أحدث المقالات

      مدخل

من المسائل الخلافية بين السُّنّة والشيعة أنفسهم هذه المسألة.

قال أبو القاسم الخرقي: مسألة: (ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء).

وذيّله محمد بن أحمد بن قدامة في «الشرح الكبير»: الجهر في هذه المواضع مجمع على استحبابه، ولم يختلف المسلمون في مواضعه. والأصل فيه فعل النبيّ|. وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السلف. فإنْ جهر في موضع الإسرار وأسرّ في موضع الجهر ترك السنّة، وأجزأه. وقال القاضي: إنْ فعل ذلك عامداً صحّت صلاته في ظاهر كلامه. ومن أصحابنا من قال: تبطل، وإنْ فعله ناسياً لم تبطل…

قال الخرقي في «المختصر»: مسألة «يسرّ القراءة في الظهر والعصر، ويجهر بها في الأوليين من المغرب والعشاء والصبح كلّها»([1]).

وذيّله عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة في «المغني» بقوله: الجهر في مواضع الجهر والإسرار في مواضع الإسرار لا خلاف في استحبابه. والأصل فيه فعل النبي|… فصلٌ: وهذا الجهر مشروع للإمام، ولا يشرع للمأموم، بغير اختلاف؛ وذلك لأن المأموم مأمور بالإنصات للإمام والاستماع له، بل قد منع من القراءة لأجل ذلك. وأمّا المنفرد فظاهر كلام أحمد أنه يخيَّر، وكذلك مَنْ فاته بعض الصلاة.

وفي «المختلف» ـ مسألة 93 ـ: المشهور بين علمائنا وجوب الجهر في الصبح وأوّلتي المغرب وأوّلتي العشاء، والإخفات في البواقي، فإنْ عكس عامداً عالماً وجب عليه إعادة الصلاة.

وقال ابن الجنيد: يجوز العكس، ويستحبّ أن لا يفعله([2]). وهو قول السيد المرتضى في المصباح([3]). لنا ما رواه زرارة ـ في الصحيح ـ عن الباقر×: في رجلٍ جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال: أيّ ذلك فعل متعمِّداً فقد نقض صلاته، وعليه الإعادة. وإنْ فعل ذلك ناسياً، أو ساهياً، أو لا يدري، فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته([4])؛ ولأن الاحتياط يقتضي وجوب الإتيان به؛ اذ المصلّي جاهراً في ما يجهر فيه يخرج عن عهدة التكليف بيقينٍ، ولا يقين بالخروج مع عدمه.

احتجّ ابن الجنيد بالأصل، وبما رواه علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى×، قال: سألتُه عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه أن لا يجهر؟ قال: إنْ شاء جهر؛ وإنْ شاء لم يفعل([5]).

والجواب عن الأوّل أن الأصل مع الدليل الذي ذكرناه متروك. وعن الثاني أنه محمولٌ على الجهر العالي. قال الشيخ: هذا الخبر موافقٌ للعامّة، ولسنا نعمل به، وإنما العمل على الحديث السابق([6])([7]).

أقول: يبدو أن القول المشهور بين أهل السنة هو استحباب الجهر، والقول المشهور بيننا هو وجوبه. والأدّلة منحصرة في ما ذكره المختلف.

قال الصدوق في مَنْ لا يحضره الفقيه: واجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في جميع الصلوات، واجهر بجميع القراءة في المغرب والعشاء الآخرة والغداة، من غير أن تجهد نفسك، أو ترفع صوتك شديداً. وليكن ذلك وسطاً؛ لأن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾. ولا تجهر بالقراءة في صلاة الظهر والعصر؛ «فإنّ مَنْ جهر بالقراءة فيها، أو أخفى بالقراءة في المغرب والعشاء والغداة، متعمِّداً فعليه إعادة صلاته؛ فإنْ فعل ذلك ناسياً فلا شيء عليه»، إلاّ يوم الجمعة في صلاة الظهر، فإنه يجهر فيها([8]).

أقول: التدقيق في ما وضعته بين القوسين يقوّي في الذهن أنّ الصدوق& أخذ هذه العبارة من رواية زرارة([9])، فلا يمكن لنا أن نقول: وصلت إليه أخبار أو أدّلة لم تصل إلينا.

قال المفيد في المقنعة: ومن السنّة أن يجهر المصلّي بالقرآن في صلاة الغداة والركعتين الأولتين من صلاة المغرب والركعتين الأولتين من صلاة العشاء الآخرة ونوافل الليل كلّها، ويخافت بالقرآن في صلاة الظهر والعصر، ولكن لا يخافت بما لا تسمعه أذناه من القرآن. ومَنْ تعمّد الإخفات في ما يجب فيه الإجهار، أو الإجهار في ما يجب فيه الإخفات، أعاد. والإمام يجهر بالقراءة في صلاة الجمعة، يسمع منه القرآن المأمومون و… ومَنْ صلّى الجمعة منفرداً جهر بالقرآن، كما يجهر به لو كان إماماً([10]).

 

   وقفةٌ

إنّه& لم يعيِّن الصلوات التي يجب فيها الجهر، والتي يجب فيها الإخفات. والكلام الذى سبق منه بأنّ «من السنّة أن يجهر….» ظهوره في الاستحباب أكثر منه في الوجوب؛ إذ مضافاً إلى ظهور لفظ «السنّة» في الاستحباب قد ذكر في الصلوات الجهرية «نوافل الليل»، مع أن النافلة بنفسها مستحبة، فضلاً عن الجهر فيها. وأيضاً قال في كلام آخر قبله: «والسلام في الصلاة سنّة، وليس بفرضٍ، تفسد بتركه الصلاة. والتوجُّه بالتكبيرات السبع على ما ذكرناه في أوّل كل فريضة سنّة، مَنْ تركه فيها أو في غيرها من النوافل، واقتصر من الجملة على تكبيرة الافتتاح، أجزأه ذلك في الصلاة. والتكبير للركوع والسجود سنّة. وكذلك رفع اليدين به. وليس ينبغي لأحد تركه متعمّداً. وإنْ نسيه لم تفسد بذلك الصلاة. والقنوت سنّة وكيدة، لا ينبغي لأحد تركه مع الاختيار، ومَنْ نسيه فلم يفعله قبل الركوع فليقضِه بعده. وسجدتا الشكر والتعفير بينهما من السنن، وليس من المفترضات([11]). وأيضاً قال في كلام بعده: «وصلاة الليل سنّة وكيدة»([12]).

وعلى أي حالٍ لا يمكن أن ينسب إلى الشيخ المفيد أنه يرى وجوب الجهر بالقراءة في صلوات المغرب والعشاء والصبح، أو ينسب إليه أنه يفتي بإخفات القراءة في الصلاتين النهاريتين، الظهر والعصر.

فما فعله الشيخ الطوسي في التهذيب([13]) من الإتيان بالروايتين الماضيتين في ذيل كلام المفيد (ومَنْ تعمد الإخفات في ما يجب…) يحتاج إلى تأمُّل.

قال الشيخ في النهاية: وينبغي للمصلي أن يجهر بالقراءة في صلاة المغرب والعشاء الآخر والغداة، فإنْ خافت فيها متعمِّداً وجبت عليه إعادة الصلاة. ويخافت في الظهر والعصر، فإنْ جهر فيهما متعمّداً وجب عليه إعادة الصلاة. وإنْ جهر في ما يجب فيه المخافتة أو خافت في ما يجب فيه الجهر ناسياً لم يكن عليه شيء….

ويستحب أن يجهر بالقراءة في نوافل صلاة الليل أيضاً، فإن لم يفعل فلا شيء عليه. وإن جهر في نوافل النهار لم يكن به بأس، غير أن الأفضل في نوافل النهار المخافتة. وليس على المرأة الجهر بالقراءة في شيء من الصلوات([14]).

أقول: ظاهر كلمة «ينبغي» الاستحباب. ولكنّ صريح «وجبت عليه إعادة الصلاة» أو «وجب عليه إعادة الصلاة» هو وجوب الجهر في الجهرية، والإخفات في الإخفاتية، وكون مراعاتهما شرطٌ للصحّة. فالمسألة محتاجة إلى تأمّل أكثر.

والتتبُّع في كلمات الشيخ& يعطي أنه استعمل «ينبغي» في مطلق الطلب، و«لا ينبغي» في المكروهات، نظير: «والإمام ينبغي أن يُسمع مَنْ خلفه القراءة، ما لم يبلغ صوته حدّ العلوّ»([15])، أو «ينبغى أن يرتّل الإنسان قراءته»([16])، أو «ولا ينبغي أن يكون على فم الإنسان لثامٌ في حال القراءة»([17]).

وعلى هذا فكلام السيد أبي القاسم الخوئي&، القائل بأنّ «ينبغي» وإنْ كان ظاهراً في الرجحان والاستحباب، ولكن «لا ينبغي» غير ظاهر في الكراهة…، بل معناه لا يتيسَّر ولا يجوز، المساوق للمنع([18])، محلّ إشكال.

 

   النتيجة

الذي يقوى في الذهن أن الجهر والإخفات ليسا من الأمور الوجوبية باصطلاحنا اليوم؛ إذ أهل السنّة كلهم قالوا باستحبابه. فلو كان أمراً واجباً لكان ينبغي أن يكتب في كتاب الخلاف، المعدّ للمسائل الخلافية، ولم يكتب فيه. ولكنْ في بعض المسائل عبرّ بوجوب الجهر، فيلزم صرفه عما نفهمه اليوم إلى تأكّد الاستحباب. قال: «يجب الجهر بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» في الحمد، وفي كل سورة بعدها. كما يجب بالقراءة. هذا في ما يجب الجهر فيه. فإنْ كانت الصلاة لا يجهر فيها استحبّ أن يجهر بـ «بسم الله الرحمن الرحيم»»([19]).

أو نقول: إنّ لفظ «هذا في ما يجب الجهر فيه» يعلن بأن الجهر واجب في بعض الصلوات، ولكنْ غير معلوم في أيّ صلوات. فيمكن أن يكون مورده النذر. مثلاً: إن نذر أن يصلّي صلاة الفجر أو المغرب جهراً فيجب… وهذا التوجيه يأتي بالنسبة إلى عبارة المفيد& في «المقنعة»، التي تقدّمت. وهذا التوجيه وإنْ كان بعيداً في نفسه، لكنْ بما أن هذه المسألة لم تكتب في الخلاف مستقلّةً، ولم تأتِ ـ ولو بنحو الإشارة ـ في «الانتصار»([20])، مع أنه معدّ للمسائل الخلافية أيضاً، وعبَّر عنه في المقنعة بالسنّة، فالعبارات الظاهرة في الوجوب يجب صرفها عن ظاهرها.

والشاهد على ذلك أنّه لا يوجد في رواياتنا الصلوات الإخفاتية أو الجهرية، بل أكثر شيء يوجد عبارة عن «الصلاة التي يجهر فيها»، أو «يخافت فيها»، أو «إنْ جهر الإمامُ فكذا»، كما سيأتي. فمعلوم أن الجهر والإخفات لم يكن واجباً حتى يصبح وصفاً للصلاة، كما نراه اليوم في الكتب الفقهية العصرية والرسائل العملية.

فعلى أيّ حال الجهر والإخفات يكون من السنن، وتخلّفه لا يبطل الصلاة، ولو حصل عن عمد. نعم، إنْ رجع تخلّفه إلى رفض سنّة النبيّ| فهذا شيء آخر؛ إذ لا يجوز لأحد إبطال سنته.

 

   الروايات

1ـ عن الرضا× في حديث أنه ذكر العلّة التي من أجلها جعل الجهر في بعض الصلوات دون بعض، فقال: إن الصلوات التي يجهر فيها هي في أوقات مظلمة، فوجب أن يجهر فيها؛ ليعلم المارّ أن هناك جماعة. فإنْ أراد أن يصلّي صلّى؛ لأنه إنْ لم يرَ جماعة علم ذلك من جهة السماع. والصلاتان اللتان لا يجهر فيهما إنّما هما بالنهار، في أوقات مضيئة، فهي من جهة الرؤية لا يحتاج فيها إلى السماع([21]).

أقول: للمناقشة في مضمون هذا الحديث الشريف مجالٌ واسع؛ إذ لو كانت الظلمة علّة وجوب الجهر، وكانت غايته مجيء الناس إلى الجماعة، فكلاهما منتفٍ اليوم؛ إذ لا يوجد ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ مكانٌ يُصلّى فيه وتكون ظلمته شديدة، بحيث يكون الصوت أدّل على وجود المصلّي من النظر والرؤية.

وأيضاً ـ في عصرنا هذا ـ الإعلانات والأفلام وغيرهما تدلّ على وجود الجماعة في مكان كذا بأبين وجه، ولكنْ مع ذلك الناس مشتغلون عن الصلاة، وإنْ كانوا واقفين قرب المصلّى. فليس للعلة وجهٌ، ولا للغاية.

إنْ قلتَ: هذه حكمةٌ، والحكم لا يدور مدار الحكمة.

قلتُ: هذا صحيحٌ، ولكنّ المفروض أنّه لا دليل آخر على وجوب الجهر والإخفات. وسائر الأدلّة أيضاً مغشوشة، كما سيأتي.

إنْ قلتَ: لعلّ المراد ظلمة السماء، لا ظلمة المساء، المانعة من الرؤية.

قلتُ: مضافاً إلى أن هذا خلاف صريح الرواية، يلزم منه أن يصلّى في المناطق القطبية ستة أشهر كلّ الصلوات جهاراً، وستة أشهر أخرى يصلّون كلها إخفاتية، سواء كانت الصلوات جماعة أم غيرها، وسواء كانت نيّته الظهر والمغرب أم غيرهما.

2ـ ويؤيّد كون المراد هو الظلمة المانعة من الرؤية الرواية الثالثة في الباب: سأل يحيى بن أكثم أبا الحسن الأوّل عن صلاة الفجر، لِمَ يجهر فيها بالقراءة، وهي من صلوات النهار، وإنّما يجهر في صلاة الليل؟ فقال×: لأنّ النبيّ| كان يغلس بها؛ لقربها بالليل([22]).

3ـ سأل محمد بن حمران أبا عبدالله×، فقال: لأيّ علّة يجهر في صلاة الجمعة وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الغداة، وساير الصلوات، مثل: الظهر والعصر، لا يجهر فيها؟… فقال: لأنّ النبيّ| لما أسري به إلى السماء كان أوّل صلاة فرض الله عليه الظهر يوم الجمعة، فأضاف الله عزّ وجلّ إليه الملائكة تصلّي خلفه، وأمر نبيّه| أن يجهر بالقراءة؛ ليتبيَّن لهم فضله، ثمّ فرض عليه العصر، ولم يُضِفْ إليه أحداً من الملائكة، وأمره أن يُخفي القراءة؛ لأنه لم يكن وراءه أحد. ثمّ فرض المغرب، وأضاف إليه الملائكة، فأمره بالإجهار، وكذلك العشاء الآخرة. فلمّا كان قرب الفجر نزل، ففرض الله عليه الفجر، فأمره بالإجهار؛ ليبيِّن للناس فضله، كما تبيَّن للملائكة. فلهذه العلة يجهر فيها([23]).

أقول: للمناقشة في الاستدلال بمضمون هذا الحديث مجالٌ واسع؛ إذ الأمر بالإجهار للنبيّ|؛ ليتبيَّن فضله للملائكة، لا يدلّ على وجوب الجهر علينا؛ إذ نحن إمّا نصلّي منفرداً، فلا يوجد أحد حتى يظهر فضلنا عليه، وإمّا نصلّي جماعة، فمجرّد قراءة الحمد لا يدّل على فضلٍ؛ إذ كلّ الناس يستطيعون أن يقرأوا. وأيضاً إظهار الفضل ليس واجباً، ولا راجحاً، بل يكون مرجوحاً. فالرواية لو دلّت على شيء لدلّت على رجحان الجهر في صلاة الجماعة، سواء كانت الصلاة من الصلوات الليلية أو النهارية، يستمع المأموم القرآن. والرواية السابقة أيضاً كانت تدلّ على رجحان الجهر في الصلوات الليلية؛ لأجل أن يلحق المارّ بالجماعة. فبالنتيجة لو لم يكن الجماعة ولا مظنّتها فلا رجحان للجهر، ولا تكليف. فعليه أن يصلّي كما يحبّ، جهراً أو إخفاتاً. ولكن الأحسن أن يصلّي متعارفاً، كما في قوله تعالى ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 110).

4ـ في المجالس بإسناده قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله|، فسألوه عن مسائل (إلى أن قال) : وسألوه عن سبع خصال، منها: الإجهار في ثلاث صلوات؟ فقال: أمّا الإجهار فإنه يتباعد لهب النار منه بقدر ما يبلغ صوته، ويجوز على الصراط، ويعطى السرور حتّى يدخل الجنة([24]).

 

  تأمُّلات

لو كان لهذا الخبر سندٌ صحيح لكان بإمكاننا أن نُثبت وجوب الجهر في ثلاث صلوات. وبما أن المعلوم هي المغرب والعشاء والصبح تكون المسألة ثابتة بدليل. ولكن الشأن كلّ الشأن في سند الحديث؛ إذ أوّلاً: هذا السنخ من الأحاديث، الذي فيه: جاء نفرٌ من اليهود، وفي آخره يقولون: «صدقت»…، خيالات شخص جاء على القرطاس من دون دليل وحجّة عقلية مقنعة. ولا وجود لهذه الأمور بين اليهود حتّى يسألوا، ولا هذه الأجوبة صحيحة في نفسها. وأيضاً هذه الرواية مشوّقة لرفع الصوت غايته؛ إذ فيه: «يتباعد لهب النار منه بقدر ما يبلغ صوته»، مع أن القرآن ينهى عن رفع الصوت، ويقول: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾. فالحديث مخالفٌ للقرآن، فهو مردودٌ من هذه الجهة أيضاً.

5ـ روى رجاء بن أبي الضحّاك عن الرضا× أنّه كان يجهر بالقراءة في المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الليل والشفع والوتر والغداة، ويخفي القراءة في الظهر والعصر([25]).

أقول: الفعل لا يدلّ على الوجوب، بل يدلّ على الجواز، واستمرار الفعل يدلّ على الرجحان. ولكنّ المهمّ أنّه× كان يصلّي الصلوات الواجبة كلّها في جماعة، ورجاء وغيره كانوا ممّا يحضرون صلاته في مسيره× من المدينة إلى خراسان. فيصير الحديث موافقاً لما فهمنا من الحديثين 1 و2 من نفس الباب. مضافاً إلى هذا ينبغي أن نعرف أنّ الإمام× كان يصلّي صلاة الليل والشفع والوتر أيضاً جهراً، مع أنّ استحباب الجهر فيها، دون الوجوب، واضح.

6ـ عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى×، قال: سألتُه عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه أن لا يجهر؟ قال: إنْ شاء جهر؛ وإن شاء لم يفعل([26]).

أقول: متن السؤال مجملٌ، لا ندري لماذا لم يقُلْ: سألته عن الصلوات الجهرية هل عليه شيء أن لا يجهر؟ ولا ندري أيضاً لماذا استعمل كلمة «على»، مع أنّ المناسب كان كلمة «لـ»، أي حقُّ السؤال؛ بقرينة الجواب، هو: «سألتُه عن الصلوات الجهرية هل له أن لا يجهر»؟ والإمام أجاب: نعم، يجوز له أن لا يجهر، وإن الجهر والإخفات باختياره.

فالسؤال مبهمٌ. ولكنْ مع ذلك الجواب واضحٌ، ويدلّ على أنّ الجهر والإخفات باختيار المكلَّف.

فلم نجد إلى الآن دليلاً يدلّ على وجوب الجهر في أيٍّ من الصلوات، والإخفات في الأخرى.

7ـ عن زرارة، عن أبي جعفر×: في رجلٍ جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه؟ فقال: أيّ ذلك فعل متعمّداً نقض صلاته، وعليه الإعادة. فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته([27]).

أقول: في بعض النسخ «نقص صلاته»، بدل «نقض».

 

    نقدٌ وتعليق

السند صحيحٌ. والدلالة على رجحان الجهر في بعض الصلوات، والإخفاء في بعض آخر أيضاً ظاهرةٌ. ولكنّ الدلالة على الوجوب قابلٌ للنقاش؛ إذ لعلّ الأمر بالإعادة لأجل درك الأفضلية، وهو مناسب لنسخة: «نقص صلاته». ولو فرض أن المراد بطلان الصلاة فليس المعلوم أنّها الصلوات اليومية، حتّى يكون بعض من الخمس واجب الجهر وبعض آخر واجب الإخفاء؛ إذ يمكن أن يكون بطلانها مرتبطٌ بأمر آخر، وهو النذر بالجهر أو اليمين، أو مرتبطٌ بوجوب الجماعة، فيجب الجهر فيها، كالجمعة والعيدين. ولعلّ وجوب الإخفاء ناشئٌ عن مزاحمة حقوق الآخرين، فيجب الإخفات فيها.

ولكنّ الإنصاف أنه لا يخلو عن ظهورٍ في وجوب الجهر في بعض الصلوات، والإخفات في بعض آخر. ولكن سيأتي في ذيل الحديث التالي بأنّه من المحتمل جدّاً أن يكون هذان الحديثان واحداً. وهذا الحديث يكون كمفهوم لذاك، وقد أخطأ الراوي في أخذ المفهوم، فانتظر.

8ـ عن زرارة، عن أبي جعفر×، قال: قلتُ له: رجلٌ جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الجهر فيه، أو أخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه، وترك القراءة في ما ينبغي القراءة فيه، أو قرأ في ما لا ينبغي القراءة فيه؟ فقال: أيّ ذلك فعل ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه([28]).

 

    نقدٌ وتفنيد

السند صحيحٌ. والرواي والمرويّ عنه والسؤال في هذين الحديثين واحد. فالذي يقوى في الذهن أنهما حديثٌ واحد، ولكنْ في أحدهما الراوي، أو الراوي عن الراوي، تمسَّك بمفهوم كلام الإمام، حسب فهمه، وفي الثاني نقل المنطوق. فمن الممكن أن يكون قول الإمام هو «أيّ ذلك فعل ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه»، ولكنّ الراوي أخذ مفهومه على حدّ فهمه، وقال: إنْ فعل متعمّداً عليه الإعادة، مع أنه من الممكن أنّ الإمام× قصد إنْ فعل ناسياً فلا شيء عليه، أي لا ينقص من أجره وثوابه شيء، وإنْ فعل متعمّداً فقد نقص أجر صلاته.

فعلى أيّ حال من البعيد أن ننسب إلى زرارة أنّه سأل مسألة واحدة مرّتين من إمام واحد، ونقل لحريز كلا السؤالين والجوابين المختلفين، ولم يتنبَّه هو ولا حريز إلى منافاتهما.

وأبعد منه أن ننسب إلى الإمام× بأنّه أجاب بجوابين مختلفين، غير قابلين للجمع. فهذا ليس من باب تعارض النصّين، بل أحدهما صادرٌ يقيناً، والآخر مفهومٌ يقيناً.

فيلزم أن نأخذ أحد الحديثين مفهوماً للآخر. وبما أن سائر الأحاديث تدلّ على وجوب الإعادة لمَنْ جهر في موضع الإخفات، أو عكسه، فهنا أيضاً يقوى هذا الاحتمال، بأن يقال: الخبر الأوّل لم يكن صحيحاً موافقاً للأسلوب، ويؤيِّده تكرار كلمات لا فائدة فيها في الأوّل، نظير: «نقض صلاته، وعليه الإعادة»، أو «فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته»، مع أن «نقض صلاته»، و«قد تمّت صلاته»، غير مفيد في الكلام، فهو مناسب لأن يكون من توضيحات الرواي. وكذلك لا يبعد أن يكون قوله: «أيّ ذلك فعل متعمّداً» من كلمات الراوي، دون الإمام.

فعلى أيّ حال المتن الثاني ـ أي الحديث 8 ـ يكون أفصح وأبين، وخالياً من الزائد، فهو أنسب بأن يكون صادراً عن المعصوم. وعليه لا دلالة على الإعادة إنْ تعمّد الجهر في موضع الإخفات، أو عكسه، ولكنْ ينقص أجره؛ لأنه ترك السنّة؛ وإن ترك نسياناً فلا ينقص أجره. وهذا هو المراد من قوله×: «فلا شيء عليه».

 

 

الهوامش

([1]) المغني 1: 606.

([2]) المعتبر: 175.

([3]) المعتبر: 175.

([4]) تهذيب الأحكام 2: 162، ح635؛ الاستبصار 1: 313، ح1163.

([5]) التهذيب 2: 162، ح636؛ الاستبصار 1: 313، ح1164.

([6]) المصدر نفسه، ذيل الحديث.

([7]) مختلف الشيعة 2: 170.

([8]) من لا يحضره الفقيه 1: 308.

([9]) التهذيب 2: 162، ح635.

([10]) المقنعة: 141.

([11]) المقنعة: 139.

([12]) المقنعة: 141.

([13]) التهذيب 2: 162، ح635 و636.

([14]) النهاية ونكتها 1: 306.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) المصدر السابق: 303.

([17]) المصدر السابق: 307.

([18]) مستند العروة الوثقى 5: 234.

([19]) الخلاف 1: 331.

([20]) الانتصار: 143 ـ 144.

([21]) وسائل الشيعة 4: 763، باب 25 من أبواب القراءة، ح1.

([22]) وسائل الشيعة 4: 764، باب 25 من أبواب القراءة، ح3؛ علل الشرائع 2: 323، باب 13.

([23]) وسائل الشيعة 4: 764، ح2.

([24]) وسائل الشيعة 4: 765، باب 25 من أبواب القراءة، ح4.

([25]) وسائل الشيعة 4: 765 ، ح5.

([26]) وسائل الشيعة 4: 765، ح6.

([27]) وسائل الشيعة 4: 766، باب 26 من أبواب القراءة، ح1.

([28]) وسائل الشيعة 4: 766، ح2.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً