد الصدر للسنن التاريخية القرآنية في التغيير الاجتماعي تأويلا ماديا ليتوافق مع تفوق الغرب المادي، ويؤكد عليه محتجا بالقرآن، ولكن فاته أن ما توصل له الصدر هو في الشأن الاجتماعي الإنساني والذي لا يتوافق مع غلبة الغرب المادية في المجالات التكنلوجية والعلمية، حيث أن السنن الطبيعية تختلف في قوانينها من حيث الشروط والملابسات عن السنن التاريخية، فالإولى هي قوانين خاصة بالعلوم الطبيعية يكون دور الإنسان فيها فقط الربط وتوفير الشروط لإحداث النتيجة، بمعنى أن تحقق شرط سابق يترتب عليه تحقق النتيجة بشكل تكويني طبيعي، بينما ما عناه الشهيد الصدر يكون فيها الوجود في ذهن الإنسان، فالإنسان هنا هو الموجد للهدف وهو المختار للوسيلة وهو المحقق للغاية، فهدف كالتغيير إن لم يكون هدفا للإنسان وفق مجموعة شروط أهمها البناء الداخلي للإنسان والوجود الذهني للهدف أي الوعي، ومن ثم توفر مجموعة كافية أيضا عملت على داخلها ليصبح وفق إرداة الله تعالى، ومن ثم سارت وفق أدوات صالحة لتحقق هدف التغيير فإن الهدف لن يتحقق. بينما في التفوق التكنلوجي والعلمي لا يتطلب الأمر نهضة داخلية وتزكية داخلية، ولا يتطلب مجموعة كافية ووسائل سليمة، يكفي لشخص أن يكشف قانون طبيعي ويعمد بعد ذلك لإحداث نهضة علمية وتكنلوجية حتى لو كان غير صالح في بنائه الداخلي، نعم هناك شبه خارجي في الفكرة حول الصراع بين الطبقات أو النماذج والمناهج والقديم والحديث في عملية التغيير، ولكن الجوهر مختلف تماما وأيضا كثير من الشروط تختلف.

فالمنطلق القرآني يجعل المحور والأصل هو الله، والإنسان هو فاعل في الساحة الإلهية باختياره وإرادته وفق ما أرادت مشيئة السماء أن يكون عليه الحال في هذه الدنيا، وكي تتحقق العملية التغييرية وفق الرؤية القرآنية فلابد للداخل الإنساني أن ينتظم وفق إرادة الله ”المثل الأعلى”، ووفق مجموعة الشروط الأخرى التي ذكرها الصدر في نظريته.

وهو ما لم يكمله الكاتب في دراسته حول مقاربته عن نظرية الصدر في التغيير، والتي أشار لها الشهيد في كتابه المدرسة القرآنية حول الاختلاف الجوهري بين المجتمع الغربي والمجتمع الإسلامي والذي خصصه بعنوان عناصر المجتمع.

وحدد معالم الاختلاف والتشابه، وكان الاختلاف الجوهري يكمن في العلاقة المعنوية بين الإنسان والله، والتي تغيب في المجتمع الغربي وتحضر بقوة في المجتمعات الإسلامية، وهنا جوهر الاختلاف القاعدي والذي يؤدي إلى حتمية الاختلاف الفوقي مهما تشابهت الظواهر.

نعم لا ننكر فعليا فهم الغرب لجانب من النظرية القرآنية كون القرآن لا يختلف مع العقل بل يكمل العقل وينميه كونه الفاعل المدرك في الدنيا، لكن الغرب بما توصل إليه بعقله وبحثه كان فقط في الجانب المادي العلمي، لكنه أخفق بعمق في الجوانب المعنوية والتغييرات الإجتماعية لتحقيق النظام الأكمل لسعادة الإنسان، وهو ما عناه الشهيد الصدر في محاولته لكشف السنن التاريخية قرآنيا ودفع المجتمعات للتغيير ولكن وفق محورية الله في موضوع التغيير لا محورية الإنسان فقط، حتى يتحقق النظام الأكمل للسعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة.

ونختم هنا هذه الإطلالة السريعة علي الدراسة بما قاله الكاتب ريتشارد حول ساحة السنن التاريخية كما يراها الشهيد محمد باقر الصدر، والتي توضح واقعية الفرق الجوهري في رؤية الشهيد عن النظرية الديالكتيكية والمادية فيقول:

فإن العلاقة التي يتميز بها العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو أنه عملٌ هادفٌ، ويرتبط بعلة غائية سواء كانت هذه الغاية صالحة أو مذمومة، نظيفة أو غير نظيفة. وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول تؤثر من خلال وجودها الذهني في نفس العامل لا محالة، فتمنحه بذلك من الطموح والتطلع المستقبلي ما يستطيع معه أن يجسد ذلك الوجود الذهني حقيقة خارجية. إذن المسستقبل أو الهدف الذي يشكل غاية النشاط التاريخي يؤثر في تحريك النشاط وفي بلورته من خلال الوجود الذهني، أي من خلال الفكر الذي يتمثل فيه الوجود الذهني للغاية، حينئذ يؤثر في إيجاد هذا النشاط.

إذن، لقد حصلنا الآن على مميز نوعي للظاهرة التاريخية غير موجود بالنسبة إلى سائر الظواهر الأخرى على ساحات الطبيعة المختلفة، وهذا المميز يتمثّل بظهور علاقة فعل بغاية، ونشاط بهدف، بحسب التعبير الفلسفي. كون المستقبل يحرك هذا الفعل من خلال الوجود الذهني، أي الفكر الذي يرسم للفاعل غايته. وإذن فموضوع السنن النوعية للتاريخ هو ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يمثل عملاً له غاية، عملاً يحمل علاقة إضافية إلى العلاقات الموجودة في الظواهر الطبيعية، وهي العلاقة بالغاية والهدف، وبالعلة الغائية[2].

وهذا التمييز الواضح لا يلغي التغيير السلبي، بل يوضح أن الهدف والغاية سواء كانت إيجابية أو سلبية فهي شرط مهم للتغيير الاجتماعي، سواء كان تغييرا سلبيا أو إيجابيا، وما طرحته حول الغرب والإسلام في نظرية الشهيد الصدر في ردي على الكاتب، هو للتمييز بين التغيير الاجتماعي الآيجابي ببعديه المعنوي والمادي، والتغيير الاجتماعي الإيجابي وفق بعده المادي فقط، وأن المطلوب بالتغيير في القرآن هو الأول حتى يكون تغييرا ثوريا يشمل المجتمع والفرد والحياة المحيطة.

خاتمة:

تكمن أهمية دراسة السنن التاريخية التي أبدعها الشهيد محمد باقر الصدر في عصرنا هذا، في تحرير الإرادة الرنسانية وتوجيهها إلى الطريق الأفضل لإحداث التغيير الإيجابي في حيوات المجتمعات، خاصة أن الثورات الأخيرة التي حدثت في بعض المجتمعات العربية، كان هدفها التغيير لتحقيق العدالة الإجتماعية، لكنها لم تحرز الشروط الكاملة لتحقيق الهدف.

وتوفير كافة الشروط في حركة التغيير الاجتماعي يضمن تحقيق هدف التغيير في بعديه المعنوي والمادي، وغياب هذه الرؤية الناظمة لعملية التغيير هو غياب للتغيير الحقيقي، مهما ظهر لنا من مظاهر تغيير مادية، لذلك بعض الثورات خاصة تلك الاجتماعية وإن بدت في ظاهرها ناجحة رغم عدم توافر كافة الشروط، إلا أنه اوفق رؤية الشهيد الصدر للسنن التاريخية، أن هذا النجاح يكون وقتيا ذو مدة محددة كونه يتحدى السنة الإلهية الحتمية، بالتالي سيصل إلى مرحلة انكفاء وعودة المسار إلى السير التاريخي وفق سننه.

فالغرب اليوم تفوق بعد أن فهم السنن الطبيعية للكون، وأدرك أيضا كثير من الطبيعة البشرية وعلاقتها بالكون، لكنه لم يرتكز في هذا الإدراك على وعي كامل لحقيقة الرؤية الكوينية وعلاقة الإنسان في بعد أنكره تماما هو البعد الإلهي ودوره في تسيير التاريخ من خلال مجموعة القوانين والسنن.

وهذا تحدي لسنن الله في التغيير التاريخي للمجتمعات الإنسانية، هذا التحدي ينجح لمدة زمنية محددة لكنه ما يلبث أن ينكفئ لتعود مسيرة التاريخ وفق القوانين القرأنية.

فالسير الطبيعي الكوني والإنساني في التغيير الاجتماعي لا بد أن يشمل التغيير في بعديه المعنوي والمادي، والداخلي ومن ثم الخارجي، وهو ما يحقق غاية التغيير الاجتماعي والسير نحو النهضة والكمال.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً