بين الإسلام والزَّمن المتحوِّل
شهدت العقود القليلة المنصرمة وثبة معرفية لافتة في ميادين الفكر الإسلامي المعاصر. ولم تقتصر العلاقات المميزة لهذه "الوثبة" على ما عُرِفَ تقليدياً بالتجديد الذي أطلقه روَّاد النهضة في بدايات القرن العشرين. بل، أضافت إلى محاولات التجديد حقولاً أخرى فرضتها طبيعة التعاطي، ومنجزات المراحل المتأخرة من الحداثة.
يدخل، في هذا النطاق المعرفي، ما وضعه المفكر الإسلامي د. طه جابر العلواني عبر كتابه الجديد: "الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر"(1)، فلقد ذهب فيه إلى المنطقة الأكثر اشتعالاً في السجال الدائر بين النخب العربية والإسلامية؛ أي تحديداً إلى إشكال التواؤم بين الإسلام والزمن المتحوِّل، ولا سيما لجهة جدل التنافر والاتحاد بين ما هو خاص محلي وبين ما هو عام وعالمي.
عند المفكر العلواني، سيظهر لنا أن الفكر الإسلامي استطاع في وقت مبكر تجاوز هذه الثنائية، فاستوعب الأكثر من العناصر المعرفية الموروثة من الحضارات اليونانية، والفارسية، والهندية، وعمل على توطينها ودمجها في بيئته الخاصة، كما استوعب مختلف الأديان والثقافات والتقاليد في الجغرافيا البشرية والثقافية الواسعة في زمنٍ امتدّ فيه الإسلام من الأندلس إلى الصين.
ثم إن التاريخ لم يحدثنا عن أن المسلمين حرصوا على إبادة ثقافات الشعوب المنخرطة في الإسلام. بل كانت تلك الشعوب تتمثل الإسلام في سياق ميراثها الثقافي. وسرعان ما يغدو الإسلام واحداً من المكوِّنات الأهم لشخصيتها الحضارية، كما تدلِّ على ذلك الإنثروبولوجيا الثقافية التاريخية لهذه الشعوب.
وبوسعنا الاطلاع على مرتكزات منهاجية، ومفاهيم مفتاحية خاصَّة بقضايا الخصوصية والعالمية في أبحاث هذا الكتاب، الذي يتألف من عدة أبحاث أنجزها الدكتور العلواني خلال السنوات الماضية.
وعلى ما يبيّن الدكتور عبدالجبار الرفاعي، رئيس تحرير فصلية: "قضايا إسلامية" معاصرةً"، فإنَّ الشيخ طه العلواني عالج قضايا التعددية والتنوعية، والخصوصية والعالمية، وثنائية الأنا والآخر، الآخر الداخلي والآخر المختلف، من منظور فقهي. تلتمع في ثناياه رؤيا منهاجية معرفية
معالجات منهجية معرفيَّة فقهيّة
ولذلك يمكن أن توصف هذه الأبحاث – على رأي الرفاعي – بأنها معالجات منهاجية منهجيّة فقهية للخصوصية والعالمية.
وربما نجد مثل هذه المحاولة في تراثنا الفقهي، غير أنها تفتقر إلى المقاربة المنهاجية المعرفية، ولا تحرص على الإفصاح عن ثغرات المواقف الفقهية، وتعبيرها عن النمط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي السائد في العصر الذي جرت صياغتها فيه. وهذا ما يجعل كتاب "الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر" متميزاً في رؤيته النقدية لفقه السلف، وتحليله لأثر العوامل التاريخية المختلفة في تكوينه، وبالتالي قصوره عن الوفاء بالدور المرتقب منه في الزمن الراهن.
المقدمة المنطقية لكتاب العلواني، والتي يبني أطروحته عليها، يمكن اختصارها، كما جاء على لسان المؤلف كما يأتي:
"مما لا شك فيه أن الإسلام اليوم يُقدَّم إلى أهله ولغير أهله، بشكل لا يتناسب وعظمته وقدرته، وذلك من خلال فقهاء التراث والفقه الموروث، الذي مثّل محاولات فقهائنا في التاريخ معالجة مشكلات مجتعاتهم الزراعية البسيطة، أو الرعوية، أو ذات التجارة الفردية المعتمدة على التبادل البسيط للمنافع في تلك المجتمعات. لكن حين يراد لهذا التراث وهذا الفقه أن يستجيب لحاجات معقدة لمثل هذا النوع من المجتمعات المعاصرة أو اقتصادياتها، فإننا نكلفه ما لا يطيق. وفي الوقت نفسه نكلف أولئك الفقهاء ونضع في عقولهم وعلى ألسنتهم معالجات مفتعلة لقضايا ما عرفوها، ولم يفكروا أو يجتهدوا فيها، فهي مسائل وعلاقات لم تكن في زمانهم. وكيف يقدّمون حلولاً لمشاكل لم تخطر ببالهم؟ والقول سوف ينعكس على الإسلام وعالميته انعكاساً سلبياً، فلا ينفي عنه عالميته فحسب، بل يظهره بأنه دين لا يصلح إلاّ لمجتمعات قروية ورعوية بسيطة، أو لمجتمعات بادية".
جدل الإسلام والآخر
على امتداد ستة فصول، سعى المؤلف إلى ما يشبه استكمال أطروحاته في جدل الإسلام والآخر، وفي مقدمة هذه الأطروحات تلك التي أطلق عليها "أسلمة المعرفة"، وهي أطروحة تدخل عميقاً في اهتمامات العلواني الفكرية والمعرفية، حيث سبق له أن ألَّف كتاباً تحت هذا العنوان إلى جانب عدد من الكتب الأخرى، مثل "مقدمة في إسلام المعرفة"، و"مقاصد الشريعة"، وقد صدرت ضمن السلسلة التي تصدرها مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ بضعة أعوام.
تحمل الفصول الستة لكتاب "الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر" العناوين الإشكالية الآتية:
1 – التعددية.. أصول ومراجعات بين الاستتباع والإبداع.
2 – الإسلام والتعايش السلمي مع الآخر.
3 – الإسلام والغرب.. حوار أم صراع؟
4 – فكرة المواطنة في المجتمع الإسلامي.
5 – مشكلتان وقراءة فيهما.
6 – حاكمية الكتاب، وفيه: الحاكمية الإلهية في التصور الإسرائيلي – تطلع بني إسرائيل إلى التخفيف – الحاكمية الإلهية في النصرانية – الحاكمية الإلهية والرسالة الخاتمة – الفرق بين الحاكمية الإلهية وحاكمية الكتاب – الحاكمية كمفهوم تحريضي.
ينطلق المؤلف، في سياق الكلام على جدل الإسلام والآخر، من ثنائية الحوار والصراع. ثم يرجِّح مبدأ الحوار بوصفه أساساً في الجدل الإسلامي.
فالحوار مفهوم بناه القرآن المجيد أولاً في الحضارة الإسلامية، وغرسه في تصور المسلمين وفي رؤيتهم الكلية، وجعله جزءاً من بنائهم العقلي والنفسي، بحيث لم يعد ممكناً تصور الاستغناء عنه في أي جانب من جوانب الفكر والتصور والسلوك.
"والمحاورة" هي المراد في الكلام، فكأن موضوع التحاور يظل متردداً بين المتحاورين حتى ينتهيا فيه إلى اتفاق. ولأن "العقل" إذا رُجع إليه يحسم تلك الحيرة، فلذلك التردد قيل للعقل: "أحور" أي محاور. وعلى هذا يؤسس المؤلف مفهومه للحوار.
فالحوار المقترح اليوم هو حوار بين "الحضارة الإسلامية العربية" وبين "الحضارة الغربية" المهيمنة على عالم اليوم.
وحين نقول: الحضارة الإسلامية العربية؛ لأن هذه الحضارة قد امتلكت المقومات الحضارية قبل نشأتها الأُولى، وأثناء بنائها وصيرورتها، واحتوت على خصائص العمرانية بذلك التداخل المتميِّز بين العروبة والإسلام الذي جعل منها حضارة تأليف لا تدابر وانفكاك. وهي حضارة احتواء واستقطاب من دون تسلُّط، وحضارة جمع من دون دمج أو هيمنة، وحضارة سلام وأمن لا استعلاء فيها ولا استقواء، وهي تؤمّن للمنتمين إليها كرامتهم من دون النظر إلى أي فوارق؛ لأنها منذ البداية وضعت سائر الفوارق في إطار التنوع الداعي إلى التعارف والتآلف، حتى صارت حضارة عمرانية عديمة النظير. فهي حضارة بُنيت على التوحيد، فكان التوحيد جوهرها. وأساسها، ومن منطلق التوحيد توجهت نحو "الحقيقة الذاتية للإنسان".
يناقش المؤلف مشكلة الغرب والحوار، فيرى أن العناوين التي يتداولها المتكلملون والكتَّاب تحت "حوار الحضارات" تفترض أن الحوار أو الصراع أو التعامل بكل أنواعه مع الغرب – باعتباره غرباً واحداً، وكياناً واحداً، وتاريخاً واحداً، وجغرافية واحدة – يوجب على العقل أن يستدعي على الفور الصراعات الطويلة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية، ثم الحروب الصليبية، ثم المسألة الشرقية، ثم الاستعمار الأوروبي الحديث، ثم سائر الصدامات التي قامت في أي جزء من بلاد المسلمين، وأي جزء آخر من بلاد الغربيين، فذلك كله يمكن أن يسجل بعنوان: "الشرق والغرب" أو "الإسلام والغرب"، وهذا أمر فيه من عدم الدقة والتجاوز أو التجوز والتساهل الشيء الكثير.
لكن مفهوم الحوار في تاريخ الإسلام له قواعده ومبادؤه. فالمسلمون يفهمون الحوار في الإطار المعرفي باعتباره بحثاً عن الحقيقة أو الصواب، وذلك بأن يكون المتحاوران قد التقيا على ذلك الهدف، ألا وهو الوصول إلى الحقيقة أو الصواب، كما التقيا على التمسك بقواعد الحوار وآدابه، والتزم كل منهما بالنتيجة في صالحه أو صالح محاوره الآخر، وكذلك كون الطرفان اتفقا على مرجعية معترف بها من الطرفين للرجوع إليها في حسم الاختلاف بينهما. وإلاّ فإن الحوار يتحول إلى لُجج لا ينتهي، وخصومة لا تقف عند حدّ.
ذلك لأن المسلمين يعدّون الحقيقة أمراً ثابتاً، والمتحاورين والمجتهدين يبحثون عن ذلك الأمر الواحد الثابت، وقد يوفقون للوصول إليه وقد يخطئون الطريق، وهم معذورون إذا اخطأوا بعد بذل الجهد المناسب.
أما "الغرب"، فأهل العلم والفكر فيه لم يكونوا بعيدين عن هذا التصور كثيراً، فقد عرّفه تيتلر (Teitler) بأنه: "طريقة إقناع تشوبها الكرامة في تعامل كافة الأطراف الذين وإن اختلفت آراؤهم، فإن مصلحة مشتركة تجمعهم، وهي البحث عن أكبر قدرٍ ممكن من الحقيقة التي يمكن لعقل أن يتوصل إليها عبر جوٍّ من الثقة والاحترام المتبادل".
أما السياسيون الغربيون فلا يرون الحوار بالرؤية التي تتسم بها رؤية العلماء والمفكرين، فالحوار لدى السياسيين يغلب عليه مفهوم لَيْ ذراع الخصم، واستخدام كل ما تسمح به لغة الحوار السياسية من التواء في الخطاب ولحنه وفحواه وما إليها، ولا يقتضي أن ينظر المحاور إلى من يحاوره بثقة أو باحترام، أو رغبة صادقة في الوصول إلى حل. بل يغلب عليه أن يحاول القوي الاستبداد – بقدر ما يستطيع – بالضعيف، وأخذ كل ما يمكن أن يؤخذ منه مع محاولة إيجاد شعور لديه بأنه أعطى ما أعطى مختاراً، ولم يكن في الحقيقة إلاّ مكرهاً أوهم بأنه مختار.
هذه طبيعة الحوار بين الأقوياء والضعفاء، فهي أقرب إلى القصة القائلة: "إن صيّادَين قرّرا عقد شركة بينهما في كلّ ما يصطادانه، فاصطاد الضعيف منهما غزالاً، واصطاد القوي أرنباً. وقرر الضعيف الالتزام بالاتفاق وأعلن الرضى بنصف الغزال الذي اصطاده، ونصف الأرنب الذي اصطاده شريكه، لكن الشريك القوي قرر الاستحواذ على الغزال كله، فقال لصاحبه وهو يحاوره: إن كنت تريد الأرنب فخذه، وإن كنت تريد الغزال أو نصفه فخذ الأرنب كله! أما الغزال فلا سبيل لك إليه كله أو نصفه.
وأمام هذا التجني لم يجد الضعيف بداً من النـزول عند رغبة الشريك القوي؛ ذلك أن القوي يعرف ما يريد سواء شاركه الضعيف في تلك المعرفة أم لم يشاركه فيها، وإحساسه بالقوة والاستغناء يدفعه إلى الاستبداد والطغيان، فتلك طبيعة إنسانية، وسنَّة من سنن الاجتماع.
شروط الحوار
يبيِّن علماء الاجتماع، والاجتماع السياسي بخاصَّةً، أنه لا ينبغي للضعيف أن يتوهّم أن يكون طرفاً في حوار وهو في حالة ضعفه، فلا بد له قبل الحوار من أن يتجاوز حالة الضعف، وأن يحقق توازناً – ولو في حدود معيَّنة – مع الطرف الذي يرشح نفسه للحوار معه. فذلك "التوازن" ضروري للضعيف لبلوغ مستوى الشريك في الحوار، فإذا توازنت القوى كان هناك مجال للحوار. أما إذا لم يتحقق ولو قدر ضئيل من التوازن فويل للضعيف من القوي، وويل للفقير من الغني.. الخ.
إن الغرب _ حسب علماء الاجتماع السياسي – يعرف قيمة التوازن، ويعرف أنه الضمانة الوحيدة للسلام، حتى لو كان توازن الرعب. فإن تملك – باعتبارك طرفاً – ترسانة من الأسلحة ووسائل الدمار الشامل، مثل الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية، وتعرف أنه إذا ضغط عليك فقد تلجأ إليها، إذ لديك القدرة على تصنيعها وحمايتها والمحافظة عليها واستعمالها عند الحاجة.
لكن ماذا عن النشأة المعاصرة لفكرة حوار الحضارات؟
حوار الحضارات
من الصعب، كما يبين العلاّمة والمفكر الإسلامي طه جابر العلواني، تحديد تاريخ دقيق لهذا الذي صار يُعرف في أيامنا هذه بـ"حوار الحضارات"؛ لكننا في شيء من التجوُّز والتساهل يمكننا أن نربط بين قيام "عصبة الأُمم" وانتهائها، وعجزها عن الحيلولة دون وقوع الحرب العالمية الثانية. ثم قيام "الأُمم المتحدة" ونشأتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فلقد أحس العالم كله، المنتصر والمغلوب على السواء، بالحاجة الماسة إلى تحقيق سلام وبناء أمن عالمي.
لقد ظن هيغل وغيره أن "فتح نابليون" لأُوروبا كان "نهاية التاريخ"، وبلوغ البشرية القمة بقيادة أوروبا أو الغرب الذي كانت تمثله آنذاك، وأنه لم يصنع بعد ذلك التاريخ تأريخاً. لكن فأل هيغل وغيره خاب، فالحروب الصغيرة، لم تنقطع، وفي النصف الأول من القرن العشرين وحده قامت حربان كونيتان، شكلت كل منهما تهديداً للعالم كله، ولم تلبث أن نشبت بعدهما "الحرب الباردة"، التي لم تنته إلاّ بتفكيك الاتحاد السوفياتي.
واستمرت الحروب الصغيرة ولم تتوقف، ولم تستطيع الأُمم المتحدة ولا غيرها إحلال الحوار محل الصراع في سائر القضايا الساخنة التي شهدها العالم، وإذا حدث شيء فإنما هو مفاوضات لا حوار.
ويلاحظ مؤلف "الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر" أنه حين نبحث عن فكرة "الحوار" وكيف راجت في العالم الإسلامي حتى بادر إلى تبنيِّها كثير من القادة، وروّجت لها منظمة المؤتمر الإسلامي، ودعا إليها كثير من الأكاديميين والمفكرين، نجد أنها راجت؛ لأن كثيراً من المسلمين يظنون أنَّ خصومة الغرب لهم، خصومة مبنيَّة على جهل الغرب بهم، وأن الحوار سيبني جسوراً، وسوف يعرّف الغرب بالإسلام والمسلمين ومن التعارف سيكون التآلف والتعاون وينتهي الصراع.
هنا لا بد من أن نذكِّر بأن الشرط الأساسي لبدء أي حوار، هو الاستعداد الدائم لدى الأطراف المتحاورة لقبول نتائج الحوار. أما حين لا يكون هذا الاستعداد متوافراً، فإن الحوار – آنذاك – يكون مجرد محاولة من الطرف الأقوى لإقناع مواطنيه – وغيرهم إن أمكن – بشرعية فعله وعدالته بعد ذلك، وأنه قد أعطى لخصمه الفرص المناسبة لتلافي الصراع. ولكن الخصم عنيد – مهما كان ضعيفاً – وكان مُصرّاً على موقفه، وكأن الحرب التي سيشنها – بعد ذلك – فرضها عليه ذلك الضعيف فرضاً، في حين أن الضعيف كان يتمنى فرصة الإفلات من تلك القبضة، والتخلُّص من مصير قاتم لا يخفى عليه.
من وجه آخر، يعطي المؤلف مثالاً على الحوار، بلقاءات الحوار الإسلامي – المسيحي أو الإسلامي – الكاثوليكي، لم يُحطها زخم إعلامي أو اهتمام عربي، ولم تلق اهتماماً يتوازى مع أهميتها، ولعل ذلك يعود بالأساس إلى عاملين أساسيين:
أولهما: إن الغرب الآن يطلق مقولة "حوار الحضارات"، وهي تتضمن في جوهرها صدام الحضارات وصراعها، ويمهّد لذلك. وقد كشفت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) عن ذلك.
وثانيهما: إن حوار الحضارات في طرحه الأخير ينسّق مع المعطيات التاريخية والسياسية والاستراتيجية للعالم الغربي بعد انتهاء الشيوعية، وبعد تطهير البيت الأُوروبي من الانقسام الإيديولوجي ما بين شيوعية ورأسمالية، والتحول إلى محاولة صنع أعداء من خارج النسق الحضاري الغربي، خصوصاً في حوض حضارة الإسلام. وهذا يؤكد مرة أخرى أن القضية التي قد تم طرحها ليست فقط في غير أوانها بالنسبة لنا، وإنما على غير وجهها وبغير مضمونها أيضاً.
ثم يسعى المؤلف إلى التمييز بين الحوار الفكري والتفاوض السياسي، فيوضح أن مفهوم الحوار ينصرف إلى أحد معنيين: أولهما: يعني منهاجية فلسفية أساسها قرع الحجة بالحجة، واتخاذ موقف المعارضة المنطقية بغية الكشف عن الحقيقة، وقد كان هذا طابع الدراسات التي أشرنا إليها.
وعلى العكس يثير المعنى الثاني مفاهيم التفاوض السياسي الدولي التي تحكمها عناصر القوة وليس الحق، وتهدف إلى تحقيق الغلبة التي هي طريق تحقيق المصلحة – في العقل الغربي – وليس الوصول إلى الحقيقة وتجلياتها.
من خلال هذين المفهومين، يتساءل العلاّمة العلواني عن ماهية الحوار الحضاري الذي يطلبه العرب والمسلمون من الغرب. هل هو حوار يقصد الوصول إلى الحقيقة والانصياع لها بعد إقرارها، أو هو عمل يحقق مصالح معيَّنة لطرف، ويفرضها بمنطق القوة وحقِّها وليس بقوة الحق؟ وما هو الموقف الغربي الذي شَجَبهُ المفكر الفرنسي روجيه غارودي؟
الحوار الإسلامي – الإسلامي
بعد هذا يدعو العلواني العرب والمسلمين إلى التخفيف من غلواء الدعوة إلى الحوار الإسلامي – الغربي، باتجاه الدعوة إلى الحوار الإسلامي – الإسلامي.
أما تحديد المقصود من هذا الحوار البديل فهو ناجم من حقيقة أن التوازن والتكافؤ بين أطراف الحوار. وحسب رأيه، أنه لا يمكن أن يتم التحاور إلاّ بين أطراف على حدٍّ أدنى من النديّة والتساوي في القوة والوزن، والاستعداد لقبول نتائج الحوار والالتزام بها.
وما لم يُزل المسلمون ما بينهم من "كدورة"، ويوجدوا صيغاً للتفاهم تجعلهم قادرين على توحيد مواقفهم، فإنهم لن يكونوا قادرين على الحوار المجدي مع الغرب الأُوروبي، ولا مع الغرب الأميركي. كذلك ينبغي تحديد أي النمطين من الحوار نريد؟
الناظر في مفهوم حوار الحضارات – كما يعبر عنه معظم مفكِّري الغرب – يجد تداخلاً بين الفكري والثقافي الديني من ناحية وبين السياسي الاقتصادي الاستراتيجي من ناحية أخرى. وذلك بصورة تجعل من الأبعاد الأولى محدِّدات للتمايز بين الحضارات، ولكنها ليست غايات أو مقاصد في ذاتها، بل هي معطيات، وتُحدِّد الفواصل والغايات فقط التي ينبغي أن تتم بين المختلفين حضارياً بالمعنى الثقافي الاعتقادي، بقصد تحقيق أهداف سياسية واقتصادية. وبهذا يتداخل الحوار مع التفاوض، ويتم اختزال مفهوم الحضارة في أبعاد السياسة الذرائعية.
وطبقاً لهذا المفهوم، ظهرت معظم الكتابات التي تعلّقت بهذا الموضوع إن لم يكن كلها. ومن هنا لا بد من التأكيد على ما ينبغي أن نركّز عليه من مفاهيم الحوار والحضارة أو أنساقنا المعرفية. أما التفاوض السياسي فله مجاله البحثي، وخطابه الفكري الخاص به، وكذلك له رجاله والمتخصصون فيه.
مادَّة غنيَّة
على هذه الإيقاعية البحثية يمضي العلاّمة العلواني في معالجة إشكالياته النظرية والعملية التي يعيشها الاجتماع الإسلامي – العربي المعاصر.
فسيجد القارئ، في هذا الكتاب، مادة غنية خاصَّة بثنائيَّة الخصوصية والعالمية، وهي ثنائية عالجها المفكر بطريقة تصلح في نتائجها لتأسيس مرحلة جديدة في فضاء التفكّر العربي الإسلامي الحديث.
* * *
الهوامش
_______________________________________________
(*)باحث ورئيس تحرير مجلة مدارات غربية، من لبنان.
(1) طه جابر العلواني، الخصوصّية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، منشورات مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" بالاتفاق مع دار الهادي – بيروت.