أحدث المقالات
نحاول في هذا اللقاء تسليط الضوء على موضوع "الدين والعنف"، قاصدين بالعنف هنا ذاك النوع الذي يمثل منهجاً، وطريقةً يجري توظيفها، بغية التوصل الى أهداف خاصة.
سؤالنا الاول هو: ما هي الأسس المعرفية التي تمثل دعامةً وركيزةً للعنف، سيما ذاك العنف الذي تعرفه المجتمعات الدينية؟
شبستري: سأقوم بمركزة بحثي حول المجتمعات الاسلامية، فمع الأسف نشاهد في هذه المجتمعات ظاهرة العنف كما يثيره السؤال نفسه، لقد تمّ في هذه المجتمعات الاعتراف بالدستور، وتقرّرت متابعة الفئات والجمعيات لمقاصدها وأهدافها السياسية والاجتماعية عن طريق الوسائل السلمية، لكن تساؤلاً يبقى قائماً هنا، وهو ما هي تلك البنى النظرية والعملية التي ارتكزت عليها ظاهرة العنف؟
تعتمد عملية تدوين الدستور ـ وفق الاعتراف بحقوق الإنسان، وكذلك مبدأ تحديد السلطة وتقييدها وما شابههما ـ على مرتكزات ايبستمولوجية وانثروبولوجية وسيسيولوجية ومعرفية ـ دينية خاصة، لكن الحاصل في المجتمعات الإسلامية هو تدوين هذا النوع من الدساتير، مع اعتقاد شريحةٍ من مواطني هذه المجتمعات بمباني تغاير هذه المرتكزات السالفة الذكر، وهو ما مثّل على ما يبدو أحد الأسس والجذور الرئيسية لظاهرة العنف فيها.
إن الدستور الديمقراطي مبنيٌّ على الاعتراف بحقوق الإنسان، وعلى النظرة التعددية للحقيقة، أي الاعتقاد بقدرة الإنسان على أن تكون لديه فلسفات مختلفة، وأن يبدي تفاسير متغايرة عن العالم والإنسان والإيمان، فإذا كان هناك من يعتقد بوجود مجموعة من الحقائق الأبدية في مجال الدين والسياسة والانثروبولوجيا والعالم؛ بحيث يتصور أنّ عدة معدودة من الناس لها اطلاع على هذه الحقائق، فيما يجب على البقية ممارستها في الحياة الاجتماعية، ولو عن طريق الالزام والإجبار وبأي شكل من الأشكال الظاهرة وغير الظاهرة، (وهو ما مثلته المعتزلة في تاريخ الفكر الديني الإسلامي، وثمة من ينادي به اليوم أيضاً)؛ إذا كان هناك من يعتقد بذلك فهو غير قادر على تبنّي حقوق أساسية وبنيوية، أو تدوين دستور مبني عليها.
إننا ـ كبشر ـ نعيش في وضعية اجتماعية، تفرض علينا فيها الكثرات الموجودة في العالم الإنساني استحداث بنية تحتية لحياة اجتماعية مشتركة، بحيث يتمكن الأفراد في هذه الحياة الاجتماعية المشتركة من التعرف على الحقيقة والمصلحة، وإبرازها ومن ثم العمل وفقها، والدستور إنما يدوّن في الواقع بغية تأمين مثل هذا الغرض.
ويعتمد تدوين هذا النوع من الدساتير على أسس معرفية خاصة، ويبلور هيكلية اجتماعية محددّة، فإذا لم تؤخذ بعين الاعتبار تلك الأسس المعرفية؛ فإن تدوين الدستور الديمقراطي سوف يفقد معناه حينئذٍ.
على صعيد المجتمعات الإسلامية، تمّت كتابة الدستور على يد المثقفين ـ أعم من الدينيين وغيرهم ـ وكانت الحالة الغالبة أن تعتمد عملية التدوين هذه على أسس معرفية جديدة، مع مراعاة أصول الديمقراطية، لكن مفكري هذه المجتمعات ومثقفيها عاشوا فاصلةً ما بينهم وبين الأغلبية المسلمة في مجتمعاتهم، وحكمتهم حالةٌ من الغربة، ذلك أن الأسس المعرفية الجديدة لم تكن قد رسخت بعدُ في أذهان وعقول هذه الأغلبية، لقد دوّن الدستور في المجتمعات الإسلامية وروعيت فيه الحقوق الأساسية والحريات أيضاً، لكن الناحية العملية تحكي عن أن الكثير جداً من الفئات والتيارات لم تتقبل بعد الأسس المعرفية لهذا الدستور، ومازالت تابعة لتلك الأسس التقليدية المعرفية للسلطانية التي ينحونها، وما زالوا معتقدين بها، وفي إطار هذه الاسس الكلاسيكية لم يجر الاعتراف بالتعددية ولا حقوق الإنسان ولا الحريات السياسية ـ الاجتماعية ولا بالحرية الدينية، وبناءً عليه، ثمة نوع من اللاانسجام واللاتناغم ما بين البنى المعرفية الحديثة التي تعتمد عليها الديمقراطية، وتلك التقليدية التراثية التي ما تزال تحظى بموافقةٍ وحضورٍ واسعين في المجتمعات الاسلامية.
وهناك نقاشات في أوساط المثقفين الدينيين وغيرهم حول ظاهرة اللاانسجام هذه، بيد أن هذه المباحث لم تسرِ الى الطبقات الكبرى والشاملة في المجتمع، ذلك أنّ المباحث المعرفية لا يمكن أبداً تداولها في أوساط عامة الناس بالمستوى الذي تجري مداولتها فيه داخل الوسط الفكري والثقافي، وإذا كان هناك نوع من التضاد ما بين ثقافة الخواص وثقافة العوام؛ فإن ذلك سيؤدي إلى ظهور جملة من المشكلات، كما هو الحال مع الأسف في المجتمعات الإسلامية.
أما على صعيد العالم الغربي؛ فإن الصورة المبسّطة لهذه البنى المعرفية الجديدة قد نفذت من طبقة المثقفين الى عامّة الناس، مما أدى الى تحصيل العوام تصوّراً بسيطاً وعادياً عن مفاهيم من قبيل حقوق الإنسان، والتعددية والحرية و… بيد أنّ هذا الحدث لم يتحقق في المجتمعات الإسلامية، ولم تجد هذه التصورات والمقولات الحديثة طريقاً لها إلى أوساط عامّة الناس فيها.
لقد تمّ في عصرنا الحاضر ـ وعلى صعيد المجتمعات التي انتظمت وفقاً للدستور الديمقراطي الحديث ـ تحقيق التناغم ما بين الجسم السياسي والاجتماعي من جهة،ٍ والأسس المعرفية التي يرجع إليها الدستور نفسه من جهةٍ أخرى، لكن الحال لم يكن على هذه الشاكلة في المجتمع الإسلامي؛ ذلك أن التركيبة الاجتماعية الحاصلة كانت منسجمةً والبنى التقليدية، واستمرت على هذا الانسجام أيضاً، وهو ما كوّن أحد عناصر إنتاج ظاهرة العنف في هذا المجتمع.
ثمة أفراد داخل المجتمعات الاسلامية وجماعات ترى أن هناك تعارضاً ما بين الدستور وأصوله المعرفية، والقيم والبنى السياسية والاجتماعية الناجمة عنه (كالمجتمع المدني مثلاً)، وبين الأسس المعرفية والهيكليات الاجتماعية والسياسية المقبولة لديهم، وحيث إنهم لا يريدون التخلي عن مرتكزاتهم المعرفية، ومن ثم بلورتها وفق الوضع الجديد فإنهم ـ طبيعةً ـ يدافعون عن ذلك المجتمع المتناسب وبُناهم المعرفية والقيمية، ويقع الإيمان والعقيدة والتعصب والمصالح في مصاف الدعامة لهذه الرؤية، وفي نهاية المطاف يقومون بإظهار إرادتهم ورغبتهم في ذلك المكوّن السياسي الذي كان موجوداً في القرون الغابرة، وهذه الجماعات وأولئك الأفراد يهدفون إلى إعادة إنتاج تلك الوضعية السابقة وبأي ثمن، رغم كل التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت على مجتمعاتهم، ونظراً لعدم قابلية تلك الوضعية لإعادة الانتاج هذه تبدو أمامنا ظاهرة العنف ملبّسةً بلباس الدين والتدين.
يبدو أن الكثير من المفكرين المحدثين لعب دوراً في تهيئة أرضيةٍ لظاهرة العنف في المجتمع الديني، وكمثال، يمكن الإشارة إلى المثقفين المتأثرين بالأيديولوجيات اليسارية؛ حيث كانوا يسعون ـ ومن خلال أدلجة الدين ـ إلى إعادة استحضاره إلى الحياة الاجتماعية أو تثبيت موقعيته فيها، وفي الحقيقة، فقد روّج هؤلاء للأيديولوجيات الحداثية؛ مستفيدين في ذلك لأهداف ذات طابع عنفي، أي أننا نرى في شريحة المفكّرين الجدد والحداثيين تيارات تسعى في سياق تنظيم نظري لأعمال العنف، كالجماعات الفاشية وشبه الفاشية، ومن هنا يمكننا إثارة التساؤل التالي: هل أن ظهور العنف ناشيء ـ صرفاً ـ عن مجرد التعارض ما بين الحداثيين والتقليديين؟ وهل تعتبرون الامر كذلك؟ أم أن هناك قراءات خاصة في المجتمع الثقافي الحداثي كانت تهدف أيضاً إلى تفعيل العنف وإثارته في المجتمع؟
شبستري: ما أشير إليه نقطة جيدة، إن القسم الأكبر من أنشطة العنف في هذه المجتمعات سابقاً وحالياً ناشيء عن الجماعات غير المنتمية الى تيار الفكر الحداثي، لكن قسماً منها مرتبط بآراء بعض المفكرين المحدثين الدينيين الذين تأثروا بالأيديولوجيات اليسارية، وكانوا يريدون من الدين إنتاج أيديولوجية سياسية، فريق آخر من هذا التيار لم تكن لديه أساساً أية علاقةٍ بالتراث والكلاسيكية الدينية، وكان يستفيد من الدين كمجرّد وسيلة من وسائل الصراع، والبعض ممن اتصف بلقب التجديد الديني في العالم الإسلامي لا يصح ـ إذا ما أجرينا تقييماً دقيقاً ـ إدراجه في قائمة المفكّرين الحداثيين الدينيين، إذ إنهم حوّلوا الدين إلى وسيلةٍ للصراع دون أن تكون لديهم هواجس أو اهتمامات دينية، كما هو الحال في جماعةٍ أخرى من هذا التيار أيضاً، ممن تمسكوا تمسّكاً مفرطاً بالتقليدية الدينية، وظلّوا أسرى هذا النمط من التفكير رغم تظاهرهم بالفكر الجديد و… ، ومن ثمّ لم يتمكّنوا من إنشاء علاقة نقديّةٍ مع التراث، وهذا الفريق الأخير لم يكن إبناً لهذا العصر الذي نعيش مع حمله هموماً وهواجس دينية.
هل تحمّلون التيار التقليدي مسؤولية أعمال العنف؟
نعم، لكن بحثنا ليس عن وجود العنف في تعليماتنا الدينية أو عدم وجوده، إن بحثنا ينصب على أن الحياة المعاصرة تؤدّي الى العنف؛ ما لم تكن هناك مواجهةٌ نقديةٌ للتراث، إن عدم إصلاح الفكر السلطاني السابق، والحيلولة وإبداء الممانعة إزاء طرح البنى المعرفية المنسجمة والهيكليات السياسية الديمقراطية، ومن ثم الإصرار على المحافظة على البناء السياسي القديم… كلّ ذلك من العوامل الهامّة في توليد ظاهرة العنف في المجتمع الإسلامي في العصر الراهن.
الشيخ محسن كديور، ما هو رأيكم في هذا الموضوع؟
كديور: من وجهة نظري، لا تقتضي التقليدية مطلقاً ظاهرة العنف، كما لا تستدعي الحداثة اللاعنف على نحو مطلق أيضاً، بل إن هناك قراءات وميولاً في الأطار التقليدي تستحضر العنف، كما أننا نواجه توجّهات في الحداثة تفضي في خاتمة المطاف إلى العنف نفسه، فالفاشية والستالينية ثمرتان مشروعتان للحداثة، أما على صعيد تقليدنا الديني ـ القومي فإننا نملك قراءات سلمية للدين والتراث، كما نحوز على استنتاجات ذات طابع عنفي، فكلا هذين الامرين ممكن، ومن هنا من اللازم الاطلال على البحث من زاوية أخرى، وأن لا نحصر نظرنا إليه من نافذة ثنائية القديم والجديد، نعم، إنني أوافق على أن التيارات والميول الغالبة في مسيرة الحداثة كانت تنحو منحى رفض العنف، كما أن المجتمعات الشرقية ـ مع الاسف ـ تنحو أكثر اتجاهاتها التقليدية منحى العنف وتبريره.
لكن، ولكي يجاب عن سؤالكم الاصلي من الضروري ـ بدايةً ـ التفكيك بين نوعين من العنف، العنف الجائز والعنف غير الجائز، أو دعونا نقول: العنف المشروع والعنف غير المشروع، أما العنف المشروع فهو بحدّ نفسه ذو أقسام وأنواع، وكل المجتمعات يشاهد فيها مثل هذا العنف؛ سواء كانت مجتمعات دينية أو غير دينية.
النوع الأول للعنف المشروع هو العنف في المجال الجزائي، فأعمال العنف التي تمارس على طريقة الاعتقال والحجز أو على الطرق التأديبية ـ وكلتا الطريقتين تستخدمان بحق المجرمين في مختلف المجتمعات ـ كلتاهما من نوع العنف الجزائي وعنف العقوبة.
النوع الثاني من العنف المشروع؛ والذي تبرّره سيرة العقلاء في مختلف المجتمعات هو العنف قبال الظلم، أعم من كونه ظلماً فردياً أو جمعياً، فمثلاً، لو أنّ شخصاً ـ في المجال الفردي ـ تعرّض لعنفٍ ما؛ فإن كافّة المقننين يرونه مُجازاً في الدفاع عن نفسه دفاعاً مشروعاً، حتى لو أدّى هذا الدفاع عن النفس الى القتل، وهكذا الحال من الناحية الاجتماعية، فلو أن مجتمعاً من المجتمعات صار عرضةً للظلم والاعتداء؛ فإن من حق هذا المجتمع القيام والانتفاض، وليس من الضروري أن تكون انتفاضته هذه عن الطريق السلمي، أي أننا نلاحظ في الحالة الغالبة أن ثمة خيوطاً للعنف في الثورات والانتفاضات والهيجانات والنهضات الاجتماعية، كما يشاهد نوع من استخدام العنف المجاز في هذا المجال.
الذي يبدو في بحثنا هنا أن العنف المشروع غير مأخوذ بعين الاعتبار، وليس هدفاً للقراءة، ومورد البحث إنّما هو النوع الآخر من العنف، والذي هو عبارة عن ممارسة مناهج وأساليب غير سلمية وغير قانونية؛ بغية تغيير البنية الثقافية لفرد أو مجتمع، وواحدة من المعالم المميزة لهذا النوع من العنف عدم رضا ذاك الفرد الذي يقع مورداً للعنف وضحيةً له، وهذا النوع من العنف ذو أسس نظرية مختلفة ومتنوعة، (نستعرضها على شكل نقاط)، ونشرع ـ بدايةً ـ بمعرفة الله.
النقطة الأولى: ما هو التصوّر الذي يحمله أولئك الذين يمارسون العنف عن الله تعالى؟ الذي يبدو أن الصورة التي يحملونها عن الله تعالى ليست صورة الرحمان، ولا صورة الرحيم، ولا صورة الرحمن الرحيم، إن إله هؤلاء هو الإله الشديد العقاب الذي لا رحمة عنده أبداً، أي أن ذاك الإله الذي (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (الأنـعام: 12) وذاك الإله الذي رحمته ثابتة له، لا تتغير كقانون راسخ بينه وبين مخلوقاته… هذا الإله لا يتصوّر له هؤلاء إلا مقداراً ضئيلاً من الرحمة أو مسحةً عابرةً منها، وهذا الطابع والوجه الخشن لله تعالى يتجلّى في سلوك أولئك الاشخاص الذين يحملونه في تصوّراتهم.
صحيح، إن أدبياتنا الدينية تحكي عن وجه إلهي قاسٍ وخشن إزاء المجرمين، بيد أن هذه الخشونة ناظرةٌ الى المجرمين، ونحن ـ كما تقدم ـ استبعدنا هنا بحث المجازاة والعقوبة، إن حديثنا هنا يدور حول كل فرد من أفراد المجتمع، آحاد المواطنين الذين يعيشون مجتمعاً واحداً، وليسوا بالضرورة مجرمين، بل من الممكن أن يختلفوا في تفكيرهم مع أولئك الذين يعيشون العنف ويمارسونه، اللهمّ إلا إذا اعتبرنا كل آخر فكري مجرماً!
النقطة الثانية: إن أصحاب العنف وممارسيه لديهم تصوير خاص عن الدنيا أيضاً، فمن وجهة نظرهم، الدنيا ليست مزرعة الآخرة، وإنما دار مجازاةٍ وعقاب، وبالتالي فلا بد أن يلقى الخاطئون جزاءهم في هذه الدنيا نفسها.
النقطة الثالثة: إن أفراد هذا الفريق من الناس يملكون تصوّراً خاصاً عن الإنسان أيضاً، فهم يحملون نظرةً تشاؤمية سلبيةً إفراطيةً عن هذا الإنسان وعن ذاته، وفي هذا النوع من التفكير لا معنى لتغيّر الإنسان وإصلاحه من خلال التحوّل الداخلي، فمن وجهة نظرهم يمكن إصلاح الإنسان في جوّ الارعاب، والخوف والوحشة، أي في الحالة القسرية الجبرية. فإذا اعتبرنا عوامل صلاح وتربية الإنسان عوامل داخلية، فلا بد لنا من اليقين بأن العوامل المؤدية للعنف لا تنجر في أكثر الحالات الى إيجاد تحوّل داخلي، فقراءة أصحاب الميول المنحنية نحو العنف للكيان الإنساني قراءةٌ، ترى في التأديب والعقوبة أهم عوامل التربية الإنسانية، ويصبح الإنسان في وجهة نظر هؤلاء حيواناً خائفاً، وفي هذا الجو من التفكير سيدخل كل شيء دائرة الممنوع عن الإنسان، سوى تلك الأمور التي يبلّغونه إياها.
النقطة الرابعة: لتيارات العنف رؤية خاصة للحقيقة، أي أنهم يعتقدون بنوعٍ من الجزمية والاطلاقية، وتعدّ الدوغمائية السمة الرئيسية المعرفية للفكر العنفي، إنهم يرون الحقيقة مطلقةً، وفي حوزتهم وملكيتهم، أما الآخرون فلا حظّ لهم منها أبداً.
النقطة الخامسة: يرى العنفويون إمكانية وجواز توظيف أي طريقة، أو أسلوب بغية الوصول الى هدفهم المقدّس، مشكّلين بذلك نوعاً من إباحة الوسيلة وتبريرها، فمن وجهة نظرهم ما يجب أن يكون مشروعاً ومقدّساً هو المقصود والغاية فقط، أما الوسيلة فنحن أحرار مجازون في اختيارها؛ حتى لو كانت غير سلميةٍ أو عنيفة، أو كانت ممنوعةً في العرف القانوني لذلك المجتمع، ووفقاً لذلك تأخذ المصلحة معنى خاصاً، أي أن مصلحة الوصول الى الهدف المقدّس تستدعي الاستفادة من أي طريقة أو أسلوب، لكن هؤلاء لم يقدّموا جواباً عن التساؤل التالي: هل يمكن القول بوجود أمورٍٍ تقف عندها المصالح الدينية أو القومية؟ وهل يمكن ضبط هذه الامور وتحديدها؟ أم أن مصلحة الوصول إلى الهدف المقدّس تجعلنا في حلِّ استخدام أي وسيلة أو أسلوب؟ أي هل أن كافة المحرّمات الشرعية تعتبر ـ انطلاقاً من ذلك ـ جائزةً فيما تجعل الواجبات الشرعية محظورةً ممنوعة؟
النقطة السادسة: في رؤية هؤلاء، لا مكان للتعقّل والعلم والمعرفة، وبعبارةٍ أكثر بساطةً لا تلعب المعرفة الدور الأول والرئيس في سعادة الإنسان، ثمة أمور أخرى غير المعرفة والتعقّل والدراية لها دور في السعادة الإنسانية، وهؤلاء الأفراد لا يصرفون وقتاً كافياً لتحصيل المعارف المتنوّعة والاطلاعات الدينية؛ انطلاقاً من هذا النوع من التفكير، كما لا يجري ذمّهم أو تقريعهم من جانب علماء الدين، ولذلك فهم يعتمدون ـ بصورةٍ أكبر ـ على عناصر غير معرفية من قبيل القضاء والقدر، وهذا الموضوع في غاية الاهمية، ذلك أنه إذا لم يلعب العلم والمعرفة دوراً أساسياً في مسيرةٍ أو وضعٍ ما؛ فما سيحصل ليس إلا سوء الاستفادة من هذا الوضع، مما يبدّل المناخ كله إلى آفةٍ اجتماعية.
النقطة السابعة: وهي نقطةٌ تقرأ وتلاحظ تصورات العنفويين عن السياسة، إنهم لا يولون أهميةً للقانون، هذا أولاً، كما إنهم يعيشون في مجتمعات يقبلون بقانونها جبراً وقسراً، لا كضرورةٍ اجتماعية توصل الناس ـ مثلاً ـ إلى عدم إمكانية الحفاظ على المجتمع نفسه؛ دون تحقيق هذا التعاقد الاجتماعي بينهم، فقد أتى القانون من الخارج، وكان يمثل نهضةً ما بين مثقفي ذلك المجتمع، وقد تمّ الاعتراف به في سياق ظروف اجتماعية خاصّة هناك، لكنه لم يحظ بموقعية مميزة لدى الوعي العام، والاهم لدى شريحة علماء الدين، والذي يبدو أن العنفويين ـ لا سيما علماؤهم ـ يرون القانون البشري مبرراً ضمن ظروف خاصة محددة، أما القانون الاصيل الذي لا يجوز نقضه فهو القانون الإلهي فقط، حتى لو كانت تلك القوانين البشرية مصوّبةً من قبل مجلس الشورى أو مجلس الخبراء، ومدوّنةً على أساس القوانين الشرعية، فالناحية العملية تحكي: عن أن القانون البشري المبنيّ على الشرع لم يحظ بأية عناية أو اهتمام، أي أن هؤلاء مستعدون لجعله تحت أقدامهم ـ وبكل بساطةٍ ـ دون التفاتٍ إلى أن هذا الأمر يمكن أن يفضي إلى خلق مشكلات اجتماعية، وإذا ما أردنا استخدام اللغة الفقهية أمكننا القول بأن الرجوع إلى القانون والتمسّك به إنما يدرج ـ عند هؤلاء ـ في عداد العناوين الثانوية ويكتسب حكمها، أي أنه يرجع إليه في صورة الاضطرار، فيما يرون أنفسهم مُجازين في استخدام كل ما يراه الشرع جائزاً، سواء كان قانوناً أو غيره.
النقطة الثامنة: لا قيمة لرأي وإرادة الشعب عند هؤلاء، ففي بعض القراءات للدين يلعب الرأي العام ورضاه دوراً في تعيين وتحديد الكثير من المسائل والموارد، أما في القراءة العنفوية للدين؛ فلا ضرورة تقتضي الرجوع إلى رأي الشعب، في أي حالةٍ من الحالات حتى في دائرة المباحات، أي أننا لو فرضنا أن تمام المقدرات الاجتماعية والسياسية ملك لله تعالى وأنه سبحانه أودعها ومنحها شخصاً واحداً في كل زمان؛ فسيكون التصرف في الدائرة العامة دون الرضا المسبق، أو الاذن اللاحق منه غصباً، وبالتالي ـ أي إذا اعتبرنا ذلك غصباً ـ فإن القيام بأي نشاط سياسي أو اجتماعي من طرف الشعب؛ سيصبح تصرفاً في مجالٍ آخر، تماماً كشخصٍ يريد التصرف ووضع اليد على منـزلي، وفي هذه الحالة يكون لي الحق في الوقوف أمامه ومواجهته والتصدّي لـه، وفي هذه الرؤية يدخل التمسك بالانتخاب ورضا الشعب تحت عنوان "أكل الميتة"، وذلك حتى لا يتهم أعداء الإسلام الدين بالاستبداد والديكتاتورية.
النقطة التاسعة: لا مكانة لحقوق الإنسان في هذا الطرز من التفكير، ليس فقط في المباحث السياسية، بل حتى إذا أخذنا الحكمة الإلهية بعين الاعتبار، ولاحظنا التكاليف الإلهية التي جعلت للإنسان، فإن ما سنخرج به ـ وفقاً لنمط التفكير هذا ـ انعدام أي مجال أو فرصة لحقوق الإنسان أيضاً، فالحق هو ذاك المنتزع من التكليف، وهذه الحقوق استُودعت واستُبطنت الأحكام الإلهية، أي أن قراءة مسبقة جرت لصلاح الإنسان ـ عندهم ـ انطلاقاً من الأحكام نفسها، وبالتالي فإذا ما طبقنا هذه التكاليف الفقهية الموجودة؛ فلن نعود بحاجة إلى حقوق الإنسان.
ومن الواضح أن نصوصنا الدينية لم تشر أساساً الى بعض الحقوق، وهي حقوق تنبّه لها الإنسان المعاصر أخيراً، ومن هنا جرى تدوين هذه التكاليف في مناخ لا أثر فيه لقضية الحقوق أصلاً، وبناءً عليه، فإذا ما طرح هذا الفريق الحقوق جانباً؛ فإنه لن يشعر بعدم الارتياح أصلاً، ذلك أنه لا يرى نفسه مستَبعِداً لأي تكليف على الاطلاق.
النقطة العاشرة: في عالم السياسة، يرى هذا الاتجاه غير المقدس مقدساً، وهذا الانتاج للقداسة يستدعي خلق مشكلات اجتماعية، ذلك أنه يوجب توسعة دائرة المقدس توسعةً تتجاوز الحد الطبيعي في الاطار العام والاجتماعي والدنيوي، وعندما يجري تقديس أمر ما؛ فلن يمكن نقده بعد ذلك، وفقدان النقد يحمل في طيّاته أزمات اجتماعية كثيرة.
النقطة الحادية عشرة: يمارس العنفويون السياسة في إطار الاحتفاظ بالحد الادنى للحرّية، ففي عصر المشروطة (الحركة الدستورية) كان العلماء يستحضرون تعابير من قبيل "كلمة الحرية المشؤومة"، أو "كلمة الحرية الخبيثة"، وهو ما لا يخصّ عصر المشروطة، إذ أن هؤلاء يرون الحرية ظاهرةً وضيعةً شيطانية، ويعتبرونها واحداً من نتاجات الثقافة الغربية المنحطّة.
ما هو البناء السياسي والاجتماعي، وما هي الرؤية التاريخية ـ الثقافية التي تنتج العنف؟
شبستري: لا أدري إلى أي مدى يرتبط ما سأقوله الآن مع السؤال الذي تفضّلتموه، لكنني أعتقد بأن الإصرار على البنية السياسية والاجتماعية السابقة، وعدم التوجه والعزم على تغييرها أمر يؤدي الى العنف، فطوال القرون الماضية ظهرت في مجتمعنا بنية سياسية واجتماعية خاصة؛ كان هناك انسجام بينها وبين الثقافة السياسية، والإصرار على بقاء هذه البنية السياسية والاجتماعية والثقافية يفضي إلى العنف ويولّده، ذلك أن المجتمع في دنيانا المعاصرة لا يمكنه أن ينال الموفقية ويحظى بالنجاح؛ ما لم يشارك الجميع فيه في كافة النشاطات السياسية وغير السياسية، ففي الحياة المعاصرة المليئة بالتباري والتسابق ـ والتي يمثل التطوّر والتنمية بعض أهم أهدافها ـ لا يمكن الحياة دون فعاليّةِ وبناءِ، وتأثيرِ الشرائح والافراد المختلفين للمجتمع، فلا بد من توفر ظروف في المجتمع وشروط يصل فيها الأفراد إلى الحد الأعلى من النضج المادي والمعنوي، لكن النقطة المهمة هنا هي أن هذا النوع من ممارسة الحياة غير قابل للتحقق، إلا في ظل الأنظمة السياسية الديمقراطية؛ حيث بالإمكان بلوغ أفراد المجتمع الحد الأعلى من الفعالية والإنتاج، وفي هذا المجتمع الذي يتمكّن فيه الافراد من التمتع بالحد الأعلى من القدرة والاستعداد الذاتي، يمكن لظاهرة كهذه أن تتبلور تحت مظلة النظم الديمقراطية.
أمّا كياننا السياسي والاجتماعي والثقافي السابق فلم يكن ديمقراطياً على الاطلاق، فكياناتنا الماضية كانت ذات أشكال مختلفة، لكن عنصر الاشتراك فيما بينها كان الطاعة للأعلى، ولِلما فوق، وللمرجعيات السلطوية المتنوعة، بحيث إن هوية الإنسان ـ الفرد وشخصيته لم تكن لتكتسب معنى لنفسها إلا بارتباطها بما هو فوقها من مقامات، فلم تكن ثمة مشاركة في السلطة واتخاذ القرارات، كما لم يتمتّع إنسانٌ بحق تقرير مصيره بنفسه، وأساساً لم يكن هناك طرح لهذه الأصول والمرتكزات في أيّ مكان من العالم، إن الإصرار اليوم على بقاء هذه النظم والكيانات السياسية والاجتماعية يؤدي إلى شل الإبداع الإنساني عند الأفراد وانتكاسه، والحال أن واقع الحياة المعاصرة وظاهرة التسابق العالمي للتنمية المادية والمعنوية المستديمة، والتي تستوعب اليوم كل العالم الإسلامي تتطلب نوعاً آخر من الحياة، وهذا الإصرار يفضي إلى العنف، وبالتالي لا يحقق الحاجات المادية والمعنوية للبشر ولا يشبعها، ويبدو أن البعض ما زال يشكّل عائقاً من عوائق التنمية المادية والمعنوية.
إن هذه المجتمعات ليست أحادية الثقافة، أي أنها في نفس الوقت الذي تحكمها فيه نُظُم اجتماعية وسياسية قديمة، تطالب شرائح وجمعيات داخلها بنوعٍ آخر من الحياة والفعالية والإبداع، إن الفئات والقوى التي ظهرت في العقود الأخيرة في المجتمعات الإسلامية تستدعي نوعاً جديداً من الحياة وتنادي عليه، فيما يسمح الكيان الاجتماعي السابق بنمط آخر منها، وما سيحدث في نهاية المطاف هو عدم قيام حوار وتفاعل بين الطرفين واستبدال ذلك بالتصادم، وسيفضي ذلك الى بروز مشكلات داخل المجتمع عموماً، والفئات خصوصاً ما يتمظهر على صورة العنف، وهذه البنية السياسية الاجتماعية والثقافية السياسية الحاكمة في المجتمعات المسلمة؛ إنما هي امتداد لتلك الحياة السياسية الماضية، أي منذ زمن خلافة الخلفاء الراشدين وحتى خلافة الخلفاء الأمويين والعباسيين؛ وصولاً إلى السلطات وشبه السلطات التي أتت فيما بعد، حيث لم تجر أية تغييرات في الأطر الأصلية ولم تحضر هناك في تلك الهيكلية الاجتماعية والسياسية تلك المقولات التي نراها بمعانيها المعاصرة اليوم من قبيل حقوق الإنسان والمشاركة والحرية والمساواة، فمثلاً كانت البيعة زمن الخلفاء الراشدين وزمن الأمويين والعباسين موجودة، بيد أنه لم تكن هناك بيعة بالمعنى المعاصر من المشاركة الاجتماعية والسياسية، فلم يكن هناك تدخل للشعب أصلاً في القرارات كما هو الحال اليوم، والحد الأكثر الذي كان يحصل هو تدخل مجموعة من النخب، كما أن البيعة التي كانوا يقومون بها لم يكن بإمكانهم فيها التراجع والفسخ، أما الحريات السياسية التي كانت موجودة زمن الخلفاء الراشدين فلم تكن تعني سوى قدرة الأفراد على نقد الحاكم، الأمر الذي كان مرتبطاً أيضاَ بمدى عدالة وإنصاف الحاكم نفسه بحيث ـ وانطلاقاً من ذلك ـ يتقبل النقد ويستمع اليه أو لا يفعل ذلك، لكن هل أن حرية النقد كانت تعبر عن المشاركة في اتخاذ القرارات في مختلف أبعاد الحياة السياسية؟ وهل هي نفس الحريات السياسية والاجتماعية المدرجة اليوم في دساتير البلدان؟ كلا، إنها ليست بهذا المعنى أبداً.
إن الحرية السياسية ـ بمفهومها المعاصر ـ تكتسب معناها في السياسة المعاصرة التي تعبر عن نوع من النظم الجمعي، وحيث إن السياسة في القرون الماضية لم تكن بهذا المعنى؛ فكيف يمكن الحديث ـ مع ذلك ـ عن الحريات السياسية المعاصرة والتفتيش عنها في تلك الحقبة الزمنية؟! إن الرجوع إلى مباحث الإمامة في علمي الفقه والكلام يدلل على المدى المحدود الذي كانت تعيش فيه السياسة. فالبغدادي يكتب في كتابه "الفَرق بين الفِرق" قائلاً: إن وظائف الإمام عبارة عن نصب القضاة، وحفظ الحدود، وتقسيم الفيء، وقد كتب الآخرون غيره نفس هذا الكلام مع فوارق بسيطة، ففي تلك الأيام كانت وظائف الإمام عين الحدود السياسية، ومن وجهة نظري، إن واحدة من عمليات الخلط في مجتمعنا اعتبار التساوي ما بين هوية حرية نقد الحاكم في صدر الإسلام والحريات السياسية والاجتماعية المعاصرة، فأساساً لا يمكن القول بأن النصوص والسنة والسيرة الإسلامية أسست للحرية السياسية والاجتماعية المعاصرة، أو قامت بإمضائها وتأييدها، لمجرّد أننا عرفنا أن ظاهرة نقد الحاكم كانت قائمة في تلك المرحلة، ففي تلك الحقبة الزمنية قد يكون الرجل الذي يقف على رأس الجهاز السياسي والاجتماعي ظالماً أحياناً، وعادلاً أحياناً أخرى، ربما يسمح أحياناً بالنقد وأخرى لا يسمح به، لكن ذلك يغاير كلياً ظاهرة الحريات السياسية والاجتماعية المعاصرة والتي تعني المساهمة في تحديد المصير السياسي والاجتماعي، والمشاركة في إدارة أمور المجتمع.
إن الإصرار على كون المفاهيم السياسية المعاصرة حاضرةً في نصوصنا الدينية الماضية، أو في السيرة كذلك لا يحل المشكلة، بل إنه يضاعف منها، والطريق الصحيح هو أن نثير ـ نحن المسلمين ـ هذا السؤال وهو: ما هي العلاقة والموقف الذين لا بد لنا من اتخاذهما، وتأسيسهما فيما بيننا وبين العلوم والمفاهيم السياسية المعاصرة، التي لا يمكننا العيش من دونها؟ هل أن إيماننا الديني يسمح لنا بالقبول بهذه المفاهيم والإقبال على هذه العلوم أو لا؟
إن الجواب الديني عن هذا التساؤل إيجابي تماماً.
ومن الضروري لي أن أشير الى مجموعة أمور أيضاً، تتعلق بالنقاط التي أثارها جناب الشيخ كديور، فمن وجهة نظري، حتى لو استعضنا نحن التصوّرات الحاصلة فعلاً عن الله، والإنسان والدنيا، و… بتصوّرات مغايرة؛ فلن تحل أمراضنا ومشكلاتنا ما لم نحل بعضاً من القضايا السياسية البنيوية، أي أنه من الممكن أن يكون تبديل تصويراتنا في مجال الفلسفة أو الكلام أمراً مناسباً؛ بحيث نصبح قادرين على عرض تصوّرات عن الله، أو بقية المفاهيم الدينية تتصف بمعقولية أكبر من الماضي، لكن المشكلة لن تُحل من هذه الزاوية، أي العنف، فلا بد لنا من تغيير البناء السياسي والاجتماعي السابق، والذي اصطبغ بصبغة دينية وكلامية، والتسليم بالبناء السياسي الاجتماعي والثقافي السياسي الجديد، وهو ما بات يسمى اليوم في عالم الثقافة السياسية والاجتماعية: بالديمقراطية. ومن الطبيعي أننا إذا أردنا أن نرفع يدنا عن تلك البنى الاجتماعية أو السياسية فلا بد لنا أن نتخلّى أيضاً عن تلك الأسس الفقهية والكلامية والمعرفية المرافقة لها، وهو أمر ممكن وضروري أيضاً.
والسؤال الأساسي هو، هل بإمكاننا ـ نحن المسلمين ـ النظر الى حياتنا الدنيوية من منظار تعاقدي؟ وهل يسمح لنا فكرنا الديني بهذا النوع من القراءة والرؤية؟ هل يمكننا أن نجعل حياتنا شبيهة بالتعاقد الذي يقوم به عدة أشخاص، بغية تأسيس شركة مساهمة؟ هل نحن مستعدون للاعتراف من زاوية فكرية دينية بأننا نريد أن نؤسس بناء اجتماعياً، يقع ضمن دائرة مسؤولياتنا كأفراد مستقلين؟ هل يمكننا القول بأننا نريد أن نؤسس لكيان اجتماعي قائم على العدالة وحقوق الإنسان، مترافق مع تفسيرات فلسفية؟
ثمة تياران حالياً يقفان بالضبط ـ كلاهما ـ أمام إشكالية جادّة، فوفقاً لنمط تفكير أحدهما يمكن بل يجب بلورة بنية اجتماعية وسياسية، قائمة على العدالة المستنبطة من الكتاب والسنة، لكن طبقاً لتفكير آخر، لا معنى للعدالة المستنبطة من الكتاب والسنة، بل لابد من وضع أسس الكيان الاجتماعي وإقامتها على الأصول المستنبطة من التفسير العقلاني للعدالة وحقوق الانسان، وهو بحثٌ يجرّ الى عدد كبير من الموضوعات، فمثلاً، ما هي تلك المسائل المتفرّعة على العدالة وحقوق الإنسان؟ وما هي الحريات السياسية ـ الاجتماعية المتصلة بمفهوم العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وما هو معناها؟ ما هي الحرية في إطار العدالة؟ والأشخاص الذين يريدون بناء كيان اجتماعي على مثل هذه الأصول سيراعون بالتأكيد معتقداتهم الدينية.
لماذا كان الكيان التقليدي غير ديمقراطي ومولّداً للعنف؟ هل أن تقليديته أو عدم ديمقطراتيه أو كليهما معاً سبب العنف أم لا؟
شبستري: لا بد لنا من التفكيك بين مسألتين هما:
أ ـ هل أنتجت كياناتنا الاجتماعية الماضية ظاهرة العنف في المرحلة الزمنية الماضية، أم أن الأمر لم يكن كذلك؟
ب ـ لماذا تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم هذه الظاهرة؟
بالنسبة لي، يعنيني الموضوع الثاني، وأؤكد أن الإصرار على حفظ البنى القديمة يفضي في عصرنا الراهن الى العنف، أي أن إبداء الممانعة عن تبديل هذه البنى والهيكليات بنظم ديمقراطية هو الذي يؤدي الى العنف، ذلك أن تلك الإبداعات التي لم تعد لتنفكّ عن الحياة المعاصرة؛ لا تتيسر إلا في ظل النُظُم الديمقراطية، وسواء قبلنا اليوم أو لم نقبل؛ فإن طاقات إنسانية كثيرة في المجتمعات الإسلامية ـ لا سيما مجتمعنا الإيراني ـ قد تفلّتت، ولا يمكن لأحد ضبطها، وعلى المجتمعات الإسلامية الاعتراف لهذا الواقع والتسليم به، وعليه، كيف يمكن التوفيق بين هذا الأمر وبين نظامنا القيمي، وبأية خطوات وتدابير لا بد أن نفكّر؟ إن هذا هو المعضل المهم الذي نواجهه.
لكن وجود هذه الإشكالية المعقّدة لا يبرر لنا إغماض أعيننا والتغاضي عن الطاقات المتحرّرة لدينا، وأن لا نعرف أساساًً في أية دنيا نعيش، ومن ثم نصر على تلك الهيكليّات الاجتماعية والاقتصادية الغابرة، الأمر الذي يضاعف من حدّة المشكلة ويوسّع من دائرة العنف، لا يمكن للمعضلات أن تحلّ إلا عندما ننظر الى الواقع بعينين مفتوحتين، ونملك مع ذلك جرأة العمل والاقدام، وبدون ذلك لا يمكن حلّ أي منها، والحياة المعاصرة مليئةٌ بهذا الوضع.
كديور: إذا كان فهمي صحيحاً؛ فإن جناب الشيخ مجتهد شبستري يرى أن البنية السياسية المولّدة للعنف؛ هي تلك البنية التي تسعى لحفظ الماضي والاحتفاظ به وبإصرار، أي أن الإصرار في الواقع علىحفظ بنية مرّت وانقضت مرحلتها التاريخية، يمكنه أن يمثل أرضيةً مساعدةً لخلق العنف، لكن لابد لي ـ مع الموافقة على النقطة الاساسية لبحثه ـ أن أبين وجهة نظري هنا: ليست هناك ضرورة تقول: إن كلّ كيان وبنية سياسية انتهى أمدها، وتمّ وقتها تولّد العنف، وإنما ينجم عنها ذلك عندما لا تكون هناك حالةٌ من الانسجام والتناغم ما بينها وبين رغبات وقناعات الشعب، أي أن يخطو الشعب خطوةً أكثر تقدّماً من الدولة، ويبدي من نفسه تحوّلاً وتبدّلاً، ومن ثم لم يعد يقبل بذلك الجهاز والنمط السياسي، فلو فرضنا مجتمعاً شعبه كدولته متأخر فليس ثمة ما يلزم بتولّد العنف فيه، ذلك أن هناك انسجاماً ما بين عامة الشعب والسلطة، كما أن الناس أنفسهم رحبوا بذلك الكيان والنظم المتخلّف وقبلوا به، ووفقاً لذلك أعتقد أن أحد أسباب تولّد العنف في المجتمع هو اللاانسجام ما بين الجهاز السياسي الموجود وأكثرية الشعب، وعليه فلو أن نظاماً غير ديمقراطي حكم مجتمعاً ما، وكانت أكثرية الشعب متفاعلة وهذا النظام تفاعلاً إيجابياً، معتبرةً إياه نظاماً صحيحاً وسليماً، أي أنها وافقت عليه واعترفت به كنظام حكومي؛ فإن الدولة لن تضطر ولن تكون بحاجة الى ممارسة العنف حينئذ، ذلك أن الشعب يلبي كافة أوامرها ونواهيها، لكن المشكلة تحدث في المجتمع عندما تتمتع الغالبية الشعبية بنوعٍ من الوعي، لا سيما النخب الاجتماعية التي تكون قد بلغت درجةً من الوعي، أدركت فيها مدى التباين والعجز الذي ابتليت به الانظمة والهيكليّات السياسية من جهة واستطاعت ـ أي هذه النخب ـ أن تعي الحاجات الاجتماعية المعاصرة في زمانها؛ ففي هذه الحالة تضطر الدولة بغية استدامة سلطتها السياسية إلى ممارسة العنف واستخدام أساليب القهر والإجبار دون أن يكون لها طريق آخر، وذلك نظراً لانتمائها الى سياقٍ ونسقٍ قديمين، لا تستطيع من الناحية السياسية امتلاك قدرة الجواب معهما عن متطلبات الواقع المعاصر.
لكن السؤال الذي أثاره سماحة الشيخ تمركز حول: هل أننا قادرون ـ ومن الزاوية الدينية ـ وحاضرون لتعويض جهازنا السياسي الماضي، والإذعان للنمط السياسي الديمقراطي الجديد أو لا؟ أي، هل أننا مستعدّون للتنازل عن المرتكزات الكلامية، والفقهية، والمعرفية للكيان القديم أو لا؟
إن جوابي الشخصي عن هذا الأمر إيجابي، لكن ثمة عوائق تقف في هذا الطريق، واحدة منها الرجوع الى أسوة صدر الإسلام والتمسّك بها، تلك القُدوات التي نعترف لها بقداسة خاصة، لكن هل أنّ هذا الموضوع يلزمنا بالثبات والبقاء على قالب وشكل محدّد؟
يمكن للبعض أن يرى لذلك ضرورةً، لكن من وجهة نظري لا تلزمنا التبعية لهذه الاسوة بالعمل على صيغة أو شكل خاص، ولا تفرض علينا ذلك أو تحملنا إياه، أي، صحيح أن هؤلاء العظماء انتهجوا طرقاً وأساليب خاصة، في ممارسة الحكم، وكانت لهم أحكامهم الخاصة في ذلك، لكن قدوتهم لنا تقف عند حدود الكليات والأصول، ولا تبلغ مجال الفروع والمسائل المتأثرة بالعنصر الزمني، فلو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعث اليوم؛ فمن المؤكد أنه كان سيستخدم أساليب ومناهج تسعى لحفظ بعض الأصول، تختلف عن تلك التي كانت موجودة قبل ألف وأربعمائة عام، ولا يتوفّر لدينا أي دليل فقهي وكلامي يؤكد أن هؤلاء العظماء لو مارسوا اليوم عمل الحكومة؛ فسوف يطبقون ما فعلوه قبل قرون طابق النعل بالنعل، فإذا أردنا العمل وفق الكتاب والسنة؛ فلا بد لنا من رعاية أصول وأوليات، كحفظ كرامة الإنسان ورعاية القسط والعدل، وعدم جواز تولّي غير المسلمين حكم المجتمع الإسلامي وموارد أخرى من هذا القبيل، أما بقية الأمور فليس ثمة سبيل فيها سوى الرجوع الى رأي الشعب والى التعاقد الاجتماعي، شريطة عدم إفضاء ذلك إلى وقوع أي منافاة مع المحرّمات الشرعية، وليس هناك أي أمر آخر يلزم اتخاذه من الناحية الدينية، وبناءاً عليه فالحاكم في مثل هذا المجتمع هو العقل الجمعي للمسلمين، وكل ما يراه هذا العقل مصلحة (طبعاً شريطة عدم مخالفته حكماً دينياً) فهو مجاز في إنفاذه، وهل يمكن بغير هذه الطريق إدارة المجتمع، وخلع اسم الدين عليه؟!
واذا ما تأملنا في نحو علاقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والإمام علي (عليه السلام) مع المجتمع، فلا ينبغي أن ننسى أن هذين الوجودين المقدّسين كانا حائزين على خصوصيتين اثنتين، لا نجد من يتحلى بهما في زماننا أصلاً، إحداهما العصمة، وثانيتهما العلم بالغيب. ولنفرض أنه قد جرى في ذلك الزمان استخدام منهج وأسلوب خاص، لكن الشخص الذي لا يتمتع بهاتين الخصوصيتين لا يحق له إدارة المجتمع بتلك الأساليب والطرق، وعليه فلا سبيل أمام الافراد العاديين في زمان الغيبة لإدارة المجتمع إلا العودة الى العقل الجمعي، وإذا ما كان هناك من يعتقد بأن ثمة نموذجاً متبقياً لإدارة المجتمع وأننا مسؤولون شرعاً عن اتباع هذا الأنموذج، فلا بد له أن يبرز دلائله على هذا الأمر، لقد توصلت شخصياً ـ وبعد البحث والتفحص ـ الى هذه النتيجة وهي أنه لا يوجد بأيدينا أي أنموذج لإدارة المجتمع عصرَ الغيبة.
أما فيما يتعلق بسؤالكم الأساسي أي: ما هي تلك البنية السياسية التي تولّد العنف؟ فلا بد لي في جوابه من أن أبين عدة نقاط:
النقطة الاولى: إن كل نظام سياسي تتواجد فيه الخصائص التالية فهو نظام يخلق ـ بالتأكيد ـ العنف ومظاهره، فأهم عوامل العنف عدم انبثاق الحكومة من الشعب، وهذا الانبثاق ليس شرطاً حدوثياً فحسب بل هو شرطٌ بقائي أيضاً، وبعبارة أخرى لا بد أن تكون وجهة الحكومة وحركتها منسجمةً ووجهة أكثرية الشعب وحركته، وما لم يكن الامر كذلك فلا مفرّ حينئذٍ من العنف، فمن الممكن أن تنشأ حكومة من الشعب وتنبثق عنه، لكن رأي الشعب وإرادته دخيلان في مرحلة الاستمرار أيضاً، فالحكومة والسلطة ملزمة بتأمين رأي الشعب ورضاه، لا أن الشعب ملزم بتنفيذ إرادات الحكّام والمسؤولين وميولهم، هناك من يدعو في بعض المجتمعات الى ضرورة مناغمة الشعب نفسه مع السلطة، والحال أن الحكام أنفسهم هم الملزمون بالقيام بمثل هذا الأمر.
النقطة الثانية: لا يجوز للدولة أن تعتبر نفسها مكلّفة بتكليف خاص من جانب الله سبحانه، أي إذا وافقنا على عدم وجود أنموذج خاص في زمن الغيبة؛ فلن تعود لأحد صلاحيات وامتيازات خاصّة، بغية هداية المجتمع فيما لا يتمتع الآخرون بمثل هذه الصلاحية، واذا ما اعتقد شخص أو جماعة وشريحة أنهم يملكون مسؤولية خاصة كهذه فإن مشكلات كبيرة سوف تحدث في المجتمع.
النقطة الثالثة: إن الحكومات المركزية القائمة على حاكمية الفرد الواحد، والمبنية على منهج ثيوقراطي ديني تؤدّي الى نوع من العنف أيضاً، ذلك أن الدولة المتمركزة القائمة على الفرد تختزن في داخلها تمركزاً للسلطة.
النقطة الرابعة: إذا كان المجتمع محكوماً لطبقيةٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ ما، وكان يعاني من حالةٍٍ من الانقسام والمواجهة الطبقية؛ فإن العنف سيأخذ طريقه إليه، وبعبارة أخرى إذا لم نعتبر الجميع مواطنين متساويين، أي اعتقدنا بأن ثمّة مواطناً من الدرجة الأولى وآخر من الدرجة الثانية؛ فإن المواطن ذا الدرجة الأولى سوف يستعين بالعنف وسيلةً، تؤمّن له دوام سلطته على المواطن ذي الدرجة الثانية، وهذا معناه أنّ الطبقية السياسية تصنع عنفاً، كما أن عدم الاعتقاد بالمساواة السياسية ـ لا سيما في حالات كثرة المواطنين، ذوي الدرجة الثانية، وتحوّل أصحاب السلطة نتيجة ذلك إلى أقلّية ـ سوف يؤدي غالباً إلى حدوث مشاكل أيضاً.
النقطة الخامسة: إذا لم يجر تداول السلطة في مجتمعٍ ما، وبعبارةٍ ثانيةٍ ما دامت سلطة الحاكم مستمرةً ما دام العمر؛ فسيؤدي ذلك الى بروز آفة الفساد، ذلك أن مداولة السلطة السياسية تحول دون تخييم حالة الركود والموت والشلل في المجتمع والسياسة، فعندما يكون للسلطة هذا الامتداد الزمني؛ فلن يكون ثمة وسيلة في مرحلة الاستمرار سوى الرجوع الى العنف والتوسّل به.
النقطة السادسة: عدم خضوع الحاكم للرقابة وعدم مسؤوليته أمام الشعب، فإذا لم تجر رعاية الحريات السياسية في مجتمعٍ ما، وكذلك الحريات المشروعة وتلك المدرجة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ فلا شك في ظهور العنف في هذا المجتمع، والمراد من الحرية هو أن يتمتع الأفراد بتلك الحريات، المصرّح بها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من الناحية السياسية، وبناء عليه فللشعب ممارسة الرقابة على الدولة، كما يحقّ له مساءلة الحكومة أيضاً، والمجتمع الذي يعدّ فيه الاختلاف في الرأي مع السلطة جُرماً، ويكون "العدو" محور الفعل السياسي فيه، أي يحصل اعتقاد "بأنهم ما داموا يعادونني فأنا موجود"… هذا المجتمع لا يمكنه تجنّب العنف، أو الحيلولة دون وقوعه، فإذا أصبحت السلطة في المجتمع بيد الاقلية، وكانت من الناحية الدينية أقليةً محتكرةً؛ فلا يوجد أمام هذه الاقلية سوى طريق العنف وسيلةً لما تريد، ذلك أنها لو أرادت الرجوع الى رأي الأكثرية فلا بد لها من التخلّي، والانسحاب من الميدان، وحيث إنها لا تريد ذلك؛ فلا مفرّ لها من استخدام العنف حينئذٍ.
النقطة السابعة: إن حكومةً تريد من مواطنيها إطاعتها دونما اعتراض، ولا تعترف لهم بأي حق قانوني في معارضتها؛ حتى داخل الأطر ووفق الموازين القانونية، أو عدم الموافقة على تعاطيها وأدائها ونمطها، أو تشكيل كيان حزبي لهم.. إن مثل هذه الحكومة ليس أمامها سوى العنف والأخذ به.
وعلى أية حال فالجواب عن السؤال الذي ذكرتموه وهو: "هل تترك البنية السياسية لمجتمعٍ ما أثراً في رواج قراءةٍ، ذات طابع عنفي عن الدين أو إسهام في تشكيلها؟" إيجابي مائة في المائة، فقد أوكل الدين في مجال السياسة أكثر الأمور الى العقل البشري، ولم يقدّم سوى الأصول العامة والكلية، وما نجده بين أيدينا في الساحات السياسية والاجتماعية باسم الدين أكثره أقرب الى العرفيات، وإلى الخلفيات التي حملها علماء الدين أنفسهم منها الى النصوص الدينية.
وبناءً عليه، فإذا ما كانت هناك سلطة دينية، تتمتع بجهاز الحكم وفقاً للخصوصيات السالفة الذكر؛ فإن هذه السلطة ستولّد العنف في المجتمع لا محالة، وتنشر قراءةً عن الدين تؤدي الى ذلك، ووفقاً لذلك، وبناء على كلمات الميرزا النائيني الذي كان يرى أن أعظم وأخطر أنواع الاستبداد هو الاستبداد الديني، لا بد لنا من الاعتراف بأن تلك القراءة التي تتيح هذا النوع من النظام السياسي وتجيزه، تحتوي بالتأكيد على أخطر أنواع العنف، ذلك أن العنف في الحكومات غير الدينية لا يحظى بدعامة شرعية، أما فيها فالأخلاق والشرع أنفسهما سيصبحان مجرّد أدوات ووسائل بيد السلطة السياسية، ومن هنا ما أكثر ما تعد أعمال العنف واجبات شرعية.
ما استنتجناه من وجهة نظركم هو: أن القراءات ذات الطابع العنفي عن الدين تمثل حصيلة التاريخ والفكر التقليدي، وليست نابعةً من ذات الدين، أي أننا لو عدنا ووصلنا الى حقيقة وروح الدين نفسه، فلن نرى شيئاً من أعمال العنف هذه، هل أن هذا الكلام صحيح؟
شبستري: يرتبط الجواب هنا بنوعية الفهم الذي نحمله عن الدين، فإذا كان مرادنا من الدين ما يفهمه عرف المتدينين؛ فإن الجواب سوف يكون مختلفاً عما إذا كان منظورنا فهماً آخر للدين يراه مفكّر أو متكلّم معاصر.
ففي الحالة الأولى يشكّل الدين مجموعة الواقعيات والحقائق العقائدية، والأخلاقية والعملية التي اكتست ثوب التحقّق في التاريخ، فإذا أخذنا هذا الفهم بنظر الاعتبار؛ فسوف نجد أن بعض الأعمال التي نلاحظها اليوم مخلوطةً بالعنف تؤلّف قسماً من الدين نفسه، أما لو فكّكنا جوهر الدين عن صدفه وسطحه، وحاولنا أن ننظر بعين ظاهراتية فسوف يتبدّل جوابنا عن هذا السؤال أيضاً. وفي هذه الصورة من الممكن أن نعتبر الدين نوعاً من السلوك، لا مجموعةً من الاعمال والعقائد والأخلاقيات. ومن الممكن حينئذٍ أن يقول شخصٌ بأن الدين نوع من الحياة المعنوية، أي نوع من الحياة المتجهة والسالكة نحو الله تعالى، وفي هذا النوع من الحياة يستقر الأفراد ضمن وضعيات إيمانية، ومن الواضح أن هذا الفهم للدين مغاير لذلك الفهم التقليدي الشائع بين المتدينين، كما هو الفرق ما بين دين العرفاء ذوي الدرجة الأولى، ودين المتكلمين والفقهاء.
ووفقاً للقراءة التقليدية للدين يعتبر الدين مجموعة من الأخبار والقضايا الواردة من جانب الله سبحانه، والتي يجب بناء الكيان الاجتماعي طبقاً لها، أما الوحي في هذه القراءة فهو عبارة عن مجموعة من القضايا والمعلومات المحددة، غير المحتاجة الى التفسير والتأويل، فالإنسان يحصل على بعض المعلومات بطريقة ذاتية، أي بنفسه، لكن بعضاً آخر من المعلومات ينتقل إليه عن طريق الوحي، والمعلومات الوحيانية ذات قسمين أيضاً، قسم منها يمكن للعقل الوصول إليه طبقاً للأصول والأسس، أما القسم الآخر فهو يتعالى ويتخطى العقل البشري، وتؤلّف المعارف الوحيانية عقائدنا وقيمنا وأعمالنا، وهذا النوع من التفكير الذي يتموضع في مرحلة أسبق من مرحلة فهم النصوص الوحيانية، ويشكل مرحلةً متقدّمةً على الفهم أو قبليات الفهم نفسه… يبتني على أصول معرفية وكلامية خاصّة، والإصرار على هذا الفهم للدين ـ بقطع النظر عن اعتباره أو عدم اعتباره الفلسفي ـ يخلق مع الاخذ بعين الاعتبار الحقائق الحياتية الإنسانية الجديدة إشكاليات عديدة، فإذا ما حمل مجتمعٌ ما تصوّراً كهذا عن الدين؛ فلن يمتلك القدرات المعرفية والإيمانية والعملية لايجاد مجتمع ديمقراطي، وعليه فإذا ما ألحّت جماعة على هذا التصوّر عن الدين؛ فلن تجد أمامها غير طريق العنف طريقاً لحفظ ما يراه الدين، نظراً لعدم قدرتها على التكيّف وواقع الحياة المعاصرة، وإذا كانت لدينا قراءة كهذه عن الدين فلن يمكننا ومن خلال مجرد الاجتهاد في الفروع الفرار من التورّط بالعنف.
بل يمكن تحصيل الجواب عن هذا السؤال من مختبرات التاريخ نفسه أيضاً، فإلى أي حدّ نجح العلماء في الحيلولة دون وقوع العنف ومظاهره؛ بالاستعانة بمجرّد الاجتهاد في الفروع، دون القيام بأي تغيير في الرؤية والقراءة لمعنى ومفهوم الدين والإيمان؟
أما لو فسرّنا الدين بالسلوك المعنوي في الحياة، وبالتأدب بالآداب اللائقة بالحق سبحانه وتعالى، وفهمنا الوحي كأعلى تجربة معنوية ودينية للإنسان تفتح أفقه الوجودي وتضعه في نقطة الجذب الإلهي، ومنحنا العلم والتجربة البشريين قيمتهما ومعناهما بهذا الدين، دون أن نقوم بتخريب النطاقات التي يتحرّكان فيها، وقرأناه كمشعلٍ وضّاء أمام النبي والمؤمنين ينير لهم الحياة… فإن هذا الدين ـ وكذلك الوحي ـ لن يضادّ أيّاً من حقائق أو واقعيات أيّ عصرٍ من العصور.
إلا يمكن لتجربة العقود الأخيرة في إيران أن تمدّنا بشيءٍ في هذا الاطار؟ وكمثالٍ، هل يمكن للجهد الذي قام به الميرزا النائيني للاعتراف ببعض الهيكليات السياسية الجديدة، أو تلك الجهود التي بذلت في العقدين الأخيرين… أن ترشدنا هل أن الاجتهاد في الفروع حلّ المشكلات أم لا؟
شبستري: سوف أشير في تكملة كلامي إلى جواب هذا السؤال، فكما قلت يمكن ـ انسجاماً مع التفسير الثاني للدين ـ اعتباره نوعاً من السلوك، وعدم حصره بأيٍّ من أشكال الواقع التاريخي والاجتماعي للعصور الماضية، فإذا اعتبرنا الدين سلوكاً إنسانياً خاصاً؛ فسننجر إلى القول أيضاً بأن دين النبي عبارة عن سلوكه الخاص المميز المترافق وتجربته الوحيانية، ومن زاوية ظاهراتية ـ وبشكلٍ ملخّص ـ يمكننا القول بأن دين النبي عبارة عن اعترافٍ وشهادة، اعتراف بألوهية الله، وشهادة بالناحية الخارجية له…، وقد دعا النبي الآخرين الى الاعتراف بألوهية الله، وشكّلت هذه الدعوة مضمون رسالته أيضاً، فدين النبي متمركز على تجربته، والتجربة النبوية تجربة مملوءة تنضح منها إلى غيرها (خلافاً لتجارب العرفاء)، هذا الاعتراف وتلك الشهادة من ذاتيات التجربة النبوية للأنبياء، ويمكن القول ببيان قاصر: إن هؤلاء يقومون بفعل التجربة، بحيث يقدرهم الله تعالى على البيان والكلام بما لم يكونوا ليقدروا عليه لولا ذلك، والمعنى المركزي والجوهر الأساس هو ذاك الاعتراف وتلك الشهادة، إنهم يمارسون التجربة، حيث يسخّرهم الله سبحانه بقدرته الإلهية للاعتراف والشهادة، ومن الطبيعي أن تتبلور هذه الشهادة وذاك الاعتراف في لغةٍ وثقافةٍ خاصّين، ومن هنا يبرزان ضمن أشكال المحدوديات التي تتّسم بها تلك اللغة والثقافة، وكل ما يرتبط بتلك اللغة والثقافة وذاك الزمان والعصر؛ إنما هو من أعراض وطوارئ التجربة النبوية، وعليه فإذا ما اعتبر شخصٌ ما أن الوحي عامل بعث واعتراف وشهادة بالنسبة للنبي واعتقد ـ أيضاً ـ أن لغة تلك التجربة لغة نموذجية (من النموذج والمثال)، فلن يرى ما يتحقق تحققاً تاريخياً، اجتماعياً، ثقافياً مضموناً ذاتياً للوحي، ومن ثم فلن يعتبره جوهراً لدين النبي حينئذٍٍ.
وعلى أية حال، فمن وجهة نظري لا بد لنا أن نوجه ـ في عالمنا المعاصر ـ هذا السؤال لأنفسنا: ما هي الرسالة الأساسية التي كان يحملها هؤلاء العظماء؟ وما هي التلوّنات التي اكتستها هذه الرسالة عبر التاريخ؟
إن هذا السؤال سؤالٌ علمي، يمكن تقديم جواب عليه وفقاً للمنهج الظاهراتي، فإذا ما أثرنا سؤالاً من هذا القبيل؛ أمكننا الاجابة عنه بأن جوهر تلك الرسالة هو البعد المعنوي، إن جوهر هذه الرسالة ـ والتي تعبّر أيضاً عن منشأ تديننا واعترافنا وشهادتنا ـ ذو إشارة وحركة نحو الله تعالى، وبناءً عليه فلا عنف في الدين.
إن النبي إنسانٌ بعث في ظروف تاريخية خاصة وفتح آفاقاً معنوية خاصة، أما أين هو ذاك الافق المعنوي، فهذا ما لا بد من تقديم إيضاح معقول له في علم الكلام، وفي هذا النوع من القراءة والنظرة للدين ستقدم سلسلة من التصويرات الجديدة عن الله، والنبي، والوحي، والإيمان، و… ومن الطبيعي أن تثير هذه التصويرات الجديدة مجموعة من المباحث الهامة والمعقّدة، مما لا نقصد هنا طرحه وإثارته.
وعلى أي حال، فما جرت الإشارة اليه آنفاً إنما هو نوعٌ من الاجتهاد في الأصول، يستدعي بدوره تحوّلاً في نهج الاجتهاد في الفروع أيضاً، وعلى حد تعبير إقبال اللاهوري: إيجاد تحوّل في كل الجهاز والكيان الإسلامي، ففي هذا النظام الجديد تكتسب مفاهيم من قبيل الله، والوحي، والنبي، والقانون، والقيم الدينية وغير ذلك معاني خاصة، وهذا التحول المشار إليه لا يعني إطلاقاً أي نوع من الخروج عن الإسلام، وإنما هو بيان لفهم خاص عن نبوة نبي الإسلام في هذا العصر، ومن الممكن أن لا تكون أمامنا أي وسيلة سوى تقديم فهم جديد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا الإمكان يمنحنا مجال التطابق وواقعيات الحياة في كل العصور، وفي ظل كافة الهيكليات والنظم الاجتماعية والسياسية، ويدفع الى عدم الحاجة بعد ذلك الى العنف وألوانه.
لقد ابتعدنا في زماننا الحاضر ألفاً وأربعمائة عام ـ كفاصلة تاريخية ـ عن عصر النبي، ونحن على دراية واضحة بهذه الفاصلة التاريخية، ولا يمكننا تجاهلها، وعلينا أن نمد جسور الترابط وعصر الرسول ورسالته؛ انطلاقاً من هذه النقطة التي نحن فيها، ومن الطبيعي أن يختلف فهمنا لرسالة النبي في عصرنا الحاضر الذي نعيش فيه عن فهم أولئك الذين كانوا يعيشون في أوضاع تاريخية سابقة، لكن هذا لا يعني خروجنا عن الإسلام، كما لا يعني ذلك بالنسبة اليهم هم أيضاً، وليس من الضروري أن يكون المتكلّم الذي كان يعيش في قرون سابقة مخطئاً في فهمه لأعمال وكلمات النبي، كما لا ملزم لأن يكون المتكلم المعاصر مع بعده الزمني الكبير عن عصر النبي مشتبهاً في نظرته لأحاديثه وسلوكياته أيضاً، فقد كان ذاك الفهم ميسراً لأولئك، فيما تيسّر هذا الفهم للمتأخرين الجدد، واذا ما تحقّق هذا الفهم الجديد وخرج إلى العيان والكينونة؛ فسوف يؤدّي إلى إحداث تغيّرات عميقة في النمط والمنهج والمسار، تغيرات ستحل الكثير من القضايا والتي من جملتها قضية العنف.
لقد جرى عرض أكثر من قراءة عن الدين على مرّ التاريخ، من بينها القراءات الكلامية والعرفانية والفقهية وغيرها، هل أن ثمة قراءة من هذه القراءات الكلاسـيكية أكثر قرباً إلى النمط الجديد، أو أن المسافة فيما بين الجميع وبينه واحدة؟
شبستري: تشكل هذه القراءات الثلاث الأركان الأساسية للقراءة التقليدية للدين الإسلامي، وهي قراءات تشترك في مناخ واحد، وليس هناك تغاير مهم فيما بينها، لقد ارتبط المتكلمون والفقهاء والمتصوّفة كلهم بتلك الأصول والمبادئ السابقة، وقد كان الفلاسفة وبعض العرفاء المسلمين أول من ابتعد عن هذا التصوّر، أي أن المفاهيم التي وظّفوها في معرفة الله، والنبوّة، والوحي والشريعة؛ لم تكن عين تلك المفاهيم التي استخدمها المتكلمون والفقهاء والمتصوّفة، وكمثال، مفهوم واجب الوجوب أو الاتصال بالعقل الفعّال (الوحي) أو الله كمعشوق، فهذه المفاهيم لم تكن من المفاهيم التي كان متكلمو القرون الأولى يطلقونها على الله تعالى والوحي، نعم، عندما أصبح الكلام فلسفياً؛ نفذت هذه المفاهيم فيه أيضاً، لكن عامة المتدينين ـ حتى في هذه المرحلة ـ يحملون تصوّراً وفهماً مختلفاً عن الدين.
وعلى أية حال، فقد أثار الفلاسفة وبعض العرفاء مقولات ومفاهيم متنوّعة ومتمايزة، وإذا ما أردنا أن نحكم فيما يتعلق ببُعد أو قرب هذه القراءات المتنوعة من الدين عن هذا النمط والمنهج الجديد المنتظم؛ فلا بد لنا أن نقول: بأن قراءة بعض العرفاء أقرب إلى الواقع الجديد، من حيث عواقبها وآثارها لا من حيث مضمونها، أي أن هذه القراءة تترك الإنسان أكثر حريةً في تنظيم حياته الدينية، كما تمنح الأفراد حق تنظيم حياتهم وكيانهم الاجتماعي، وفقاً لما يشخصونه من الصحة والصواب، أما لو سلّطنا نظرنا على محتوى قراءة هذا البعض من العرفاء؛ لرأينا فيه تمايزاً عنه.
كديور: لقد بين جناب الشيخ مجتهد شبستري قراءتين مختلفتين للدين، وذكر أن القراءة الجديدة له لا تفسح مجالاً للعنف، ودون أن أحكم في صحة أو بطلان هذه القراءة الجديدة، أوافق على أنها تقفل الطريق أمام العنف وظواهره، لكنني أريد هنا أن أشير الى جواب عن التساؤل القائل: هل أن القراءة التقليدية الكلامية ـ الفقهية تجيز العنف أو لا؟ هل أن المتدينين الذين يحملون هذا التصوّر عن الدين مجازون في الاستعانة بالعنف وفق الأسس الكلاسيكية أو لا؟
وقبل الدخول في البحث أرغب في تبيين مسألة وهي: أننا قادرون على عرض فهمين وتصوّرين للدين، مستنتجين من الكتاب والسنة حتى وفق الأصول والضوابط الفقهية والأصولية الموجودة والمتداولة، أحدهما "الفهم الرسمي" والآخر "الفهم غير الرسمي".
المسألة الأخرى التي أرى ضرورة بيانها هي: أنه لا وجود أساساً لقضية الجوهر والصدف والذاتي والعرضي ضمن الأطر والضوابط الفقهية ـ الكلامية التقليدية، ولذلك فبدلاً من أن أجيب عن تساؤلٍ يقول: هل تنشأ العنفوية من جوهر الدين أو لا؟ عليَّ أن أقدّم جواباً عن السؤال الآخر القائل: هل أن من لوازم الفهم التقليدي للدين اعتماد بالعنف والأخذ به أو لا؟
إن جوابي الشخصي عن هذا السؤال جواب سلبي، إذ لا تلازم بين هذين الأمرين، فمن الممكن تقديم قراءة مقوننة ومقبولة في الاوساط الحوزوية عن الدين، دون أن تفضي هذه القراءة إلى العنف، كما يمكن ضمن إطار هذا النظام الكلاسيكي رفض العنف الديني بشكل صريح، وبيان مشكلاته الكلامية والفقهية الحقيقية أيضاً.
اسمحوا لي أن أمركز الكلام حول مجموعة من الأحكام، التي يقال إنها تمثل مصاديق للعنف الديني، فقد قمت بتقسيم هذه الأحكام وفرزها في إطار طوائف ومجموعات، ومن الطبيعي أنني لن أدخل هنا في موضوع العقوبات، ولن أجرّ نفسي للحديث عن عقوبات من قبيل قطع اليد، والجلد، والرجم، وما شابه ذلك، لكن بقية الأحكام يمكن تقسيمها على الشكل الآتي:
المجموعة الأولى: الأحكام المربوطة بالارتداد وسبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم).
المجموعة الثانية: الأحكام المتعلقة بالجهاد الابتدائي، ويعني الجهاد الابتدائي إمكانية قيام المجتمع الإسلامي وإقدامه على تجهيز الجيوش وإرسالها لشن الحرب على المجتمعات والبلدان الأخرى، بغية جعلها مجتمعات مسلمة، فالجهاد الابتدائي تعبيرٌ ثانٍ عن الجهد الحربي لأسلمة الآخر.
المجموعة الثالثة: أحكام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أنني لو شاهدت أشخاصاً لا يقومون بفعل المعروف أو أنهم يرتكبون المنكرات، فإنه يحقّ لي ـ أولاً ـ أن أكره ذلك كرهاً قلبياً، وأن أخالف ـ ثانياً ـ هذا الواقع على صعيد اللسان، وفي المرحلة الثالثة أمارس فعل الأمر والنهي، وأواجه الواقع مواجهة مادية عينية، وقد أجاز الفقه التقليدي حتّى ممارسة القتل بغية هذا الأمر، وهو ما يمكنه أن يوقع التنوّع والتعدد الفكري في إشكالية شاملة وفقاً لهذا الاتجاه.
وهذه المجموعات الثلاث موجودة لدى كافّة الاتجاهات الفقهية السائدة.
أما المجموعة الرابعة: فقد طرحت في أوساط جماعة من الفقهاء من الممكن أنهم يمثّلون الاقلية، أقصد نظرية الولاية المطلقة للفقيه، فبناءً على هذه النظرية يحق للولي الفقيه في المجتمع الإسلامي والذي يملك قدرةً وسلطة لا حد ولا حدود شرعية لها، أن يقوم بكل عمل يراه صلاحاً، فإذا رأى هذا الفقيه مصلحةً، أمكنه أن يحكم بالعنف في المجتمع الإسلامي ويجيزه.
واذا ما أردنا أن نبحث في مصاديق موضوعة الدين والعنف؛ فلا بد لنا من تسليط الضوء على هذه الموارد الأربعة المتقدّمة.
ثمة فهم للكتاب والسنة يأخذ بهذه الأحكام المتقدّمة بلا قيد أو شرط، فداخل إطار هذا الفهم لمصادر الدين:
أ ـ يعد القتل عقوبة الفرد المرتدّ، وكذلك مصادرة أمواله وفصله عن زوجته، كما أن عقوبة سابّ النبي أو أحد المعصومين الآخرين هي القتل أيضاً.
ب ـ يجوز القيام بالجهاد الابتدائي لأسلمة المجتمعات الأخرى. (طبعاً، هذا البحث ليس مطروحاً بجدّية في زماننا، ذلك أن مشهور الفقهاء يذهبون الى إناطة هذا النوع من الجهاد بوجود المعصوم، وأما في عصرنا الراهن فالموضوع ملغ، ذلك أنه لا حضور للمعصوم حالياً. ولابد أن أشير إلى أن الكتب الاستدلالية طرحت موضوع الجهاد الابتدائي بشكل مطلق، واعتبرت أن ضرورة حضور المعصوم لأجل الجهاد الابتدائي على حدّ تلك الضرورة الموجودة في إقامة صلاة الجمعة والحدود وأشباه ذلك، فما أكثر ما يمكن القيام بالجهاد الابتدائي حتى في ظل غياب المعصوم! ولذلك فلو تحوّلت دولةٌ إسلامية في وقتٍ من الاوقات إلى دولةٍ عظمى؛ فمن الممكن ـ استناداً إلى هذا البحث ـ القيام والتصدي لأسلمة باقي مجتمعات العالم غير الإسلامية).
ج ـ إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر له ثلاث مراتب: هي مرتبة القلب، ومرتبة اللسان، ومرتبة اليد، ويمكن للحاكم الشرعي في المرتبة الثالثة إصدار قانون بالعقوبة المادية العينية، حتى لو أدى ذلك إلى القتل.
د ـ من وجهة نظر الفقهاء القائلين بالولاية المطلقة للفقيه، ليس هناك ما يمنع أو يردع الفقيه إذا ما رأى صلاحاً في أمر ما، فكل ما يراه الفقيه مصلحةً، يقع في رتبةٍ تتجاوز كافة الأحكام الأولية والثانوية.
هذه هي القراءة الرسمية السائدة عن الدين، وهي قراءةٌ تحمل ـ من وجهة نظري الشخصية ـ العنف في طيّاتها.
بيد أنه من غير الضروري تقديم قراءة جديدة للدين، بغية إبعاده عن دائرة العنف، ذلك أنه بالإمكان تقديم قراءة أخرى للكتاب والسنة، تخضع للضوابط الكلاسيكية دون أن يجرّنا ذلك إلى العنف.
ومن اللطيف هنا الإشارة الى بحث الاجتهاد في الفروع والأصول، فقد أشار الاستاذ شبستري إلى أن الاجتهاد في الفروع غير قادر على الحيلولة دون ظاهرة العنف الديني، لكني أخالفه الرأي في هذه النقطة، وأرى ان الاجتهاد الممنهج في الفروع الفقهية، والاجتهاد الممنهج في الكلام قادران على إيصالنا إلى النتيجة المطلوبة.
شبستري: أي هل تقصدون أننا قادرون على تحقيق النتيجة المرجوّة دون إعادة قراءة في مفاهيم الله والنبوّة والإيمان وأمثال ذلك؟
كديور: لقد قصدت بالاجتهاد الكلامي أننا ـ مثلاً ـ غير ملزمين باتباع تلك الأدلة التي أقامها المتقدّمون في مجال النبوّة والإمامة والغَيبة وغير ذلك، وعلى سبيل المثال، يمكن تقديم تصوّر وقراءة جديدة لموضوع الغَيبة، نعم، هذه القراءة تخضع لتلك الضوابط الكلاسيكية الاجتهادية الكلامية، فمفهوم الله في القرن الثالث عشر الهجري يختلف عنه في القرن الثاني الهجري، فعلى أساس أية ضوابط جرى هذا التمايز وهذا التحوّل؟ إن نفس تلك الضوابط يمكن أخذها وجعلها مبنى اجتهادنا الكلامي المعاصر، لكن لا بد لنا من الإذعان بأن علم الكلام قد ابتلي ـ ولقرون ـ بالجمود والركود، الى حد أنه لم يجر تأليف أي كتاب كلامي جاد ومبدع على هذا الصعيد.
وعليه، وبصورة مختصرة، يمكننا ـ وفي إطار نفس ذاك النسق التقليدي ممارسين للاجتهاد الفقهي والكلامي ـ إعادة النظر في هذه الأحكام الأربعة المتقدّمة، فالارتداد واحدٌ من المسلّمات القرآنية، لكن ما جرى بيانه في القرآن؛ إنما هو العقاب الأخروي للمرتد، ولم يؤتَ على ذكر جزائه الدنيوي بشكل صريح، لكن هذا الموضوع جاء في الروايات، وهي روايات متعدّدة في حدّ ذاتها، لكن السؤال هنا: من هو المرتد؟ إذا أردنا الجواب عن هذا السؤال وفق نفس تلك الضوابط التقليدية المعهودة؛ فسنرى أن دائرة المرتد ضيّقة للغاية.
لكن قضية الارتداد لا تنتفي أو تزول؟
كديور: كلا، لقد بيّنت أن الارتداد من المسلّمات القرآنية، لكن المرتد هو ذلك الذي يخالف الإسلام، لا على أساس البحث والتحقيق وإنما على أساس العناد واللجاج، مضافاً إلى إعلانه وجهة نظره، هادفاً إيجاد تيار اجتماعي ـ سياسي في المجتمع ، أما من يبدي وجهة نظره بطريقة علمية في كتاب أو … فليس مشمولاً لمثل هذا الحكم، وأساساً ليس هناك نظام ـ حتى الانظمة الديمقراطية ـ يوافق على إبداء وجهة نظر في إطار خلق تيارات سياسية ـ اجتماعية معارضة للنظام، ففي الانظمة الديمقراطية ثمة مواجهة جادّة وحاسمة مع التيارات الفاشية.
المسألة الأخرى هي أن حكم الارتداد لا بد أن يكون علنياً، ولا بد من ملاحقته ومتابعته في محكمةٍ مختصّة، كما لا بد أن يكون هناك مجالٌ للمتهم لكي يدافع عن نفسه ويمارس حقّه هذا، إذ الأصل قائمٌ على عدم الارتداد، وبالتالي فلو تحققت أبسط الشبهات؛ لأدّى ذلك إلى ارتفاع الحد، فإن مذاق الشارع يتجه ـ كما هو الحال في الزنا ـ الى عدم إثبات الحد وإقامته، وعلى أية حال فإثبات مثل هذا الحكم أمر بالغ الصعوبة، إلا أن يقدم الفرد نفسه على الاعتراف بالارتداد، ومن هنا فمصاديق الارتداد غايةُ في القلّة والندرة.
وهكذا الحال في سبّ النبي وسائر المعصومين، فمن الممكن أن يقال: إنه لو سمع شخصٌ سبّ النبي أو أحد المعصومين من جانب شخص آخر، فإنه قادر على قتله على الفور، لكن أولياء المقتول يمكنهم رفع دعوى شكاية ضد هذا الشخص، وبالتالي فلا بد أن يكون لديه شهود ليتمكن من إثبات حادثة السب هذه أمام المحكمة المعنيّة، وقد جاء في علمي الفقه والكلام الكلاسيكيين سلسلة من القيود والاحتياطات التي تصعّب من عملية إصدار الحكم في مثل هذه الحالات وتعقّدها، أما في مجتمعنا اليوم فالوضع مختلف، إذ إن هناك حالة من اللامراعاة لهذه الاحتياطات والقيود، وكأن الشارع ليست لديه أية احتياطات أو تحفّظات في هذا المجال.
أما فيما يتعلّق بالجهاد الابتدائي فلا بدّ من القول: بأن تجهيز الجيوش لهذا الغرض ليس أمراً جائزاً في كل الحالات، ذلك أن التدين ليس إكراهياً )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256)، أفهل يمكن بسهولةٍ إجبار الآخرين على التديّن؟
وعليه فالجهاد الابتدائي يكتسب ضرورته، إزاء نظام يحول دون توجّه الناس إلى الدين وإقبالهم عليه، ويؤلّف من ثمّ إيقاظاً لهم وتنبيهاً الى صيرورة التدين، فإيران في صدر الإسلام كانت على هذه الوضعية، والجهاد الابتدائي إنما يعبّر ـ صرفاً ـ عن رفع الموانع والعراقيل ليتمكن الناس من الإيمان عن كامل اختيارهم وإرادتهم، وليس الهدف من ورائه الأسلمة الإجبارية للبشر.
أما ما يخصّ المرتبة الثالثة من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي مرتبة اليد؛ فلا بد من القول بأن المسؤولين هم وحدهم ـ في دولة ومجتمع ذي قانون ـ المجازون في إجراء العقوبات المتصلة بالموضوع، أي أنه لا بد من القيام بتحديد مسبق للمنكر والمعروف في إطار القانون، ومن ثم يتم إجراء العقوبات بشكل قانوني.
وأما مسألة الولاية المطلقة للفقيه؛ فلا بد لنا أن نعرف بأن جماعة معتدّاً بها من الفقهاء لا توافق على هذا الاستنتاج من الكتاب والسنة، فما لم يؤمن الإنسان بهذه النظرية؛ فلن يرى لفردٍ من الافراد أية مسؤوليات خاصة من طرف الشارع، حتى يحق له التصرف في النواحي العامّة من الحياة، بل يرى بعض الفقهاء أنه ليس المقصود من إطلاق الولاية (الولاية المطلقة) أن بإمكان الفقيه طرح أي حكم شرعي جانباً تحت شعار المصلحة وباسمها، فلو أقدم الولي الفقيه على القيام بما يوجب وضع المسلّمات والواجبات الشرعية موضع الشك والترديد، مما يؤدي إلى تزلزل ثقة الناس بالدين فلا بد من مواجهته والوقوف ضد أفعاله هذه، وبعبارة أوضح: لا يحق للحاكم الشرعي الإقدام على أعمال العنف من خلال الطرق والأساليب غير المقرّرة سلفاً في القانون.
كما أن الحقوق الفطرية للبشر، وما يعترف به اليوم كحقوقٍ للإنسان من قبيل حق الحياة، وحق الامن، وحق الحرية، وحق مقاومة الظلم… كلها حقوقٌ يمكن إثباتها ضمن الأطر الفقهية ـ الكلامية المدرسية، فبعض هذه الحقوق ورد ذكره ـ وبصراحةٍ ـ في الفقه والكلام الكلاسيكيين، كما أن بعضاً آخر منها يمكن استنتاجه أيضاً، فمبحث الاحتياط في الدماء والفروج والأعراض يلازم بالدقة الاعتراف بهذه الحقوق شرعاً.
إنني أوافق على أن الاجتهاد التقليدي بحاجةٍ في كثير من الموارد إلى إعادة نظر، ومالم تتحقق إعادة النظر هذه؛ فسنبقى نواجه تصوّرات عنفية خاطئة، بيد أن ذلك لا يستدعي توجيه نقد شامل للضوابط والقواعد الاجتهادية.
شبستري: إذا ما كانت مسألتنا تكمن في مجموعة من الأحكام الفقهية؛ فلربما يكون منهج الشيخ كديور مؤثّراً، لكن من وجهة نظري، تتجاوز القضية الأساسية في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة هذا الأمر، فالعنف في هذه المجتمعات ناشئ عن عدم رعاية حقوق الإنسان، والإشكالية تكمن ـ في الحقيقة ـ في عدم قدرتنا على بناء مؤسسة، أو كيان اجتماعي، قائم على الحقوق الكاملة للإنسان، فلو أننا لم ندوّن دستورنا وفق حقوق الإنسان المدرجة في الاعلان العالمي، والذي جرى إكماله فيما بعد، ولم نصحّح كياننا الاجتماعي على أساس قانونٍ كهذا، ولم نبدِ احتراماً لتلك الحقوق والحريات الاجتماعية والسياسية المدرجة في ذاك الدستور، فإننا سنواجه مختلف أنواع العنف حينئذٍ، وفي هذه الحالة، تكمن قضيتنا الأساسية في تحديد هل أن الأصول الفقهية ـ الكلامية السابقة تجيز لنا إقامة مجتمع مبني على هذه الحقوق الإنسانية أو لا؟
وفي الحقيقة، هناك سؤالان مُثاران هنا:
أولاً: هل تندرج حقوق الإنسان بشكلها المعاصر داخل تلك الأصول التقليدية أو لا؟
ثانياً: هل تمنعنا تلك الأصول وتصدّنا عن الأخذ بتلك الحقوق أو لا؟ فما لم نوافق على حقوق البشر من أعماق قلوبنا وبكياننا كلّه، ولم تَسعَ نخب المجتمع لإقرار تلك الحقوق في المجتمع؛ فإن القانون نفسه يمكنه أن يجسد العنف عينه، ويمنحه المشروعية، فالقانون لا يرفع العنف في حدّ نفسه بل ربما يشرعنه أحياناً.
من وجهة نظري، تعود بُنانا الفقهية ـ الكلامية فيما يتعلق بالموضوعات السياسية الى حقبات زمنية ماضية، ففي تلك الدنيا القديمة كانت العلاقات السياسية فيما بين البشر تعتمد على تبعية الشعب للحاكم العادل أو الظالم، وهناك لم يكن ليثار أي طرح عن موضوعة حقوق الإنسان، كما أن الظلم والعدل كانت لهما معاني أخرى مختلفة عمّا لهما اليوم، فقد حمل العدل في تلك المرحلة الزمنية معنى فردياً مبهماً، ولم يكن ـ وفق ذاك المعنى ـ بقادرٍ أصلاً على أن يشكّل أساساً لتنظيم اجتماعي وسياسي ديمقراطي، وهكذا كان الفقه والكلام خلوّاً من تلك المفاهيم التي تشكل اليوم أسس وأركان التنظيم السياسي في العالم المعاصر، ومن هنا فإن الإصرار على ذاك النمط والمسار الكلاسيكي الكلامي والفقهي يعني صرف النظر عن تكوين هيكلية سياسية ديمقراطية.
ثمة طريق آخر هنا وهو الاجتهاد غير الممنهج، أي ذاك الجهد غير الموفق وغير العلمي لاستخراج مفاهيم جديدة، كمفهوم "الحرية" و "المشاركة" من باطن وعمق القرآن والسنة، فمثلاً أولئك الذين يقولون بأن الإمام علياً (عليه السلام) كان يمارس المداراة مع الخوارج ما داموا لم يشهروا سيوفهم، ووفقاً لذلك يمكن لكافة الفئات والفرقاء السياسيين عرض معتقداتهم وقناعاتهم السياسية بحرية كاملة؛ ما لم تصل المرحلة الى إشهارهم السلاح، يواجه اجتهادهم غير الممنهج هذا إشكاليةً جادةً، إذ أنه يهدف إلى الحصول على أصلٍٍ كليٍّ ثابتٍ، انطلاقاً من تصرّف جزئي سلبي للإمام علي (عليه السلام)، أي عدم قيامه بفعلٍٍ ما، وهو أمر غير ممكن.
ومن مصاديق هذا النوع من الاجتهاد أيضاً محاولة إقامة هيكلية شوروية، في مجتمع ديمقراطي، اعتماداً على آيات الشورى الواردة في القرآن المجيد، فهذا الأمر غير ممكن أيضاً، ذلك أن الشورى التي كانت موجودة عصر صدور النص القرآني لا ربط لها أصلاً بالكيان الشوروي لحكومة ديمقراطية نتحدث نحن عنها اليوم، إن هذا النوع من الاجتهادات اللامنهجية واللاعلمية وغير القابلة للدفاع عنها؛ لا يمكن وضع نظريات محكمة وفقاً لها واعتماداً عليها.
إن الامام علياً (عليه السلام) أسوة العدالة، بيد أنه أسوةٌ لتلك المصاديق من العدالة التي كانت موجودة في ذلك العصر، فكل شخص أسوةٌ لعدالة زمانه، وليست لدينا قدوةٌ في العدالةٍ تتجاوز التاريخ، ففي المنظومة المناهجية الكلاسيكية تعني العدالة: عدم كون الحاكم مطلق العنان، وأن لا يمارس سلوكاً ظالماً اتجاه رعاياه، أما اليوم فإننا نواجه تساؤلاً عن معيار التنظيم الاجتماعي العادل، فإذا كان الامام علي (عليه السلام) اليوم أسوةً لنا أيضاً؛ فذلك ناتج عن كونه مظهراً ومجلى ينبئ عن مسار خاص، أي ذاك المسار المتحرّك نحو العدالة، وما يجب علينا فعله هو أن نضع يدنا ونحصل من هذا المسار الحركي العام على المضمون والرسالة الموجّهة إلينا، لكن التفسير المجدّد للعدالة وتحديد مصاديقها سلباً أو إيجاباً في هذا العصر أمر موكول إلينا نحن.
كديور: لقد وجه الشيخ شبستري هذا السؤال: هل بإمكان أصولنا الفقهية ـ الكلامية التقليدية استيعاب حقوق الإنسان وهضمها كأساس للكيان الاجتماعي أو لا؟
من وجهة نظري، يمكننا اعتماداً على الأسس الفقهية ـ الكلامية استخراج أكثر قضايا حقوق الإنسان وإثباتها، وبعبارةٍ أكثر دقةً يمكن إثبات كافة الحريات والحقوق، اعتماداً على هذه الأسس الكلاسيكية، باستثناء الحريات الدينية والجنسية.
وسؤالي الذي أوجهه الى الشيخ شبستري هو: هل أن أسسنا الكلامية ـ الفقهية مشروطة بعدم مراعاة حقوق الإنسان، أي هل تقتضي عدم حقوق الإنسان؟ هل أنه من المستحيل الموافقة على حقوق الإنسان بهذه المبادئ والمرتكزات؟
نعم، يمكن القول بأن قسماً من المسائل الفقهية والكلامية الناجمة عن القراءة الموجودة فعلاً للدين تنافي حقوق الإنسان، لكنني أعتقد بأن القضية لم تصل الى حدٍّ تَسدّ فيه أصولنا الكلامية ـ الفقهية الطريق على هذه الحقوق، فقد سعيت شخصياً وقمت ببعض الانجازات على هذا الصعيد، تدلل على أن هذه الأصول تمنح الإنسان حق إثبات مصيره، وأعتقد بأن بقية الحقوق كحق الحياة، وحق مقارعة الظلم وحق الامن و… قابلةٌ للإثبات أيضاً، لقد أشرتم إلى مسألة العدل وهي مسألة صحيحة، ففي مسائلنا الفقهية الكلامية جرى الحديث عن العدل الفردي، فيما حظيت قضايا العدل الاجتماعي بحجم ضئيل من الاهتمام، لكن عدم طرح العدالة الاجتماعية في فقهنا شيء، وعدم إمكانية الأخذ بمقولة العدل الاجتماعي انطلاقاً من الأصول الكلامية ـ الفقهية شيءٌ آخر.
المسألة الأخرى التي طرحها جناب الشيخ شبستري قضية الاجتهاد اللامنهجي، لم أقصد استنباط حقوق الإنسان من كلام الشارع أو المعصومين (عليهم السلام)، وإنما عنيت أن أي فعل يمكن في العصر الراهن اعتبار القيام به أمراً عقلانياً، أي أن العقل يحكم بجوازه فهو فعلٌ يمكن إثبات مشروعيته.
إن ما يطلبه المتدينون هو أن لا تكون أفعالهم التي يقومون بها حراماً، ومن وجهة نظري يمكن إثبات أن إقامة كيان اجتماعي مبني على حقوق الإنسان ليس مشمولاً لأي حرمة أو ممنوعية شرعية، وهو أمر كفيل بمنح المشروعية لذلك، إنني أوافقكم موافقة كاملة على أن الشورى المطروحة في الكتاب والسنة ليست إلزامية، فيما تلزم السلطة في العصر الحاضر بالعمل بآراء الشورى، فهذه الشورى لا تشترك مع الشورى القرآنية والروائية سوى في اللفظ فقط، فهي تعبر عن كيان حديث، فيما لا تمثل تلك الشورى سوى نوع من الاستشارة والمشورة، فإذا ما أردنا استنباط هذه الشورى الجديدة من الكتاب والسنة؛ فإن إشكالكم سيكون وارداً حينئذٍ، أما لو قلنا بأن هذه الشورى تنسجم وذلك المفهوم، وأنه لا منع شرعياً عنها، فإننا لم نقل حينئذٍ كلاماً خاطئاً.
وعليه، وجهة نظري الخاصة هي ـ وباختصار ـ أنه ليس من الضروري في نطاق القضايا العقلائية ومجال المعاملات البحث عن مستند، من قول وفعل المعصوم، والأمر الذي يكفي على هذا الصعيد هو أن لا يكون هناك منع وتحريم من جانب الشارع، فإذا ما ثبت هذا الأمر فسيقع الفعل حينئذ محلاً للقبول، والأكثرية الساحقة من قضايا حقوق الإنسان تقع في هذا السياق، وعليه فأصولنا قادرة على تقبل مقولات حقوق الإنسان وبناء كيان اجتماعي وفقها.
شبستري: إذن فمن وجهة نظركم، الفقه والكلام ساكتان عن المسائل المعاصرة؟
كديور: مقصودي أنه يمكن إثبات حقوق البشر وفق نفس تلك الضوابط والمعايير.
شبستري: يعني هل تستنبطون حقوق الإنسان بمعناها المعاصر من الكتاب والسنة باستخدام المنهج الاجتهادي الفقهي.
كديور: مقصودي من الاستنباط هو التدليل على أنه ليس ثمة ما يمنع شرعاً.
شبستري: إن هذه المسألة لا تختلف أبداً عن قولنا: إننا نريد أن نصنع طائرة، ومن ثم نعود إلى الكتاب والسنة لنعرف أنه ليس هناك ما يمنع من ذلك، هل تعتقدون أن القضية هنا على هذا الطراز أيضاً؟
كديور: إن هاتين المسألتين تختلفان بنسبةٍ معينة عن بعضهما البعض، ففي مسألة حقوق الإنسان هناك فقهاء لا يوافقون على هذه الحقوق، استناداً الى بعض الأدلة الفقهية، ولرفع اليد عن هذه الأدلة لا بد من القيام ببحث جاد، نعم، إن هذه الأصول والحقوق أمور عقلانية، وهذا أمر صحيح، إننا نؤسس الأصل أولاً ونثبته من الناحية العقلائية، ومن ثم نبحث عن وجود أو عدم وجود أدلة فقهية، تحول دون التمسك بهذا الأصل العقلائي، فإذا ما عثرنا على هذه الأدلّة وأمثالها؛ فلا بد من البحث عن مدى إمكانية التخلّي عنها، وفقط في حالة واحدة يمكن طرح هذا الأصل العقلائي، وهي فيما لو لم نقدر على التخلّي، ورفع اليد عن هذه الأدلة الفقهية.
شبستري: هل تُستنبط حقوق الإنسان من القرآن؟ هل يمكن الحصول عليها عن طريق الاحاديث؟ خذ لذلك مثال المساواة، من وجهة نظري، لا يمكن بأي وجه من الوجوه الحصول على مفهوم المساواة بمعناه المعاصر، عن طريق الكتاب والسنة.
كديور: هناك في الروايات: "الناس سواسية كأسنان المشط"، ومثل هذه الروايات ليس بالقليل، نعم، لهذه النصوص سلسلة من المقيدات، فأكثر الأئمة لهم كلام حول المساواة بين المؤمنين.
شبستري: في حقوق البشر، الناس متساوون بصرف النظر عن عقائدهم، وهذا لا ينسجم مع الكثير من الأحكام الفقهية والروايات التي كانت مستنداً لهذه الأحكام.
كديور: إن الناس متساوون في حق الحياة والأمن و… وفقط الكافر الحربي خارجٌ عن هذه الدائرة.
شبستري: إن هذا النوع من الرؤية والقراءة لحقوق الإنسان مختلفة عما هو الموجود اليوم، إذ أن الرؤية الجديدة رؤية فلسفية، تقدم فيها إنسانية الإنسان على عقيدته، فكيف يمكن استنباط نظرة فلسفية من النص الديني؟
كديور: اسمحوا لي بذكر مثال: إن أمير المؤمنين يقول في عهده لمالك الأشتر: إن الناس على صنفين إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
شبستري: لا يصح فصل المتن (Text) عن محيطه (Context)، لابد لنا أن نرى ما هو المعنى الذي يحمله هذا الكلام في ذاك المحيط التاريخي ـ الثقافي؟
كديور: حسناً، سأذكر مثالاً آخر، يذكر الميرزا النائيني ـ الذي يعدّ واحداً من الفقهاء البارزين ـ في كتابه تنبيه الأمّة أن أولئك الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي ويدفعون الضرائب، لهم حق إبداء الرأي، إن هذا الاستدلال ينسجم انسجاماً تاماً مع الديمقراطية.
شبستري: من وجهة نظري، ولاجل اتضاح الموضوع؛ لا بد لنا أن نوجّه سؤإلا افتراضياً للميرزا النائيني لنرى ـ احتمالاً ـ ما هو جوابه عن هذا السؤال، والسؤال هو: في المجتمع الإسلامي، هل يمكن للمسيحيين ومن خلال الوسائل السلمية ودون ممارسة العنف و.. تحويل المسلمين عن دينهم، وجعلهم مسيحيين ليتحوّل المسلمون الى أقلية، ولتصبح السلطة بيد المسيحيين، هل تبقى ـ والسؤال للميرزا ـ على نفس قواعد اللعبة وتحافظ عليها، أي على حق الرأي والحرية والمساواة (الديمقراطية) أو لا؟
كديور: لا أدري ما هو جواب الميرزا النائيني، لكن من وجهة نظري، الأمر جائز، وأعتقد بضرورة الاعتراف بقواعد اللعبة والالتزام بنتائجها ولوازمها.
شبستري: جيد جداً، إذا أخذتم بلوازم هذا الكلام، فهذا معناه أنكم دخلتم في ذلك النسق والنمط والنموذج الجديد، واعتبرتم الدين نوعاً من السلوك الهادف لإقامة علاقة مع الله، لكنني لا أعتقد أن بمقدور النائيني القيام بذلك.
لقد لاحظنا حتى الآن وجود اتجاهين مختلفين في عرض بعضهما البعض، يرى أحدهما أن الاجتهاد في الفروع والسير في سياق نفس النسق الكلاسيكي؛ يمكّننا من تجاوز الإشكاليات والأزمات المعاصرة، فيما يذهب الاتجاه الآخر الى عدم إمكانية التفوّق على الأزمة المعاصرة بإشكالياتها، ما لم يكن هناك اجتهاد في الأصول وتغيير في المنهج وتبديل في النمطية.
كديور: لم يجر حتى الآن دراسة القراءة الثانية ضمن الأطر الكلاسيكية وبشكل مفصّل، كما لم يجر تدوين أجزاء هامة منها، وهذا النسق الجديد الذي تشيرون إليه إنما يقع على مشارف التكوين والتبلور، والكثير من أبعاده لم يتشكل حتى الآن، والقضية المشتركة بين هذين الاتجاهين هي أنهما ـ معاً ـ لا يجيزان العنف وأنواعه.
شبستري: إن هذين الاتجاهين يختلفان عن بعضهما البعض اختلافاً بنيوياً أساسياً، ففي أحدهما تبنى أعمدة وأركان الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على قانون الاستنباط من النصوص الدينية، فيما يلاحظ في الثاني أن الله تكلّم مع عباده عن طريق النصوص الوحيانية، مانحاً حياتهم المعنى، وباعثاً فيهم جرأة الوجود، أما ما هي الأسس التي لا بد للإنسان أن يختارها لحياته الاجتماعية؟ فإن هذا ما يتحمّل مسؤوليته الإنسان نفسه، إنها مسؤولية ثقيلة ومهولة على الإنسان تقبّلها وفق الشكل الذي يفهمه ويقدر على صنعه، ولأجل البناء النظري والعملي لهذه الحياة؛ لا تتدخل يد الغيب لإرشاد الإنسان في هذا العالم، فالهداية الغيبية تعني جرأة الوجود، والكينونة ومنح الحياة الإنسانية المعنى والمحتوى، إن البشر ـ وبحكم بشريتهم وإنسانيتهم ـ يجهدون في سعيٍ متواصل لبناء الحياة، ولا شك في أن أولئك الذين يشكرون نعمةً كتلك الهداية الغيبية، ووفق التعبير القرآني الجميل يندرجون في زمرة (عباد الرحمن) يلتزمون بقرار المحكمة الإيمانية ـ الدينية في كافة المرافق السياسية والثقافية والاقتصادية.
هذان هما الاتجاهان الموجودان الآن بين المسلمين في هذا العصر والقرار فيهما راجعٌ للمسلمين أنفسهم.
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً