أحدث المقالات

الخطاب الإسلامي التواصلي هو ذاك الجانب من الخطاب الإسلامي الذي يُعنى بفتح علاقات مع كيان بشري معيّن، وهذا معناه ـ من الناحية الأوليّة ـ أنه خطاب يخضع لنظم العلاقات وحاجاتها، ومن ثم فلا يمكنه أن يتعالى عن كلا طرفي العلاقة المفترضة، وهما هنا: الإسلام من جهة، وشرائح المجتمع بمجموعها أو بجماعاتها من جهةٍ أخرى.

ونظم العلاقات نظمٌ خاصة لا تخضع لمجرّد آليّات اكتشاف الحقيقة أو إنتاج المعرفة، وإنما تتخطّى هذا الجانب لنقل تلك الحقيقة أو المعرفة الى طرف آخر لإجراء تفاعل معه يهدف في المحصّلة الأيديولوجية الداخلية إلى إيصال فكرة أو ممارسة دور إقناعي بصددها.

وقد مثّلت عناصر كالمنبر ـ سيما الحسيني ـ والدروس الدينية المباشرة، ولو عن طريق معلوماتي متطوّر… الوسائل القديمة والجديدة لآليّات الخطاب الإسلامي، وكانت هذه العناصر ـ وما تزال ـ صاحبة دور فاعل ورئيسي في هذا الميدان.

ونتيجة تداعيات عديدة، ظهرت إلى السطح مسافة فصلت ما بين الخطاب الإسلامي التواصلي وبين واحدة من شرائح المجتمع تكاد تكون أهمّها، ألا وهي شريحة الشباب بذكورها وإناثها، وتبدّت ظواهر عديدة كشفت إلى حدّ معين عن سوء علاقة بين الطرفين بلغت أحياناً حدّ القطيعة الكاملة.

وقد استدعى هذا الأمر وما يزال الحاجة الى دراسة هذه العلاقة وقراءتها مرّة ثانية، سيما من زاوية نقدية للخطاب التواصلي كما فعله الغزالي والمطهّري والقرضاوي ومغنية و…

1 ـ أوّل إشكاليّة واجهت الخطاب التواصلي كانت إشكاليّة فهم شريحة الشباب، فحتّى الآن هناك تيار في الوسط الإسلامي لم يدرك بعد طبيعة الشباب وتكوينه سيما مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الحاليّة التي تحيط بالشاب وتكوّنه، وقد أدّى الجهل بالشباب إلى ممارسات قمعيّة أحياناً زادت في الشاب نفسه عوامل القطيعة، والبعد عن الدين، بوصفه في نظره قطعة جامدة صلبة وجافّة لا رحمة ولا عطف ولا حنان فيها.

إن استخدام خطاب مختمر من الزاوية العقلية والمعرفية مع شاب يسير في مراحل الاختمار والتكوّن أدّى إلى أن يجد الشاب نفسه غير معني بذاك الخطاب، إنه خطاب يعالج هموم غيره ومشكلاته، ولا يعالج ما يعانيه هو من هموم ومشكلات.

إن الإحساس الحقيقي من جانب أرباب الخطاب التواصلي الإسلامي بهموم الشاب ومعاناته هو ما يوفّر الطريق لفتح علاقة معه، أمّا الاستهزاء بتلك الهموم بادعاء أنها مجرّد أوهام صبيانيّة فلن يقدّم خدمة لهذا الخطاب في علاقته بالشباب، وسيزيد الهوّة الفاصلة بدل أن يردمها.

ويمثّل القلق، وحاجة الاستقلال، والجنس أهم هموم الشباب وأكثرها حساسيةً في محيطه العائلي والاجتماعي معاً، إن الشاب قلق لأنه يحاول الشروع برسم مسلسل حياته لمستقبل لا يعرفه، وهو أيضاً بحاجة للاستقلال لكي يشعر بكيانه ويلتذّ بذاته، الأمر الذي يخلق له مشكلات أسرية جادّة، وهو كذلك في أوج نضوجه الجنسي… ذاك النضوج الذي يلاحقه مهما خفت صوت المؤثّرات، إنه إحساس ينبعث من أعماقه في يوم لا يترقّبه حتى لو خمدت المؤثرات إلى أبعد الحدود…، إن حاجة الشاب للاستقلال وإشباع الغريزة هو ما يسبّب له القلق والاضطراب سيّما في ظل ظروف عائلية غير سليمة أو في أجواء اقتصاديّة بالغة الحدّة.

ولا تقف هذه الحاجات عند بداياتها، بل قد يتطوّر شعور القلق ليترجم إجراماً أحياناً أو إدماناً أخرى أو…، كما يتطوّر حب الاستقلال ليبلغ حالات من التهوّر التي لا يفعلها السويّ في حالاته العادية فيقدم الشاب على تصرّفات لا يريد من ورائها سوى الشعور بالذات مهما بدت لنا من بعيد أمراً سلبيّاً، وهكذا إشباع الغريزة يتنامى في إفراط فينكشف عن مظاهر سلوكية شاذّة قد يصعب وضع لجام لها فيما بعد.

إن محاولة تحليل الظواهر السلوكيّة التي تبدو على شخصيّة الشاب تحليلاً عميقاً ومدروساً، هو الذي يجعلنا قادرين على اكتشافه، ومن ثم إصلاح أو ترشيد نقطة الخطأ بدل إهدار الذات في إصلاح مظاهر لا تعدو أن تتكيّف وفق الظروف لتبرز على شكل نتوءات في مكان آخر من الشخصيّة.

وهذا ما يعني أن الخطاب التواصلي الذي يريد إصلاح الشباب لا يمكنه أن يحقّق هدفه بخطاب موحّد يوجهه إلى الشباب نفسه فيما هي طريقة الخطاب المباشر المعتادة، وإنما يطالب بخطاب معنيّ بالعائلة والمدرسة وغيرها مما يلعب دوراً في تكوين الشاب، ويكون هو المسؤول ـ كثيراً ـ عن انحرافاته.

2 ـ وإذا ما تمّ اكتشاف الشاب وقراءة الوجه الآخر له دون مجرّد المظاهر السطحية، ومن ثم فهم همومه والإحساس معه لا التعالي عليه وقمعه وممارسة تكبّر وعجرفة أمامه.. أمكن حينئذٍ تفهّم ظاهرة النقد والرفض التي يمارسها الشاب سيما في ظل ظروفنا الاجتماعية المعاصرة وتطوّر المعلوماتية.

إن الخطاب الذي يريد من الشباب أن يستمع فقط، وأن يعبّر بكلمة ((نعم)) عن كل ما يقال له.. هو خطاب واهم، إن الشباب اليوم ـ وهذه حقيقة ـ يختلف حتّى عن شباب الأمس القريب، فلم تعد الأمّية كما كانت، ولم يعد المستوى الذهني والعقلي العام كما كان عليه الحال قبل عقود فضلاً عن قرون، وهذا معناه أن الشاب السؤول بطبيعته سوف يمارس ـ على ضوء وعيه الجديد ـ حسّاً نقدياً قوياً قد يكون لاذعاً ومفرطاً بحكم الحيوية الهائجة التي تحكم الشباب نفسه.

وهذا ما يفرض علينا أولاً: الإقرار بحق الشباب في السؤال والنقد وثانياً: عدم سحب هذا الإقرار بسبب الضعف المعرفي الذي قد يبتلى به الشاب نتيجة عدم اختمار الأفكار والتصوّرات عنده، الأمر الذي يجرّ ـ ثالثاً ـ إلى استيعاب الشباب بدل طردهم.

وإذا ما أضفنا حقيقة أخرى غدت ملموسةً اليوم للجميع، وهي أن الدين والمفاهيم الدينية دخلت بالفعل سوق التداول العام حتى في بُعدها النظري الذي كان فيما مضى حكراً على طوائف معينة… اذا أخذنا هذه الحقيقة، فسوف نفهم أن من الضروري تجهيز خطاب معرفي حقيقي للشباب لا فقط خطاب تلقيني يفترض سلفاً أميّة الشباب وجهله، حتّى لو لم يكن متخصّصاً في العلوم الدينية، سيّما مع اعتقاد الشاب نفسه أحياناً بعدم كفاءة الطرف الآخر من الزاوية العلمية.

3 ـ واذا ما أدركنا الشاب وهمومه ومشكلاته، أدركنا أيضاً أن انتظاره ليأتينا مجرّد وهم زائف قلّما يتحوّل إلى حقيقة ملموسة، ولهذا لا بد من الذهاب وراء الشاب لجذبه إلى الدين، لا الجلوس في انتظار مجيئه إلينا، ليسألنا عن دينه أو يستفهمنا عن شرعيّة أعماله.

والاشكاليّة الأساسيّة التي تواجه الخطاب التواصلي هنا تكمن أحياناً في الشعور بالاستعلاء على الشاب، والأنفة من السير وراءه لجرّه برفق نحو الدين والقيم الإسلاميّة، إن هذا الشعور علاوة على الإشكاليّات الأخلاقيّة التي يختزنها، لا ينمّ عن وعي واقعي بمشكلة التبليغ والدعوة إلى الله تعالى.

إن الاهتمام بالشباب وإحساسهم بأننا معهم نحميهم ونريدهم يعزّز عندهم شعور الاستقلال وإحساس الذات، إنه يرضيهم، وهذا الرضا هو المؤشّر الهام الذي يسمح لنا بالدخول إلى أعماقهم دون قلق أو وجل، فنحن لا نريد صرعهم بل نريد الرفق بهم ومداواتهم.

ولا يعني ذلك أبداً أننا الأكمل أو أننا نمارس وصايةً عليهم، ذلك ما يشمئزّ منه الشاب على الدوام، بل يعني أن نمارس منطق التعاون ومنطق نقل الخبرات والتجارب والمعرفة.

4 ـ وإذا كان من الضروري السير خلف الشاب لمساندته وتوعيته إسلامياً، فهذا يعني ضرورة البحث عن النوافذ التي تربطنا به، لا تلك التي تربطه بنا وتوصله إلينا إذا أرادنا، يجب أن نعرف كيف نصل نحن إليه لا كيف يصل هو إلينا فقط.

يمكن للشاب أن يطلبنا ربما في المساجد والمعاهد الدينية وفي أماكن الذكر والعبادة و… الأخرى، لكننا لن نجده إذا طلبناه هناك، مما يعني أننا مطالبون بسلوك الطرق التي سلكها، أي أن نصل إليه عبر وسائل الاتصال الجديدة من التلفزيون والأذاعة والانترنت والصحيفة و… وهذا ما يتطلّب التعالي عن بعض الكبرياء الزائف والإقتناع بأن التواجد مع الشباب لهدايته، ولو في غير أماكننا الكلاسيكية ليس عيباً يعاب عليه الإنسان ولا جرماً يحاسب عليه، إذا ما أتقن الإنسان الظروف وراعاها بأقصى ما يمكن من الدقّة والتحفّظ، وإلا فقد لا نجد هذا الشاب ولا نراه في حياتنا أبداً.

5 ـ وليس سلوك طريق أداتي هو الغاية، وإنما خطاب رحيم يرأف بالشاب ويأخذه في أحضان الإيمان والصدق، وكما ذكر فقهاؤنا الأعلام (رض): ينبغي الرفق بمن نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر.

والرفق ليس كلمة تذكر على لسان أو تنادى في ميدان، وإنما هي سلوك أصيل يطالب الداعية إلى الله بتمثّله في حياته، إن الخطاب الذي يحمله أشخاص أجلاف قساة لا يرحمون ولا يرأفون لَهُوَ خطاب مصيره الموت، وهذه هي سيرة النبي 2 والأئمة G سيما ما ورد عن الإمامين الحسن والحسين H لتدلّل بوضوح على الروح الرحيمة التي كانت بين جنبيهم صلوات الله عليهم، أما تلك الروح الجافّة الصدأة فليس لها من آذان تستمع إليها وتصغي.

6 ـ وهذا ما يستدعي أتقياء يحمون الأهل والبلد من الفساد والانهيار، تصان بهم الأرض من شرور الفسق والفجور، وتعمّ بهم روح الرحمة والرأفة والهداية والأبويّة.

إنّ الفصل الدقيق ما بين ((أشدّاء على الكفّار)) و((رحماء بينهم)) هو أساس هذا المفهوم، ذلك أنّ البعض إمّا يعادي أغلب الناس حينما تجده يتعامل مع الجميع بشدّة حتّى لا تكاد البسمة لتتعرّف على شفتيه، أو يصادق حتّى عدوّه الذي يستحق القتال فتراه طيّعاً قد لا يركن إلى ركن حفيظ، وهذا الخلط هو ما يسبّب أحياناً التعامل داخل الدائرة، مع الشباب المسلم، بشكل غير مناسب الأمر الذي يجرّ إلى فرارهم من الدين مع الأسف الشديد.

ويبقى القرآن الكريم هو الملهم لخطابنا التبليغي على الدوام، انطلاقاً من قولـه تعالى: ]فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم…[ (آل عمران: 159).

______________________________________________



(*) نشر هذا المقال في العدد 30 من مجلة المنهاج في بيروت، صيف عام 2003م.

 


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً