أحدث المقالات
تمهيد
تعود التعددية (أي الاعتراف بالتكثّر والتنوع، والحكم بالتباين غير القابل للنقص، وبعدم قابلية الثقافات والأديان واللغات والتجارب البشرية للمقايسة، ورؤية البشرية حديقةً مليئةً بالألوان والعطور) بشكلها الحالي إلى العصر الحديث، وتطرح على صعيدين هامّين هما المجال الديني والثقافي والمجال الاجتماعي، فلدينا تدين ومعرفة دينية تعددية كما نملك مجتمعاً تعددياً أيضاً، وبالتأكيد فهذان المحوران مترابطان فيما بينهما، أي أن أولئك القائلين بالتعددية على الصعيد الثقافي والديني لا يمكنهم التغاضي عن التعددية الاجتماعية.
ويمكن قراءة التعددية الدينية من زاوية الأسباب والعلل كما يمكن دراستها من الناحية الاستدلالية، أي انه بالإمكان شرح الأسباب التي دفعت إلى تبلور مجتمعات تعددية، وتقبّل هذه المجتمعات لها، وإخضاع إدارة هذه المجتمعات للتصوّر التعددي، كما يمكن قراءة الإطار الذي يحتوي حقانية رأيٍ ما أو بطلانه.
وأرى من اللازم هنا ـ قبل البحث عن التعددية الاجتماعية ـ الإشارة إلى مجموعةٍ من النقاط المرتبطة بالتعددية الثقافية والدينية، ومن ثمّ القيام بمحاولة تطبيقها على الصعيد الاجتماعي.
وبالرغم من أن فكرة التعددية تعدّ فكرةً حديثةً من الناحية اللفظية بيد أنها ذات جذورٍ كثيرةٍ في التاريخ الفكري، ليس على صعيد الفكر الإسلامي فحسب بل على نطاق الفكر البشري عامةً، ومن الطبيعي أن يكون طابعها الإسلامي أكثر جاذبيةً بالنسبة لنا، ومن هنا سوف أركّز على هذه الزاوية، ومن ثم آخذ عنصر الدين من بين عناصر الثقافة، وأسلّط الضوء بشكلٍ رئيسيٍّ عليه.
ترتكز التعددية الدينية اليوم بشكلٍ أساسيٍّ على عمادين، أحدهما تنوّع استنتاجاتنا من النصوص الدينية، وثانيهما تنوع تفاسيرنا للتجارب الدينية، (وسيتبين مما سنورده لاحقاً أن للتعددية مباني عديدة أخرى) إن البشر محتاجون للتفسير لدى مواجهتهم الكتب المنزلة، كما لدى تواجههم مع السامي والمتعالي، ومن هنا فهم مضطرون لإزالة الستار عن النصوص الصامتة أو التجارب الخام الأوّلية ومن ثم استنطاقها، وهذا الاكتشاف وتلك الإزاحة للستار ليسا ذا شكلٍ واحدٍ ومنهجٍ فارد، بل هما ـ ومن دون أدنى تكلّف ـ متنوّعان ومتعدّدان، وهذا هو بالضبط سرّ تولد وجوهر حجية التعددية الدينية الداخلية والخارجية.
 
مباني التعددية الدينية
المبنى الأول: سعيتُ في نظرية "القبض والبسط" لتوضيح سرّ التعدد الديني على صعيد الفهم والاستنتاج، كما قمت بتوضيح الجهاز الميكانيزمي له، ومجمل الكلام حول القبض والبسط هو أن فهمنا للنصوص الدينية فهمٌ متنوعٌ ومتكثّر بالضرورة وذلك من دون أن يكون في هذا التنوع قابلية الصيرورة لفهمٍ واحد، بل ليس هذا الفهم متنوعاً ومتعدداً فقط وإنما هو سيّال أيضاً، والدليل على ذلك هو أن النص صامتٌ ونحن دائماً نستعين بالتوقّعات والأسئلة والفرضيات القبلية في تفسيرنا للنصوص الدينية سواء كانت نصوصاً فقهيةً أو حديثيةً أو قرآنية، وحيث إن التفسير ـ أيّ تفسيرٍ ـ غير ممكنٍ دون الاعتماد على المصادرات القبلية والاستفهامات المسبقة، كما وحيث إن هذه المصادرات القبلية والاستفهامات المسبقة والتوقّعات المتقدّمة تفد إلينا من خارج الدين، وحيث إن هذا الفضاء المعرفي الخارج عن الدائرة الدينية فضاءٌ سيالٌ متغير، كما العلم والفلسفة والمنتجات البشرية تخضع بصورةٍ متواصلةٍ لقانون التزايد والتراكم والتغيير والتحول… وفقاً لكل ذلك ستكون التفاسير والاستنتاجات الخاضعة في مرحلة إنجازها لأطر هذه الاستفهامات والفرضيات القبلية هي الأخرى في حال تحوّلٍ وتنوعٍٍ أيضاً، هذا هو مجمل نظرية القبض والبسط([1]).
ربما تقتنع بهذا النظم الفكري الخاص وربما لا تحصل لك مثل هذه القناعة بيد أنك غير قادرٍ على إنكار مبدأ أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد انبثق (وينبثق) عنهما ويستفاد منهما تفسيراتٌ متعدّدةٌ، وعلى حدّ تعبير الروايات نفسها فإن الكلام الإلهي ذو بطون، والكلام الحقّ ذو صفحاتٍ كثيرةٍ بحيث إنك عندما تخلع القشرة الأولى سوف تبدو أمامك تلقائياً القشرة الثانية، ويعدّ تراكم صفحات الواقع العيني وقشوره سبباً من أسباب هذه الظاهرة في عالم النصوص، ذلك أن هذه النصوص تحكي عن هذا الواقع وهو ما سيجعلها متراكمة الصفحات والقشور أيضاً تبعاً له، وهذا الأمر ليس مختصاً بالكلام الإلهي، فعندما نحاول الرجوع إلى كلمات عظماء من أمثال مولوي وحافظ في اللغة الفارسية أو آخرين على صعيد اللغات الأخرى فإننا سوف نصطدم بنفس هذه التراكمات والتداخلات وسنخبرها أيضاً، وهذا التعدد في البطون هو الذي يمنح الكلام طراوته ونضارته وخلوده.
إن رأسمال الأديان الإلهية هو تلك البيانات النافذة والمفتّحة للقلوب والمليئة بالمحتوى والمتّسمة بالأبدية، ذلك أنها تحمل لكلّ شخصٍ مضموناً جديداً، ولولا ذلك لتلاشت هذه البيانات وانتهت بسرعة ولأدى الأمر بها إلى الفناء.
هناك الكثير من الروايات التي تحكي عن سبعة أو سبعين بطناً للقرآن الكريم، والبعض منها يحكي أيضاً عن نزول بعض السور لأشخاص متعمّقين في آخر الزمان، بل إن تاريخ التفسير ـ سواءٌ على الصعيد الإسلامي أو على الصعد الدينية الأخرى ـ يُرشد إلى التفاوت الكبير في الاستنتاجات التي حصلت وما تزال من الكلام الإلهي نفسه.
لقد جاء في بعض الروايات النص التالي: "ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه" أي ما أكثر أولئك الذين يحملون الفقه ـ الذي يعني هنا التعليم الديني ـ بيد أنهم لا يعرفون ما هي هذه الجواهر الثمينة التي يحملونها، إن بيدهم الألفاظ والكلمات كما وعلى ألسنتهم تجري الروايات وهم يقومون بنقلها إلى آخرين أقدر منهم أنفسهم على استيعاب المضمون والفكرة وبشكلٍ أفضل، وهذا يعني إمكانية وجود رتب في فهم الكلام الواحد والأمر الواحد، وبالتالي وضع بطونه الكثيرة في معرض الكشف والدراسة والتحقيق، ومن هنا يمكن القول بأننا في عالم التفسير تعدّديّون على الدوام، وهكذا كان عملنا وأداؤنا، بمعنى أننا قبلنا التكثّر ومن ثَمّ رفضنا منح سمة خاتم المفسرين أو خاتم الشارحين لأيّ شخصٍ من الأشخاص، وهذا هو بعينه لبّ حياتنا الدينية وجوهر وعينا العلمي للدين.
الأمر الآخر الذي تلزم إضافته هنا ـ وقد جرت الإشارة إليه في "القبض والبسط" أيضاً ـ هو أنه ليس عندنا دين غير مفسّر، فالإسلام هو مجموعة التاريخ التفسيري الذي حصل له، وكذلك المسيحية مجموعة التفاسير التي عرضت عليها وهكذا… وهذه التفاسير كانت متعددة على الدوام، ومن ثم فأيّ شخص لا يوافق على تفسير ٍما فإنه يتركه نحو تفسيرٍ آخر، ولا يحاول فرض قبضته على الدين الخالص الصافي، وهذا معناه أن المعرفة الدينية ليست سوى هذه التفاسير الصحيحة وغير الصحيحة، إنّنا غارقون في بحر كبير من التفاسير والاستنتاجات، وهذا الأمر هو مقتضى ماهية النص من جهةٍ ومقتضى بشريتنا وجهازنا الادراكي من جهةٍ أخرى، فالإسلام السنّى يعدّ فهماً للإسلام وكذلك الإسلام الشيعي فهم آخر له أيضاً، وهذه الفهوم وتوابعها وأجزاؤها كلّها أمور طبيعيةٌ تحظى بالاعتراف والرسميّة.
تاريخياً ليس ثمّة دينٌ لم يتورط في هذه الكثرة أو لم يعشها، والتاريخ الكلامي للأديان والمذاهب شهادةٌ واضحةٌ على هذا الأمر، نعم ما لم يكن موجوداً هو قيام أحدٍ بالتنظير لهذه الكثرة، أي بلورة رؤيةٍ نظريةٍ عنها، ذلك أنه لم يأخذ أحد هذا الأمر مأخذ الجدّ إلا نادراً، فكل فرقةٍ كانت ترى على الدوام أنها هي الحق فيما الآخرون على باطل، وكأنها كانت ترى غيرها معدوماً لا وجود له نظراً لاعتبارها إياه باطلاً، ولم يكن ليطرأ على ذهن أحدٍ منهم بأن هذا التعدد في التفاسير والأفهام والفرق ـ والذي لا مفر لأي منتمٍ إلى جهة أو مذهب من قبضته ولا مجال لاجتنابه ـ ذو معنى ومدلول آخر أيضاً (وبهذا المقدار ليس من الممكن تقبّل مفاهيم من قبيل إننا على حق وهداية، وإننا أهل الجنة وأصحابها، فيما سوء حظّ الآخرين جعلهم على باطل وصيّرهم أهل ضلالة وزيغ، حيث لم يفهموا الدين بشكلٍ سليمٍ ومن ثم انحرفوا، ولم يكن عملهم مقبولاً، وعاقبتهم بالتالي ليست سوى جهنم) فلعل المعنى كامنٌ في مطلوبيّة نفس هذه الكثرة، كما لعل الهداية أوسع مما نتصوره نحن، ولعل النجاة والسعادة مختزنةٌ في شيء آخر وراء هذه الافهام والدوغمائيات الباعثة على الخصومة والتشتّت والتمزّق، بل لعل فهم الدين هو الآخر أمرٌ جمعي كما هي الحياة وكما هي المدنية والحضارة، كل فرقة تفكّر في أنه لعل الفرقة الأخرى لم يكن عندها أيّ تقصير في سوء الفهم الذي حصل لها وإنما كانت مستضعفةً وبالتالي فلا يمكن توجيه اللوم لها، لكننا ولحسن الحظ وفقنا للفهم الصحيح وصرنا بالتالي الفرقة الحقّة المختارة، لكن بمجرد أن نخلع هذا التوهّم ونرفع أيدينا عن مفاهيم من قبيل الاصطفاء والرضا والمقبولية والتمايز عن الآخرين والمحبوبية الخاصّة لله تعالى، ونرى أنفسنا وبقية البشر جالسين على سفرةٍ واحدةٍ فإن الفكر التعدّدي سوف يتخذ حينئذٍ وضعاً أكثر جدّيةً بالنسبة إلينا، ومن ثم ستبدو لنا تأمّلات جديدة في مفاهيم الهداية والنجاة والسعادة والحقّ والباطل والفهم الصحيح والسقيم… وتعددية العالم المعاصر نتاجٌ وحصيلةٌ لهذا النوع من التأمّلات.
أعرف بأن هناك أشخاصاً سوف يقولون: حسناً، وماذا بعد ذلك؟ هل تريد القول بأن علينا التخلّي عن حقنا؟ أو اعتبارنا أهل الضلال والباطل على حق؟ أو أن نرى الحق والباطل متساويين؟ كلا، ليس هذا هو المراد لنا هنا، بل المقصود هو أن لا نوجه نفس هذه الأسئلة، ومن ثم علينا الإطلال على الكثرة وتعدد الآراء والعقائد من زاوية أخرى، وقراءة ورؤية معنى آخر فيها وروح أخرى داخلها، إن علينا أن نعرف أن ساحة الفهم الديني عبارة عن ساحة للتسابق والمباراة، وهناك في هذه الساحة العديد من المتسابقين والمتبارين، ليس ثمة مباراة ومسابقة للاعبٍ واحدٍ بل إن اللعبة نفسها قائمةٌ على تعدد المتبارين فيها، بل أوّل شروطها ملاحظة هذه الكثرة لا أن لا نرى عدا لأنفسنا وتفسيرنا الخاص للعالم أية حقانية وأي فهم آخر، وبالتالي فلا نعترف بها، لنجعل أنفسنا ـ بالتالي ـ في موقع أولئك الذين يريدون إخراج اللاعبين من الحلبة.
العارفون يدركون هذه المعاني
فما في البيت الخاص ليس عاماً
فمن آلاف الأبواب يسمع شخصٌ واحد
لماذا؟ إذ ليس كلّ شخصٍ لائق بهذا النداء
فما لم يحترق الخشب فلن تشمّ رائحة العود
والفهيم يعرف أن هذا ليس نداءاً لشخص عادي([2]).
ولا يفوتنا التذكير بأن ثمّة مدلول واضح لتعددية الفهم وتفسير النص، ألا وهو نفي وجود تفسيرٍ رسميٍّ وواحدٍ للدين، وبالتالي فليس هناك أي مرجع ومفسر رسمي له، والمعرفة الدينية ـ كأي معرفةٍ بشريةٍ ـ ليس فيها ثمة قول حجّة تعبداً لشخص ما على شخصٍ آخر، كما أنه ليس هناك فهم مقدّس ومتعالٍ عن المُساءلة، وهذا الكلام كما هو صادق في علم الكيمياء هو كذلك بلا أيّة زيادةٍ ونقيصةٍ في الفقه والتفسير أيضاً، فكل إنسان يتحمّل وزر مسؤوليته على كتفه، وهو بنفسه سيحشر أمام الله تعالى وحيداً، إنّ لدينا حاكماً سياسياً بيد أنه ليس ثمّة ما يُدعى الحاكم الفكري.
المبنى الثاني: وهنا نصل إلى النوع الثاني للتعددية الناشئ من تنوّع وتعدد تفاسير التجربة الدينية، ذلك التنوع وهذا التعدد اللذين لا يضرّان بالوحدة، فكما أنه ليس لدينا دينٌ غير مفسّر كذلك ليس ثمة تجربة غير مفسّرة سواء على صعيد الطبيعة أو على صعيد الروح.
تعني التجربة الدينية المواجهة مع الأمـر المطلق والمتـعالي Transcendence))، وهذه المواجهة تتمظهر في صور مختلفة؛ فقد تبدو أحياناً بصورة الرؤيا، أو بسماع النداء، أو برؤية الشكل واللون، أو بالإحساس بعظمةٍ مطلقةٍ لامتناهية، أو بالقبض والظلمة، أو بالبسط والنورانية، وقد تبدو أحياناً أخرى كعشقٍ لمعشوق غير مرئي، أو إحساسٍ بحضورٍ روحاني لشخصٍ ما، أو اتحادٍ مع شخصٍ أو شيء، أو نوعٍ من نزع وخلع الذات والتجرّد عنها والبقاء معلّقاً في الفراغ… إنها أحياناً إدراك للسر، وأخرى كشف للرمز، أحياناً حزن وإحباط من التعلّقات الفانية وتحليقٌ للقلب نحو البقاء والخلود، وأخرى تظهر عن طريق تجلّي جذبة أو عطش أو فراغ أو نور أو جمال أو بهجة…
بالإمكان وضع عنوان التجربة الدينية على كافّة هذه الظواهر ولو مع شيءٍ من الاختلاف والتمايز، هذه التجربة غير المتعارفة والتي تبلغ أحياناً قدراً من التأثير العميق والنفوذ الكبير في القلب والإحساس يؤديان إلى زوال اليقين وحلول البهجة والنور بحيث لا يظهر من الإنسان غير الخضوع والانكسار قبالها.
ويشرح متصوّفونا هذه التجربة على الشكل التالي فيقولون: "إن السالك بشروعه في تصفية القلب ومجاهدة النفس والرياضة معها يعبر الملك والملكوت وتنكشف له الوقائع في المقام المناسب بما يناسب حاله، وقد يكون ذلك أحياناً على صورة الرؤيا وأخرى على شكل واقعةٍ غيبية"([3]).
وعلى أية حال فنفس هذه النكتة "أي وقوع التجربة الروحية على اثر العبور في الملك والملكوت" هي نوعٌ من التفسير لهذه التجربة نفسها، فلم يكن "ياكوب بوهمه" الذي يعدّ من أعاظم أصحاب الكشف الألمان سوى صانع أحذيةٍ حين رأى الأشياء ـ فجأةً في يومٍ من الأيام ـ نورانيةً متلألئةً في إشراقٍ استثنائيٍّ، ومن ثم شاهد كنه الأشياء وفتح لسانه بعد ذلك على أصناف النكات والإشارات واللطائف العرفانية، وهكذا الحال لدى علاء الدولة السمناني العارف الإيراني في القرنين السابع والثامن الهجريين حيث كان من جنود "أرغون خان" المغولي محارباً في جيشه حين كشف الحجاب عن عينيه في يوم من الأيّام، وذلك عندما كان على فرسه بين الجنود في الحرب، ومن ثم شاهد بنورٍ غريب غير معروف العالمَ ما وراء الطبيعي والما وراء الموت، فقد انتهت الحرب فيما بقي علاء الدولة السمناني على فرسه مبهوتاً غافلاً ليومين اثنين، وقد ترك ـ عقب ذلك ـ عمله هذا وانقطع ميله للدنيا واتجه إلى طريقة الصوفية، وهكذا الحال عند مولانا جلال الدين الرومي أيضاً حيث كان يتكلم بلسان سورياليٍّ عن أخذ المكنسة من يد المعشوق وإزالة الغبار بها عن سطح البحر([4])، والأقوى من كل ذلك والأعظم التجربة المعراجية والتي هي من التجارب النبوية.
أبسط هذه التجارب هو الرؤيا، والتي ينقلون عن النبي (ص) بأن الرؤيا الصالحة تعدّ جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فرقم ستةٍ وأربعين رقمٌ غير متعارف هنا، ولهذا السبب فسّره البعض من العرفاء بـ "أن مدّة نبوة النبي (ص) هي ثلاثةٌ وعشرون سنةً والتي من جملتها ستة أشهر الأولى التي كان الوحي يأتي فيها في المنام، ومن هنا فالرؤيا الصالحة وفق هذا الحساب جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"([5]).
وعلى أية حال فالعزم على معرفة ما هو ذاك النداء الذي سمعته ومن أين كان؟ أو ذاك الذوق والكشف والحال الذي وجدته في قلبي على ماذا كان يدل ومن أين كان يأتي؟ وبالتالي بيانه باللسان على صورة المفاهيم (التي قد تكون أحياناً متناقضة ومتنافية ذاتياً) هو نفس الورود به إلى ساحة التفسير، بل إن نفس بيان التجارب لفظياً ولسانياً ومن ثمّ بلورة المفاهيم لها وعنها هو نحوٌ من تفسيرها، وهذه التفاسير متغايرةٌ تغايراً كبيراً كما أنها متعدّدة، فعلى سبيل المثال مسألة وحدة الوجود التي كانت في البداية كشفاً عرفانياً ومن ثم اكتسبت بياناً فلسفياً وفرضت كل هذه المحاورات والمشاجرات والأخذ والرد والنقد والتأييد…، وهكذا الأديان كلّها مسبوقةٌ بالكشف، فقد كانت تجارب غيبية وقدسية ووحيانية من جانب الأنبياء، فالأنبياء الحقيقيون لم يذهبوا إلى مدرسةٍ، كما لم يكونوا سحرةً أو كهنة، ولا مجانين أو مخادعين لأنفسهم، وإنما كانوا ـ على حد تعبير إقبال اللاهوري ـ "رجالاً باطنيين"، وليس فقط الأنبياء بل إن أتباعهم المتأدّبين والمجاهدين كان لهم أيضاً حظّ من الوحي والتجربة الباطنية.
يقول مولوي:
لنفرض أن هذا الوحي ليس هو وحي النبي خزانة العلم
لكنه ليس بأقل من ذاك الوحي الذي نزل على النحل
فعندما جاءت "أوحى ربّك إلى النحل"
جعل منزل وحيه مليئاً بالشهد والحلوى
إنه وبنور وحي الحق عز وجل
جعل العالم مملوءاً بالشمع والعسل
فهذا الذي هو "كرّمنا" ويرقى علواً
متى كان وحيه أقلّ من وحي النحل([6]).
وما يقولـه مولوي هنا فيه إشارة إلى الآية الكريمة "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر وممّا يعرشون" (النحل:68)، وعلى حد تعبير مولوي فإن هذا الوحي كان عبارةً عن صيرورة النحل قادرةً على صنع الشهد والعسل "جعل منزل وحيه مليئاً بالشهد والحلوى"، وهذا كله في النحل، أما الإنسان الذي كان مشمولاً للتكريم الإلهي وقال الله تعالى فيه: "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" (الإسراء: 70) أما هذا الإنسان فمتى كان وحيه أقل من وحي النحل؟
إنه ليس تنجيماً ولا رملاً ولا رؤيا
إنه وحي الحق والله أعلم بالصواب
فلأجل تعمية الأمر على العوام
قالت الصوفية عنه وحي القلب
فافترضه وحي القلب فإنه موضع تجلية
فكيف يكون خطأً والقلب واعٍ به؟
أيّها المؤمن إن صرت تنظر بنور الله
فقد أصبحت آمناً من الخطأ والسهو([7]).
نعم إنّ تجربة الصوفيين ـ والتي هي عين الوحي ـ حقٌ، ولا تقلّ عن الوحي في شيء، وهم لأجل تغطية الأمر على العامّة أسموها "وحي القلب"، وبالتالي فالكلّ وحيٌ غايته أن الوحي ذو مراتب عديدة، فله مرتبة سُفلى وله مرتبةٌ عليا، وقد يصاحَب أحياناً بالعصمة فيما لا يكون كذلك في أحيان أخرى، نعم لدينا وحيٌ بدءاً بالنحل نفسه وحتى البشر أعمّ من العرفاء والأنبياء والشعراء، وكل ذلك عبارةٌ عن تجربةٍ دينيةٍ، وهذه التجارب الباطنية هي ـ كما قلنا ـ محتاجةٌ إلى تفسيرٍ وبيان، بل في الحقيقة ليس ثمّة تجربة خام، بل من وجهة نظر الفيلسوف الإنكليزي والتر استيس يعدّ البوذيون بالرغم من عدم وجود إله عندهم حسب الظاهر وبالرغم من أنهم يعبدون الأصنام يعدّون أصحاب قصّةٍ أعمق من ذلك، إن البوذيين لا يملكون نظرية الله بالرغم تجربتهم له([8])، وهذه نقطةٌ في غاية الأهمية لابد في عالم التجربة الدينية من الالتفات إليها والتفطّن لها، فقد يعثر الإنسان في كثيرٍ من الحالات على شيءٍ بيد أنه لا يعرف ما هو هذا الشيء، وعلى حدّ قول الفيض الكاشاني:
قلت أريد أن أبلغ يوماً لذّة الوصال معك
فأجابتني انظر جيداً، لعلّك قد وصلت.
بل إن نفس هذه الوضعية موجودةٌ في تاريخ العلم وفي العلوم الطبيعية، فتحديد الشخص الذي يمكن أن نعدّه مكتشفاً لشيءٍ ما يعدّ واحداً من المباحث الشائكة في تاريخ العلم، فمثلاً من هو مكتشف الأوكسجين؟ ومن هو الذي كشف قانون الغاز؟ ومن هو الذي اكتشف النجم الفلاني؟
يرى توماس كوهين إحدى الشخصيات المشهورة في هذا المجال بأن الشخص الذي يمكن عدّه مكتشفاً هو ذاك الذي يتمكّن من عرض نظريةٍ لمكتشفاته، أي أن يعرف ما هو هذا الشيء الذي قام بكشفه، وفي غير هذه الحالة فإن كافة الناس سيعدّون مكتشفين للأوكسجين ومنذ بداية التاريخ أيضاً، ذلك أنهم يتنفّسون الأوكسجين بشكل دائم ومتواصل ويحملونه في رواياهم، وكذلك الحال في الجرم السماوي المعين إذ ما أكثر الذين شاهدوه بيد أنهم لا يعرفون هل هو نجم أو سيارة؟ وبأي منظومة يرتبط هذا الجرم؟… ومن هنا فوجود الشيء في الذهن أو القلب أو تحت التصرّف ليس أمراً كافياً بل لابد من أن يكون هناك تفسير وتنظير لهذا الشيء، ولذا احتجنا للأنبياء، كما أن تلك القصة التي يحكيها مولوي بين موسى والراعي تصبّ في هذا الاتجاه أيضاً، فواحدةٌ من الأعمال الهامّة المسندة للأنبياء (ع) تعليمُنا كيف يمكننا أن نفسر التجارب الباطنية التي نعيشها؟ ذلك أن هذه التجارب بالرغم من أن لها تفاسير متنوعة ومتعددة، وبالرغم من تقبلها لكل ذلك بيد أن هذا لا يعني أن كافّة هذه التفاسير حق وصحيح، إذن فهناك ممرٌّ آخر لورود التعدد والتنوع في الفكر الديني ألا وهو وضع عدة تفاسير لتجربةٍ واحدة، نعم، فسواء اعتبرنا التجربة الدينية تجربةً لأمرٍ واحدٍ نتج عنها كافة هذه التفاسير المتنوّعة أو اعتبرناها متنوّعةً ومتعددة بالأصالة فنحن نواجه على كل حال التعدد والتنوع الذي لا يقبل الاختزال في أمرٍ واحدٍ، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع وأن لا نغض الطرف عنه، ومن ثم فنحن مطالبون بنظريةٍ تفسّره وتشرح حدوثه.
يسعى الباحثون المعاصرون لوضع اليد على سرّ التنوع في التفاسير وذلك بالتجهّز بمختلف النظريات المتعلّقة بالذهن واللغة، وبالاستفادة من الآراء الواردة في علم الاجتماع والإنسان والفلسفة فيما يتعلّق بهما أيضاً، إنهم يقولون: يبدأ التفسير بمجرّد شروع التكوين المفهومي conceptualization، وبمجرد أن تسلّم التجربة حيرتها إلى مجموعة تأملات ذهنية واعية، وتلقي القوالب المفاهيمية المعروفة بظلالها على سرّ التجربة والكشف غير المعينين بل والمفرّغين من القوالب، وهم لهذا السبب يرون بأن الحصول على الشفاء من مرضٍ معينٍ في الرؤية إنما يتمظهر بالنسبة للإنسان المسلم على يد نبي الإسلام محمّد (ص)، أمّا الإنسان المسيحي فإن التمظهر بالنسبة إليه يكون على يد عيسى (ع)، ذلك أن الذهن على معرفةٍ وعلاقةٍ بهذا أو ذاك من قبل، وهكذا الحال في تجربة النبي (ص) للنعيم الأخروي وللبهجة واللذة المعنوية التي تبلورت في مرآه في قالب الحور (النساء ذوات العيون السوداء)، ومن هنا فليس في القرآن أيّ حديثٍ عن الشعور الشقر والعيون الزرقاوات، إن كل ذلك أمرٌ جميل وحسن، لكن عرفاءنا وضعوا أيديهم هنا على قضية المنظر، وقالوا: عندما تكون موقعيات النظر لدى أهل الكشف والتجربة متفاوتة فإن محصول تجاربهم سوف يكون متفاوتاً أيضاً.
إن كلام مولوي هنا حجّةٌ، وأنا شخصياً اعتمد بالخصوص على كلام مولوي جلال الدين الرومي؛ ذلك أنني اعتبره ـ أوّلاً ـ خاتم العرفاء، كما أجد في بيانه أحلى وأعذب البيان، إنه يستخدم اصطلاح "المنظر" في المثنوي كثيراً جداً وهو ما نقصده اليوم بقولنا الرؤية ونقطة النظر، فنقطة النظر تعدّ ترجمةً غير صحيحةٍ لكلمة point of view الأجنبية والتي يمكن وضع كلمة وجهة النظر مكانها([9])، وهي كلمة ذات سبقةٍ في علم الهيئة والنجوم عندنا، كما كان لها وجود عند العرفاء، فقد استخدم هذا الرجل العظيم تعبير وجهة النظر أو المرصد في العديد من الموارد قاصداً به المعنى، ومنظوره هو ما نتكلم نحن عنه الآن ونحلّله، حيث يقول في بعض المواضع وبشكل جريءٍ جداً وبعيدٍ عن أي خوف أو رهبة:
فمن وجهة النظر يا لبّ الوجود
حصل الاختلاف بين المؤمن والمجوسي واليهودي([10]).
لقد ذكر ثلاثة أديان ومذاهب كبيرة هي الإيمان والمجوسية واليهودية، ومقصوده من الإيمان الإسلام، إنه يقول بأن اختلاف هؤلاء الثلاثة ليس اختلاف الحق والباطل وإنما هو بدقةٍ أكثر اختلاف وجهة النظر، وليس المقصود اختلاف وجهة نظر أتباع الأنبياء (ع) وإنما هو اختلافها لدى الأنبياء أنفسهم، نعم لقد كان الأنبياء الثلاثة ينظرون إلى الحقيقة الواحدة من زوايا ثلاث، أو أن التجلي عليهم كان على ثلاث نواحي أو من ثلاث نوافذ، ومن هنا قدّموا لنا أدياناً ثلاثة، وبناءً على ذلك فإن سرّ اختلاف الأديان لا يكمن فقط في التغايرات الموجودة بين الظروف الاجتماعية أو في تحريف الدين نفسه أو مجيء ديانة أخرى مكان الديانة الأولى، بل إنّ هناك التجليات المتنوعة للخالق تعالى في العالم، فكما هو الحال في الطبيعة حيث خلقها متنوعةً كذلك الشريعة هي الأخرى متنوعةٌ منه تعالى.
يطرح مولوي مرّةً أخرى في قصة العاشق البخاري و"صدر جهان" التي ذكرها في الكتاب الثالث من المثنوي مفهومَ تعدد وجهات النظر هذا، ونقطة بحثه هنا تقع في القبض والبسط الذي يخبره السالكون في سلوكهم، إنه يقول:
عندما تجد همّاً احتضنه بعشق
وانظر من أعلى الربوة إلى دمشق([11]).
أي عليك أن تنظر إلى الأحداث النفسية التي تعيش من زاوية وموقعية أعلى، فإذا ما جاءك غمٌُّ فلا تبق فيه، وكذلك الحال إذا ما عرضك السرور والسعادة فلا تجعل نفسك أسير هذه الأطر محصوراً بها، بل اجلس في موقع أعلى فقد ترى الغمّ يعقبه السرور، والقبض يردفه الانبساط، وبهذا الشكل يمكنك أن تواجه القبض والبسط بشكلٍ أفضل، والمثال الذي يطرحه مولوي هو "وأنظر من أعلى الربوة إلى دمشق"، والربوة تعني الارتفاع أي التل، فعندما تدخل مدينةً من المدن من مدخلها الأرضي فمن الممكن أن ترى الكثير من الأوساخ والقاذورات والخراب، ذلك أن نظرك محدودٌ فتتصور المدينة كلها على هذه الشاكلة، لكن اذهب إلى مرتفع تطلّ من خلاله على المدينة كلها، وأنظر إليها من هناك حتى تتمكن من الحصول على رؤية جامعة وكلية ومن ثم الحكم الصحيح على المدينة بأسرها، وهذا يعني أن تصحيح وجهة النظر يعدّ شرطاً أولياً وأساسياً في عملية النظر نفسها، فامتلاك العين وتنظيف النظّارات شروطٌ لازمةٌ لرؤية واضحة، وبعيداً عن ذلك إذا ما حصل اختلاف في وجهة النظر فإن الاستنباطات والكشوف والاستنتاجات البشرية ستكون هي أيضاً عرضة للتغيّر والتبدّل، فتنوّع وجهات النظر يستدعي تنوّعاً في المنظَرات نفسها أيضاً، ووجهة النظر هذه ليست أمراً غير الإنسان ونفسه، فالنظر والمنظر والناظر هاهنا إنما هي أمرٌ واحدٌ وهذا هو لبّ الكلام وروح الرسالة والمطلوب، وعلى حدّ تعبير الشاعر المعاصر "نحنٌ عدمٌ، نحن نظر ورؤية".
إن القصّة التي يذكرها مولوي عن الفيل ـ والتي نعرفها جميعاً ونقلها الغزالي أيضاً في إحياء علوم الدين ـ تعدّ قصةً استثنائيةً، وتمتاز بروعةٍ وجمالٍ غير عاديين، والنتيجة التي استحصلها مولوي في نهاية هذه القصة هي:
إن عين الحسّ ككفّ اليد ليس إلا
والكفّ الواحدة لا قدرة لها على الوصول إلى الكل([12]).
فالرؤية الحسّية والتجريبية هما كالنظر في البيت المظلم إلى الفيل ليس لها قدرة الإحاطة بتمام المعلوم، وليس الحال كذلك في النظرة الحسية فقط بل النظرة العقلية هي الأخرى على هذه الشاكلة، وما دام الإنسان محصوراً داخل قفص بشريّته فإن حكمه سيكون كذلك([13])، فكلام مولوي في الحقيقة عبارةٌ عن أننا جميعاً قد استقرينا في هذا البيت المظلم، ومن هنا لا نضع أيدينا أبداً على الواقع بأكمله كما هو المفترض، بل كل إنسانٍ منّا يرى الحقيقة ويفهمها بمقدارٍ ما تابعٍ للموقعيّة التي هو فيها، كما وبهذا المقدار يوصّف هذه الحقيقة أيضاً، وعلى حدّ التشبيه الرائع لمولوي نفسه:
إن الأنفاس التي ينفثها عازف الناي فيه
هل تنتسب للناي؟ كلا، إنها تنتسب للرجل نفسه([14]).
فكلنا جالسون كالناي على أعتاب الحقيقة، والحقيقة تقصّ قصّتها وتنشد أنشودتها على ألسنتنا، وإذا ما كنا نملك فماً بسعة الفضاء كلّه فسيبقى ضيقاً محدوداً أمام بيان مفردة الحقيقة، فإذن:
ليته كان للوجود لسان
حتى يرفع الحجب عن الموجودات([15]).
وهكذا الحال في قصة موسى والراعي، والتي تعبّر في الحقيقة عن المواجهة بين متكلّمٍ وعاميٍّ من الناس يملك تجربةً صافيةً خاماً لم تخضع للتفسير الديني، إنكم تعرفون مولوي، إنه لا يقصّ القصص لمجرد حكايتها، بل إنه يستفيد منها هنا لهدفٍ تعدّدي، إنه يقول بأن الراعي كان إنساناً مشبّهاً، وتجربته مع الله تعالى لم تتجاوز في تفسيره لها تصوّره كإنسانٍ عادي أو كطفل وأشباه ذلك، إنه يتصور بأن الله تعالى هو مثلنا تماماً لديه احتياجات وحاجات ومن هنا فهو يصفه بهذه الطريقة، لكن موسى متكلّم منزّه لله تعالى، ولذا صاح على الراعي وعاتبه وقال له: لا تنطق بمثل هذه الكلمات التشبيهية في حقّه تعالى، وهنا جاء الدور الإلهي لكي يحكم ويفصل بين موسى والراعي.
ويضيف مولوي موضحاً بأن أيّ واحدٍ منا في أي مرتبة كان للتنزيه هو الآخر مبتلى بالتشبيه حتماً، ذلك أننا نستعين بالقوالب المأنوسة لذهننا في توصيف الباري تعالى وننظر إليه من زاويةٍ خاصة لا تنفك عن وجودنا، فليس ثمّة من تحرّر بشكل مطلق من التشبيه حتى يكون قادراً على معرفة الله تعالى بكنهه وذاته كما هو عليه بالتجريد الكامل للذهن من كافة العوارض، نعم من الممكن أن تكون هذه التشبيهات غليظةً أو رقيقةً كما كان تشبيه الراعي غليظاً، لكن مولوي يحذر ويعلن أننا جميعاً مشبّهون:
كن متنبّهاً حين تنطق بالحمد والثناء
واعلم انهما شبيهان بذلك الراعي
فإن بدت أفضلية حمدك على حمد الراعي
فهو عاجز أبتر أمام الحق
فكم ستقول حين يرفع الغطاء
ليس هذا ما كانوا يظنون
إن قبول ذكرك هذا هو رحمةٌ رخّص لك بها
تماماً كصلاة المستحاضة
إنّ صلاتها ملوثةٌ بالدماء
وهكذا ذكرك مشوبٌ بالتشبيه والكيف([16]).
لقد منحوك الرخصة للذكر المخلوط بالتشبيه، لأنهم يعرفون بأنك غير قادر على التحرّر الكامل منه، لقد قالوا لك نزّه واستمر في تنزيهك ولا تتركه واعلم أنك في أي درجة من التنزيه تصل إليها غير خالٍ من التشبيه والكيف، وهذا التشبيه هو نتيجة الموقعيات والزوايا التي أنت فيها، ولكلّ راعٍ موسى، وكل إنسان راعٍ بدرجةٍ وموسى بدرجةٍ أخرى، ومن وجهة نظر العرفاء والمتصوفة فإن هذا الأمر صادق حتى بالنسبة للأنبياء العظام الإلهيين، فكيف بالبشر الذين لم يصلوا إلى مقام العصمة النبوية ولم يعثروا على كامل الحقيقة وجسد الواقع بأكمله؟ فكل نبيٍّ من الأنبياء وضع بين يدي أمته المقدار الذي وصل إليه، وهذه المقادير متفاوتةٌ تبعاً لتفاوت شخصيات الأنبياء (ع) أنفسهم، "تلك الرّسل فضلنا بعضهم على بعض" (البقرة: 253)، وإذا أردت أن أبيّن هذا المطلب بشكلٍ أكثر وضوحاً يمكنني القول بأن الله تعالى يتجلّى على كلّ شخصٍ بشكلٍ معيّنٍ كما أن كل شخص يفسر تجلي الحق تعالى عليه بنمط خاص "إن الخانقاه والخراب ليسا شرطين في العشق".
إن أوّل واضع لبذور التعددية في العالم هو الله تعالى، وذلك حين أرسل أنبياء متعددين فتجلّى على كل واحدٍ منهم وبعثه إلى مجتمعٍ معين، كما وجعل في ذهن وعلى لسان كلٍّ منهم تفسيراً، ومن هنا اكتسبت التعددية حرارتها.
لكن الأنبياء كانوا قمماً في التجارب والتفاسير، وهو ما لا يمنع من القول بأن لدينا مرتفعات أقلّ في الماضي والحاضر: "وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهم في فكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم…"([17]).
ويرجع تعدّد وجوه التفاسير في بعض الأحيان إلى تعدّد وجوه الواقع نفسه (وبعبارة دينية أكثر معروفيةً إن لله ألف اسم واسم)، فالواقع ليس ذا صفحةٍ واحدة وبُعدٍ واحدٍ، وإلى جانب هذا التعدد في جهات الواقع ثمّة تعدّد آخر أيضاً في وجهات نظر الناظرين الدخيلة في تنوّع التفاسير، وهنا يقول مولوي في إشارةٍ له للإنسان:
أنت لست وحيداً أيها الرفيق الحسن
بل أنت فلكٌ وبحرٌ عميق([18]).
إن اللسان على هذه الشاكلة أيضاً، وفوق كل ذلك هناك إله الإنسان الذي يفوقه بمراتب من الرمزية والسرّية والتداخل.
ويوضح جون هيك (john Hick) الفيلسوف وعالم الدين المسيحي المعاصر وأحد مناصري الاتجاه التعدّدي هذه النقطة مستعيناً بالتفكيك الموجود في المذهب الكانتي بين مقامي الشيء في ذاته والشيء لنا، إنه يشرع في مقالةٍ جالبةٍ تستحق القراءة ـ تحت عنوان "هل أننا نحن المسلمين والمسيحيين واليهود نعبد إلهاً واحداً؟" ـ ببيان الوجه الواحد للذات الخالق تعالى في كافة هذه الشرائع، لكنه يضيف بعد ذلك بأن هذه الوحدة نتاج رؤيةٍ بعيدةٍ للأمور، إذ بمجرّد أن نقترب شيئاً فشيئاً ستبدو أمامنا التمايزات والفوارق، ومن ثم ستلقي بهذه الوحدة في الظلام، نعم فالله في كافّة هذه الأديان هو خالق العالم والإنسان، وهو المثيب والمعاقب للبشر، وهو المحبّ والغاضب عليهم، لكنه في المسيحية ثلاثي الأبعاد، واحدٌ متجسّد في ابنه المسيح، وقد اختار مكاناً من العالم، وهو إله متفاوتٌ تفاوتاً كبيراً عن إله اليهود والمسلمين، كما أن الإلهين الأخيرين أي الله ويهوه ليسا واحداً أيضاً، فمن وجهة نظر هيك إله اليهود يعيش هواجس بني إسرائيل كثيراً، فهو يقول لهم وفقاً للعهد القديم: "لا أعرف غيركم من بين كافة الخلائق على وجه الأرض"، وهذا هو الإله الذي يقول لبني إسرائيل أيضاً اقتلوا السكّان الأصليين لأرض كنعان، وخذوا أرضهم وتملكوها و…، وكذلك الحال لدى إله المسلمين؛ فبالرغم من أن هذا الإله أكثر قرباً ـ في تصوّر هيك ـ لإله اليهود منه لإله المسيحيين لكنه مع ذلك كله لا يهتم إلا بالمسلمين، وكأنه لا يعرف غيرهم، فهو يساعدهم لوحدهم في الحرب، وتوجّهه الأساس إلى الجزيرة العربية أكثر من بلاد فلسطين، كما أن أتباع كلّ دينٍ من هذه الأديان يرى لنفسه محبوبيةً خاصةً عند ربه يفتقدها الآخرون.
إذا رأى كل واحدٍ من هذه الأديان نفسه محض الحقيقة والحق المطلق بحيث لا مكان للآخرين في الوصول إلى الحقيقة والفلاح والسعادة فأي جهنم غير قابلةٍ للتحمل سيصبح هذا العالم؟
ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه النتيجة غير المستساغة سيتمّ استبدال القراءة السابقة للأديان بقراءةٍ جديدةٍ وتسليط الضوء على تاريخها، وهنا يسأل هيك نفسه فيقول: هل أن أصدقائي اليهود والمسلمين بعيدون عن رحمة الله تعالى واقعاً؟ هل أن الله تعالى لا يقبلهم بهذا القدر فيما يقبلني أنا المسيحي؟ ماذا فعلت أنا ممّا لم يفعله هؤلاء؟ هل أن عوام المسيحيين أكثر تديّناً وصدقاً وشفقةً من عوام المسلمين واليهود؟ (وأليس لازم الاعتقاد بهذا الأمر كون المسيح هو المنجي للبشرية والعالمين…)،هل أن الصدّيقين والقدّيسين أقل ظهوراًُ بين المسلمين واليهود منهم بين المسيحيين؟ هل أن ارتكاب المعاصي الكبيرة بين المسلمين واليهود أكثر منه بين المسيحيين؟ هل أتت تلك الأديان بثقافة أفقر مما نحن عليه؟
حقّاً وإنصافاً لا يمكنني القول بأن الثقافة المسيحية أعلى روحياً وأخلاقياً بشكلٍ واضح من الثقافات الدينية الأخرى، والحقّ هو أن عدم قابلية القياس والتعقيدات الثقافية والعقائدية والتاريخية لا تبقي مجالاً لكي نعطي لكل ثقافةٍ وتاريخٍ لهذه الأديان درجةً محددةً، وأن أحدها أفضل أو أقلّ من الآخر، بل لكل واحدٍ من هذه الأديان محاسنُ ومعايب، كما يمكن العثور في نصوص كل واحدٍ منها على جمل وتعابير تفيد هذا المضمون، وهو اكره لغيرك ما تكره لنفسك([19])، فلليهودية امتياز مولد التوحيد وموطنه في الغرب، وقد قدّمت شخصيات لا نظير لها على كافّة الأصعدة الثقافية، نعم ثمّة قذارة وعيب في جبين اليهودية، وهي سيطرة اليهود بالقوّة على الفلسطينيين وممارستهم الظلم في حقّهم، وكذلك هناك امتياز للمسيحية حيث جعلت من مشركي أوروبا متمدّنين، وكان لها سهمٌ وافرٌ في العلوم الجديدة، لكنها مبتلية بظلم الترويج وبعث الهمم المضادّة لليهودية وممارسة الاستعمار للعالم الثالث، وكذلك الحال أيضاً في الإسلام حيث كان له تأثيرٌ إيجابيٌّ ومنتجٌ على حياة الملايين من البشر، كما منح قسماً كبيراً من العالم الغنى الثقافي، لكنه من جهة أخرى متورّط في عيب معاقبته بطريقة غير إنسانية وقاسية المجرمين في بعض البلدان الإسلامية.
إن الوحدة الإجمالية للخلفية الحضارية لهذه الأديان الثلاثة، وصعوبة قبول الحكم بالبعد عن رحمة الله تعالى في حق أتباع الديانات الأخرى، وتحقيقات علماء المعرفة والأنثروبولوجيا في كيفية حصول المعرفة وعلاقة الفرضيات المسبقة في الذهن وكذلك الجو المحيط في تولّد المفاهيم، كل ذلك دفع جون هيك إلى الميل إلى هذه النظرية وهي أن
عباراتنا شتى وحسنك واحـد وكـلّ إلى ذاك الجمال نشير
وعلى حدّ تعبير الفروغي البسطامي:
لقد ظهرت وتجلّيت بألف مظهر
وكأنني أنظر إليك بألف عين.
لقد استعان هيك بتفكيك الشيء في ذاته والشيء لنا عند "كانت"، وفرّق ما بين الله في مقام لا اسم ولا رسم وبينه بالنسبة إلينا، واتخذ من ظهور الحق تعالى في مظاهر مختلفة سرّاً لتمايز الأديان كما وسرّاً لحقانيتها جميعاً، ومن ثمّ وعلى هذا الأساس توصّل إلى الكثرة الأصيلة في عالم الدين، إنه يقول: إن هذه الأديان "لعلّها ظهورات، أشكال، صور وتجليات لله الواحد، لعلّها أنحاء وطرق مختلفة أبرزها الله للبشر من جوانب مختلفة وفي مقامات وموقعيات متعدّدة"، بل إنه يصل إلى القول "بأن يهوه والله وإله السماء المسيحي الذي يملك كل واحدٍ منهم شخصيةً ألوهيّةً وتاريخيّةً هم في الحقيقة الحصيلة المشتركة للظهور الكلّي للشخصية الألوهية الكلية إلى جانب دخالة القوة المصوّرة للإنسان في الظروف التاريخية الخاصّة"، إنه يرى في ذكورية الله في الأديان التوحيدية أمراً غير بعيد عن ظروف الراعوية التي كانت موجودة لدى الأقوام البدوية المختلفة، وفي المقابل فإن أنوثة آلهة الهند ما قبل الآرية تدلّل على دخالة الظروف الاجتماعية ـ الاقتصادية المختلفة التي كانوا فيها.
وبعبارةٍ أخرى:
لقد صارت الخمرة ثملةً بنا لا نحن بها
واكتسب الجسم وجوده منّا لا نحن منه([20]).
هذا النوع من المستندات التي قدّمها جون هيك يبدو لنا غير صحيح وغير علمي، لكن ذلك لا ينقص ولا يضعف من صلابة ومعقولية موقفه التعددي، فهدفه من كلّ ذلك هو أنه "ما لم يحصل الصلح بين أتباع الديانات فإن البشر لن يعرفوا الصلح أبداً، كما ولن يتمّ الصلح فيما بين الأديان أنفسها ما لم يجر الأخذ والقبول بهذا المبدأ وهو أن الأديان المختلفة إنما هي ردّات فعل مختلفة لتلك الحقيقة النهائية والإلهية التي نسميها نحن الله"([21]).
والشيء الملفت استدلال هيك في مقدّمة هذه المقالة ـ وبهدف تدعيم موقفه ـ بهذا الشعر اللطيف والجذّاب لمولانا جلال الدين الرومي:
فهذه المشكاة وهذا الفتيل من نوعٍ آخر
لكن النور لم يتغير إذ هو من تلك الناحية([22]).
وقد جاءت قبل وبعد هذا البيت الأبيات التالية:
إن هناك نتاجاً من موسى
لكنه ليس نوراً آخر وإن تغيّر السراج
فمن وجهة النظر يا لبّ الوجود
حصل الاختلاف بين المؤمن والمجوسي واليهودي([23]).
وليس من الإنصاف أن لا نضيف هنا بأن جون هيك موحّد لا يرى التثليث، كما أنه لا يفهم من تجسّد المسيح أكثر من استعارةٍ، لا كما رأته شورى نيقية في القرن الرابع الميلادي من أنه ـ أي التجسّد ـ ذو معنى حقيقي، وهو باتخاذه هذا الرأي الشجاع يفي للعقلانية، ويقدم جواباً إيجابياً لنداء طلب الحقيقة والتعددية اللذين في قلبه، وهو يردد من حيث لا يشعر مقالة مولانا الذي ـ مع سعة صدره وبعد أفقه ـ لم يتخلّ عن نقد النصارى فيما يخصّ صلب المسيح عيسى (ع):
لقد قال هؤلاء كما السفهاء
وكانت نتيجته "يقتلون الأنبياء"
فانظر إلى جهل ذاك المسيحي
الذي يلتمس الأمان من ذاك السيد المصلوب
ومهما تفجّر قلب ذاك الملك دماً لهم
فكيف تتحقق عصمة "أنت فيهم"؟([24]).
المبنى الثالث: يستشهد جون هيك بهذا البيت لمولانا، ولو كنت مكانه لاستفدت أيضاً من هذه الأبيات الشجاعة والحماسية المثيرة، وهي:
حيث أصبح اللالون أسير اللون
صار موسى في حربٍ مع موسى
وعندما تصل إلى اللالون الذي كنت فيه
فحينها سوف يقع الصلح بين موسى وفرعون
فإمّا هذه ليست بحرب بل تصنع لحكمة
وتكون كمشاجرات وخصومات بائعي الحمير
وإما أنها لا هذا ولا ذاك بل هي حيرة
ولابد من البحث عن الكنز في هذه الخرابة
واعلم يا سليم القلب أن عناد فرعون لموسى
إنّما هو كالنعلين المعكوستين([25]).
تشير هذه الأبيات إلى ظهور المطلق في المقيّد واللاتعيّن في التعيّنات واللاملوّن في الألوان، كما تكشف سرّاً آخر يشكّل بدوره دعامةً عرفانيةً إضافيةً لتأييد التعددية.
وهذه الطريقة ـ الثالثة الهادفة إلى هضم الكثرة بين الفِرق والمذاهب (إلى جانب التعدد في مقام فهم النصوص، ومقام تفسير التجارب الدينية) ـ ترى الحرب بين موسى وفرعون حرباً حقيقيةً من زاويةٍ، لكنها من زاوية أخرى صراع تضليلٍ وتحايل وتلاعب بالناس وأمثال ذلك، وهي تفضي في نهاية المطاف إلى إلقاء نوعٍ من الحيرة من جهة، وفتح المجال لعرفاء السر الباطنيين للعثور على الكنز المقصود في أماكن الخراب المغفولة دون اعتناءٍ بالنزاعات من جهةٍٍ أخرى، وفي نفس الوقت رؤية عالم الغافلين قائماً بها، ثمّ ليفهموا ـ وبشكلٍ صحيحٍ ـ أنّ الكنز في مكانٍ آخر فيما يحارب كلّ واحدٍ من المتخاصمين خصمه بتوهّمه الكنز، ويرى نفسه قادراً، ومنافسه فانياً لا يملك شيئاً، ويدركوا أنّ الله تعالى يبعد بهذه الطريقة أولئك السطحيين عن الوصول إلى هذا الكنز.
إنّ ما تتوهّمه أنت كنزاً
أضعت بتوهّمك إياه الكنز الحقيقي([26]).
هذه الرؤية تأخذ نزاع الفِرق والأديان بشكلٍ جادٍّ، لكنها ترى المعنى والغاية خارج هذا النزاع، لا في انتصار واحدٍ من أطرافه على آخر، كما أنها ترشد إلى ضرورة أخذ درسٍ آخر من هذا التعدّد والتفرّق، وهو حيث يكون هناك تزاحم في هذا العالم فإن ثمّة إخفاء وتغطية للسرّ والجوهر، والعقل العارف بالسرّ هو ذاك الذي لا يخدع بهذا الأمر، بل يسعى ويجدّ في استخراج الكنز فيما الآخرون مشغولون بنزاعاتهم وخصوماتهم، ليكشف ويفتح السرّ والخفي وليأخذ ويختطف الجوهر والكنز.
إن الحرب بين أهل الجبر والقدر
مستمرةٌ إلى يوم الحشر أيّها الأب
فهم لا يفهمون تذوق الغم والآلام
فقد جعلوا ماء الحياة في الظلمات
فصِح مثل البلبل على الورود والأزهار
حتى تشغلهم بصيحتك هذه عن رائحتها
المبنى الرابع: ويفصّل مولانا جلال الدين الرومي هذا المعنى في مكانٍ آخر من المثنوي، ويحقّق بذلك خطوةً أكثر تقدّماً، كما يزيل من البين ستاراً جديداً، ويطلق لنفسه عنان الكلام والبيان، واضعاً بذلك الطريقة الرابعة لتعليل الكثرة والتعدّد، وهو يحكي مجدّداً عن حاقّ نظره فيما يخصّ تعدّد الفرق والمذاهب فيقول:
بل كان يعلم أن الكنز الملكي
يضعه الملك في الخرابات
إن سوء الظن ناتجٌ عن هذا الفعل المعكوس
وإلا فإن كل جزءٍ منه جاسوسه
بل الحقيقة غارقةٌ في الحقيقة
ولهذا صارت الفرق سبعين بل مائة
وسوف أحدّثك بما تريد
فانتبه أيّها الصوفي وافتح أُذُن قلبك جيداً([27]).
إنه لا يرى سرّ تفرّق المذاهب فرقةً فرقة ـ بل وتعدّد الأديان نفسها ـ في التحريف، بل ولا في المؤامرات أو النوايا السيئة لأصحاب النوايا الخبيثة، كما ولا في جعل ووضع الجاعلين والواضعين، أو ضلال وكفر الكافرين (مما لا تخلو منه طريقة أو مذهب بالطبع)، فبدل أن يتحدّث عن تراكم الضلالة على الضلالة، يتكلم عن غرق الحقيقة في باطن الحقيقة مما يؤدي إلى الوصول إلى سبعين فرقة، وهو بذلك يعلّمنا أن تراكم الحقائق وتداخلها في بعضها البعض، وحيرة الاختيار والانتخاب من بينها هما سبب التنوع الأصيل غير القابل للتجنّب، وهذه النقطة جديرة بالتركيز عليها من الأعماق، ووفقاً لذلك لابد من استبدال التصوير والزاوية، فبدلاً من رؤية العالم كلّه خطاً مستقيماً واحداً ومئات الخطوط الملتوية والخاطئة لابد من رؤيته مجموعةً من الخطوط الصحيحة والسليمة ذات التقاطعات والتوازيات والتطابقات فيما بينها، "بل الحقيقة غارقة في الحقيقة"، أليس الصراط المستقيم (صراطٍ مستقيم) الذي ذكر القرآن الكريم سير الأنبياء عليه عبارةٌ عن خطٍ واحدٍ من الخطوط الصحيحة لا مجرّد خطٍ واحد "الصراط المستقيم"؟ وأليس ذلك عين ما ذكرناه هنا؟([28]).
فالمشكلة من وجهة نظر مولوي لا تكمن في عدم عثور الفرق والفئات على الحقيقة ليبقى أنصارها ـ بالتالي ـ ضالين فارغي الأكف، بل إن الحقائق التي تمّ العثور عليها والمكتشفات والمكاشفات التي حصلت هي نفسها كثيرةٌ جداً، وبقاء الحيرة والتحير في وسط هذه الحقائق والانجذاب والانسحار بزواياها ومقاطعها هو الذي يؤدّي إلى التعدد والتكثّر.
لقد جاء هـذا المعنى ببيان آخـر في "القبض والبسـط"، وهـو أن العينية (objective) قبل الحقانية، فالشخص الذي يعلم بأن صديقه يحوز على مليون تومان مثلاً لكنه لا يدري بأن المليون تومان هذه إنما هي قرض ودين فإن معلوماته صحيحة وحقّة في نفس الوقت الذي يكون فيه تصويره لثروة ذاك الصديق غير عيني وغير واقعي، فلأجل أن تفي الهندسة المعرفية بالواقع لابد من أن تكون لديها هذه الحقائق المتصلة، وفي غير هذه الحالة ستكون هناك خيانة للواقع والواقعيات.
وبعبارةٍ أخرى إذا كانت بنية الواقع بسيطةً وغير معقّدةٍ، وإذا كان هناك حق أو مجموعة حقائق معدودة في عالم الواقع لا أكثر، وإذا لم يكن ثمّة وجود للصفحات العليا والسفلى والعميقة والسطحية، وإذا ما كان العالم الوجودي غير مليءٍ بالرمز والسر، وإذا كان يمكن قول وسماع وفهم كافة الحقائق والأسرار بمنتهى السهولة واليسر، وإذا كان اللسان متمكّناً وقادراً على تبيين الحقائق وإفشاء السر… إذا كان كلّ ذلك فهناك يمكن التمييز وبسهولةٍ بين الهداية والضلالة والحقّ والباطل، ولن يكون تولّد الفرق المتعددة والمتنوعة معقولاً ومقبولاً حينئذٍ، لكن كثرة الحقائق وتداخلها فيما بينها سوف يؤدّي بالضرورة إلى فتح باب هذا التفرّق ويوسّع من نطاقه، والطريق الوحيد لنفي التعدّد هو إبانة الواقع وتبسيطه وهو ما يعني تسطيح الأمور وتبسيطها.
إن التعددية التي ذكرناها حتّى الآن يمكن تسميتها بالتعددية الإيجابية الأصيلة، ذلك أنها تبتني على عناصر قوّة، إذ إن يدنا هنا كانت مليئةً فكنا تعدديين، وحيث إنّ النصوص والتجارب الدينية تستبطن تفاسير عديدة، وحيث إن الواقع متداخل كثير الأضلاع، وحيث إن الإرادة والقضاء الإلهيين يفرضان التعدّد… فقد قبلنا بالتعددية واعترفنا بها ولا نرى طريقاً آخر ها هنا غيرها، فنحن لا نعتبر البقيّة من المفكّرين والعلماء فارغي الأكف معذورين بل نراهم مقتدرين ومشكورين أيضاً، وبالتأكيد فإننا نعطي العقل حقه الطبيعي ولا نتنازل عن النقد والنقاش العقلانيين والذين هما قضاء من القضاء والإرادة الإلهية، لكن التعدّدية الإيجابية هذه ذات مضمون وأصلٍ آخر، فالمنافسين الموجودين ينظر إليهم وفقاً لها على أنهم نماذج حصرية غير قابلة للتبدل والتحوّل إلى بعضها البعض، كما لا يندرج أحدها أو يستحيل في الآخر، بل كل واحد منها يتمتع بخصوصية لا تقبل المقايسة مع غيره، تماماً كالأجوبة الكثيرة والصحيحة غير القابلة للإدغام بسؤال واحد، فالتجارب ـ كالأنواع والطبائع ـ كثيرة واقعاً، أي أن بينها تبايناً ذاتياً، وهكذا الحال في تفاسير النصوص وغيرها.
لكن لديناً أيضاً تعدّدية سلبية، وفي هذه التعددية المقبولة والمعقولة هناك دائماً مكانٌ فارغ لشيءٍ ما، إما اليقين أو الحقيقة أو الانسجام أو…، وفي الحقيقة فهي تعددية غير أصيلة بيد أنها مهمّة ولا يمكن تجنبها.
المبنى الخامس: وهنا أيضاً نستمد من مولانا الرومي الذي يبين لنا الطريق اتكاءً على الذخائر العظيمة للتصوّف، إنه يوصي حسام الدين باختيار الكبار والشيوخ، ويحذّره من الوحدة في طريق السلوك الروحاني المليء بالخوف، ويعتبر السير في هذا الطريق من دون الاستعانة بالكبار والشيوخ أمراً غير ممكن، وهو يضيف بأنّ الأشخاص الفاقدين ـ بحسب الظاهر ـ لإشراف شيخ كبير لكنهم وصلوا ـ نادراً ـ إلى شيءٍ ما، لم يسحبوا أيديهم في سرّ سرّهم من تلقي الإرشادات المخفية للهداية، فحتّى هؤلاء جلسوا غياباً على مائدة ضيافة الشيخ:
إن كلّ من قطع ـ نادراً ـ هذه الطريق لوحده
فقد قطعها بمعونة الشيوخ ووصل
إنّ يد الشيخ ليست قصيرةً للغائبين
إنّ يده ليست سوى قبضة الله ويده
فإذا كانوا يهبون الغائبين هذه الخلع
فلا ريب أن الحاضرين أحسن حالاً عندهم([29]).
ويسمّي مولانا هذه الطائفة من بين الطوائف الصوفية بالأويسيين (نسبةً إلى أويس القرني)، صحيح أنّ الهداية بلا هادٍ غير ممكنة، لكن هذا الهادي تارةً يكون مخفياً وأخرى ظاهراً، تارة قريباً وأخرى بعيداً، لكنه مشغولٌ دائماً بعمل الهداية والإرشاد، لابد من النظر إلى الغاية (أي النجاة النهائية) إذ المبدأ والمسير ليس لهما حكمٌ مستقلٌّ هنا.
ويذكر مولوي هذا المضمون في مكانٍ آخر وبطريقةٍ أخرى ملبّساً بلباس التمثيل الجذاب: لقد أضعتَ جملاً وذهبت في طلبه كلّ مكان، وسألت عنه كلّ الناس، فأحياناً يؤمّلك العثور على علامةٍ عليه، فيما يوقفك عن الطلب أحياناً أخرى كلامٌ ما تسمعه، لكن شخصاً آخر ـ تقليداً ومن دون أن يكون قد فقد بعيراً ـ يركض خلفك، وهو مثلك يبحث ـ لكن كاذباً ـ عن جَمَله، إن هذا الطلب الحقيقي وذاك التقليد الكاذب يستمرّان حتى تعثر على بعيرك، ولكن إلى جانب بعيرك هناك بعيرٌ آخر كان ـ بحكم القضاء ـ إلى جانب بعيرك وكان من حظّ ذاك المقلّد، وبمجرد أن يراه هذا المقلّد لك يقوم بتذكّر جمله الذي فقده، يقول مولوي:
عندما يسير كاذبٌ مع صادق
فإن كذبه يصبح فجأةً صدقاً([30]).
لكن المقلّد بعد ذلك يميل برأسه ويذهب في طريقه:
قال: لقد كنت حتّى الآن في وهم
وكنت من طمعي في تملّق
لقد كنت أسرق منك وصف الجمل
لكن عيني امتلأت عندما رأت جملها
لقد صارت سيئاتي كلّها طاعات، فلله الشكر
وصار الهزل فانياً والجدّ ثابتاً، فلله الشكر
وحيث كانت سيئاتي وسيلةً للحق
فلا تنزل ضرباتك بها قط([31]).
وفي نهاية الطريق تعلمان أنكما كنتما على جادّة الهداية، أحدكما تحقيقاً والآخر تقليداً بل خرافةً وبلا وعي، كما أن يد العناية الغيبية قد أوصلتكما إلى المقصد السعيد، فلو نظرنا لنهاية الأمور لوجدنا أن سيئات هذا المقلّد الساذج الجاهل كانت كلّها طاعات، "فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات" (الفرقان: 70)، كالسارق الذي يذهب للسرقة بيد أنه لا يعلم بأنه يذهب إلى منزله وملكه الخاص ليسرقه، أو كشخصٍ يبذر في الأرض اليابسة التي لا ثمر منها لكنه يجني منها عجباً، حدائقَ نصيباً له:
قصد لصٌّ منزلاً لسرقته خفيةً
لكن عندما دخله وجده منزله
فأحِسّ بالحرارة أيها البارد حتى تعمّك
وتحمّل الشدة والصعاب حتى تصل إلى اللين
لم يكونا جملين بل جملٌ واحد
فاللفظ ضيّق لكن المعاني كثيرة وغزيرة([32]).
وهكذا الحال في طريق الطلب، فالطلاب الصادقون ـ ضمن أيّ عنوانٍ انضووا وتحت أي لواءٍ ساروا وبأي مسلكٍ ومذهبٍ تعلّقوا ـ يُرشَدون من بعيد إلى الهداية، ويوصَلون إلى المقصد والغاية (المبنى الخامس)، فللصادقين مكانتهم الخاصّة وموضعهم المحدّد، بل حتى الكاذبين المقلّدين لا يبقون بلا نصيب عندما يجهدون ولا يتوقفون عن السعي، وهكذا يظهر أن الكثرات التي تبدو متباعدةً إنما هي في الحقيقة متقاربة، وكافّة الباحثين يبحثون عن أمرٍ واحد وينادون شخصاً واحداً، فحيث يطلبون "السيمرغ" يشاهدونه، كما كان الحال مع طالبي العير الصادقين والكاذبين حيث وصل جميعهم إلى عيرٍ واحد، فشرط الطريق تحمّل القاسي والمؤلم، والسعي الدؤوب للأمام لا النوم المخمليّ بلا آلام والاكتفاء بالتعاليم الفقهية ـ الكلامية الدوغمائية المرفّهة، والرضا ورؤية النفس واصلةً إلى النجاة والسعادة.
وهذا معناه هنا ضرورة التركيز على صدق الطالب ونجاته النهائية قبل التأكيد على الصدق المطلق للتعاليم التي يراها، والحديث عن الهادي أو الهداة غير المرئيين وغير المعروفين قبل الحديث عن الهادي الجليّ والمرئي، وكأن كافة السالكين وعامّة المتدينين هم أتباع طريقةٍ واحدةٍ يأخذون بأجمعهم المدد من مركزٍ واحدٍ يمنحهم العون، لكنهم يضعون لأنفسهم وطرقهم أسماء متعددة ومتنوّعة، ويختلفون فيما بينهم بتوّهم وجود الخلاف ويتعادون بسبب ذلك.
إن اختلاف الخلق يأتي من ناحية الاسم (اللفظ)
لكن مع السير نحو المعاني يعمّ الوئام([33]).
إنّ مثل هذه التعددية السالكة والمعذّبة تمكّن من هضم وقبول الكثرة، كما تبقي كل فرقةٍ على دعواها ثابتةً راسخةً، ترى الحق والنجاة والأفضلية الباطنية والحقّة من نصيبها، أما الآخرون فهم يسيرون في طريقها من حيث لا يعلمون، ومظلّة إرشادها وهدايتها تظلّل رؤسهم دون أن يعرفوا، وفي النهاية يصلون إلى نفس المكان الذي وصلت الفرقة الحقّة إليه.
ووفقاً لذلك يرى المسلمون كافّة طالبي طريق الحق في النهاية مسلمين (أحد تفاسير "إن الدين عند الله الإسلام")، والمسيحيون من أمثال كارل رانر Rahner يسمّون كافة طالبي الحقيقة بالمسيحيين الواقعيين الباطنيين أو المسيحيين بلا عنوان، وجون هيك الذي تقدّم ذكره يسمّي هذا المسلك inclusivism (القول بالكثرة الظاهرية) ويضعه مقابل pluralism (القول بالكثرة الواقعية) والذي هو مسلكه الخاص، كما أنه يذكر المسلك الواسع الانتشار والكثير المؤيدين وهو المسلك الثالث المسمى بـ exclusivism (نفي الكثرة والتعدد)، إنه ينقل أيضاً عن البابا "جون بل" ذكره في أوّل رسالة كنسية له عام 1979م: "إن كل إنسان كائناً من كان وبلا استثناء مشمول لرحمة عيسى المسيح، والمسيح متّحد بنحوٍ من الأنحاء مع كلّ إنسان حتى لو لم يعلم هو بذلك"([34]).
المبنى السادس: ويمكن إيضاح هذا المعنى نفسه بالاعتماد على الاسم الإلهي "الهادي"، وهذا هو المبنى السادس، يمكننا أن نسأل هل الأقلية الشيعية الاثناعشرية ـ ومن بين كلّ هذه الطوائف المتدينة (غير المتدينين نضعهم هنا جانباً) التي تبلغ مليارات الأشخاص ـ هي وحدها التي حازت على الهداية فيما البقية ضالون أو كافرون (كما هو اعتقاد الشيعة)؟ وهل أن الأقلية اليهودية التي تبلغ اثنا عشر مليوناً في العالم هي وحدها المهتدية فيما البقية مطرودون ومردودون (حسب الاعتقاد اليهودي)؟ إننا نسأل: في هذه الحالة أين هي هداية الرحمان تعالى؟ وأين تحققت؟ ومن هم الذين شملتهم النعمة العامة لهدايته؟ وإلى من وصل وهدى وأرشد اللطف الإلهي الذي يعدّ الأساس الكلامي لإثبات النبوة؟ وأين تجلّى اسم الهادي الحق؟ كيف يمكننا التصديق بأن عدّةً من العصاة والغاصبين نجحوا ـ وبمجرّد أن أسلم النبي الأكرم (ص) روحه للموت ـ في الإطاحة بدينه، وحرموا عامّة المسلمين من فيض الهداية، ومن ثم بددوا في الهواء كل جهوده (ص)؟ لنفرض أن بعض الأشخاص المعدودين قد حاربوا الحق وطلبوا الجاه لكن ماذا حصل مع ملايين الملايين من المسلمين (إلى آخر التاريخ) حتى لا تقبل طاعاتهم وتذهب جهودهم بلا ثواب، لا بل وينتظرهم سوء العاقبة؟ أليس هذا اعترافاً بهزيمة المشروع الإلهي وفشل النبي (ص)؟ هل أنّ مجيء عيسى (ع) روح الله ورسول الله وكلمة الله (كما في التعبير القرآني) كان فقط لأجل تحوّل جمعٍ عظيمٍ من الناس إلى مشركين واختيار ديانة التثليث والابتعاد بذلك عن الهداية الحقّة؟ ومن ثم ليخضع كتابه وكلامه ورسالته للتحريف فوراً؟ أفهل كان هادياً أو مضلاً؟ هل كان رسول الشيطان أو رسول الله الرحمان الرحيم؟
وفق هذا المنطق ستكون هناك مساحةٌ كبيرةٌ وهائلةٌ من العالم تحت سيطرة وسلطنة إبليس، فيما جزءٌ حقيرٌ منه في كفالةٍ غير ثابتةٍ لله تعالى، أمّا الضالون فلهم الغلبة الكمّية والكيفية على المهتدين، والصالحون في أقليّة محضة، والأديان التي أرسلها الله تعالى لهداية البشر قد تمّ مسخها بأقل جهد على يد الشياطين، وعليه فإن أكثر الناس اليوم إما متبعون لدينٍ محرفٍ أو فاقدون لمطلق الهداية والارشاد، وفي نهاية المطاف سوف يحرمون من نصيب الرحمة الإلهية.
إنّ هذه الملاحظات البديهية تدفع الإنسان لتوسعة مجال السعادة والهداية لكي يرى كيد الشيطان ضعيفاً كما هو التعليم القرآني، وليعترف للآخرين بحظٍّ من السعادة والنجاة والحقانية، وهذه هي روح التعددية([35]).
وما يخدع الفكر هنا عناوين من قبيل الكافر والمؤمن، وهي عناوين محض فقهية ـ دنيوية (وهكذا نظائر هذه التعابير الموجودة في جميع الشرائع والمسالك) تقوم بإغفالنا عن رؤية الباطن وتعجزنا عن تحقيق ذلك([36])، ورفع هذا النوع من التمايزات الظاهرية في مقام التحقيق، وإلقاء النظر إلى العالم من نافذة اسم الهادي، والبحث عن الهداية والنجاة في الطلب الصادق والعبودية الحقيقية لا في التعلّق بهذا الشخص أو ذاك، أو القيام بهذا العمل أو ذاك الخُلق، أو الارتباط بهذه الحادثة التاريخية أو تلك، وبالتالي تمييز حكم القشر عن حكم اللب، وفصل ذاتي الدين عن عرضيه، ووضع الشريعة والحقيقة كل في موضعه الخاص المناسب له، والنظر إلى الشيطان على هامش الحقيقة لا في أساسها ومتنها "ولا يحسبنّ اللذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون" (الأنفال: 59)، هو مفتاح حلّ المشكلة وتقبل الكثرة والتعدد، فإذا نظرنا إلى التعددية من هذه الزاوية فلن يكون هناك سوى الإذعان بالرحمة الإلهية الواسعة، والاعتراف بموفّقية الرسل، وضعف كيد الشيطان، وبسط يد الرحمة الإلهية على رؤوس العالمين والبشر أجمعين.
ليس الكلام في تخلّي أتباع الديانات المختلفة ـ ومن دون سببٍ ـ عن الأعمال والآداب والعقائد الخاصّة التي يرونها ليحصل الانسجام والتناغم والتشابه بين الجميع، وإنما في ضرورة النظر بعينٍ أخرى إلى الكثرة والاختلاف العقائدي والسلوكي، وعدم حصر جوهر الهداية في التعاليم الكلامية ـ الفقهية الصرفة، وعدم توهّم أن أيّ شخصٍ يحمل مجموعةً من المعتقدات الخاصة في ذهنه (الشيعة أو السنة أو البروتستانت أو الكاثوليك أو…) هو المهتدي والناجي فيما البقية ضالون هالكون، فعلينا ببُعد النظر في قراءة العمل والطلب والمعاناة، وأن لا نرى بأوهامنا أن الله تعالى هو المغلوب أمام الشيطان، بل المفروض مطالعة طرق الحق المستترة في هداية الخلق، لا سيما الفضائل الأخلاقية التي ينبغي اعتبارها أهمّ من العادات الفكرية والعملية الدينية، وهذه التعددية تعدديةٌ سلبيةٌ لأنها ـ كالاعتبار من قصة موسى والراعي ـ لا تنظر إلى صدق التعاليم الكلامية، وإنما تؤكد قبل ذلك على النجاة والسعادة للطلاب الصادقين، وعلى إرشاد الهداة الروحيين الباطنيين، ولا ترى الكثرة في كثرتهم وإنما تقبلها بما هي منحلّة في الوحدة.
المبنى السابع: ويمكن ـ وفق هذا المبنى ـ إضافة مبنى عدم خالصية أمور العالم والذي هو المبنى السابع للتعددية، إن النقطة الجديرة بالتأمل هنا هي عدم إمكانية العثور على شيءٍ خالصٍ في هذا العالم، وقد أكّد على ذلك خالق العالم نفسه حين قال: "أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها…" (الرعد:17)، فالماء النازل من السماء سوف يختلط لا محالة بالتراب، ويعلو عليه الزبد الكثير، وهكذا الحال في اختلاط الحق والباطل أيضاً.
ويقول الإمام علي أيضاً بأن الحق الخالص والباطل الخالص لا وجود لهما أبداً، إذ لو كان لهما وجود فلن يتردد أحدٌ في تمييز الحق واختياره وترك الباطل ورفضه، لكن الأمر ليس كذلك دائماً بل "يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان"([37])، فما يصنع هو الخليط من هذين، وهو ما يقدّم فيما بعد.
ليس الكلام هنا في أصل الأديان والذي هو عين الحق، وإنما في فهم البشر وفي المذاهب الدينية المختلفة الخليط ـ دائماً ـ من الحق والباطل، نعم لو كانت هناك فرقةٌ من هذه الفرق الدينية حقاً خالصاً والبقية كلّها باطلاً محضاً فلن يتردّد عاقلٌ في تمييز الحق عن الباطل وفي اختيار الحقّ حينئذٍ، فالنزاعات العقائدية في العالم (سواء كانت نزاعات دينية داخلية أو خارجية) متواصلة، وقد وصلت إلى نقطةٍ مسدودة، وقلّة هم أصحاب العقائد الذين يرضون بالميل للعقائد الأخرى، وما ذلك إلا لأن كلّ عقيدةٍ مخلوطة بالجمال والإحكام والصدق والحقّ الأمر الذي يجعل عذر القبائح والبطلان محتملاً، فيما يغطّي بطلان واعوجاج عقيدة الآخر على جمالها وكمالها، فليس ثمّة عرق خالص في هذا العالم، ولا لغة خالصة، ولا دين صاف.
يمكنكم توجيه السؤال إلى علماء الطبيعة حتّى يعترفوا أمامكم بصراحةٍ بعدم خلوص وصفاء أيّ ساحةٍ من ساحات الطبيعة، وبسبب هذا الازدحام وهذا التزاحم الشديد بين الساحات المختلفة للطبيعة لم يُعثر بالتجربة حتّى الآن على أي قانون علمي دقيق مائة في المائة وغير تقريبي.
فلا التشيّع هو الإسلام الخالص والحق المحض، ولا التسنّن (بالرغم من أن أتباع كل طائفة من هاتين الطائفتين يرون أنفسهم على الحق ولديهم قناعة بمثل هذا الرأي)، ولا الأشعرية هي الحق المطلق، ولا الاعتزال، لا الفقه المالكي، ولا الفقه الجعفري، لا تفسير الفخر الرازي، ولا تفسير الطباطبائي، لا الزيدية، ولا الوهابية، لا كافّة المسلمين في معرفة الله وعبادته عارون وخالون من الشرك، ولا قاطبة المسيحيين إدراكهم الديني خالٍٍ منه، كلا، بل لقد ملأت الدنيا الهويات غير الخالصة، فلم يتربّع الحق في جهةٍ من الجهات دون الجهة الأخرى لتكون باطلاً محضاً، وعندما نذعن لهذا الأمر فسوف يتسنّى لنا هضم الكثرة بشكلٍ أكثر سهولةً ومألوفيةً واستساغة.
وعليه فأصحاب كلّ فرقةٍ مجازون بالبقاء على طريقتهم والثبات عليها، وليس المراد هنا نفي طريقتنا وإنما تحصيل المعرفة الأفضل بهذه الطريقة، وهضم التنوع والكثرة كأمورٍ طبيعيةٍ بشريّةٍ، وكشأنٍ جبري من شؤون هذا العالم، كما وليس المقصود نسبيّة الحق والباطل، فنحن لا نقول بعدم وجود معنى أو استقلال للحق والباطل وأن كل ما تراه أية فرقةٍ هو حق، وإنما نرى بأن هذا العالم هو عالم اللاخالصيات سواءٌ على صعيد عالم الطبيعة أو الشريعة، الفرد أو المجتمع، وسرّ عدم الخالصية هذه هو بشرية الدين، فعندما ينزل ماء مطر الدين الصافي الأصيل من السماء على تراب أفهام البشر فإن الذهن يتلوّث حينئذٍ، وبمجرّد أن يشحذ العقل همّته لفهم الدين الزلال فإنه يخلطه بما لديه من رواسب ويعمد بالتالي إلى تكديره وتلويثه، ومن هنا كان التديّن كالماء الذي يعلوه الزبد جارياً في الناس إلى يوم القيامة، وفقط في ذلك اليوم يحكم الله تعالى بين عباده فيما اختلفوا فيه: "وإنّ ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" (النحل: 124).
سيجري هذا الماء الحلو وذاك المالح في عروق الخلائق
وذلك حتى نفخ الصّور([38]).
وليس الخلل في فهم الدين فقط، بل في نفس الدين أيضاً؛ فقد حصل الجعل والوضع الكثير جداً ـ باسم النبي والأئمة ـ مما صعّب الأمر على العلماء لتمييز الصحيح من السقيم، فما وصل إلى أيدينا من الكتاب والسنة ليس كاملهما كما وليس خالياً عنهما (أي أنه ليس خالصاً)، فما أكثر الروايات التي ذهبت وتلاشت ولم تصل إلى أيدينا، وما أكثر الأحاديث المجعولة التي بقيت، وما أكثر الأسئلة التي كان يمكن لو قيلت أن تنير أمامنا الطريق لكنها لم تقل أو لم تطرح مع العظماء من الروّاد والقادة، أو أنهم وبسبب التقية وأسباب أخرى لم يقولوها، أليس من المثير للتعجّب والتأمّل أن فقهاء الشيعة ولأجل إثبات ولاية الفقيه المطلقة وتبيين أمرٍ مهمٍّ وعظيمٍ كالحكومة الدينية يتمسّكون بما هو العمدة عندهم وهو رواية عمر بن حنظلة الذي في وثاقته هو نفسه شك، كما أن مضمون الرواية ليس سوى سؤالٍ متصلٍ بالنزاعات الجزئية المرتبطة بالإرث وطلب المال و…، كما أن اللفظ الوارد في الرواية ليس من المعلوم كونه حَكَماً أو حاكماً إذ هو ذو وجوه ومعاني، كما أنّ دلالة الرواية على المقصود ليست واضحةً ومحكمةً وإجماعيةً بأي وجهٍ من الوجوه، فعندما يفكر الإنسان بهذا الأمر يصاحبه هذا التساؤل: هل يفي ذلك المطلبَ حقه؟ هل يمنح هذا المقدار أتباع الدين قانوناً ومساراً للعمل؟ ماذا لو لم يحصل هذا النزاع بين هذين الشخصين على المال والملك والميراث، ولم يتوجّه سؤالٌ من هذا القبيل إلى الإمام (ع) أفهل يبقى بيان أمرٍ عظيم كالحكومة معطلاً دون بلاغ؟! وهل يتوقف مثل هذا الأمر الديني الذاتي على مثل هذا الأمر التاريخي العرضي؟ لا جرم (على فرض أننا نرى أن منظومة توقعاتنا من الدين تلحظ تبيين المسألة الحكومية، واعتبرنا هذا الأمر ذاتياً للدين) فهناك روايات كثيرة جداً مما لم يصلنا منه عين ولا أثر، وهو ما أحدث كل هذا التشويش والتردّد بين العلماء في هذه القضية.
البعض من العلماء الشيعة قائلون بتحريف القرآن من أمثال علي بن إبراهيم القمّي([39]) وثقة الإسلام الكليني([40]) والمحدّث النوري([41])، وقد أجاز هؤلاء وفقاً لذلك وجود نقصٍ وطروّ تغيير على القرآن الكريم، ألا يدل هذا الأمر (من ناحية معرفية ثانوية) على أن يد التصرّف البشري في الدين كانت واسعةً جداً (لا أقل من وجهة نظر هؤلاء المحدثين)، وأن وجود وقراءة قرآن محرّف لا يتنافى والتدين والإسلام؟ ألا يعدّ النجاح الذي حقّقه الطواغيت والجائرون في حصر أئمة الشيعة وعدم إعطائهم الحقّ في نشر آرائهم بحرية حرماناً عظيماً في الدين بالنسبة للشيعة أنفسهم (ووفق اعتقاد الشيعة بالنسبة لكل الإسلام)؟ ماذا لو طالت الحياة المباركة للنبي أكثر مما كانت عليه أو حدثت وقائع تاريخيّة مهمّة أخرى في طول عمره الشريف ألم يكن القرآن أكبر وأكثر من هذا الحجم الموجود فعلاً؟ وألم يكن ليحوي هذا الكتاب المرجعي للمسلمين حينئذٍ المزيد من النقاط المضيئة والمبيّنة؟ ألم يتكامل القرآن في رفاقة الحوادث الزمنية؟ إن كل ذلك يرشدنا إلى المدى الذي يدخل فيه الدين حيّز التاريخية والبشرية عندما يلج المرحلة التاريخية، ومن ثمّ كيف يخضع للتصرفات الذهنية والعملية للبشر، وكم تلصق به الكثير من الأغبرة والحجب، وكم تقتطع منه العديد من القطع أو تضاف إليه؟ والشيء الذي يبقى مما يعرض على البشر ويعطى إليهم هو الحدّ الأقل اللازم من المعنوية والهداية، وهذا هو بالضبط المعنى الدقيق لتنزيل الكتاب والذي جاءت الإشارة إليه في القرآن الكريم، وهذا هو مصير كلّ دين وكل مسلك، لا بل هو مصير كل موجود يضع قدمه في مسير الخراب التاريخي والطبيعي، ويتلبّس بلباس المادية والبشرية، إن فرض اللغة القومية (العربية والعبرية واليونانية) على الدين هو أوّل وأوضح الاسقاط والتنزيل، وبعد ذلك تأتي أمواج الفتن الدموية لتبتلع الدين، ولتوضح أنه "لم يعد كالماضي سهلاًُ يسيراً بل وقع في المشكلات".
لا يمكن تحميل دين كهذا حملاً كبيراً، كما ولا يمكنه أن يعدنا بالكثير، ولا يمكن باسمه القيام بالكثير من الأعمال، هذا التواضع وقلّة الادعاء يجعل الخطاب والحوار مألوفاً وميسراً، ويفتح الباب أمام التعدّدية الإنسانية والدينية، إن الدعاة والمدّعين والمتكبرين والخياليين أولئك الذين ملأ رؤوسهم الكبرياء الشديد ليس لهم قدرة ولياقة الجلوس مع الآخر على طاولةٍ واحدةٍ وفي مصافٍّ واحد، وهم يجرّبون في وحدتهم العجيبة مرارة الحرمان من المحبة.
المبنى الثامن: لكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، فالتعددية السلبية ما يزال عندها ما يدعمها، وهو المبنى الثامن القائم على صلة القرابة فيما بين الحقائق.
ليست هناك حقيقة لا محبة بينها ولا انسجام مع الحقيقة الأخرى، فكلّ الحقائق تجلس شرفةً واحدةً وتسكن مجرّةً فاردة، هذه النقطة البديهية المنطقية تنجي الحقّ أولاً من التلوّن والتبعية والالتصاق الغربي والشرقي والرجعي والمتقدم، ولا تمنع أيّاً من طالبي الحقيقة من الاتجاه إلى أية قبلةٍ أو طرق أي بابٍ في سبيل تحصيل والتماس الحق الذي يبغيه، وتدعو عرفاء الحق ثانياً إلى موازنة حقهم بحقوق الآخرين، ومضمون هذا الكلام هو اتباع القاعدة القائلة بأن الفكر الحقّ يستدعي الفكر الحقّ الآخر، ومن هنا فإن الوظيفة التي لا يمكن تركها لأيّ محقّقٍ طالبٍ للحقيقة هي الاستمرار في حلّ جداول الحقائق ووزن الهندسة المعرفية وزناً دائماً لا الشعور الخالد بالرضا بحقّه المزعوم والجلوس فارغاً وعدم الاطلاع على ما عند الآخرين، والمقصود من هذا الكلام هو إسهام ومشاركة الجميع في عملية بناء القصر الرفيع للحقيقة، بل لابد من طلب هذه المشاركة منهم، وتحميلهم مسؤولية هذا البناء والصرح، أما عدم الاعتداد بالغير واعتبار النفس ـ عن غفلة ـ مستغنيةً عن الآخر فليس شرط العقل وأدب طلب الحقيقة، إن طالب الحق يسير في الطريق دائماً، وهو يعمل على الدوام في هذا البناء، فإذا كنا طلاباً للهندسة الموزونة للحقيقة فلابد لنا من أن نضع لُبنتنا إلى جانب لُبنة الآخرين، وإذا ما قنعنا بمستويات ومقاطع ناقصة من الحقيقة وكنّا شاكرين عليها فلابد أن نحترم المستويات الأخرى والمقاطع الأخرى لها عند الآخرين، ومن هنا فليس لنا سبيل غير القبول بالكثرة والتعدّد.
المبنى التاسع: لكن إذا كانت الحقائق بهذا الانسجام والتناغم والقرابة فإن القيم والفضائل والآداب ليست ـ لدى بعض المعاصرين ـ على هذه الشاكلة أبداً، إذ ثمّة تعارضٍ مستحكمٍ غير قابل للرفعٍ فيما بينها، وهذا هو المبنى التاسع، إن الكثرة هنا كثرةٌ واقعيةٌ ذات أصول وجذور، فلم يقم برهان على أن العدل والحرية مثلاً قابلين للجمع، بل إن كافة التجارب البشرية تشهد على تعارضهما، ومن هنا يصل أفراد المجتمع في نهاية المطاف إلى التخيّر بينهما واختيار واحدةٍ منهما على الأخرى، إنّ هذا الاختيار ذو سبب لكن ليس له مبرّر ودليل، وما دامت هذه العلل وهذا التعارض باقياً فإن هذا التخيير سيبقى قائماً أيضاً، وعلى حدّ تعبير "آيزايا برلين": إن لبعض الأسئلة أجوبةً عديدةً لا تقبل الجمع([42])، والأمر إليكم أن تختاروا وتأخذوا بجوابٍ من بينها، وعلى حدّ قول عزيز الدين النسفي: ليس من المعلوم أنّ الرضا والتسليم والمراقبة أفضل أو العزلة والقناعة والخمول "إنني لم أصل إلى اليقين أيٌّ من هذه الأغصان أفضل، فلم أتمكّن من ترجيح أي طرف، والآن حينما أكتب هذا الكلام ليس لدي أي ترجيحٍ أيضاً ولا يمكنني أن أقوم به"([43]).
ليس من المعلوم، هل الكرم أفضل أم الشجاعة أم الجهاد أم العفّة أم الشكر أم الصبر أم القناعة أم الزهد أم الحكمة…؟ بل إنه من غير المعلوم هل يمكن لهذه الفضائل أن تجتمع معاً في شخصٍ واحد (لعله إلا الأشخاص النادرين)؟ لا يمكنني إرادة كلّ الأشياء مع بعضها، فليس ثمة واحد من عظماء التاريخ سطع شخصه بكلّ هذه الأمور، فسماء التاريخ مليئةٌ بالنجوم وهي بذا اكتست الجمال والروعة، وهكذا خلوّ البشر من كافّة الرذائل الأمر الذي لم تثبت صيرورته وتحققه أيضاً، بل إننا إذا اعتبرنا سيئات الفرد حسنات الجمع فإن قصّة الأخلاق والبشرية سوف تنتظم بشكل آخر، وزيادةً على ذلك فإن الحكم في المضائق الأخلاقية الخاصة لا يمكن أن يكون بوجهٍ واحدٍ ولا ضمن منهجٍ وأسلوبٍ واحدٍ مطلقاً، بل إنه يحظى بالكثرة الواقعية المتعارضة، فهل من المناسب لشخصٍ فقيرٍ مسكينٍ وقع أطفاله في معرض الخطر والموت سرقة شخص آخر في مثل حاله وهو يقوم بالبحث عن خبزٍ لإطعام أطفاله وعياله؟ لماذا يجري ترجيح أطفال الثاني على الأوّل؟ إنّنا مضطّرون هنا إلى مدح كلا الفعلين (السرقة وكفّ النفس) أو ذمّهما ولا سبيل آخر، أو أن نقوم وبدون مبرّر (لكن مع سبب) بالقبول بأحدهما وردّ الآخر، إن الحياة اليومية مملوءة بهذا النوع من حالات الضيق، بل الغالب ـ أساساً ـ هو مثل هذه الموارد والحالات الموجبة للتحيّر إلى حدّ تذوّق الإنسان فيها طعم الترديد والاختيار الواقعي الحقيقي، إن النماذج الأخلاقية البسيطة القابلة للمحاكمة قليلة جداً إذا لم تكن معدومة، فالكثرة في المحاكمات العملية كثرةٌ غير قابلة للرفع، والإقدام على العلل (ضغط الفقر، السوابق التربوية، الجسارة الشخصية و…) يرجع أيضاً إلى تعارضٍ ذاتيٍّ بين القيم لا إلى ترجيحات أخلاقية.
هذه التعددية القيمية والعلّية الناشئة من فقدان المبرّر ومن التعارض الذاتي بين القيم ووجود الفسحة في مجال التخيير بينها هي ـ في الحقيقة ـ عين الحياة، كما أنّ البشر يعيشون في قلوبهم ـ بالفعل ـ هذه الكثرة، وفي واقع كل إنسان عالمٌ ذو قوائم وأركان وكمالات لائقة به، وهذا التعدّد في دنيا البشر والاستقلال فيما بينها يدلان ـ قبل كل شيء ـ على الكثرة القيمية والثقافية.
إنّ عدم قابلية الثقافات للمقايسة Cultural incommensurability يعني ذلك، والتعددية الثقافية تنبني عليه، وليس هناك بُعدٌ بين التعددية الثقافية والأخلاقية وبين التعددية الدينية بل إنهما قريبتان من بعضهما البعض، هذا التعددية لابدّ من التدقيق فيها بصورةٍ جادّةٍ، فهي وإن كان سلبيةً من حيث اعتمادها على فقدان الدليل لكنها من حيث الاتكاء على التباين والتعارض والتساوي الذاتي بين القيم (في صورة القبول) تعدّديةٌ إيجابيةٌ مثبتةٌ وأصيلة، وليس مفادها غير القول بإمكانية الحياة المتنوعة ـ من حيث الأساس ـ وإمكانية النماذج المتعدّدة لها (وذلك بعد طرد الأنواع المذمومة والمرفوضة) بحيث تكون متساويةً وبعضها البعض دون مجالٍ لاختزالها في نوعٍ واحد، وهي بالضبط كالتعددية في تفسير التجربة الروحية والطبيعية حيث النظريات المتعدّدة المتنافسة مع بعضها البعض والتي لا يمكن اختزالها في نظريةٍ واحدةٍ بعد استبعاد النظريات الباطلة والمذمومة، وهكذا يكون كلّ إنسان ـ وفق نظرية الحكماء ـ نوعاً حصرياً عليه ومحدّداً فيه، فليس كمال هذا الإنسان كمالاً للثاني، وليس هناك إنسان أنموذجٌ لإنسان آخر بشكلٍ كامل، ولهذا كان عندنا أكثر من إنسان كامل (خلافاً للمفهوم السائد عن نظرية الإنسان الكامل الصوفية)، وبهذا السبب لا يمكن أن يطلب من الناس أن يصبحوا كبعضهم البعض، وأن يتساووا في الفضائل ويتصفوا بها بشكلٍ واحدٍ ليكون لهم ـ بالتالي ـ صراطٌ مستقيمٌ واحد، فالتعددية هنا تعدّديةٌ أصيلةٌ وواقعيةٌ ومبنيةٌ على تباين جوهري أيضاً.
وهكذا الحال في الظروف الروحية والشخصية والوجودية لكلّ شخصٍ فهي من حظه ونصيبه الخاص ولا تشابه لـه فيها مع الآخرين، إن الترديدات والاضطرابات والعشق والإيمان متفاوتةٌ ومتباينةٌ ذاتاً بين البشر، فكلّ إنسان وحيد ـ بالمعنى الواقعي للكلمة ـ يحضر لوحده بين يدي الله، يولد وحيداً ويعيش وحيداً ويموت وحيداً ومن ثم يُحشر وحيداً أيضاً: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرةٍ" (الأنعام: 94)، وكشف هذه الفردية وهذه الوحدة هو بداية كشف الحرية الجديدة، الحريّة من الاستحالة في الكل والكلّي، وإعادة العثور على الذات وحياتها الخاصة بها ودينها الخاص بها وأخلاقها الخاصة بها وعُقد وجودها الخاصة وطريقها الخاص لحلّ هذه العقد، إن العثور على الذات هو في كل لحظةٍ كالمركز والملتقى للإمكانات والطاقات والمجالات غير النهائية.
هذه هي الحريّة الواقعية المبنيّة على التعددية الواقعية، إن المذهب الإسمي في أوروبا يمثّل ـ بنفيه الكليات ـ خطّاً متقدماً لهذه التعددية، وكذلك كان يمكن لأصالة الوجود ـ وبنفيها الماهيات (التي ليست سوى الكلي الطبيعي) ـ أن تمنحنا تعدديةً كهذه، لا بل يمكنها ذلك فعلاً.
المبنى العاشر: لم تفرغ بعدُ جعبة التعددية العلّية، بل ما يزال في حوزتها ـ حتى الآن ـ مداليل أخرى (المبنى العاشر).
إن تديّن أكثرية المتدينين ناشئ عن علّةٍ لا عن دليل، فلم يوازن كافّة المسيحيين بين الأديان والمذاهب ليلتصقوا بهذا الدين، ولم يُذعنوا بحقّانية الديانة المسيحية عن طريق إقامة الدليل القطعي، بل إن إيمانهم ـ في الأغلب ـ إيمان موروث وتقليدي، وهذا الحكم يستوي فيه الزرادشتيون والمسلمون واليهود و… وهو صادقٌ ثابتٌ عليهم جميعاً على السواء، فذاكم المسيحي الآن سيكون مسلماً لو ولد في المجتمع الإسلامي وكذا العكس، إن لسان حال عامّة المتدينين بل وعموم الناس في العالم هو "إنّا وجدنا آباءنا على أمّةٍ وإنّا على آثارهم مهتدون" (الزخرف:22).
وليس العوام فقط، بل إن عامة علماء الدين هم أيضاً كذلك، إن علماء الدين ـ أي دين ـ خدّام الدين الذي هم عليه، ومنتفعون منه، وهم يقومون بدراسة وتعليم الأمور التي يرضى عنها المحيط والجو العام ويسمّون ذلك علم الدين، إنهم في الحقيقة مقلّدون، إن المحقّقين الذين يتحرّرون من التحسين والتقبيح والتقليد ومن التمتّع عن طريق الدين هم قلّة بل ونادرون، وقلّةٌ أيضاً أولئك الذين لا يعتنون بالآداب والعادات الفكرية والعلمية للمكان والزمان الذي يعيشون فيه، بل يتواضعون وينقادون للفكر عن حريّةٍ حقيقيةٍ كما تتطلبه الحكمة، إن حيتان بحر التحقيق لا توضع في البُرَك الصغيرة للمذاهب والمسالك السائدة، بل إنّ كل واحدٍٍ منهم مذهبٌ قائمٌ بذاته، إنهم أهل "حدثني قلبي عن ربي"، لا يرون سرّهم غير الله تعالى، فإذا كان هناك من يقين أو سكينة فهو عندهم وفقط، أما الباقون فهم أهل الدوغمة والتعصّب والفكر الساذج، أهل اللاإنصاف واللامداراة.
أما الأفراد العاديّون الذين يمثلون الطبقة الوسطى في المجتمع فالكثير منهم أسرى العلل لا الأدلة والمبرّرات العلمية، إنهم هم من يملؤ هذا العالم، إنّ السنن والتقاليد والسوابق والمحيط والمعيشة والغضب والشهوة هي الحاكمة عليهم أكثر من الدليل والقرينة والبرهان والحجّة، أغلبهم محكومٌ للجبر أكثر من الاختيار، ومعذورٌ لا مسؤول، فلديهم جزم راسخ قبل أن يكون لديهم اليقين، وتغلب عليهم الحرب والصراعات أكثر من الصلح والمداراة.
ما هي تلك الأمور التي يفتخر بها مثل هؤلاء المجبورون المقيّدون المسجونون (والذين هم نحن) على بعضهم البعض؟ وعلى ماذا يلعنون بعضهم البعض؟ إن التواضع والرحمة والمشاركة في المعاناة أفضل لنا من التكبّر والعداوة والعنف، فبماذا يدّعي الأسير الأميرية؟ ليس هناك حربٌ أكثر خياليّة وإذهاباً للعقل من حرب الأسرى الظانّين أنفسهم أمراء:
فعلى الخيال يقوم صلح الناس وحربها
كما ومن الخيال فخر الناس وعارها([44]).
ويقول مولوي أيضاً:
لقد رأيت نفسك أميراً يا من هو أقلّ من نملة
وحيث إنك لم تر ذلك الجلاد فأنت أعمى
لقد أصابك الغرور من هذين الجناحين والقدمين الزائفتين
وهما سوف يجرّانك إلى الوبال([45]).
وهكذا نعود مجدّداً للمجالسة المتواضعة والمداراة العاقلة مع الآخر، لنفكّ العقد ونرضى بالمواهب والنعم الإلهية، ولنرى يد الأمر القضائي الإلهي في كل الأمور، ونشعر بالحكم الأزلي كالورد ومائه، ومن ثم لنسلّم له.
وبهذا نقترب من خاتمة الكلام، لكن لا يسعنا تجنّب إضافة نقطةٍ هامّة، وهي أنه على رغم مواصلة وسعي علم الكلام الدائم لبعث الدفء والحرارة في المناقشات التي لا حاصل لها، لكنه أبقى ـ في المقابل ـ مشعل العقل مضيئاً، والعقل والتعقّل بضاعةٌ لابد من شرائها بأيّ ثمنٍ ومهما كلّف الأمر، نعم إن الدين التعقلي والكلامي ليس هو الغاية القصوى للتديّن، فالدين الكشفي التجربي القدسي هو المنزلة الأرفع، بيد أن هذا الدين من خواص أهل الخواص والنوادر من الناس، لكن المتكلمين وبرفعهم شعلة الاستدلال يخفّضون من جزميات ودوغمائيات اللاعقلانية، ويمدّون بالتالي بحرارة مشعل التعقل، إن الدين الكلامي أكثر حسناً وجمالاً ولطافةً بمائة ضعف من الدين العامي التقليدي، إذ يُنشئ ويربّي التعدد في أعماقه حيث لا خبر عنده عن بيداء الفتن العواميّة، هذا التعدد مؤسّس على الظن لا اليقين، وهو تعددية سلبية لا إيجابية، على عكس تعدّد وتكثر الإيمان والتجارب والمكاشفات الدينية والتي هي كثرةٌ توأمٌ والسكينة واليقين والثقة والاطمئنان بالذات (التعددية الإيجابية).
إنّ العقلانية تولّد الظن، والمذهب العقلي (Rationalism) يفضي إلى نوع من المذهب التشكيكي (Skepticism) السليم والمفيد، لقد خلق مشروع النزعة العقلية ـ وبشهادة التاريخ الكلامي والفلسفي وبقية الفنون المعقولة ـ الظنّ والمشاجرة والمناقشة أكثر من الاطمئنان والسكينة والسلام، لكن مع كونه للعارفين والعاشقين متاعٌ قليل بيد أنه للعقلاء كثيرٌ جداً، فعندما كان يجري إخماد الكلام الديني بقوّة المتشرّعة أو بوسوسة العشق والعرفان فإن التعصبات المهلكة والمؤذية ـ وبشهادة التاريخ ـ كانت تبدو وتبرز من كل حدبٍ وصوب، وكان يجري ابتلاع التديّن المظلوم، إن الحوار الكلامي وعدم انعقاد العقائد الدينية وسياليّتها وقابليّتها للتساؤل كل ذلك موهبةٌ لا يجوز التنازل عنها وفقدها، فلا يمكن الحديث في الدين الشرعي عن التقارب من بعضنا البعض، بل على كل طائفة من المقلّدين العمل بالآداب الدينية التي يُفتي بها مقلّدهم، ولم يطلق أي فقيه حتى الآن نداء وصرخة التعددية، فهذا النداء نداء المحققين وهم إمّا أهل العقل أو العشق أو الكسب أو الكشف، ومن هنا أفضى كلٌّ من الدين الكلامي والدين الكشفي إلى نوعين من التعددية، وهي التعددية المؤسّسة على الظن والتعددية المؤسّسة على اليقين، فعلم الكلام ـ مع كامل قدراته وطاقاته ـ غير قادرٍ على خلق ما هو أرفع من الظن، وأفضل شاهد على هذا الأمر فلاسفتنا الذين كانوا ينظرون دائماً إلى المتكلمين بعين الاحـتقار والازدراء، ويرون مقدّماتهم في الأدلة مجرّد خطابيات وجدليات ومشهورات لا أوليات وذاتيات وضروريات، ومن الطبيعي أن يحمل المتكلمون نفس النظرة للفلاسفة.
قد يكون الاستدلال أحياناً عين دعوة المخاطب للنقد والقبول، والاعتراف بالآخر المنافس فيه حينئذٍ أدبٌ من آدابه، فطرح آراء المخالفين شرطٌ ضروري، وحصيلة الجهد الكلامي ـ المادة الكلامية ـ يكمن في تنوّع طرق الاستدلال والشبهات والفرق والاتجاهات الكلامية، هذا التنوّع والتكثّر، وهذا الشيوع والرواج للمشاجرات والمناقشات لا يترك ذهناً في راحةٍ ولا قلباً ذا يقين، وقدم الاستدلال الخشبية لا تبعث على فتح القلاع وقمم الجبال، بيد أن نفس التنوّع يتربّع بذلك على كرسيّ العرش ويمنح الظن العقلاني والعقائدي القيمة والاعتراف بالمكانة، كما ويحدّ من جفاف أدمغة المدّعين والقشريين القادحين بالعقل ومكانته، إذ حيث إننا لا نعرف باليقين رأي من هو الصحيح فإننا نمنح القيمة للجميع، ولا نخرج أي واحد من الآراء من الميدان (التعددية المعرفية).
لقد تأخّر مجتمعنا في الاعتراف بالتفكير التعدّدي، وذلك بسبب احتضار التعقّل الفلسفي لا سيما الكلامي وانطفاء شعلته، ومن هنا عُدّ رواج وشيوع المباحث الكلامية تضعيفاً لعقيدة العوام، دون تفكيرٍ في أن هذه العقيدة لم تُستمدّ من هذه المباحث حتى يخسروها بها، وهنا تقع المسؤولية الكاملة على العلماء والقادة ـ لا العوام والمقلّدين ـ لكي يذعنوا بوجود الصرط المستقيمة في الدين والسياسة ويمكّنوا منها، ويفتحوا باب السلامة والاستقامة لأصحاب الحق وطالبيه، إنّهم لم يشكّوا حتى يصلوا اليقين، ولم يروا الكثرة حتى يختاروا الوحدة، إنّهم أكثر الناس عجزاً عن الصبر وأكثر الكائنات ضعفاً أمام التحمّل.
إن المجتمع التعددي ـ أي المجتمع اللاأيديولوجي الذي لا وجود فيه للمفسرين وللتفسير الرسمي ـ القائمٌ على العقل التعددي لا على العاطفة الجاذبة لمركزٍ واحدٍ، والمليء بالإنصاف والمداراة، والمحظيّ بالصحافة والإعلام الحرّ، والذي يعيش التنافس في ثناياه، أي أنه مليء باللاعبين، وكأنه الطبيعة المتنوّعة الطافحة بالربيع والخريف وشتاء المطر والثلج، هذا المجتمع يبدأ حياته عندما يذعن الحكام والرعايا جميعاً فيه بأصالة الكثرة في الطبيعة والاجتماع لا الوحدة، وبأصالة التباين لا التشابه.
إن العمل على تقديم أنموذجٍ واحدٍ للحياة والدين واللغة والثقافة والأخلاق والعادات والآداب البشرية هو عملٌ محالٌ فيه الوزر والوبال، إن محو هذه الكثرة أمرٌ غير ممكن بل غير مطلوب.
إذا ما كانت التعددية الدينية مقبولةً ومطلوبةً بأدلّة عشرة فإنّ التعددية الثقافية والسياسية يمكن تأييدها بمائة بيان ولسان، وتكفينا التجربة السوفياتية التي تلقّت هزيمةً مذلّةً ومعبّرةً عندما سعت للتوحيد الثقافي والسياسي، كما أنّ التجربة الرأسمالية الصناعية تحمل الكثير من الكلام والدروس لنا، فبالرغم من أنها ـ على حدّ تعبير ماركس ـ "صنعت العالم على صورتها" لكنها لم تتمكّن من الخروج من مأزق توحيد ودمج الثقافات، لا بل إنها دفعت أصحاب الثقافات القوميّة والمحلية والتاريخية ليكونوا أكثر حساسيةً وتنبّهاً.
لم تُسمع للتاريخ صيحة ونداء أكثر استحكاماً من هذا النداء القائل: إن الكثرات في البيوت، فاجعلوا لها مكاناً حتى يبقى صاحب البيت، وإلا فإنها لن تبقي لكم مكاناًُ فيه.
إن خلق خالق العالم ـ إبداعاً وظرافةً ـ لهذا الخلق المعقّد العجيب من بشرٍ وأكوان، وإيجاده الناس واللغات والعوالم على تنوّع وتشكّل، وإحداثه العلل والأسباب المتنوّعة في الخلق، ووضعه مئات العقبات في طريق الفكر والعقل، وبعثه الكثير الكثير من الأنبياء والرسل، واختطافه الأسماع والعيون بالأصوات والألوان المختلفة، وتقسيمه البشر إلى شعوب وقبائل… كلّ ذلك كي لا يتكبّروا ولا يتنازعوا، بل يتعارفوا ويتواضعوا، أمّا أولئك الذين يطلبون الوحدة والدمج ويهدفون إلى تسوية الجبال الوعرة النافرة فعليهم ان يتنبّهوا كي لا يقعوا في في البحر العميق لمخاصمة الله.
إن سيئ الخلق الذي يلبس الصوف الخشن لم يسمع بالعشق ولم يشم رائحته
فقل له رمزاً من سكرة العشق حتى يفقد وعيه
قلت: لم أحلّ عقد جداول الشعر مذ كنت (طيلة عمري)
قالت: أنا التي أمرتها بسلب لبّك وقلبك([46]).
 
* * *



الهوامش




[1]– عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت (قبض وبسط نظرية الشريعة)، انتشارات صراط، 1996م.
[2] – كليات سعدي.
[3] – مرصاد العباد، إعداد الدكتور محمد أمين الرياحي، ص 289.
[4] – لشرحٍ مفصّلٍ لأنواع هذه الأحوال والواردات والمواجيد والتجارب وأحكامها أنظر مرصاد العباد لنجم الدين الرازي، والمصنفات الفارسية لعلاء الدولة السمناني، وإحياء الفكر الديني في الإسلام لمحمد إقبال اللاهوري، وكذلك العرفان والفلسفة لوالتر استيس.
[5] – مرصاد العباد: 290.
[6] – المثنوي، الكتاب الخامس، الأبيات: 1228 ـ 1231.
[7] – المثنوي، الكتاب الرابع، الأبيات: 1852 ـ 1855.
[8] – عرفان وفلسفه: 126، والتر استيس، ترجمة بهاء الدين خرّمشاهي، انتشارات سروش، 1988م.
[9] – من الطبيعي أن الدكتور سروش يتعاطي مع المفردات الفارسية في موضوع الترجمة من الكلمة الانكليزية المدرجة في المتن، وقد تعاطينا مع نصه اللفارسي بعيداً عن الترجمة العربية للمفردة الانكليزية ومطابقتها أو عدم مطابقتها لما ذكره، فاقتضى التنبيه، المترجم.
[10] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 1259.
[11] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 3755.
[12] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 1269.
[13] – وما كان يقوله ذاك القائل المعاصر كان يشير به إلى هذه الأمنية المستحيلة، لقد كان يقول:
أزل هذا القفص حتّى يبقى لنا هذا النفس
يكفيني هذا اليقين الذي يحرق قلبي، إنّه سجين الظنون.
[14] – المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 1793.
[15] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 4728.
[16] – المثنوي، الكتاب الثاني، الأبيات: 1794 ـ 1798.
[17] – نهج البلاغة، فيض الإسلام، الخطبة 213.
[18] – المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 1302.
[19]– إنجيل لوقا: 31: 6، التلمود البابلي، شبث 319، صحيح مسلم: باب الإيمان: 2 ـ 71، سنن الدارمي، باب الرقاق، ومسند أحمد ج 3 ومقدّمة سنن ابن ماجة.
[20] – المثنوي، الكتاب الأول، البيت: 1815.
[21] – اقتبست كافة الكلمات التي نقلناها ما بين المعكوفتين عن المقالة المذكورة في هذا الكتاب John Hick, Disputed Questions, 146-163 (yall un. Press. 1993).
[22] – المثنوي، الكتاب الثالث، البيت: 1256.
[23] – المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات: 1255 ـ 1259.
[24] – المثنوي، الكتاب الثاني، الأبيات: 1400 ـ 1401 ـ 1404.
[25] – المثنوي، الكتاب الأول، الأبيات: 2471 ـ 2472 ـ 2479 ـ 2486.
[26] – المثنوي، الكتاب الأول، البيت: 2480.
[27] – المثنوي، الكتاب السادس، الأبيات: 1640 ـ1643.
[28] – منها الخطاب الموجه إلى النبي الكريم "إنك لمن المرسلين على صراطٍ مستقيم" (يس:3 ـ 4) أو "يتمّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً" (الفتح: 2)، وفيما يتعلق بالنبي إبراهيم جاء "شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيم" (النحل: 121).
[29] – المثنوي، الكتاب الأول، الأبيات: 2979 ـ 2981.
[30] – المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 2993.
[31] – المثنوي، الكتاب الثاني، الأبيات: 3005 ـ 3007 ـ 3009 ـ 3010.
[32] – المثنوي، الكتاب الثاني، الأبيات: 3015 ـ 3017.
[33] – المثنوي، الكتاب الثاني، البيت: 3689.
[34]Disputed Questions, p.143.
[35] – تفصيل ما يتعلق بنجاة أكثر أهل العالم استناداً إلى أقوال الحكماء الكبار من قبيل حجة الحق أبو علي سينا وصدر الدين الشيرازي والحكيم السبزواري يمكن مراجعته في مقالتي "كارنامه كامياب بيامبران"، (والمدرجة حالياً في كتاب "مدارا ومديريت" نشر صراط، 1997م).
[36] – لتمييز معنى الكافر الفقهي عن الكافر الواقعي يمكن الرجوع إلى مقالتي "كافري وكم رشدي" التي يمكن مراجعتها في كتاب "فربه تر از ايديولوجي" للمؤلف، مؤسسة فرهنكى صراط، 1996م.
[37] – نهج البلاغة، فيض الإسلام، الخطبة: 50.
[38] – المثنوي، الكتاب الأول، البيت: 749.
[39] – كما في تفسيره المشهور باسمه.
[40] – لقد ذكر الكليني في أصول الكافي روايات دالّة على التحريف ولم ينقدها، وقد ذكر في مقدّمة كتابه ـ مصرّحاً ـ أن كافة روايات هذا الكتاب مقبولة.
[41] – وهو المحدّث النوري في كتابه "فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب"، وهكذا رأي أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب "الاحتجاج"، والفيض الكاشاني الذي لم يخل عن تمايل لهذا الرأي كما في المقدمة السادسة من تفسيره "الصافي".
[42] – آيزايا برلين، در جست وجوى آزادي، ترجمة خجسته كيا، ص 64، وأنظر أيضاً المقدمة الرابعة لمقالة الحرية ترجمة محمد علي موحّد، ص 64 وما بعد.
[43] كتاب الإنسان الكامل، تصحيح ماريزان موله، ص 10، "أنجمن إيران وفرنسه" 1980م.
[44] – المثنوي، الكتاب الأول، البيت: 71.
[45] – المثنوي، الكتاب الثالث، الأبيات: 3829 ـ 3830.
[46]– ديوان حافظ، الغزليات، 191.
 
 
* * *
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً