أحدث المقالات

العـزاء ، سنّة  دينية أم فعل اجتماعي؟ القسم الثاني

 

السيد حسن إسلامي

السيد حسن إسلامي(*)

 ترجمة: حيدر حب الله

 

محسن الأمين وتجربة إصلاح العزاء الحسيني 

تعدّ التعزية من المراسم السائدة في الوسط الشيعي، والتي انتقلت عبر إيران إلى كلّ من العراق ولبنان، واتخذت إقبالاً وقبولاً واسعاً لها؛ ففي القرن الأخير اتسع نطاق هذه المظاهر العزائية وأساليب عرض مصائب أهل البيت في إيران والعراق وتركيا العثمانية، ولبنان، وسوريا، لتتخذ شرعيّتها من سكوت الكثير من العلماء الشيعة، بل إفتاء بعضهم بالجواز.

أحد العلماء الكبار في جبل عامل، وهو العلامة السيد محسن الأمين، كتب رسالةً في عدم شرعية هذه الأعمال، وهو ما شكّل بداية مرحلة من النقاشات الكتبية، لهذا لابد من الحديث عن هذه الرسالة وما استتبعته.

يعدّ السيد محسن الأمين (1867 – 1952م) من رادة الإصلاح في الفكر الشيعي في الحقبة المعاصرة، ويصنّف كتابه المعروف «أعيان الشيعة» من الأعمال الرائعة في التعريف بكبار الشيعة وعلمائهم، لقد درس الأمين في النجف، وعندما عاد إلى جبل عامل التفت إلى ظاهرة رواج الخرافات الكثيرة والأخطاء الموجودة في نقل تاريخ عاشوراء وإحياء ذكرى شهداء الطفّ؛ من هنا عقد العزم وشمّر لإصلاح هذه الأمور، وفي هذا الخط ترك لنا الأمين ثلاثة كتب صنّفها؛ لتكون خليفةً وتحلّ محل كتب المقاتل السائدة التي كان يعتبرها مليئةً طافحة بالكذب والتحريف.

أوّل أعماله في هذا المضمار كان كتابه «لواعج الأشجان في مقتل الإمام الحسين»، والذي نشره عام 1911م، وسعى فيه للاعتماد على المصادر التاريخية المعتبرة، مقدّماً تقريراً واضحاً وفي الوقت عينه موجزاً ومكثفاً عن واقعة كربلاء، من خلال مقدّمة، وثلاثة مقاصد، وخاتمة([1]). وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه استطاع أن يتحوّل إلى بديل مناسب لكتب المقاتل التي كانت بيد شيعة لبنان، وعدّت من الناحية التاريخية ضعيفةً، مليئة بالحوادث الكاذبة.

بعد هذا الكتاب، صنّف الأمين كتاب «أصدق الأخبار في قصّة الأخذ بالثار» والذي نشر بعد كتابه الأول بعامٍ واحد، شارحاً فيه تاريخ حركة التوابين.

أما الكتاب الثالث، فاشتمل على أشعار في رثاء سيّد الشهداء، وقد نشره الأمين في العام نفسه تحت عنوان «الدرّ النضيد في مراثي السبط الشهيد»، وبعد سنوات طبعت هذه الكتب الثلاثة في مجلّد واحد صدر عن دار العرفان، لتكتب عنه مجلّة العرفان بأنه لا يمكن لأيّ شيعي أن يستغني عن هذا الكتاب([2])، وبعد سنوات عدّة شرع الأمين في تأليف كتابٍ من خمسة مجلّدات تحت عنوان «المجالس السنيّة في مصائب ومناقب العترة النبوية»، مشيراً في مقدّمته في المجلّد الأول إلى شرعية العزاء وصوابه، وفي الوقت عينه غامزاً من قناة قرّاء العزاء الذين يجعلون الأحاديث والروايات، ناقداً اللطم والتطبير (ضرب الرؤوس بالسيوف)، معتبراً ذلك خلاف الشرع وحراماً([3]).

إلا أنه وقبل أن ينشر المجلّد الخامس من هذا الكتاب صنّف الأمين كتاباً مستقلاً آخر تحت عنوان «إقناع اللائم على إقامة المآتم»، مستعرضاً فيه بحثاً مركزاً مفصّلاً لما أوجزه في مقدّمة المجالس السنيّة، وقد بيّن في مقدمة هذا الكتاب أنّ هدفه إقامة الأدلّة العقلية والنقلية على حُسن العزاء على سيّد الشهداء، كي يكون مصنّفه هذا مقدمةً أو تكملة لكتاب المجالس السنيّة([4]).

بدايةً، يحدّد الأمين في هذا الكتاب مقصوده من إقامة العزاء أو المأتم، فمن وجهة نظره: العزاء عبارة عن البكاء على شهادة الإمام الحسين(ع)، وإظهار الأسى والغم، وإنشاد الأشعار وقراءتها في الرثاء، وسرد قصّة شهادته، وبيان أخلاقه الكريمة ومناقبه الرفيعة، وإطعام الطعام وإهداء ثوابه إلى الإمام، وإقامة المجالس الشبيهة بمجالس العزاء على الأموات([5])، نعم إنّ القيام بهذه الأعمال مشروطٌ بشرطٍ أساسي وهو أن لا يشتمل أيّ واحد منها على عمل محرّم، وإلا فلا نراه – نحن الشيعة – عملاً شيعياً، ولا يصحّ أن ينسب إلى الشيعة([6]).

يقوم هذا الكتاب على منهاجية مقدّمة «المجالس الفاخرة» لشرف الدين، غير أنّه أكثر تفصيلاً منه، ويحوي على 222 صفحة، فبعد بحثه التفصيلي، يعمد الأمين في الفصل الثامن لجمع المباحث السابقة، ويجيب عن بعض الإشكالات، فأحد الإشكالات القديمة في مجالس العزاء والتي طرحها أهل السنّة هو القول بكون هذه الأعمال بدعة؛ إلا أنّ السيد الأمين يستنتج – بعد مروره على الأدلّة المختلفة – ما يلي: «وأما توهم بعضهم أنّ ذلك بدعة، فقد عرفت من مجموع ما تقدّم أنه لا يشتمل إلا على السنن والمستحبات أو المباحات على الأقل، ولا مساس له بالبدعة التي هي إدخال ما ليس من الدين في الدين، أمثال ضرب الدفوف، والتغنّي، والرقص ونحو ذلك بعنوان ذكر الله تعالى وعبادته»([7]).

والملفت في هذا الكتاب أنّه بعد تعداده الأعمال التي تُقام باسم العزاء، وهي تلك الأعمال الخمسة التي كان قد ذكرها شرف الدين في كتابه: البكاء على الموتى، ورثاء الميّت، وذكره بالخير، والجلوس للعزاء عليه، وإنفاق المال في وجوه البرّ له.. يصرّح محسن الأمين بانحصار العزاء بهذه العناصر الخمسة، فهو يقول: «إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ المآتم التي تقام على الحسين(ع) لا تعدو هذه الأمور الخمسة المتقدّمة في الفصول الخمسة، وقد دلّت الأدلّة السابقة على جوازها ورجحانها..»([8]).

إننا نتذكّر في آلية الاستدلال في هذا الكتاب وفي بعض فصوله منهجَ السيد شرف الدين، فإضافةً إلى شرعية العزاء، يرى الأمين أنّ لهذه المجالس فوائد متعدّدة أخرى، من هنا يذكر تسع عشرة فائدة ويعدّدها، مثل الإحساس بآلام الرسول وأهل بيته ومواساتهم، ومعونة الحقّ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعرّف على أرفع الفضائل، وحفظ واقعة كربلاء في التاريخ، والحيلولة دون نسيانها، وذمّ الظلم والجور، وتربية حسّ الترحّم لدى الأفراد، كذلك حسّ الاعتماد على النفس والسعي لتعاليها، وتأسيس مدرسة عامّة يشارك فيها الجميع، فيتعرّفون على التاريخ والأخلاق والتفسير والأحكام.. إنّها بذلك تتحوّل إلى منبر عام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقوية روح التعاون والتعاضد بين الشيعة.

ويرى الأمين أنّ مراسم العزاء يمكنها – بشكل جيّد – أن تلعب دور مؤتمر سنوي ديني ودنيوي، يجتمع فيه المسلمون كافّة، ويتبادلون فيه الرأي والفكرة ويطرحون فيه – بأقل كلفة ومؤونة – قضاياهم لمعالجتها ودراستها، كما أنّ هذه المناسبات والمراسم توجب استفادة الناس من مراكز التعليم الديني وحُسن استخدامها لوقتها بدل قضاء الوقت في المقاهي ببطالة ودون عمل([9]).

لقد دوّن كتاب المجالس السنيّة لهذا الهدف كي يحلّ مكان كتب المقاتل غير الصحيحة وتلك المحرّفة، فيُعتمد في المجالس الحسينية العزائية، لقد كان سماع الأمين ومطالعته للأكاذيب والأخطاء في هذا المجال باعثاً مرغباً له على تدوين هذا الكتاب، إنه ينقل في خواطره أنه شهد في مدينة الكاظمين مجلس عزاء خُلط فيه الغث بالسمين والصحيح بالباطل، حتى أنّ الكلمات والمفردات العربية لا تُنطق فيه على وجه صحيح، وقد سأل أحدَ العلماء الجالسين إلى جانبه: بالله عليك، هل يوجد في كلمات هذا الرجل شيء من صواب؟ فأجابه ذلك العالم بالنفي، فردّ الأمين عليه: لماذا إذاً لا تُبدون منعاً عن مثل هذه الأعمال؟ فأجاب الآخر: لا يمكننا([10]).

 

عاصفة كتاب التنزيه لأعمال الشبيه

إلا أنّ محسن الأمين لم يكن ذاك الذي يستسلم بسهولة للواقع القائم، لهذا عمد إلى تدوين هذا الكتاب وترويجه، ولم تتوقّف حركته الإصلاحية عند هذا الحدّ، بل عمد إلى تحريم كلّ أشكال التعزية والتشابيه التي كان يختلف معها اختلافاً جذرياً، مستثنياً الأعمال الخمسة السابقة، وذلك عندما سنحت له الفرصة. والذي يبدو أنه عام 1924م، وفي إحدى مناسبات أعمال الشبيه، وقع نزاع أدّى إلى مقتل شخصين، وقد استفاد الأمين من هذه الفرصة فأصدر حكماً بتحريم أعمال الشبيه وسائر الأعمال الأخرى، مثل ضرب الجسد، بل عمل على منعها ميدانيّاً، مستفيداً من قوّة الدولة وجنودها لوضع حدّ لهذا الأمر.

ومجمل القصّة أنّ رجلين من أهل السنّة كانا في حالة سكر وثمالة، جاءا لمشاهدة مظاهر العزاء بالقرب من مرقد السيدة زينب، وقد عدّ هذا الأمر نوعاً من التوهين؛ الأمر الذي انجرّ إلى تصادم، وقد ضمّن محسن الأمين في فتواه: أن عمل الشبيه تواكبه أعمال محرّمة، ولا يكون إحياء وتقدير ذكرى شهادة الإمام الحسين(ع) بالقيام بمثل هذه الأعمال؛ فقد ثار لإحياء دين جدّه واستشهد لذلك، وقد توقفت هذه المراسم في دمشق طالما ظلّ السيد الأمين حياً([11])، بعد ذلك بمدة قصيرة انشغلت الصحف والنشريات البيروتية بتحليل آراء الأمين، الأمر الذي ساعد على نشر فكرته أكثر فأكثر.

وفي عام 1926م (1345هـ) أصدر – في البصرة – عالمٌ اسمه السيد مهدي بن صالح القزويني (1865 – 1939م) فتوى حرّم فيها أعمال الشبيه وضرب الصدور، وقد نشر القزويني مقالةً في صحيفة الأوقات العراقية ذكر فيها أنّ بعض الأعمال التي تُقام باسم العزاء إنما هي أعمال بدعة ووحشية([12])، وبعد مدّة مديدة جدّد القزويني خطوته هذه بنشر مقالة حملت عنوان «صولة الحقّ على جولة الباطل في موكب التعزية»، مؤكّداً فيها على موقفه السابق القائل بحرمة أعمال الشبيه المصاحبة بجملة محرمات أخرى([13])، وقد تعرّضت هذه المقالة للنقد، فردّ عليها شخص باسم: الشيخ عبد الكاظم بن محمود الغباني (مولود عام 1307هـ) عبر تأليف كتاب أطلق عليه: «البراهين القائمات» وقد نشر الكتاب بتقريظ في أوّله للعلامة محمد حسين كاشف الغطاء، وذلك عام 1345هـ، وقد أكد فيه رجحان العزاء ومطلوبية أعمال الشبيه([14]).

اتهم القزويني بالتعاون مع الحزب الأموي([15])، ورغم أن الاثنين كانا مشتركَين في الموقف، إلا أنه لا يبدو أنهما كانا كذلك في مسائل أخرى، أو أنهما نسّقا سوياً في هذه المسألة بعينها، مع ذلك فقد عدّ هذان الموقفان من مدينتين مختلفتين مؤامرةً؛ لذا هبّ المدافعون عن أعمال الشبيه وما شاكلها والقائلون بإباحتها بل استحبابها.. هبّوا للمنافحة الشديدة بجهود ضخمة عن مواقفهم ليعلنوا رفضهم لمواقف الرجلين؛ فالشيخ عبد الحسين صادق العاملي ألّف كتاباً أسماه «سيماء الصلحاء في إثبات جواز إقامة العزاء لسيّد الشهداء»([16])، وانتقد فيه – دون أن يسمّي – كلاً من الأمين والقزويني، وقد سطر في نهاية الكتاب أنّ العلماء الكبار عند الأمّة لم يخالفوا في الشعائر الحسينية، إلا رجلان أحدهما من جبل عامل والآخر من البصرة([17]).

وقد أدّت هذه المسألة إلى صدور فتاوى متعدّدة، ووضعت العلماء الشيعة في مواجهة بعضهم بعضاً، وقد انتشرت في هذا الوقت فتوى الميرزا حسين النائيني وآخرين ممّن سنعرض للحديث عنهم، وقد جرّت الفتاوى الصادرة بإباحة مراسم العزاء ومنها التطبير (ضرب الرؤوس بالسيوف) إلى نشر كتب عدّة أخرى ناقدة لكلّ من الأمين والقزويني، وهذه بعض هذه الكتب التي نشرت آنذاك: كلمة حول التذكار الحسيني، لمحمد جواد الحجامي النجفي، وقد أجاز في هذا الكتاب أنواع المراسم العزائية([18])، وكذلك نصرة المظلوم، لإبراهيم حسن آل مظفر النجفي، وقد أكّد فيه على حلّية الاستفادة من المسرحيات وأعمال الشبيه، حاملاً بشدّة على المجدّدين المتسنّنين (أي المتأثرين بأهل السنّة) من الذين لا يجيزون سوى المسرحيات اللادينية المعدّة للتسلية([19])، وأيضاً النظرة الدامعة للشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي، فهو كسابقيه أباح مثل هذه الأعمال([20]).

في هذه الأثناء، اشتدّت الحملات التي تعرّض لها السيد محسن الأمين في جبل عامل، وهو يسكن هناك في قريته «شقراء» في جنوب لبنان، وعلى حدّ قول جعفر الخليلي، فقد انبرى لمخالفته عبد الحسين صادق في النبطية وعبد الحسين شرف الدين في مدينة صور([21])، وهو ما دفعه إلى تأليف كتابه المعروف في هذا المجال، والذي حمل عنوان «التنزيه لأعمال الشبيه»([22])؛ لقد كانت هذه الرسالة مختصرةً جداً تقارب العشرين صفحةً فقط، وقد كتبت عام 1927م، إلا أنها لم تُنشر حتى نهايات العام 1928م، وسبب هذا التأخير يمكن أن يكمن في تردّد المؤلّف في النتائج التي يمكن أن تتركها أو خوف الناشر من ردود الأفعال عليها، وقد رحّبت مجلّة العرفان بنشر هذه الرسالة على صفحاتها، وكتبت تصفها بأنها ردّ محكم ضدّ البدع التي نشرها بعض العلماء في النبطية وجبع في لبنان، ما أوجب الاستهزاء بالشيعة، وهي – أي الرسالة – مستندة إلى الأدلّة المحكمة الدينية والعقلية([23]).

لقد عدّ السيد محسن الأمين في هذه الرسالة عدّة منكرات راجت في شعائر عاشوراء، وبعضها – عنده – من الذنوب الكبيرة، وهي:

1ـ الكذب ونقل الروايات التي لا أساس لها من الصحة عن أهل البيت(ع).

2ـ تعذيب النفس وإلحاق الضرر والأذى بها، على أثر جرح الرأس بالسيوف والخناجر.

3ـ استخدام آلات اللهو، ومن جملتها الصنوج والدمام.

4ـ تشبّه الرجال بالنساء أثناء إقامة المسرحيات.

5ـ عرض النساء العاريات الرؤوس على الهوادج في مسرحيات بوصفهنّ بنات رسول الله(ص).

6ـ أصوات النساء في محضر الرجال والذي إذا لم يكن حراماً فهو لا يتناسب مع الآداب والمروءة، ولابدّ من تطهير العزاء منها.

7ـ إطلاق الأصوات المنكرة التي تقشعرّ منها الأبدان.

8ـ وكل ما يوجب الهتك والسمعة السيئة، وهو ما لا يقبل الحصر([24]).

ويرى محسن الأمين أنّ إدخال هذه الأمور في مراسم العزاء الحسيني هو من تسويلات الشيطان، ومن المنكرات التي تُغضب الله ورسوله والإمام الحسين نفسه، فقد قام لإحياء دين جدّه، واستشهد لإزالة المنكرات، فكيف نرضيه بارتكاب مثل هذه الأعمال، سيما مع جعلها عنواناً للطاعة والعبادة؟!([25]).

لقد اهتمّ الأمين في هذه الرسالة بردّ دعاوى كتابٍ كان نشر دفاعاً عن ألوان العزاء السائدة ونقداً لأنظار محسن الأمين، ودون أن يأتي على ذكر اسم الكتاب أو اسم صاحبه يسجّل عليه ملاحظات عدّة ويواصل نقده حتى النهاية، بل إنه تعرّض في هذه الرسالة حتى للإشكالات الإملائية والنحوية والتأليفية في الكتاب، وعلى سبيل المثال، يحاول الأمين عند كل خطأ إملائي أو صرفي أن يضع إلى جانبه عبارة: (كذا) ليحدّده بها، مثل ما جاء في كلمات ذلك الناقد في كتابه: «أولاً الغير مشروع في الإسلام..» حيث أورد الأمين على هذه العبارة بالقول: «فيه أوّلاً: إنّ قوله: الغير مشروع، لحنٌ غير مسموع تكرّر وقوعه منه، كما نبّهنا عليه؛ إذ لا يجوز دخول (ال) على المضاف إلا إذا أدخلت على المضاف إليه كالجعد الشعر. وثانياً: إنه ذكر أولاً ولم يذكر ثانياً»([26]).

ومن هذه الإشكالات تظهر القوّة الأدبية عند السيد محسن الأمين، كما يظهر ضعف قلم مؤلّف «سيماء الصلحاء»([27]).

وإذا تخطّينا هذا النوع من الإشكالات، نلاحظ أنّ السيد محسن الأمين يقف مع كلّ دعاوى الكتاب واحدةً واحدة لنقلها ونقدها، فيستفيد من كلّ الموارد التي فيها عبارات تسامحيّة غير دقيقة، وكمثال على ذلك من استدلالات الكتاب ما جاء في الدفاع عن ضرب الرؤوس بالسيوف حيث يقول: أين هو الإشكال في هذا العمل؟ هل لبس الأكفان فيه إشكال؟ إنّ هذا العمل جائز شرعاً وعقلاً، بل إننا – إضافةً لذلك – نشاهد ما يشبهه في الحج، إنه عمل يوجب تذكرتنا بالآخرة وهو أساس الاستعداد للموت، أفهل في جرح الرأس إشكال؟ إنّ هذا العمل سنّة دينية أيضاً، بل إنّ فيه نوعاً من الفصد والحجامة، وعليه، يكون مشمولاً لأحد الأحكام التكليفية الخمسة، وهي: الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، والحرمة، والحجامة مباحة في الأصل، بل إنّ أنواعه الراجحة تعدّ مستحبةً، فيما أنواعه المرجوحة تعدّ مكروهةً، وما يحفظ منها السلامة يكون واجباً، فلماذا لا يكون التطبير – مع ما فيه من المنافع الدنيوية والأخروية – مباحاً([28]).

وقد أجاب السيد محسن الأمين عن هذا الاستدلال بدقّة وبتفصيل، فالحجامة – بدايةً – غير جائزة في الأصل ولا مباحة؛ لأنها توجب الإضرار بالبدن، ولا تغدو مباحةً إلا على أثر الاضطرار، كما أنّ المرجوح – ثانياً – ليس من الضروري أن يكون مكروهاً بل إنه يشمل الحرام أيضاً، تماماً كالراجح حيث لا يختصّ بالمستحب بل يستوعب الواجب، كما أنّ دعوى أن كلّ ما يحفظ البدن وسلامته واجبٌ ليس بقاعدة كلية وعامة وليست واجبةً على الدوام، وإنما يجب لو خيف على النفس، وإلا كانت مستحبةً، وفي هذه الصورة إذا اعتبرنا التطبير نوعاً من الحجامة فلا يكون واجباً إلا إذا قال الطبيب الخبير للمطبّر بأنّ في رأسه مرضاً مهلكاً وإذا لم تطبّر فستكون حياتك في خطر، كما لا يكون مستحباً إلا إذا – مثلاً – كانت في الإنسان حرارة شديدة ورخّص الطبيب الحاذق بضرب الرأس بالسيف أو الموسى، وإذا لم تكن هناك منافع في البَيْن وكان الفعل لا يُلحق إلا ضرراً تعيّن أن يصير حراماً، وذلك عندما لا يكون في رؤوس المطبّرين أي مرض ولا حرارة ولا حمّى يشفي منها التطبير، وحيث كان هذا الفعل حراماً فلا يمكنه أن يكون مقرّباً إلى الله وموجباً لثوابه، بل سيكون ناتجه عقاب الله وغضبه وغضب رسوله والإمام الحسين الذي قُتل في سبيل إحياء شريعة جدّه([29]).

وقد كان السيد محسن الأمين قال قبل ذلك بلزوم تجنيب المنابر نقلَ القصص الكاذبة والروايات غير الصحيحة، وقد رأى ناقده – رادّاً عليه – أنّ الكثير من العلماء الكبار قد عملوا بالأحاديث الضعيفة في الأمور المستحبّة، ومن الواضح أنّ الروايات التي تُنقل في التعزية من نوع الرخص والجائز الذي لا يصل إلى حدّ الإلزام، وليست من العزائم الواجبة، وكما يحبّ الله تعالى أن يُعمل بعزائمه كذلك يحبّ أنّ يُعمل برخصه أيضاً ([30]).

وقد ردّ السيد الأمين على هذا الاستدلال بردّ شديد قاطع، ووضع يده على مواضع أبدى فيها عدم دقّة الكاتب وخلطه للمسائل، حيث كتب يقول: «إنّا نسأله: ما ربط عمل العلماء بالخبر الضعيف في السنن بأخبار التعزية التي هي أمور تاريخية لا أحكام شرعية؟ وما ربط الخبر الضعيف بالمقام؟»([31]).

ثم ينتقده بأنّ الرخصة والعزيمة مفهومان ناظران للشؤون الفردية، لا الأمور التاريخية، يضاف إلى ذلك أنّ كلام السيد محسن الأمين لم يقم على عدم نقل الأخبار الضعيفة وإنما كان يقول بضرورة الابتعاد عن الأخبار الكاذبة التي لا أساس لها، وفرقٌ كبير بين المقولتين([32]).

ويستدلّ عبد الحسين صادق بسكوت المجتهدين الكبار عن هذه المراسم حيث إن معنى ذلك اعتبارهم لها من باب تعظيم الشعائر الدينية، وأنّ ذلك أمرٌ مستحب([33])، فيما يجيب محسن الأمين بأنه إذا كان العلماء لديهم مثل هذا الاعتقاد واقعاً كان يُفترض بهم أن يشاركوا في هذه المراسم بأنفسهم ويكونوا السبّاقين لها وأن: «يدقّوا الطبول ويضربوا بالصنوج وينفخوا في الأبواق، ويخرجوا حاسرين لابسي الأكفان، ضاربين رؤوسهم وجباههم بالسيوف أمام الناس؛ لتقتدي بهم كما اقتضت بهم في نصب مجالس العزاء وغيرها؛ فهم أحقّ الناس بتعظيم شعائر الدين لو كان هذا منها، وإذا لم يفعل الجميع ذلك، فعلى الأقل واحدٌ أو اثنان أو ثلاثة من العلماء مع أنّهم يعدّون بالألوف»([34]).

وعندها يقول: إنّ هذا العمل لم يكن له سابق عهد في بلاد جبل عامل، ولم يُخبر أحدٌ أنّ شخصاً كان يُقدم على مثل هذه الأعمال، ففي الأزمنة السالفة وحتى في العصر البويهي الذي كان يتمتع الشيعة فيه بحرية كاملة، وفي زمان الشيخ المفيد والشريفين: المرتضى والرضي، حيث كانت أسواق بغداد تقفل في يوم عاشوراء وتقام مراسم العزاء.. حتى في ذلك العصر لم ينقل أنّ أحداً أقدم على ممارسة التطبير وضرب الرؤوس([35]).

أما ناقد محسن الأمين فكتب أنّ أكثر العلماء المتأخرين من أمثال الشيخ جعفر كاشف الغطاء، والميرزا القمي في جامع الشتات، والشيخ مرتضى الأنصاري في رسالة سرور العباد، والشيخ زين العابدين الحائري في ذخيرة المعاد، والشيخ خضر شلال في كتاب [أبواب] الجنان، والميرزا حسين النائيني في جواب استفتاءٍ من أهل البصرة، والعلماء المعاصرين كافة.. كلّهم أباحوا التطبير وما كان من قبيله، إلا أنّ العلامة الأمين ردّ هذه النسب؛ فلم يأت كاشف الغطاء في كلامه على التطبير، كما أنّ ما نسب إلى الميرزا القمي غير صحيح، فما جاء في كتابه إنما هو ناظر إلى مسألة التعزية، ولا إشارة فيه إطلاقاً إلى الطبول والتطبير.. ([36]).

ويختم الأمين رسالته بلغةٍ حادّة قاسية فيقول: إن فاجعة كربلاء وقعت على رأس جدّنا «وليست الثكلى كالمستأجرة»([37])، والمرور على هذه الرسالة يدلّل على أنّ المؤلف قد استخدم المنهج البرهاني – الجدلي في نقد خصمه، لهذا وجدناه اعتمد أحياناً على بعض الاستدلالات الضعيفة، وقد يُصادر على المطلوب أحياناً، الأمر الذي استفاد منه نقّاده.

 

رسالة التنزيه وموجات النقد والنقد  المضاد

لقد شهدت هذه الرسالة أصداء واسعة وقاسية وحادّة وسريعة، فخلال أشهر عدّة على صدور هذا الكتاب ألّفت في العراق العديد من الكتب في نقده، فقد كتب الشيخ عبد الحسين الحلي كتابه: «النقد النزيه لرسالة التنزيه في أعمال الشبيه»، وذلك عام 1347هـ، في مجلّدين، ناقداً على الأمين، ومسجلاً أدلّةً مفصّلة ضدّه([38]).

لقد استخدم محسن الأمين تعابير حادّة ضدّ مؤلف كتاب «سيماء الصلحاء» وأضاف أنه لم يكن بصدد الردّ عليه، إلا أنه غضب، و «من استغضب فلم يغضب فهو حمار»، وقد انتقد الحلّي هذا الكلام بالقول: هذا الكلام إلى أيّ آية قرآنية أو سنّة يستند؟ إننا وجدنا في كتاب الله ما يليق أن يكون هو المستند، مثل: >وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا< (النور: 23)، و >وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ< (آل عمران: 134)، كما أنّ هناك روايات دالّة على حُسن العفو وجزالة الصفح([39])، بعد ذلك يؤكّد الحلّي على أنه لا يريد إهانة السيد محسن الأمين ولا تضعيفه، مسجلاً نقداً دقيقاً على ادّعاءاته في رسالة التنزيه.

وقد سعى الحلّي – معتمداً على الكتب المعروفة في المجال الفقهي، وهو ما يدلّ على حضور ذهنه ودقته وطول باعه في هذا المجال – لقراءة الأمر قراءةً فقهية؛ كي يؤكّد أنّ التطبير – وخلافاً لرأي محسن الأمين – مشروع ومباح، بل حتى مستحب، وهذا أنموذج من أدلّته ضدّ السيد محسن الأمين؛ فقد كتب العلامة الأمين أنّ ثمة أموراً دخلت مراسم العزاء يحرّم المسلمون أكثرها بالإجماع([40])، إلا أنّ الحلي يجيبه بأنّ أعمالاً مثل اللطم على الصدور و.. مما عدّده الأمين وقعت موقع البحث والنظر لسنوات عدّة، وما تزال شرعيّتها محلّ تساؤل، لهذا تعدّ في النتيجة من المسائل النظرية، فهل يمكن له (للأمين) أن يدلّنا أيّ واحدةٍ من هذه الأشياء أجمع المسلمون على تحريمها؟ وإذا كان الأمر كذلك كان على كل إنسان الرجوع إلى مرجعه الذي يقلّده([41]).

حول التطبير، استدلّ السيد الأمين بأنّ هذا العمل حرامٌ لما فيه من الضرر الذي يلحق الإنسان، وحرمته تكون من العقل والنقل، أما الشيخ الحلي فأجاب بالتفريق بين إلحاق الضرر بالنفس وتعريضها للمصاعب والمشاق([42])؛ فليس في ضرب الرؤوس بالسيوف ضررٌ معتدّ به عند الناس([43])، رغم أنه من الممكن أن تكون فيه مشقة أو صعوبة، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الكثير من العبادات والمستحبات فيها مشقة وتعب فلا يمكن الحكم بحرمتها لذلك، وإذا كان في التطبير في موضعٍ ما ضرر فيمكن في ذلك المورد بخصوصه الحكمُ بالحرمة، لا التحريم بشكل مطلق([44]). بل إنّ بعض العلماء عدّ بعض الأعمال العبادية المضرّة صحيحةً، وعليه، فحتى مع فرض أنّ اللطم والتطبير مضرّان إلا أنه لا يمكن – لمجرّد هذا الضرر – الحكم بحرمتهما وعدم صحّتهما([45]).

وخلاصة القول: كل من يعتقد أنّ قيامه بعملٍ ما يلحق ضرراً نفسياً – أي على نفسه – فيه يكون هذا العمل حراماً عليه، فلا ينبغي أن يُقدم عليه، إلا أنه لا يُظن أنّ أحداً من هؤلاء المطبّرين يخشى ضرراً من هذا النوع ثم يُقدم عليه، وإذا كان هذا العمل بالنسبة إليه حراماً فليس من الضروري أن يكون حراماً على غيره([46]).

وحول استخدام أدوات الموسيقى في مراسم العزاء، أجاب الحلّي على نقد الأمين الذي كان قال فيه: «الطبل والزمر والدمّام والصنوج النحاسية وغير ذلك الثابت تحريمها في الشرع»([47])، أجاب بأنّه على أيٍّ من هذه الآلات الثلاث يصحّ إطلاق عنوان آلات اللهو؟ فما ربط البوق بالمزمار؟ ما هو الهدف من إقحام كلمة الزمر هنا غير الإيقاع في الخطأ؟ إنّ الزمر في حالته المصدرية لا يعني سوى الغناء، لا النفخ، فأين النفخ في البوق من الغناء مع المزمار؟([48]).

وهنا نجد الحلّي ينتقد – باحترام ودقة – السيدَ الأمين بأنه وقع في خطأ لمّا جعل البوق المستخدم في العزاء مع المزمار الوارد في الروايات واحداً، فالنفخ بالبوق مختلف عن الغناء مع المزمار، الذي هو من نوع الناي([49]). وهنا يضيف الشيخ الحلّي إشكاله في مصداق آخر كان عدّده السيد الأمين، ألا وهو الصنوج، فهل للنحاسية تأثير على التحريم في الصنج بحيث لو كان حديداً لما كان حراماً؟ إنّ هذا الإشكال واردٌ في الطبل أيضاً، فلماذا لا يلتفت السيد الأمين إلى الطبل المستفاد منه في الحملات والقوافل، والذي على جوازه اتفاقٌ في الرأي؟ هل تعبير «الثابت تحريمها» ناظرٌ لعنوان آلات اللهو أم للموارد الثلاثة التي عدّدها السيد نفسه؟ فليس من المناسب للفقيه أن يدخل مسألةً، فيأخذ بالنظر – ومن دون تحقيق – إلى جانب واحد منها([50])؛ من هنا يرى الحلّي نفسه مضطراً للحديث عن التمييز بين «طبل العزاء» و «طبل اللهو»، كي يؤكّد أنّ حكم السيد الأمين بحرمة الطبل السائد في العزاء الحسيني حكمٌ غير مقبول([51]). ولكي يُعلم أنّ طبل العزاء ليس واحداً منها، عمد الشيخ الحلّي إلى استقصاء أسماء آلات اللهو الموسيقية، موضحاً بشكل جيّد معلومات جيدة عنها من ناحية اللفظ، والمقدار والحجم، والشكل، والجنس، والصورة، والأداء، مع ذكر حكمها الشرعي، كالدفّ، والبربط، والطنبور، والمعازف، والمِزْهَر([52])، ثم يجرّ البحث إلى البوق كي يؤكّد اختلافه عن المزمار، موضحاً في نهاية المطاف أنّ الصنوج التي تستخدم في العزاء الحسيني لا إشكال شرعيّ فيها، وما ادّعاه السيد الأمين في أمرها غير مقبول([53]).

لقد كان الأمين ادّعى أن تشبّه الرجال بالنساء في العروض والمسرحيات العاشورائية أحد ألوان المحرّم في مراسم العزاء، إلا أن الحلّي أجاب عنه بأنّ حرمة التشبّه الواردة في الشرع لا تعني مطلق أنواع التشبّه من الطرفين، وإنما أن يترك الرجل زيَّ الرجال ويسلك سلوك النساء وتصرّفاتهنّ، أو تتعامل المرأة بطبع رجولي وتبتعد عن طريقة تعاطي النساء، أما أن يرتدي شخصٌ لفترةٍ محدّدة لباس الجنس الآخر فلا دليل على حرمته، وقد اعتقد الحلي أن ادّعاء حرمة ذلك شرعاً خيانةٌ للشرع نفسه([54])، ثم يذكر أنه وخلال الخمسين عاماً الماضية التي راج فيها أسلوب التشبيه لم يَرَ هو نفسه أيّ امرأة ترتدي لباس الرجال وأيّ رجل يرتدي لباس النساء([55]).

النقد الآخر كان حول قضية صوت المرأة؛ حيث ذهب الأمين إلى أنّ أصوات النساء في حضور الرجال الأجانب محرّمة؛ لأنّ أصواتهنّ عورة([56])، وهذا ما أثار تعجّب الحلي، حيث رأى أنّه لا يعلم ولا حتى المنجّم يدري في أيّ كتاب أو سنّة كان صوت المرأة عورةً حتى نتصدّى للحديث عن معنى هذا النصّ؟ والذي يبدو من الكاتب – أي الأمين – أنّه عثر على حديثٍ أو على معقد إجماع أو قاعدة مستندة إلى الأخبار في هذا المجال، وإلا فما هو الوجه في تحريم صوت المرأة؟!([57]).

كان كتاب الحلّي أنموذجاً لنقدٍ منهجيّ لفقيهٍ مدافع عن أشكال العزاء وأنواعها، من بينها التطبير، كُتب للردّ على محسن الأمين، وهو كتاب مفيد في فهم هذا النوع من القضايا وتقييم المنهج الفقهي فيها أخذاً أو رداً لمقولة التطبير.

على خط آخر، كتب – ثم نشر – السيد علي تقي النقوي النصيرآبادي كتاباً أسماه «إقامة العاثر في إقامة الشعائر»([58])، كما كتب الشيخ عبد الله سبيتي العاملي «رنّة الأسى في تعظيم شعائر العزا»([59])، وقد استند إلى فتاوى المجتهدين المعاصرين له لكي يجيب بأسلوب جاف وجارح على دعاوى السيد محسن الأمين واحدةً تلو الأخرى، مسجلاً عدة ملاحظات نقدية عليه، من بينها أن الأمين أهمل أموراً أكثر أهميةً من مراسم العزاء، كالجمعيات المسيحية التبشيرية والتوقف عن ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([60]).

كما ساهم شخصان من آل المظفّر في الموضوع، هما الشيخ محمد حسين آل المظفر في كتاب «الشعائر الحسينية»([61])، والشيخ عبد المهدي المظفر في كتاب «إرشاد الأمة للتمسّك بالأئمة»([62])، كما كان لعبد المهدي كتاب آخر في هذا المجال حمل عنوان «السياسة الدينية لدفع الشبهات على المظاهرات الحسينية» كان نشره في النجف([63])، كما كان هناك طالبٌ عاملي (لبناني) آخر كان يدرس في العراق، وهو محمد علي شرف الدين، نشر كتاباً أسماه «راية الحسين»، ناقداً فيه آراء السيد محسن الأمين: لماذا حرّم الأمين الشعائر الحسينية؟!([64]).

على خط آخر في هذا الخضم، ألّف محمد كنجي المناصر للسيد محسن الأمين كتاباً أسماه: «كشف التمويه عن رسالة التنـزيه»([65]) ونشره في مدينة النجف، رابطاً بين قضية الأمين وقضية سابقة كان طرحها العالم الشيعي المصلح هبة الدين الشهرستاني، وتتعلّق بنقل أجساد الموتى إلى النجف([66])، وإلى جانب تركيزه على المكانة العلمية والسجل العملي للأمين، نقل كنجي فتاوى العلماء السابقين التي تصوّب حكم الأمين([67]). كما صدر في دمشق عام 1347هـ كتاب آخر يدافع عن السيد محسن الأمين، كتبه الشيخ علي الجمّال تحت اسم: «دفع التمويه عن رسالة التنـزيه في أعمال الشبيه»([68])، لكن نظراً لعدم شهرة المؤلف ومحلّ النشر لم يتم تداول هذا الكتاب كثيراً([69]).

ولم تقف هذه المساجلات الكتابية عند تأليف الكتب والمصنفات، بل تعدّتها إلى مجال النشريات، فكتبت مقالات بهذا الصدد، إلا أنّ أهم نشرية كانت فعالةً بهذا الخصوص، وكان رئيس تحريرها بنفسه من مناصري حركة الإصلاح، كانت مجلّة العرفان، فقد كان أحمد عارف الزين، مدير هذه المجلّة، في الخط نفسه الذي كان فيه الأمين معلناً مناصرته له جهاداً، إلا أنه مع ذلك فتح صفحات مجلّته للطرفين معاً، واستقبل مقالاتهما في هذا الخصوص، وهنا وصلت مقالة من جعفر نقدي – أحد المجتهدين – إلى المجلّة، حملت عنوان «المنابر الحسينية»، وقد نشرت المقالة التي لم تردّ بشكل مباشر على دعاوى السيد الأمين، بل استبدلت ذلك بالردّ على جهل بعض الوعاظ وأهل المنبر، وهنا أرسل مهدي الحجار، وهو من أنصار السيّد أبي الحسن الإصفهاني، الذي كان مقيماً في البصرة، أرسل قصيدةً في الدفاع عن الأمين، ونُشرت في مجلّة العرفان([70])، وفي الوقت عينه طبعت في مجلّة العرفان – وقبل ذلك في إحدى المجلات المصرية – فتوى العالم الإيراني محمد تقي الإصفهاني، وفي هذه الفتوى ودون إشارة إلى السيد محسن الأمين، انتقد الإصفهاني ألوان العزاء السائدة، وأعمالاً مثل ضرب الذات وجلدها واصفاً إياها بالأعمال الوحشية، حاكماً بحرمة أعمال مثل التشبيه وأمثاله([71]).

 

وصول التصادم إلى الجماهير

وتعدّى الأمر حدود الأبحاث العلمية والكتابية ليصل إلى الأسواق والشوارع، ولتبلغه عامة الناس، وتدريجياً اشتدّ الأمر، وخرج عن أيدي الطلاب وفضلاء النجف ولبنان، ليصل حدّ التجريح والتهديد وإرسال الرسائل الخالية من التوقيعات و.. فسكّان منطقة النبطية في لبنان انقسموا إلى فريقين: فريق مدافع عن السيد محسن الأمين وآخر مخالف له، أجادوا (!!) في إقامة مراسم العزاء والأعمال التي حرّمها الأمين.. وشيئاً فشيئاً بعد ذلك استبدل الشعار المعروف «لعن الله من ظلمك يا أبا عبد الله» ليحلّ مكانه بيتٌ من الشعر للشيخ عبد الحسين صادق صاحب كتاب سيماء الصلحاء في نقد كتاب التنـزيه وهو:

لعن الله أناساً – حرّموا نَدْبَ الحسين([72])

لقد كان الشعر حربةً جيدة لضرب الخصم، فحفظه عند الناس أسهل من الاستدلالات الصعبة أو الروايات، وفي النهاية، أنشد عبد الحسين صادق – الخصم القديم لمحسن الأمين – أبياتاً تعليمية من الشعر وأشاعها في أوساط عامة الناس:

ترى إقامة العزاء بدعةً أما درت أنّ النبي سنّها – جديدة يأبى الهدى تجديدها لعمّه مستحسناً فريدها لا يجهل ابن سنّه ورودها


 ألا ترى به صحاح جمّة

وفي أشعار أخرى يقارن عبد الحسين الخطوات التي أقدم عليها الأمين بتلك التي أقدم عليها الوهابيون في مراقد البقيع، بل يراه أسوأ منهم:

فما المعوّل النجدي أدهى مصيبةً كلا ذين هدّام لما شاد أحمد – من القلم الجاري بمنع المآتم
ولكن يراع المنع أكبرها دم

وحتى عندما زوّج عبد الحسين صادق ابنته، استفاد من هذه الفرصة وأنشد قصيدةً قدّمها لصهره، معرّضاً بنظر محسن الأمين، بالقول:

فارشف من شفتيه اللما تجدني إذن تاركاً مذهبي – وأحظى من تفاهة الوجنتين كمن سنّ تحريم ندب حسيني

وقد قيل: إنه بعد مرور قرابة القرن على هذه الأحداث ما تزال هذه الأشعار دائرةً على ألسن بعض شيعة جبل عامل([73])، وهذا النوع من المواجهة كان رائجاً في العراق أيضاً، فقد أهان أحد المنبريين المشهورين وقراء العزاء المقتدرين النافذين، وهو صالح علي، من على المنبر السيدَ محسن الأمين والسيد أبا الحسن الإصفهاني، فأنشد يقول:

يا راكباً أما مررت بجلّق – فابصق بوجه أمينها المتزندق([74])

وشبّه السيد محسن الأمين أحياناً بغاصب الخلافة الذي أمر بقتل الإمام(ع)، وبمخالف التشيّع أحياناً أخرى، وبالقائل بحرمة العزاء على أهل البيت(ع) ثالثة، وربما لقّب بسيّد الأمويين([75])، كما أن السقائين كانوا يدورون في الشوارع وينادون: «لعن الله حرملة! بل لعن الله الأمين»([76]).

إنه لمن غرائب الدهر أن يُتهم شخصٌ – كذباً – بتحريم العزاء وهو الذي وقف في مقابل أهل السنّة والوهابيين يدافع عن مشروعية العزاء في كتبه التي كتبها، وقدّم كتاب المجالس السنيّة لتصفية كتب العزاء والمقاتل من الأخبار الكاذبة، وأن يصبح عرضةً للهجوم الشامل والواسع في المجتمعات الدينية في العراق ولبنان؛ فكتُبه شاهدٌ على حسن نيّته وصدقه وصحّة ما أقدم عليه، فلم يكن سوى بصدد تصفية المآتم الحسينية وتنقيتها من الأكاذيب والتحريفات والأعمال التي كان يراها – مع كثير ممّن قبله – من البدع.

إنّ صعوبة عمل محسن الأمين كانت أنه كان مضطراً في وقتٍ واحد أن يحارب على جهتين؛ ففي الوقت الذي كان فيه مخالفاً للبدع الرائجة في العزاء، كان مدافعاً عن العزاء أمام النقّاد من أهل السنّة، فقد كتب – على سبيل المثال – كتاب «كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب» في نقد آراء الوهابية ودفع شبهاتهم، والدفاع عن شرعية بعض المراسم الدينية التي صنّفها الوهابيون شركاً([77])، وكذلك صنّف كتاب «الحصون المنيعة في الردّ على صاحب المنار» منتقداً محمد رشيد رضا الذي انتقد بدوره الشيعة([78])، مع ذلك فقد اتهم بالزندقة وفساد العقيدة وانعدام التديّن، وكان يُلعن على الملأ العام وتكال ألوان الفحش في حقّه، وقد ساهم الكثيرون بسكوتهم في إشاعة هذا الجوّ، والأكثر عجباً أنّ هذه التجربة ما زالت تتكرّر مراراً، ويتهم الأشخاص الأكثر تحرّقاً على الدين بأنهم لا دين لهم.

مع ذلك كلّه، فالمناقشات التي حصلت لم تسفر في نهاية المطاف إلى اتفاق على أنواع العزاء المجاز، وكان يُرى أنّ هذه القضية في يد أصحاب الفتوى الذين يفصلون فيها ويوضحون وظيفة عامّة الشيعة بشأنها.

 

فتاوى المظاهر العزائية، المشكلات والمآزق

رغم ما يبدو من أنّ فتاوى مراجع التقليد هي التي تحدّد في نهاية المطاف وبشكل حاسم وظيفة المكلّف كما تحدّد شرعية الفعل وعدمها، إلا أنّ الأمر لم يكن كذلك من الناحية العمليّة؛ فالفتاوى المختلفة زادت المسألة صعوبةً وتعقيداً، فحيث كانت أنواع العزاء المختلف حولها ظاهرةً جديدة، لم يمضِ زمنٌ طويل على نفوذها في البلدان التي يقطنها الشيعة، كانت الفتاوى المتصلة بها جديدةً أيضاً، ومع ذلك كانت لهذه الفتاوى مشاكلها الخاصّة.

المشكلة الأولى أنّ الكثير من هذه الفتاوى كانت خطّيةً لم ينلها العموم من الناس ولم يصلوا إليها، وهذا ما أدى في نهاية الأمر إلى ادّعاء بعض الأفراد وجود فتوى لديهم لا اطلاع للآخرين عليها، فينسبونها إلى هذا العالم أو ذاك ممّا لا يجعل هناك إمكانيةً للتثبت من صحّة هذا الادعاء وسقمه، وقد أدّى ذلك إلى أن ينسب الموافقون والمخالفون لبعض أنواع العزاء فتوى تنسجم معهم إلى أحد المراجع، كما رأينا في مضمون فتاوى بعض المراجع الكبار، مثل الميرزا القمي، والشيخ الأنصاري، كيف كانت موافقةً ومخالفة لرأي السيد محسن الأمين، وهذا الاختلاف كان بارزاً واضحاً فيما يتعلّق بفتوى السيد أبي الحسن الإصفهاني، فقد أصدر – مقارناً لنشاطات الأمين الإصلاحية – فتوى حول العزاء فهمها بعضهم نصرةً للأمين، فيما فهمها بعضٌ آخر إضراراً به وتأييداً للعزاء، فقد كتب حسن المظفر في كتابه «نصرة المظلوم» أنّ السيد أبا الحسن الإصفهاني أصدر فتوى أباح فيها مختلف ما يتعلّق بالشعائر([79])، أما صاحب كتاب «إقالة العاثر» فنفى نسبة التحريم إلى الإصفهاني، ذاكراً أن بعض الكتّاب نسب إليه التحليل([80])، وهو ما يدلّل على أنه لم يرَه، وقد كان رباني خلخالي واحداً من الذين حكموا بإباحة التطبير وسائر الأعمال المماثلة له([81]).

على خطّ آخر، كان لمعارضي التطبير وجهة نظر أخرى، فعلى حدّ قول جعفر الخليلي: إنّ الإصفهاني أصدر فتوى مضمونها: «إنّ استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق، وما يجري اليوم أمثاله في مواكب العزاء بيوم عاشوراء إنما هو محرّم وهو غير شرعي»([82]). ولم تقتصر هذه المشكلة على السيد أبي الحسن الإصفهاني، بل واجهت آخرين مثل الشيخ مرتضى الأنصاري أيضاً.

المشكلة الأخرى التي طاولت الفتاوى، كانت انعدام وجود سوابق لها، فأحد التفسيرات المعقولة المناسبة لنسبة فتاوى متعدّدة ومتضادّة إلى بعض المراجع هو ما قيل من أنهم أصدروا فتوى في مجال معيّن، ثم ونتيجة مرور الزمان أو تغيّر وجهة نظرهم أصدروا فتوى أخرى، وعلى سبيل المثال تجربة السيد أبي الحسن الإصفهاني الذي أصدر فتوى موافقة للعزاء أيام أحداث البصرة، إلا أنه وعقب نشر رسالة السيد محسن الأمين أصدر فتوى بالتحريم([83])، إنّ مثل هذا التفسير رغم أنه يبدو منطقياً إلا أنه بحاجة إلى شواهد حاسمة لظروف وخلفيّات هذه الفتاوى، وهو ما يبدو صعباً سيما فيما يتعلّق بفتاوى القرن الماضي.

المعضلة الثالثة التي واجهتها الفتاوى كانت التعقيد والإبهام الداخلي والقيود والاستثناءات التي اشتملتها بعض هذه الفتاوى، فإنّ هذه الأمور هيأت مناخاً مناسباً لظهور تفسيرات متعارضة لها، وهذه المعضلة نجدها جيّداً في فتوى كاشف الغطاء؛ ففي جوابه على طلب شيعة أهل البصرة منه إصدار فتوى حول العزاء، أجابهم بأنّ إقامة مراسم العزاء لتعظيم الشعائر الجعفرية مباح، وإذا لم يكن مستحباً فليس حراماً، إلا أنه لابد من الاجتناب عن استخدام الأدوات الموسيقية فيها حتى لا يكون ذلك سبباً للنقد على الشيعة، والذي يبدو أنّ هذه الفتوى لم تحلّ العُقد الموجودة فيها؛ لذا كرّر أهل البصرة طلبهم بإصدار فتوى أكثر وضوحاً، فكانت الفتوى الثانية التي حكمت بالإباحة، مضيفةً إليها نصيحتين إلى أهل البصرة هما: تصفية هيئات العزاء من كلّ ما يلحق الضرر بعظمتها والابتعاد عن المنازعات التي تُضعف الشيعة، إلا أنّ هذه الفتوى الثانية لم تكن مقنعةً أيضاً؛ لأنّ مسألة العزاء نفسها كانت أحد الأسباب التي قسمت شيعة البصرة وشيعة لبنان والعراق إلى فريقين؛ من هنا عاود المستفتون توجيه السؤال للمرّة الثالثة، فكانت الفتوى الثالثة المفصّلة المرفقة بالأدلّة، إلا أن النتيجة كانت كسابقاتها([84])، لم تُضف على حيرة الناس إلا الحيرة([85]).

الأزمة الرابعة التي رافقت هذه الفتاوى، لم تكن فيها نفسها، وإنما في طريقة تجميعها، فهذا الأمر أحدث اصطفافات حادّة وضاعف من الانشقاقات بدل أن يحلّها، إنّ المجموعات التي هيّئت في هذا المجال لم تكن – في العمدة – بقصد التحقيق أو ممارسة عمل علمي مدرسي، وإنما لإرشاد الناس ودفعهم لتبنّي موقف، وفي نهاية الأمر كان يُسعى أن تكون الفتاوى المجموعة ذات موقف واحد، فبرؤية إحدى هذه المجموعات يغدو القارئ جاهلاً بواقع الأمر وما يخطّط خلف السُتر؛ حيث يتصوّر أنّ المسألة وكأنها إجماعية وأنه لا يوجد أيّ رأي مخالف فيها، ولكي نطلّ على نماذج من هذه المجموعات، نذكر أربعاً منها ونعرّفها ونمرّ عليها سريعاً:

 

نماذج من المجموعات الفتوائية حول العزاء الحسيني

المجموعة الأولى: وهي مجموعة مختصرة باسم «فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية»([86])، وقد أكّد جامع هذه المجموعة أن الفتاوى التي من هذا القبيل أكثر ممّا هو موجود في هذا الكتاب، كما ذكر ستاً وعشرين فتوى موافقة لأنواع العزاء، وبعض هذه الفتاوى مفصّل وبعضها مختصر موجز، وأصحاب الفتاوى في هذه المجموعة هم على الترتيب: محمد حسين النائيني، السيد عبد الهادي الشيرازي، السيد محسن الحكيم، السيد أبو القاسم الخوئي، السيد محمود الشاهرودي، الشيخ محمد حسن المظفر، السيد حسين الحمامي، الشيخ محمد حسين آل كشف الغطاء، الشيخ كاظم الشيرازي، السيد جمال الدين الكلبايكاني، السيد علي مدد الموسوي القايني، السيد محمد الشيرازي، السيد عبد الله الشيرازي، السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، السيد محمد جواد الطباطبائي التبريزي، السيد علي الطباطبائي التبريزي، الشيخ عبد الرسول آل صاحب الجواهر، الشيخ محمد رضا الطبسي، محمد علي سيبويه الحائري، السيد مرتضى الفيروزآبادي، والسيد علي الحسيني الفاني. وقد نقلت أحياناً عن واحدٍ منهم فتوَيان، كما أنّ هذه الشخصيات لم تكن من طبقة علمية واحدة.

المجموعة الثانية: كتاب «عزاداري از ديدكاه مرجعيت شيعه/العزاء من وجهة نظر المرجعية الشيعية»([87])، والتي أعدّها علي رباني خلخالي، وقد ترجمت إلى اللغة الفارسية هنا كلّ الفتاوى التي كانت موجودةً في كتاب «فتاوى العلماء» المتقدّم، رغم أن أخطاء وقعت في ذلك، فجاء من حيث المجموع غير مناسب، وإضافةً إلى ذلك رأينا في هذا الكتاب فتاوى لكلّ من: محمد باقر الآشتياني، السيد أحمد الخوانساري، السيد محمد صادق الروحاني، ويحيى النوري. كما أن معدّ الكتاب ذكر أسماء 150 عالماً موافقاً للعزاء دون أن يذكر نصّ فتاواهم وإنما أرجع في ذلك إلى كتاب «المواكب الحسينية»، وبعض هذه الأسماء التي ذكرها مكرّر، أما غير المكرّر منها فالمعروف منها: الآخوند الخراساني، الشيخ مرتضى الأنصاري، الشيخ محمد جواد البلاغي، الميرزا حسين النوري، الشيخ عبد الكريم الحائري، ومحمد حسن النجفي صاحب الجواهر.

وهاتان المجموعتان تتجهان ضمن خطّ واحد يقضي بوحدة نظر علماء الشيعة في تجويز العزاء، على خلاف المجموعات الآتية.

المجموعة الثالثة: وتقوم هذه المجموعة على تحريم التطبير، وتُطلّنا على الوجه الآخر للعملة النقدية، وفي هذه المجموعة جاءت بيانات عدّة للإمام الخميني وسماحة نائب الإمام آية الله العظمى الخامنئي، والأعضاء المحترمين في جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في مدينة قم، حول التطبير في عاشوراء([88]).

وتحتوي هذه المجموعة قسمين:

القسم الأول: وجاء فيه بعضٌ من الكلمة المعروفة لآية الله الخامنئي حول التطبير، وهي الكلمة التي أدّت إلى تحريم هذا الفعل ومنعه [في إيران]، كما جاء فيه أيضاً فصلٌ قصير تحت عنوان: «تبعات بهداشتي ورواني قمه زنى/الآثار الصحّية والنفسية للتطبير»، وكذلك قسمٌ من أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، والذي هو في الحقيقة عين رسالة التنزيه في أعمال الشبيه، وأيضاً جواب آية الله الخامنئي على رسالة السيد المروّج، إمام جمعة أردبيل حول تبعية أهالي أردبيل لذلك.

القسم الثاني: وجاء فيه استفتاءٌ للإمام الخميني، وخمسة استفتاءات للسيد علي الخامنئي، بعد ذلك أورد رسالةً من فضلاء حوزة مدينة قم إلى أعضاء جماعة المدرّسين حول ما أعلن بالنسبة إلى أنواع العزاء، وأعمال من نوع: التطبير، وضع الأقفال على الأبدان، جرح وإدماء الرأس والوجه، جرح الصدر وخدشه للذهاب إلى الزيارة وأمثال ذلك([89]).

ومع الإشارة في هذه الرسالة إلى النتائج المترتبة على هذه الأعمال في العصر الراهن ما يفرض في النهاية تنحيتها جانباً، جاء أيضاً أنّ طلب السيد الخامنئي ترك هذه الأعمال مؤخراً جاء بعد أن استشار أعضاء جماعة المدرّسين في قم وأخذ وجهات نظرهم.

وفي جواب هذه الرسالة، جاء ذكر 25 فتوى وجواب قصير لكلّ من السادة: علي أحمدي ميانجي، ورضا أستادي، ومحمد المؤمن، وإبراهيم الأميني، وعبد الله جوادي آملي، ومحسن الخرازي، وأحمد جنتي، ومحسن حرم بناهي، ومهدي الحسيني الروحاني، ومحمد علي شرعي، وحسين راستي الكاشاني، وجعفر كريمي، ومرتضى مقتدائي، وأبو القاسم خزعلي، ومحمد محمدي الجيلاني، وعلي أكبر المسعودي الخميني، وعلي المشكيني، وأحمد آذري القمي، وحسين مظاهري، ومحمد اليزدي، ومسلم ملكوتي، وحسن الطهراني، وعباس محفوظي، ومحمد أبطحي، وأبو الفضل الموسوي التبريزي.

المجموعة الرابعة: وهي «كلمات وبيانات قائد الثورة الإسلامية واستفتاءات لآيات الله حول العزاء العاشورائي» وتقع في 71 صفحة؛ وتحتوي هذه المجموعة على فتاوى من ذكرناهم آنفاً في المجموعة السابقة، إضافةً إلى فتوى مكتب آية الله الأراكي القاضية بحرمة هذا العمل([90])، وإضافةً إلى ذلك ليس فيها سوى بعض البيانات.

 

مقارنات بين الفتاوى العزائية

وتشبه هذه المجموعة سابقتها من جهتين:

الأولى: وجود مجموعة فتاوى منسجمة مع بعضها في خط واحد، إلى حدّ وكأنه لا خلاف في الحكم بالحرمة.

الثانية: في المجموعة الأولى هناك فتوى محورية مركزية، وسائر الفتاوى إنما جاءت لتأييد تلك الفتوى، وهذه المجموعة أيضاً كذلك؛ فهناك كانت الفتوى التاريخية والمفصلية لآية الله النائيني التي صدرت جواباً لأهل البصرة عام 1345هـ، وفيها أعلن إباحة مختلف أنواع العزاء بما فيها التطبير؛ وأغلب الفتاوى اللاحقة إنما جاءت تأييداً لهذه الفتوى، وقد اكتفى بعض الفقهاء في فتواهم بالقول: إنّ ما قاله شيخنا النائيني – أعلى الله مقامه – صحيح شرعاً أو مطابق لرأينا([91])، وفي هذه المجموعة الأخيرة كانت الفتوى المركزيّة عبارة عن خطاب آية الله الخامنئي عام 1373ش/1994م، فيما جاءت سائر الفتاوى الموجودة الأخيرة عقب طلب الاطلاع من أعضاء جامعة المدرّسين في حوزة قم، وكانت في العمدة تأييداً لمحتوى خطاب الخامنئي، وأغلب المفتين ذكروا مضمون هذه الجملة: «إطاعة أحكام الوليّ الفقيه واجبة»([92]).

وإذا تخطّينا هذين التشابهين الأساسيين، وجدنا أنّ بين المجموعتين اختلافاً حاداً في الرأي ووجهات النظر وشكل الاستدلال، كما أنّ المفردات التي استخدمها الطرفان تنبؤ عن مناخين متمايزين؛ وعليه فالرجوع إلى الفتاوى ليس حلاً للمشكلة، ففي مقابل مثل السيد محسن الأمين الذي يحرّم الصنوج والدمّام، نجد المامقاني يميل إلى الوجوب الكفائي لمثل هذه الشعائر، حتى أنّه يؤيد إشعال النيران والدخول فيها ممّا يقوم به بعض شيعة الهند([93]). إنّ صعوبة هذا الانشقاق في الرأي تكمن في عدم إمكانية إحالة كلّ مكلّف إلى مرجعه، فمثل هذه الموضوعات لم يعد يمكن النظر إليه بوصفه مسائل فرعية وفردية، فدورها الاجتماعي يمنع عن هذا التعاطي معها.

إنّ محتوى هذه الفتاوى وبنائها الداخلي مختلفٌ أيضاً، فبعضها مختصر موجز مغلق ومجمل وبعضها الآخر مبسوط ومفصّل ودقيق، بعضها يبيح أصل العزاء وتعظيم الشعائر الحسينية، بل يراها مستحبّةً وينأى بنفسه عن تعيين مصاديقها، فيما بعضها الآخر – مثل فتوى النائيني – يبيّن مختلف أنواع العزاء السائدة والمتداولة، نعم، بعضها فني فقهيّ دقيق وبعضها الآخر مجرّد إرجاع لغوي دون دخول في أيّ شأن فقهي، على سبيل المثال وجّه إلى آية الله السيد أحمد الخوانساري سؤال: «ما هو نظر جنابكم في إقامة الشعائر الحسينية وفتوى آية الله النائيني؟!»، فكان الجواب: «إنّ موضوع إقامة الشعائر الحسينية أوضح من النهار، وكالشمس الساطعة في وسط السماء، ولا حاجة فيه إلى الكتابة»([94])، فإنّ هذا الجواب – على رغم الجمال الأدبي الذي فيه – لا يبيّن حكماً فقهياً، بل يمتنع عن إبداء رأي، وكأنه لا جواب عن هذا السؤال، ذلك أنه لا مناقشات في الموضوع، وإنما الدعوى على الحكم.

وفي مقابل هذه الفتوى كانت فتوى الميرزا النائيني؛ حيث فصّلت في مواضع الخلاف، وجعلت البحث في نقاط أربع، معيّنةً حكم كل منها، وهذا نصّ الفتوى: «بسم الله الرحمن الرحيم، إلى البصرة وما والاها، بعد السلام على إخواننا الأماجد العظام، أهالي القطر البصري، ورحمة الله وبركاته. قد تواردت علينا في (الكرّادة الشرقية)، برقيّاتكم وكتبكم المتضمّنة للسؤال عن حكم المواكب العزائية وما يتعلّق بها؛ إذ رجعنا بحمده سبحانه إلى النجف الأشرف سالمين، فها نحن نحرّر الجواب عن تلك السؤالات، ببيان مسائل:

الأولى: خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرق والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه، وكونه من أظهر مصاديق ما يقام به عزاء المظلوم، وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد. لكن اللازم تنزيه هذا الشعار العظيم عما لا يليق بعبادة مثله من غناء أو استعمال آلات اللهو، والتدافع في التقدّم والتأخر بين أهل محلّتين، ونحو ذلك. ولو اتفق شيء من ذلك، فذلك الحرام الواقع في البين هو المحرّم، ولا تسري حرمته إلى الموكب العزائي، ويكون كالنظر إلى الأجنبية حال الصلاة في عدم بطلانها.

الثانية: لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حدّ الاحمرار والاسوداد، بل يقوى جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحدّ المذكور، بل وإن تأدى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى. وأما إخراج الدم من الناصية بالسيوف والقامات، فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً، وكان من مجرّد إخراج الدم من الناصية بلا صدمة على عظمها، ولا يتعقّب عادةً بخروج ما يضرّ خروجه من الدم، ونحو ذلك، كما يعرفه المتدرّبون العارفون بكيفية الضرب، ولو كان عند الضرب مأموناً ضرره بحسب العادة، ولكن اتفق خروج الدم قدر ما يضرّ خروجه، ثم يكون ذلك موجباً لحرمته، ويكون كمن توضأ أو اغتسل أو صام آمناً من ضرره، ثم تبيّن ضرره منه. لكن الأولى – بل الأحوط – أن لا يقتحمه غير العارفين المتدرّبين، ولا سيما الشبّان الذين لا يبالون بما يوردون على أنفسهم لعظم المصيبة وامتلاء قلوبهم من المحبّة الحسينية، ثبّتهم الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

الثالثة: الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخاذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون، وإن تضمّنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى؛ فإنّا وإن كنا مستشكلين سابقاً في جوازه وقيّدنا جواز التمثيل في الفتوى الصادرة منّا قبل أربع سنوات، لكنا لمّا راجعنا المسألة ثانياً اتضح عندنا أنّ المحرم من تشبيه الرجل بالمرأة هو ما كان خروجاً عن زيّ الرجال رأساً، وأخذاً بزيّ النساء، دونما إذا تلبّس بملابسها مقداراً من الزمان بلا تبديلٍ لزيّه، كما هو الحال في هذه التشبيهات. وقد استدركنا ذلك أخيراً في حواشينا على العروة الوثقى. نعم يلزم تنزيهها أيضاً عن المحرّمات الشرعية، وإن كانت على فرض وقوعها لا تسري حرمتها إلى التشبيه، كما تقدم.

الرابعة: الدمّام المستعمل في هذه المواكب مما لم يتحقّق لنا إلى الآن حقيقته؛ فإن كان مورد استعماله هو إقامة العزاء وعند طلب الاجتماع وتنبيه الراكب على الركوب وفي الهوسات العربية([95]) ونحو ذلك، ولا يستعمل فيما يطلب فيه اللهو والسرور، كما هو المعروف عندنا في النجف الأشرف، فالظاهر جوازه، والله العالم.

5 ربيع الأول، سنة 1345هـ.

حرّره الأحقر محمد حسين الغروي النائيني»([96]).

وعلى هذا الأساس، غدت هذه الفتوى محلّ تأييد الكثير من العلماء فيما بعد، فقد أوضحت المسؤولية إزاء كلّ نوع من أنواع العزاء التي كانت سائدةً آنذاك، لتحكم في النهاية بإباحتها، من هنا وقعت على طرف النقيض تماماً من آراء مثل السيد محسن الأمين.

وهنا إذا نظرنا بشكل كمي وكيفي إلى هاتين الفتويين، يبدو لنا أنّ الاعتبار العلمي للفتاوى المجيزة وقيمتها ووزنها وحجمها وشكل الاستدلال فيها والأهمّ الشخصيات التي أصدرتها كان أكبر منه في فتاوى التحريم، فإذا ما غضضنا الطرف عن بعض فتاوى التحريم فإن أغلب علماء الشيعة إما قائلون هنا بالجواز أو أنهم يفضّلون السكوت مما يجعلهم يمضون الجواز من الناحية العملية، وفقط في السنوات الأخيرة ظهر رأي التحريم وبدأ بالتبلور، انطلاقاً من قضايا خارجية، وأبعاد سياسية واجتماعية في المسألة، وفي الوقت عينه نجد بعض الفتاوى التي بدت محتاطةً جداً وقلّلت من استخدام المصطلحات الفقهية والفتوائية، مثل جواب الاستفتاء حول التطبير الذي ذكره آية الله جواد التبريزي، حيث قال: «إنّ العزاء على خامس آل العبا من أهم الشعائر الدينية ورمز بقاء التشيّع، إلا أنه يلزم على المعزين الأعزاء الاجتناب عن كلّ ما يوجب وهن المذهب واستغلال أعداء الإسلام وأهل البيت استغلالاً سيئاً»([97]).

وفي حالة كون هذا النص عين الفتوى لا يبدو أنّ بإمكان المقلّدين الاستفادة منه؛ ذلك أن القضية الأساس تكمن في أن التطبير موهنٌ أم لا؟ فهناك من يرى أنّ هذا العمل يوجب وهن الشيعة ويعدّ أداةً للدعاية ضدّهم، فيما يرى فريق آخر مدافع عن التطبير أنه وسيلةٌ لعزّة الشيعة وأنه يمرّغ وجوه أعداء التشيّع، وهنا ينبغي على المقلّد أن يمارس بنفسه اجتهاداً أو يبقى حيراناً.

وفي نهاية الأمر، لا يمكن – بمعونة هذه الفتاوى المتعارضة – أن يتضح الموقف إزاء العزاء وأنواعه بشكل عام وكلّي، من هنا كان من اللازم بدل التوجّه ناحية الفتاوى، الاهتمام بالأسس والمنطلقات ودوافع الاستدلال عند الطرفين، ومحاولة حلّ المسألة على مستوى أعمق، والنظر إلى وجهة نظر الطرفين معاً ومطالعتها كذلك.

 

حركة المصنفات الفكرية المتأخرة حول العزاء

إنّ الكتب التي صنّفت في هذا المضمار عديدة كما أنها لم تتناول الموضوع بمستوى واحد، فبعضها تناوله بقراءة فقهية؛ وبعضها الآخر استخدم منهجاً إقناعياً وترويجياً، وكمثال على ذلك كتاب «الشعائر الحسينية المنصوصة» للسيد محمد الترحيني العاملي، والذي سعى – اعتماداً على النصوص الروائية – لدراسة الموارد الخاصّة التي أشير إليها في الروايات وجرى تأييدها، معتبراً أنها حلال اعتماداً على ذلك، ففي هذا الكتاب عدّ كلاًّ من البكاء على الإمام الحسين(ع)، والتظاهر بالبكاء، والجزع، ولعن قاتلي الإمام الحسين بعد شرب الماء، الزيارة وإنشاد الشعر في رثائه.. من الشعائر الحسينية، لهذا بحثها ودرسها ثم أثبتها وجوّزها.

الكتاب الآخر للشيخ محمد سند، وهو «الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد»، فقد تابع هذا الكتاب منهج سابقه مختلفاً عنه اختلافاً طفيفاً في الطابع الإقناعي، وفي مواضع الاستدلال الأصولي، إنّ كاتب هذا الكتاب الذي يعدّ مجموعةً من محاضراته، وبعد بحثه في تنوّع الشعائر وطرح الإشكالات وردّها فيما يعود إلى الشعائر الحسينية، يستحضر عدداً من الروايات التي تؤيد هذه الشعائر، والأعمال التي يعتبرها صاحب الكتاب من الشعائر الحسينية عبارة عن: البكاء على الإمام الحسين(ع)، ورثائه، وإقامة المجالس ولبس السواد في مأتمه، والجدير بالذكر أنه أرفق بهذا الكتاب فتاوى الميرزا النائيني وموافقيه في أنواع المراسم العزائية، ومن بينها التطبير وضرب الرؤوس.

الكتاب الثالث هو «الدعوة الحسينية إلى مواهب الله السنية»، لمحمد باقر البهاري الهمداني، وبنيته مثل سابقيه، مع اختلاف في أنّ الكاتب حاول نقل الأحاديث والمستندات الروائية من مصادر أهل السنّة، مؤكّداً على أنّ البكاء على سيّد الشهداء – حتى من وجهة نظرهم – جائزٌ ومشروع.

أما كتاب «البكاء على سيّد الشهداء» لمرتضى آل سليس، فهو من الكتب التي اختصّت بإثبات شرعية البكاء على شهداء كربلاء، أما رسالة «إرشاد العباد إلى استحباب لبس السواد على سيد الشهداء والأئمة الأمجاد» التي كتبها السيد جعفر الطباطبائي الحائري، فقد تابعت هذا الطريق كي تبرهن على أنّ لبس السواد – وهو المكروه في الأصل – يغدو مباحاً بل مستحباً في عزاء الأئمة(ع). كما أن كتاب «سنّت عزاداري ومنقبت خواني در تاريخ شيعة اماميه/العزاء وقراءة المناقب في تاريخ الشيعة الإمامية»، حاول بدوره قراءة البكاء على الحسين ورثائه قراءةً تاريخية منذ البداية، كي يؤكّد أنّ هذا العمل لم يكن جديداً مستحدثاً.

وفي هذه الكتب كان الحديث عن القضايا الإشكالية – مثل التطبير – مغيّباً، فيما تركّز حول إثبات موضوعات باتت مسلّمةً اليوم بين الشيعة.

ومن الكتب المعدودة التي تناولت بصراحة وتفصيل المناسك السائدة اليوم في العزاء مدافعةً عنها، يمكن ذكر كتاب «الشعائر الحسينية»، المكتوب بكربلاء، والذي تعود مقدّمته إلى عام 1384هــ أي قبل أربعين سنةً، يقوم المؤلّف السيد حسن الشيرازي – عبر عدّة فصول – بالدفاع عن الشعائر الحسينية، وهي: البكاء، التظاهر بالبكاء، إقامة المأتم، لبس السواد، شقّ الجيوب، اللطم على الصدور، ضرب الجسد بالسلاسل والجنازير، التشابيه والمسرحيات، والتطبير.. وهو يرى جواز هذه الأعمال برمّتها مثبتاً ذلك، ويعدّ هذا الكتاب – من حيث التبويب والتنظيم والأدلّة والدفاع عن هذه الأعمال وأمثالها – قليل النظير، وقلّما يمكن العثور على عمل وتصنيف يحظى بهذا المستوى والانسجام.

إنّ الذي يبدو لنا أنه وبدل البحث الكلّي في مسألة العزاء، والذي أخذ نطاقاً واسعاً اليوم وشمل أعمالاً كثيرة من إقامة المجالس العادية وحتى التطبير بل السير في النار ووضع الأقفال على الأبدان، كما وبدل طرح الأبحاث التي باتت موضوعاتها مسلّمةً.. من الأفضل الدخول إلى مفردات القضايا مورداً مورداً، واستخدام الطريقة الفقهية، مع تأسيس أصل فقهي كي يتقدّم الموضوع نحو الأمام، من هنا سنعمد إلى تناول موضوع واحد فقط من الموضوعات الساخنة الإشكالية، ألا وهو موضوع التطبير، لنرى أدلّة الموافقين والمخالفين له ونقوم بتشريحها وتحليلها.

 

نظرية جواز التطبير، الأدلّة والشواهد

فيما يرى بعض الفقهاء صراحةً في القرن الماضي وإلى اليوم إباحة التطبير بل استحبابه، يذهب فريقٌ آخر من الفقهاء المعاصرين صراحةً أيضاً إلى تحريمه، واللازم هنا معرفة كيف يستدلّ المجوّزون؟ وما هي الأدلّة التي تقع في نفعهم؟

بمطالعة النصوص التي كتبها أنصار التطبير والإشارات التي ألمحوا إليها، يمكن الخروج بمجموعة أدلّة تقع لصالحهم، وهي:

1ـ أصالة الإباحة. 2ـ فعل المعصوم. 3ـ تقرير المعصوم. 4ـ الروايات الخاصّة. 5ـ الروايات العامّة. 6ـ دليل لزوم تعظيم الشعائر.

ونسعى هنا لتناولها بالتفصيل على الشكل التالي:

1ـ أصالة الإباحة

يعدّ أصل الإباحة اليوم من مرتكزات عمل فقهاء الشيعة، التي يستندون إليها، وقد قامت عليه أدلّة العقل والنقل، ومضمون هذا الأصل – المبدأ: أنّ كل عمل يعدّ حلالاً جائزاً ما لم يتوفر لدينا دليل على خلاف ذلك فيه، وفي هذا الإطار خالف في ذلك الأخباريون فذهبوا إلى أصالة الحظر([98])، والمستند الشرعي لأصالة الإباحة هو الروايات المنقولة عن المعصومين(ع)، مثل ما قيل عن الإمام الصادق(ع): «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»([99])، و «كل شيء هو لك حلال حتى تعلّم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك»([100]).

وقد استند أنصار التطبير إلى مبدأ الإباحة فحكموا بالجواز، ومن باب المثال، فقد اعتمد على هذا المبدأ عبد الحسين العاملي في كتابه «سيماء الصلحاء»، وكان يقول: إنّ هذا العمل مباحٌ في الأصل، وقد يكون – نتيجة عوامل خارجية – مستحباً أو واجباً([101])، كما أنّ السيد الشيرازي استدلّ بهذا الأصل أيضاً، حيث كتب يقول: «التطبير على الإمام الحسين(ع) جائز ذاتاً، ومستحب عرضاً، ولا يناقش فيه الفقيه المتأمل والمتدبّر»([102]).

بدوره، يستدلّ الفحام بعدم وجود دليل على حرمة ضرب الذات على جواز التطبير([103])، أما السيد الشيرازي، فبعد نقله جملة من الحوادث والروايات التاريخية المتعدّدة المؤيدة للتطبير، يذكر تسعة أدلّة على جواز التطبير أوّلها مبدأ الإباحة، ومن وجهة نظره، لا يوجد دليل في النصوص الفقهية على حرمة جرح الإنسان نفسه، وعلى هذا الأساس تكون أصالة الإباحة محكّمة([104]).

 

2ـ فعل المعصوم

ينقل المجلسي في بحار الأنوار أنّ الإمام زين العابدين(ع) عندما كان يأخذ ظرف الماء ليشرب كان يبكي كثيراً حتى تمتلئ عيونه دماً، وهذا الفعل حيث صدر من المعصوم(ع) فسوف يكون مباحاً، فإذا كانت تدمية العينين وهما أهم وأظرف أعضاء البدن جائزةً فإنّ التطبير سوف يكون جائزاً بطريق أولى، طبقاً لقياس الأولوية([105])، كما أنّه وطبقاً لروايات بعض الأئمة فإنهم كانوا يدمون أعينهم، مثل الإمام المهدي في زيارة الناحية، حيث يقول: «ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً»، كما أنّ الإمام الرضا(ع) يقول: «إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا»([106]).

 

3ـ تقرير المعصوم

جاء في روايةٍ صحيحة أنّ زينب الكبرى ضربت جبهتها بخشبة المحمل عندما شاهدت في الكوفة رأس أخيها المقطوع على الرمح، ورأى ناظرون أنّ الدماء كانت تسيل من تحت مقنعتها([107]).

وقد بُيّن هذا الدليل عبر طريقتين:

الأولى: إنّ زينب تربّت في أحضان الوحي، وهي على اطّلاع على مختلف أحكام الشرع، ولم تعصِ الله تعالى أبداً، وقد كانت إلى جانب المعصومين(ع)، ونسبة الخلاف والمعصية إليها في حكم التجاسر على مقام المعصوم، من هنا فإذا قامت بعمل فيمكن استنباط الجواز من فعلها([108]).

الثانية: إنّ هذا العمل كان في محضر الإمام السجاد المعصوم(ع) وعلى مرأى ومسمع منه، ولم يمنع(ع) عنه ولم يردع، وبهذا يكون قد أقرّه وأيّده، وتقرير المعصوم حجةٌ أيضاً، وعليه فالتطبير جائز([109]).

يوضع أحياناً في بعض الحسينيات والأمكنة التي تروج فيها ظاهرة التطبير بيتٌ من الشعر على الجدران، وهو عبارة عن رواية مبسّطة لهذا الدليل، ويقول هذا الشعر (ما ترجمته بالعربية):

لقد أعطى العشّاق فتوى بجواز كسر الرأس

وخشبة المحمل شاهدة على هذا الابتكار الزينبي

 

4 – الروايات الخاصّة

حكم المعصومون(ع) في بعض الروايات وبصراحة بجواز إدماء الوجه وشقّ الجيوب في عزاء الإمام الحسين(ع)، ففي حديثٍ موثق عن الإمام الصادق(ع):

«… على مثل الحسين، فلتشقّ الجيوب ولتخمش الوجوه ولتلطم الخدود»، فإذا كان خمش الوجوه جائزاً فإنّ إدماء البدن جائز أيضاً([110]).

 

5 – الروايات العامة

لقد أراد منّا المعصومون إبقاء ذكر الحسين وحادثة عاشوراء حيّةً، وهناك روايات متعدّدة حول ضرورة الحفاظ على ذكر الحسين وقيَم أهل البيت؛ فقد نقل عن الإمام الصادق(ع) أنه بعد سؤال وجواب قال لأحد أنصاره عن مجلس العزاء الحسيني: «إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، يا فضيل! فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل! من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر»([111]).

ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا النوع من الأحاديث، يمكن عدّ أيّ عمل يذكّر بأهل البيت(ع) – ومن جملة ذلك التطبير – مباحاً ومستحبّاً، من هنا أصدر السيد محمد الحسيني الشيرازي فتوى تجوّز تمام صور الشعائر الحسينية وتراها راجحةً وموجبة للثواب إن شاء الله تعالى، إلا ما أوجب قتل النفس أو تلف العضو، وهما عملين محرّمين في الشريعة الإسلامية، أما الضرر القليل الذي لا يجرّ إلى القتل أو التلف فهو لا يوجب تغيير الحكم، كما أنّ الاستهزاء لا يوجب رفع أيدينا عن الأحكام الشرعية([112]).

 

6 – لزوم تعظيم الشعائر

إنّ التطبير من الشعائر الحسينية والدينية، وتعظيم الشعائر من جملة الأمور التي ورد التأكيد عليها كثيراً في الشرع الحنيف، ومن ذلك القرآن الكريم، حيث يقول: >وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ< (الحج: 32)، وقد لاحظنا وجود هذا الدليل في المصادر المختلفة وبصور وأشكال متعدّدة، ومن بين هؤلاء السيد حسن الشيرازي الذي كان يخوض معركةً مع من يعمل على حذف هذه الشعائر، حيث يستنكر على الطرف الآخر بأنّه إذا كنتم حقّاً تحاربون المحرّمات وتريدون حفظ الإسلام، فلماذا لا تقومون بوجه المحرّمات العلنية التي لا يختلف اثنان من المسلمين في حرمتها؟ فإذا كانت الشعائر الحسينية مانعةً عن تقدّم الإسلام، فلماذا لم تقوموا بوجهها منذ اليوم الأوّل؟ والحال أنّ الشيعة قبل ذلك وقبل أن يولد أجدادكم كانوا يمارسون مثل هذه الشعائر، فهل صحيح ما ترونه من أنّ هذه الشعائر الحسينية بدعة محدثة وأنتم تريدون قتلها في مهدها أمّ أنّها كانت موجودة عندما ولدتم وأتيتم إلى هذه الدنيا ثمّ أنكرتموها من عندكم، أم أنّ الاستعمار حرّككم اليوم فاشتريتم رضا المخلوق برضا الخالق؟([113]).

وأهم الأدلّة التي استعان بها أنصار التطبير للدفاع عن هذا العمل هو ما تقدّم من أدلّة، وبعد نقلهم لها يقولون بأن التطبير مباح ذاتاً، كما أنه مستحب بعنوان المتابعة للإمام الحسين(ع) ومواساته([114]).

 

وقفات نقدية مع أدلّة نظريّة جواز التطبير

هل يمكن القبول بالأدلّة المذكورة أعلاه؟ وهل يمكن اعتماداً عليها الحكم بشرعية التطبير وربما أحياناً وجوبه الكفائي؟ من الأفضل لنا أن ندرس كلّ واحد من هذه الأدلّة، حتى نتمكّن بعد ذلك من الجواب عن هذا السؤال.

 

1ـ وقفة مع دليل أصالة الإباحة

في مقابل الذين استندوا إلى أصالة الإباحة هنا، تحدّث آخرون – مثل السيد محسن الأمين – عن أصالة الحرمة، فبنوا على أنّ هذا الفعل حرام انطلاقاً من كونه موجباً للضرر والأذية، إلا أنّ جواب هذا الاستدلال مرّ من قبل، وهو أنّ صرف الضرر لا يمكنه أن يكون مبرّراً للحرمة، إنما الضرر الكبير الذي لا يقبل الجبران أو ما كان فيه هلاك النفس هو ما يوجب تحريم عملٍ ما، كما أنّ الاستدلال بموارد مثل أدلّة نفي العسر والحرج يوجب سقوط الأحكام الإلزامية، لا إثبات الحرمة.

وطبقاً لما استدلّ به عبد الحسين الحلّي – وهو استدلال صحيح – من أن مجرّد التطبير إذا ألحق الضرر بشخصٍ كان حراماً عليه وحده، لا محرّماً بصورة مطلقة، طبقاً لذلك لا يمكن الاتكاء على مسألة الضرر للإفتاء بالحرمة؛ من هنا سعى المدافعون عن التطبير لنقض دليل المحرّمين على مستوى الصغرى والكبرى، أي على مستوى واقع قضية الضرر، وعلى مستوى قاعدة حرمة الإضرار، إنهم يعتقدون أنّه لا يوجد في الشعائر الحسينية ما يضرّ بسلامة الإنسان؛ فالتطبير لا يؤدّي سوى إلى قليلٍ من النزف الدموي الذي لا يُلحق ضرراً ببدن الإنسان، وإنّما هو مثل الحجامة والفصد المفيدين للبدن، كما أنّ الضرب بالسلاسل لا يؤدّي إلى إلحاق الضرر بكتف الإنسان أو ظهره، بل يفضي إلى تقوية الجلد والبشرة([115]). وما هو الدليل الدالّ على حرمة مطلق إلحاق الضرر بالبدن إن من العقل أو النقل؟ وبهذا خاض المجوّزون بحثاً مفصلاً لتقوية هذه المقولة ودعمها([116]).

وبغض النظر عما تقدّم، تدلّل تجربة المدافعين عن التطبير أنّ التطبير ليس فيه ضرر، وهذه التجربة شاهدٌ قوي بل أقوى من أيّ نوع من الاستدلالات النظرية، وهذا ما يذكره السيد الشيرازي في هذا الخصوص، حيث يرى أنّ له من العمر إلى الآن ستون سنةً، وفي كلّ سنة نرى أمام ناظرينا هذه التجمّعات الدموية، ولم نرَ أحداً مات أو لحق به ضرر منها، كما لم نسمع من الماضين من حدّث عن ذلك([117]).

إنّ هذا الاستدلال قويّ إلى حدّ أنه لا يمكن بعده مواصلة البحث في هذا السياق، وحقيقة الأمر أنه إذا كانت القضية مجرّد الحديث عن إلحاق الضرر بالبدن وأمثال ذلك فلا يمكن ببساطة هزّ أركان أصالة الإباحة؛ لذا يبدو لنا أنّ معارضي التطبير لم يسلكوا سبيلاً صائباً في الاستدلال، فليس الكلام في ضرريّة التطبير للبدن أو عدمها حتى نستعين بأصل الإباحة، وإنما المطلوب أن نحوّل وجهة البحث بعد الفراغ عن قضية الضرر الواقعي أو الافتراضي، فلنفرض أنّ التطبير ليس فيه أيّ ضرر بدني، فما هو الحكم حينئذٍ؟

إنّ السؤال الذي لابد لنا من الإجابة عنه هو: ما هو الأصل في النسبة إلى الشارع عملياً؟ وبعبارة أخرى: هل يمكننا القيام بعملٍ ما مع ادّعاء طلب الشارع القيام به أم نقول: نحن مرخّصون بالقيام بأيّ فعل إلا إذا قام دليل خاص على المنع عنه؟ إنّ مبدأ الرخصة حاكم في تمام الأمور الفردية والاجتماعية، لكن السؤال: هل أنا مُجاز أن أنسب أيّ عمل للشارع أم لا؟ هنا لابد من تأسيس أصل وبناء تحتي.

لا يفترض بمعارضي التطبير القول: لماذا يجرح بعضهم رأسه ويُلحق – على أساس ذلك – الضرر بنفسه؟ بل المفروض – بدلاً عن ذلك – السؤال: لماذا يجرح بعض الناس رؤوسهم ثم يقولون: هذا العمل شرعيّ ومستحب ومن مصاديق تعظيم الشعائر؟ إنّ المعركة الأساسية بين أنصار التطبير ومعارضيه تكمن في شرعية هذا العمل بمعنى جعله واحداً من الأفعال العبادية أو أنه بدعة، فالمعارضون يصرّحون مراراً بأنه بدعة، والبدعة حرام([118])؛ من هنا، لابد من مركزة البحث حول هذا النقطة، وهو ما لم يجر الاهتمام به والحديث عنه، وحتى السيد محسن الأمين الذي حكم بكون التطبير بدعةً أدخل البحث من حيث لا يشعر في قضية الضرر، وهو ما أجاب منه ببساطة الحلّي والشيرازي وغيرهما.

الكلام يكمن في أننا إذا اعتبرنا التطبير اليوم أمراً مستحباً ومستحسناً هل نكون قد ابتدعنا؟ ولنفرض أنها بدعة حسنة لإعلاء كلمة التوحيد ونشر الشعائر الدينية فبين الماضين والمعاصرين هناك من يقبل ببعض البدع التي تقع لصالح الدين([119])، إنّ هذا الكلام بنفسه بحاجة إلى بحث مستقل، من هنا لا نطيل فيه ولا نكمل. وخلاصة الكلام: إذا استند معارضو التطبير إلى مسألة الضرر والأذية الجسدية فإنّ أصل الإباحة حاكم، أما إذا وصل الحديث إلى البدعة فإنّ هذا الأصل لا يمكنه فعل شيء، وعليه ، فالمفترض أن نركّز نظرنا على نقطة الخلاف في البحث كلّه.

 

2ـ هل يمكن الاستناد إلى فعل المعصوم هنا؟

إنّ ما ذكروه من فعل المعصوم لا يمكنه – منطقياً – أن يعطينا نتيجةً مجوّزة للتطبير، فلا يمكن من امتلاء عين الإمام دماً بعد البكاء – حتى مع التكلّف الشديد – أن نستفيد الرخصة في التطبير، ويكفي هنا الالتفات إلى دلالة هذه الأحاديث ومضمونها، فالذي يُفهم منها أنّ الإنسان الذي يفقد عزيزاً فيبكي حتى تُدمى عيناه لا إشكال في فعله، وبإلغاء الخصوصية يمكن القول: إنّ البكاء على الإمام الحسين(ع) لا إشكال فيه حتى لو أدمى العين، وبين هذه النتيجة وبين التطبير مسافةٌ بعيدة، وأما الاستشهاد بإدماء الجفون فليس من قياس الأولوية وإنما من مصاديق القياس مع الفارق بشكل واضح، فأن يبكي إنسانٌ بكاء شديداً حتى تدمى جفونه مختلف تماماً عن أن يأتي ودون بكاء فيدمي جفونه، نعم، إذا كان الإمام يأخذ في الحزن على سيد الشهداء خنجراً أو سكيناً ثم يجرح بها جفونه أمكن هنا استخدام قياس الأولوية حتى نصل إلى تجويز التطبير، أما هنا فهناك فرق بين النتائج غير المقصودة وتلك المقصودة بالمباشرة، وفي نهاية المطاف، فالذي يمكن الاستناد إليه من الأحاديث المذكورة هو أنه يجوز للإنسان أن يبكي حتى لو أدى بكاؤه إلى إدماء الرأس؛ لأنّ الأئمة كانوا يبكون حتى تدمى جفونهم، وهي أهم وأظرف من مقدّم الرأس. وبكلمة موجزة: إننا بمعونة الأحاديث التي من هذا النوع وفعل المعصوم لا يمكننا الحكم بجواز التطبير، والسبيل المنطقي لإثبات ذلك عن طريق فعل المعصوم هو أن يرشدنا المدّعون إلى أنّ أحد المعصومين طبّر أو شجّ رأسه قليلاً بضربه بجذع شجرة، أما الحصول على موارد من النوع الذي ذكرنا هنا فليس من السهولة توظيفه في الاستدلال، ولهذا تحصل هذه التكلّفات والاستحسانات.

 

3ـ شرعية التطبير ومسألة تقرير المعصوم

يقوم هذا الدليل على حديث يذكر أنصار التطبير أنه صحيح، إلا أن تأملاً بسيطاً يوضح لنا جعله وكذبه، فلم يرد هذا الحديث في أيّ من المصادر القديمة الروائية والتاريخية، فلا إشارة في مقتل أبي مخنف([120]) إلى هذه الحادثة إطلاقاً، كذلك في المقتل المعروف لابن طاووس «اللهوف في قتلى الطفوف»، لا حديث عن هذا الموضوع، بل جاء مكانه: «قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي يومئذٍ، ولم أر خفرة – والله – أنطق منها؛ كأنها تفرغ من لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت: الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار. أما بعد، يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر..»([121])؛ فالراوي هنا يتحدّث عن خطيب لا نظير له، وعن اقتدار زينب، وعن تلك الدعوة التي حبست أنفاس الكوفيين في صدورهم، وكأنّ الإمام عليّاً (ع) هو الذي يتكلّم معهم، ولا حديث في مقتل ابن طاووس عن امرأة تضرب رأسها بخشبة المحمل.

وفي الحقيقة، إنّ رواية ضرب الرأس بالمحمل إنما ظهرت في القرن الحادي عشر الهجري، وشيئاً فشيئاً أخذت تتحوّل إلى أساس لتشريع التطبير، أما العلامة المجلسي في بحار الأنوار، فعندما ينقل مقتل السيد ابن طاووس يذكر هذه الرواية ويدّعي أنها رؤيت في كتاب معتبر، دون أن يسمّي هذا الكتاب، وهذا نصّ كلامه: «رأيت في بعض الكتب المعتبرة: روى مرسلاً عن مسلم الجصّاص، قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة.. فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدّم المحمل، حتى رأيت الدم يخرج من تحت قناعها»([122])، وهنا يصّرح المجلسي بإرسال هذا الخبر، أما الشيخ عباس القمي الذي يقبل أنصار التطبير إيمانه وتعبّده والتزامه، فهو يتحدّث عن هذه القصّة بأنّه لا وجود لذكر المحامل والهوادج في غير خبر مسلم الجصّاص، وهو خبر وإن نقله العلامة المجلسي إلا أنّ مصدره كتاب منتخب الطريحي وكتاب نور العين، وهما كتابان لا يخفى حالُهما على أهل الاختصاص في الحديث، ونسبة كسر الرأس إلى زينب والأشعار المعروفة في هذا المجال بعيدان أيضاً عن هذه المخدّرة التي هي عقيلة الهاشميين والعالمة غير المعلّمة، وهي رضيعة ثدي النبوّة وصاحبة مقام الرضا والتسليم»([123]). بعد ذلك يشكّك القمي في أصل وجود محمل أو كجاوة لأسرة النبي، معتبراً أنّ الثابت في كتب المقاتل المعتبرة هو أنّهنّ كنّ يُحملن على الجمال التي ليس عليها وطاء([124]).

والمقصود من الأشعار المعروفة هو ما جاء في قصّة الجصّاص من أنّ السيدة زينب بعد ضربها جبينها في خشبة المحمل أطلقت شعراً مطلعه: «يا هلالاً لما استتمّ كمالاً»، والمراد من منتخب الطريحي كتاب «المنتخب في جمع المراثي والخطب» المعروف بالفخري، والذي دوّنه وجمعه فخر الدين الطريحي (ق11هـ) على شكل مجالس لأهل المنبر، وقد جاءت هذه القصّة في الصفحة 478؛ وقد شكّك الميرزا حسين النوري في هذا الكتاب، مصرّحاً بوهن بعض إخباراته([125]).

كما أنّ كتاب «نور العين في مشهد الحسين» من الكتب المتأخرة التي أشارت إلى هذه الحادثة([126])، وبعد هذه المرحلة شاع هذا الخبر في بعض الكتب مثل: العوالم لعبد الله البحراني([127])، وينابيع المودّة لذوي القربى لسليمان القندوزي الحنفي([128])، ووفيات الأئمة([129])، ومستدرك سفينة البحار لعلي النمازي الشاهرودي([130])، رغم أنّ كتب المقاتل المبنيّة على التحقيق والبحث، مثل: تفسير تاريخ سرخ، دراسة عقائدية لتاريخ النهضة الحسينية (تفسير التاريخ الأحمر)، لمحمد جواد صاحبي، لا إشارة فيها أساساً لهذه القصّة([131])، وبناءً عليه، فيتحمّل مسؤولية إثبات هذا الحديث من يستند إليه ويجعله أساساً لتقرير المعصوم. هذا فيما يتعلّق بأصل هذا الخبر المجعول([132]).

أما على تقدير صحّة هذه الحادثة ووقوعها، فإنها تعارض خبراً آخر في هذا المجال؛ فقد جاء في الكثير من المصادر التاريخية أنّ سيد الشهداء قال ليلة عاشوراء لأخواته ونسائه و..: «يا أختاه! يا أمّ كلثوم! وأنت يا زينب! وأنت يا فاطمة! وأنت يا رباب! انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليّ جيباً، ولا تخمشن عليّ وجهاً، ولا تقلن هجراً»([133])، فإنّ الإمام(ع) في هذه الكلمات أراد منهنّ أن لا يفعلن ذلك على شهادته، كما أنّ الرسول(ص) عندما بايعته النساء شرط عليهنّ الكفّ عن هذه الأعمال([134])؛ وعليه يخالف ما يذكره أنصار التطبير أوامرَ الإمام المتقدّمة، وهو مؤيّد بروايات متعدّدة أخرى تعارض خبر المحمل، وهنا إما أن يقال: إنّ هذا الخبر كاذب أو أنّ السيدة زينب لم تصغِ إلى كلام أخيها، وعملت على خلافه، أو يُقال – كما يقول السيد محسن الأمين ـ: إنه حتى لو حصل ذلك فقد يكون وقع من حيث لا تشعر ولا تريد، وعلى أية حال، لا يمكن العمل بهذا الخبر واعتباره حجةً.

الأمر الثالث هنا أنه حتى لو فرضنا صحّة خبر المحمل، وقمنا بحلّ التعارض المشار إليه، يلزم على أنصار التطبير – عملاً بمضمون الخبر – أن يلتزموا بضرب الرؤوس في خشب المحامل ضمن مراسم خاصة، أي عين ذلك العمل الذي قامت به السيدة زينب، لا التطبير؛ فإثبات التطبير بهذا الخبر غير صحيح، إلا إذا ألغينا الخصوصية عن الحدث الذي وقع مع زينب بحيث نقول: إنّ المهم هو إخراج الدم بأيّ طريقٍ كان، وهذا ما يفتح الباب أمام أعمال كثيرة أخرى، وهو ما يحتاج بنفسه إلى بحث مستقل.

وخلاصة القول: إنّ هذا الدليل مبنيٌّ على خبر كاذب، إضافةً إليه معارضٌ لأخبار صحيحة، ومن ثم فلا يدلّ على جواز التطبير.

 

4 – معالجة نقدية للروايات الخاصّة

إنّ الخبر الذي نقل في هذا الدليل عن الإمام الصادق(ع) يوحي وكأنّ الإمام يحث شيعته ويأمرهم بشقّ الجيوب في العزاء الحسيني وإدماء الوجوه، ثم وبالاستعانة بالقياس يدّعى بأنه إذا كان خمش الوجوه جائزاً فإن جرح الرأس – وبالتحديد التطبير – جائزٌ أيضاً، إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح، لأربعة أسباب:

الأول: إنهم وبدل أن ينقلوا الحديث كاملاً اختاروا قسماً منه يؤيّد وجهة نظرهم فنقلوه، مع أنّنا لو لاحظنا الحديث كلّه لن نفهم منه هذا الاستنتاج، فهذا الخبر رواه الشيخ الطوسي في كتاب: تهذيب الأحكام، في قسم الكفارات، وإذا طالعناه من أوّله إلى آخره فسوف نخرج باستنتاج معاكس تماماً لما يريده أنصار التطبير، جاء في الخبر: «ولا يشقّ الوالد على ولده، ولا زوج على امرأته، وتشق المرأة على زوجها، وإذا شقّ زوج على امرأته أو والد على ولده فكفارته حنث يمين، ولا صلاة لهما حتى يكفّرا ويتوبا من ذلك، وإذا خدشت وجهها أو جزّت شعرها أو نتفته، ففي جزّ الشعر عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، وفي الخدش إذا دميت، وفي النتف كفارة حنث يمين، ولا شيء في اللطم على الخدود سوى الاستغفار والتوبة، وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي(ع)، وعلى مثله تلطم الخدود وتشقّ الجيوب»([135]).

إنّ هذا الحديث ينسجم مع التربية الدينية، وهو من الشروط التي أخذها رسول الله على النساء في البيعة، فمن وجهة نظر الإسلام ثمّة الكثير من الأعمال التي كانت سائدةً في الجاهلية غير مشروع ولا صحيح، مثل جزّ الشعر أو نتفه عند موت الأعزاء، من هنا حرّمها، واليوم يرى الفقهاء أيضاً حرمة هذا النوع من الأعمال بل استلزامه للكفارة([136])؛ ومن مناخ هذه التربية الدينية سأل الراوي الإمامَ فأجابه وعدّد له كفارات هذه الأعمال، لكن حيث إنّ بعض الأعمال قد تصدر عند موت الأعزاء من حيث لا يشعر الفاعل ولا يريد فقد خفّف الإمام فأسقط الكفارة، فلو لطم الإنسان وجهه ولم يُدمه كَفَتْه التوبة، ولكي يبيّن أنّ هذا الحكم لا ينافي أوامر النبي(ص) حاول تقريب الأمر لذهن المخاطب فذكر له أنّ الفاطميات فعلن ذلك في عزاء الحسين(ع)؛ فإذا بقينا نحن وهذا الحديث لا يُفهم منه رجحان هذا العمل، فغايته عدم الحرمة ولا الكفارة، أما الاستحباب فيصعب استنباطه إلا مع تكلّف وتحميل الرأي الشخصي على الحديث.

الثاني: حتى لو طابق مضمون الحديث وجهة نظر أنصار التطبير فغايته أنّ خمش الوجه جائز، مع أن الحديث نفسه شرط ذلك بعدم خروج الدم، أما الاعتماد على هذا الحديث لجرح الرأس فليس بممكن إلا عن طريق القياس، ومن الواضح ما هي مكانة القياس في الفقه الشيعي، وعليه فلا يمكن من هذا الدليل الخاص البتّ بجواز التطبير.

الثالث: لقد أضاف أنصار التطبير جملةً على الحديث لا وجود لها في أصله، وهي العبارة التالية: «على مثل الحسين فلتشقّ الجيوب ولتخمش الوجوه ولتلطم الصدور»([137])، كما أنّ السيد وحيدي كتب هذه العبارة على الشكل التالي: «إنّ الفاطميات شققن الجيوب في شهادة الحسين بن علي(ع) وخمشن الوجوه، ولابدّ من فعل ذلك»([138])، إن جملة «ولتخمش الوجوه» التي هي نقطة الثقل في استدلال أنصار التطبير لا وجود لها في الرواية، فالإشكال الرئيس يكمن هنا، ففي تهذيب الأحكام جاء: «وعلى مثله تلطم الخدود وتشقّ الجيوب»([139])، دون أيّ إشارة إلى خمش الوجوه، وهو ما تقوم عليه استدلالات أنصار التطبير، وهذا الأمر لا يختصّ بكتاب تهذيب الأحكام الذي وردت فيه هذه الرواية، بل سائر الكتب الروائية والفقهية، مثل كشف الرموز([140])، والمهذب البارع([141])، إذ ليس فيها هذه الجملة، ومن البعيد جداً أن تكون لدى ناقلي هذه الرواية من أنصار التطبير نسخةٌ فريدة جاءت فيها هذه الجملة، فهل أضيفت هذه الجملة سهواً وعن غفلة وعشق للتطبير؟ أم أنّ الجعل والدس في الأحاديث والتلاعب بها مستحبٌّ إذا كان لترويج الشعائر الحسينية، والكذب في هذه الموارد لمصالح دينية يغدو مجازاً وحلالاً؟!

وعلى أية حال، فقد حصل ذلك مهما كان المبرّر، ولا أبحث هنا في خلط الأبحاث وإيجاد المغالطة، فقد تعرّضت لهذا الموضوع في دراسة أخرى([142])، وخلاصة القول: يفقد هذا الدليل قيمته لعدم وجود هذه الجملة في الرواية التي استند إليها السادة المناصرون للتطبير.

الرابع: لقد أسقط بعض الفقهاء المحقّقين هذا الحديث عن قابلية الاعتماد عليه، بل طعنوا في سنده، وكمثال على ذلك ما ذكره المحقق النجفي صاحب «جواهر الكلام» حيث رد دلالة هذا الحديث ومفهومه، وقال: «مع الطعن في سنده ولا جابر»([143] أي أنّ سند هذا الحديث فيه مشكلة، وأحد رواته مطعون فيه، ولا يوجد شيء يجبر هذا الضعف فيه، كما أن الشهيد الثاني عندما يتعرّض لهذه الرواية يشير إلى راويها خالد بن سدير، ملفتاً إلى حالة الرواية ووضعها الضعيف([144]).

وخلاصة القول: إنّ هذا الحديث لا دلالة له إطلاقاً على جواز التطبير، كما أنّ الجملة المستند إليها فيه غير موجودة أساساً، مضافاً إلى وجود مشكلة سندية فيه.

 

5 – الروايات العامّة، محاولة نقدية

لا إشارة في الروايات العامة الواردة في العزاء والتعاطف مع الإمام الحسين إلى مسألة التطبير، والروايات التي يذكرها المدافعون عن التطبير إنما تدلّ على إقامة مجالس العزاء والبكاء على سيّد الشهداء وحفظ قيم المعصومين حيّةً نابضة، وهذا كلّه لا نقاش فيه ولا بحث عنده، بل على العكس من ذلك تماماً يمكن – اعتماداً على هذه الروايات – تخطئة التطبير وأساليبه.

 

6 – مقولة تعظيم الشعائر، تفكيك وتحليل

لا كلام في لزوم تعظيم الشعائر، وإنما في هل عمل التطبير وأمثاله محسوب من الشعائر أم لا؟ وهنا لابدّ للمدّعين أن يثبتوا هم أنّ هذا العمل من الشعائر ثم يتحدّثوا عن لزوم تعظيمها، فقد رأينا أنّ بعض المراجع قد حرّم صراحةً هذا العمل، وبعضهم الآخر اعتبره بدعةً، فكيف يمكن لعمل بدعة وحرام أن يكون من الشعائر الحسينية أو الدينية؟!

إننا هنا نقف أمام عمل لا يوجد نصّ على استحبابه أو جوازه، كما لم يقم به أيّ من أئمة الشيعة أو أصحابهم، كما لا خبر عنه أصلاً بين المتشرّعة والعلماء السابقين، وعلى حدّ قول السيد محسن الأمين: لم يقدم أحد من العلماء على فعل هذا الشيء بل اعتبروه نوعاً من البربرية والوحشية([145])، بل اليوم أيضاً يرى الكثير من العلماء أنّ هذا العمل أساس للإساءة إلى الشيعة وتشويه صورتهم وسمعتهم في العالم، فالصور الموحشة التي ترتعش لها الأبدان من هذه الأعمال تبثّ اليوم في العالم وتعدّ مستنداً لنقد الشيعة وإدانتهم بل أصل التشيع، كيف يمكن لشخص يعرف ألفباء الفقه ويجيز لنفسه أن يعتبر هذا العمل من الشعائر الحسينية أو الإسلامية؟ بل يرى بعض الفقهاء أنّ الشعائر توقيفية([146])، بمعنى أنّ الشارع نفسه هو الذي لابدّ أن ينصّ على شعيريّة شعيرةٍ ما، من هنا فلا يمكننا فيما لا نصّ فيه عن نبيٍّ أو إمام أن نعتبره من الشعائر([147])، وهذا ما يراه العلامة السيد محمد حسين فضل الله؛ بل ينقل فضل الله عن جواب استفتاء للسيد الخوئي حول التطبير قوله: «لم يرد نصّ شعاريّته؛ فلا طريق إلى الحكم باستحبابه»([148]).

ويرى بعضٌ أن هذه الشعائر أمرٌ عرفي، وأنّ المسلمين يمكنهم أن يجعلوا أيّ أمر شعيرةً، ذلك أنّ الشعيرة ليست شيئاً سوى العلامة، ويمكن تعيينها من خلال عرف المتشرّعة([149])، لكن سواء اعتبرنا الشعائر توقيفيةً ومحصورةً ببعض المظاهر الدينية الخاصة أم ذهبنا إلى إطلاق يدنا في اعتبار أيّ عمل شعاراً دينياً.. فقط يمكننا أن نعتبر عملاً ما من الشعائر إذا كان حائزاً على اعتراف ومقبولية دينية، فتكون له امتدادات تاريخية وتشريعية في تراثنا، ومنسجماً مع الأصول والخطوط العامة للدين، ويحوز على اعتبار اجتماعي فلا يغدو سبباً لانزعاج بعض المتدينين، وما لم يحصل هذا الأمر من الاتفاق على ذلك فلا يمكننا ولوحدنا أن نحكم بأنّ هذا العمل أو ذاك شعيرةٌ دينية، أما المدعون هنا، فهم يصرّون على مبدأ تعظيم الشعائر قبل أن يُثبتوا أنّ التطبير شعيرة فعلاً أم لا، وعندما يُشكل عليهم بأنّ هذه الأعمال توجب سخرية الآخرين واستهزاءهم فهم يجيبون بأنّ الاستهزاء لا يوجب رفع اليد عن الأحكام الشرعية([150])!

نعم، إذا كان التطبير واقعاً حكماً شرعياً فلا ينبغي التخلّي عنه خوفاً من الآخرين، إلا أن مخالفي التطبير يقولون: لماذا تقومون بعمل لا يمكن الدفاع عن وجود أيّ أساس ديني له وعبر هذا الطريق نوقع أنفسنا في استهزاء الآخرين؟! وهذا السؤال ليس جوابه عدم التخلّي عن حكم الله لسخرية الآخرين([151])، فمن قال: إن التطبير حكمٌ شرعي؟([152]).

 

التطبير بمثابة الفعل الاجتماعي

لا يمكن لمن يدافع عن التطبير أن يبرّر أو يصحّح هذا العمل إلا عن طريق أقيسة غير صحيحة واستحسانات ضعيفة، مع هذا يواصل هؤلاء السير في طريقهم، وهنا يطرح تساؤلٌ جادّ نفسه: هل هذه الأعمال تقع بوصفها سنّةً دينية ينطلق المقدمون عليها من موقع العشق للإمام الحسين أم أنها تعبّر عن فعل اجتماعي يحمل في طيّاته أغراضاً متنوّعةً اجتماعية وسياسية وثقافية؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى دراسة مستقلّة، إلا أنّ المؤشرات الموجودة تدلّنا على أنّ الكثير ممّن يقومون بهذه الأعمال إنما يفعلونها من منطلق اجتماعي وينظرون إليها نظرةً عملانية ميدانية، ولكي نعطي مثالاً على ذلك نؤكّد أنّ أحد الباحثين كشف عن أن السيد شرف الدين المعاصر للسيد محسن الأمين، وهو من القائلين بعدم صحّة الكثير من هذه الألوان من العزاء، قد وقف موقف المدافع عن بعض هذه الجماعات في مقابل السفير الفرنسي كي يحصل على امتيازات خاصّة للشيعة في منطقته، فدعا السفير الفرنسي إلى بيته، ثم دخل اللاطمون صدورَهم في هذه الحال وشرعوا بألوان العزاء، وبإشارة واحدة منه يتوقّف جميعهم عن الحركة، وبذلك يُري السفير الفرنسي قوّته وسلطته ونفوذه([153]).

لقد كان هذا الدور الميداني الاجتماعي للعزاء إلى حدّ من القوّة والفاعلية أنّ مرجعاً لو أراد التغافل عنه لخسر مكانته ومركزه، وأحد هؤلاء كان السيد هبة الدين الشهرستاني، فبعد سنتين من المواجهة اضطرّ الشهرستاني لترك مدينة النجف والسكن في بغداد([154])، وقد اطّلعنا على نهاية السيد محسن الأمين وردّات فعل الآخرين عليه، وهذا هو الذي يبرّر سكوت الكثير من العلماء أمام الخرافات ورواجها. بل هناك في هذا المجال من فضّل التعاطف على السكوت أو المواجهة، فعلى سبيل المثال المرحوم آية الله السيد محمود الشاهرودي الذي أجاز حتى المشي في النار([155])، والقصّة التي يرويها الشهيد مرتضى مطهري في هذا المجال تدلّل بوضوح على أنّ بعض هذه الأعمال التي تقع – وكانت تقع – باسم الإمام الحسين(ع) وعزاء سيد الشهداء لا علاقة لها أساساً بالسنن الدينية، ولابد من التفتيش عن دوافع أخرى لها؛ فقد جاء خبرٌ إلى آية الله البروجردي أنّ هناك الكثير من الأعمال التي تقوم بها المجموعات العزائية مخالفٌ للشرع، فعمد قبل بداية شهر محرّم من إحدى السنوات حين كان في بداية مرجعيته يملك آنذاك قدرةً ونفوذاً كبيرين.. عمد إلى جمع الهيئات العزائية في مدينة قم في إيران، ودعاهم إلى منزله، فجاء الجميع، فسألهم البروجردي: «من تقلّدون؟ فأجاب الجميع: نحن نقلّدكم، قال: إذا كنتم تقلّدونني فإنّ فتواى هي أنّ هذه التشابيه (المسرحيات) التي تمارسونها بهذا الشكل الحاصل حرام، وهنا صارحوا السيد البروجردي مصارحةً تامة حين قالوا له: إننا نقلّدكم سيدنا في تمام السنّة وأيامها، إلا في هذه الأيام الثلاثة أو الأربعة.. قالوا ذلك وذهبوا، ولم يعتنوا بكلام مرجعهم في التقليد؛ وهذا ما يشير بشكل جيّد إلى أنّ الإمام الحسين(ع) لم يكن هدفاً لهم، ولا حتى الإسلام، إنها مسرحيات يمارسونها لأغراض أخرى، ولا أقلّ من أنهم يستمتعون بها»([156]).

ويمكن أخذ عينة أخرى لهذا الفعل الاجتماعي عبر قراءة الأحداث التي أعقبت تحريم التطبير ومنعه في إيران عام 1373ش/1994م؛ فقد أدّى هذا الأمر إلى إقدام جماعات لم تكن تميل إلى التطبير أساساً.. على ممارسة هذا العمل بوصف ذلك موقفاً تتخذه إزاء ما أقدمت عليه الدولة الإيرانية.

إن التأكيد على دور التعزية في نشر الهويّة الشيعية من جانب الموافقين والمخالفين علامة أخرى على هذا الموضوع؛ إذ يعتقد بعضهم أنّ مثل هذه الأعمال تساهم في نشر هويّة الشيعة، وأنّ الاستعمار ليس أمامه من سبيل لإلغاء التشيع وإفنائه سوى مواجهة هذه النماذج من ألوان التعزية، ومن هذه الزاوية، يُرى أنّ المخالفين للتطبير أو هذا النوع من الأعمال – شاؤوا أم أبوا – قد وقعوا أنفسهم فريسةً للاستعمار([157]). وفي محصلة الأمر يلزم – وفق هذا التصوّر – الدفاع عن مختلف ألوان العزاء، بل أكثر من ذلك، من الضروري اختلاق ألوان جديدة كلّ عام، أما المعارضون لهذه الأعمال فيرون أن الاستعمار نفسه هو الذي يسعى إلى ترويج هذه الأفعال بين الشيعة والمسلمين عموماً، ولا هدف له من ذلك سوى تشويه صورة الشيعة والإطاحة بإيمانهم([158]).

من هنا، وبدل أن يستفيد الشيعة من تعاليم الإسلام الأساسية نجدهم متأثرين بالعدو، ولا أقل أنّهم بدعمٍ منه اختاروا سبيلاً غير مناسب للتديّن ووحّدوا بين القالب والمحتوى، بين الصورة والمضمون، فغدوا أسرى لأعمال ظاهرية كاذبة وخدّاعة، إنّ هذا التأثير الميداني الاجتماعي الذي يظهر أحياناً بوصفه مظهر نشر الهوية الشيعية في بعض النقاط في العالم، يُبدي نفسه بوضوح في الإشكالات والمعارك المذهبية والتصادمات الطائفية في شبه القارة الهندية، ففيما يقوم الشيعة هناك بمراسم العزاء في شهر محرّم، يقدم أهل السنّة في الأيام عينها على عقد الاحتفالات، وهو ما يؤدي إلى نزاعات دموية، من هنا نجد أن شيعة الهند – حتى المثقّفين منهم – يعارضون مختلف أنواع الإصلاح في أعمال العزاء([159])، فبعض الاشتباكات والمصادمات التي تحصل سنوياً في عشرة المحرم سيما في عاشوراء في باكستان وعلى أثرها يذهب – أحياناً – العشرات من الشيعة الأبرياء ضحايا لقنابل ومفخخات مذهبية إنما تنبعث من هذه المسألة عينها، فإذا كانت الحال كذلك، وكان يمكن أن نختار ألواناً من العزاء ندرسها في زاويتها الاجتماعية ألا يمكننا بل ألا يجب علينا أن نضع الأعمال العزائية في إطار التوظيف الإيجابي والنفعي، ونتعاطى معها بالمنطق المصلحي والضرري فنزنها وفقاً للمنفعة والمضرّة؟!

من هنا، وبعيداً عن المسائل الفقهية وتاريخية بعض هذه الأعمال التي تقام بعنوان العزاء واسمه، لابد لنا أن نعرف إلى أيّ حدّ قامت هذه الأعمال التي لا أساس ديني نصّي لها – وعلى المدى البعيد – بخدمة الشيعة وحفظ هويتهم الاجتماعية؟ وبعدها نقوم بإصلاحها ونشمّر عن ساعد الجدّ لإعادة إنتاجها مرةً أخرى، والشيء الذي يساعدنا في هذا المضمار أنّ مدافعي التطبير ومختلف ألوان العزاء أنفسهم أيضاً يقبلون أنّ هذه الصور والأشكال العزائية ليست تعبّديةً، وأن كل ما يكون بنفع العزاء الحسيني وترويج الفكر الشيعي يمكن اعتباره سنّةً دينية، فالشعائر الحسينية لا تنحصر بأعمال خاصّة، وإنما يُرجَع إلى العرف في تعيين مصداقها أو وضع شعيرةٍ جديدة.

من مجلة نصوص معاصرة العدد التاسع

 

الهوامش

 



(*) باحث في الفكر الديني، ومتخصّص في مباحث الاستنساخ، وأحد نقّاد المدرسة التفكيكية في إيران.

([1]) محسن الأمين، لواعج الأشجان في مقتل الإمام الحسين: 3.

([2]) صابرينا ميرفان، حركة الإصلاح الشيعي، علماء جبل عامل وأدباؤه من نهاية الدولة العثمانية إلى بداية استقلال لبنان: 301، ويعدّ هذا الكتاب من أكثر الكتب جديةً في مجاله، وقد نشرت شهرية «كتاب دين» في عددها لشهر بهمن من عام 1384ش/2005م، قراءةً فيه وتقريراً للسيد مصطفى المطبعجي، كما أنّني أشكره أيضاً على كونه وفّر لي هذا الكتاب للاطلاع عليه.

([3]) محسن الأمين، المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة الطاهرة: 751.

([4]) محسن الأمين، إقناع اللائم على إقامة المآتم: 2.

([5]) المصدر نفسه.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) المصدر نفسه: 210.

([8]) المصدر نفسه: 174.

([9]) المصدر نفسه: 177 ـ 178.

([10]) حركة الإصلاح الشيعي: 302.

([11]) المصدر نفسه: 304.

([12]) المصدر نفسه: 305.

([13]) المصدر نفسه.

([14]) الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 26: 93 ـ 94.

([15]) وهذا تعريض بالسيد محسن الأمين الذي كان ساكناً في دمشق.

([16]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 12: 292.

([17]) حركة الإصلاح الشيعي: 306.

([18]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 18: 124.

([19]) المصدر نفسه 24: 178.

([20]) المصدر نفسه 24: 196.

([21]) حركة الإصلاح الشيعي: 308.

([22]) الجديد ذكره أنّ هذه الرسالة ترجمت إلى الفارسية من جانب جلال آل أحمد، تحت عنوان «عزاداري هاى نا مشروع/ألوان العزاء غير الشرعية»، ونشرت في ست عشرة صفحة عام 1322ش/1943م، وقد بيعت تمام نسخ هذه الترجمة والتي كانت أوّل الأعمال التأليفية (أعمال القلم) لآل أحمد، خلال يومين، وقد كان جلال آل أحمد في غاية السرور لذلك؛ إلا أنه عُلم بعد ذلك بأنّ التجار المتديّنين قد اشتروا هذه النسخ بأجمعها وأحرقوها (انظر: يك جاه ودو جاله ومثلاً شرح أحوالات، جلال آل أحمد، طهران، رواق، ص 48)، وقد أعيد نشر هذه الترجمة مرةً أخرى مع مقدّمة، بجهود «قاسم ياحسيني»، مضافاً إليها بعض محاضرات الدكتور علي شريعتي في حسينية الإرشاد حول السيد محسن الأمين، بمناسبة حضور ولده السيد حسن الأمين، وذلك في 52 صفحة، عام 1371ش/1992م، لكن في هذه الترجمة نقصان: أحدهما إنها ليست ترجمةً لكامل رسالة السيد محسن الأمين فبعض المقاطع غير مترجمة، وثانيهما حصول أخطاء في الترجمة في بعض المواضع فلم تنقل المفاهيم بشكل دقيق، وعلى سبيل المثال جاء في أحد المواضع أنّ أحد العلماء المسيحيين قال عند سماعه خطبةً من خطب نهج البلاغة، على لسان خطيب يذكر هذه الخطبة مع ألحان وغناء (انظر: عزاداري هاي نامشروع: 45)، والحال أن أصل الرسالة لا حديث فيه عن الغناء، ففي النص الأصلي يسجل محسن الأمين ملاحظات على أمّية بعض قراء العزاء وعدم قدرتهم على التلفظ الصحيح للكلمات، ولا رعاية إعرابها، وهو ما يسمّى باللحن في الكلام، وعندما يؤكّد الأمين على هذا الأمر يشير إلى أنه ربّى الخطباء في منطقته على أن يقرؤا حتى الخطب الطويلة والبليغة لأمير المؤمنين دون غلط أو لحن، وأنّ ذلك السامع المسيحي لم يتعجّب من مضمون الخطبة الطويلة، بل من صحّة قراءتها، لهذا جاء في النص الأصلي: «وإنما عجبت من عدم لحن هذا القارئ فيما قرأه على طوله» (انظر: رسالة التنـزيه: 31).

([23]) المصدر نفسه: 309.

([24]) محمد قاسم الحسيني النجفي، ثورة التنـزيه، رسالة التنـزيه تليها مواقف منها وآراء في السيد محسن الأمين: 22 ـ 23.

([25]) المصدر نفسه: 23.

([26]) المصدر نفسه: 36.

([27]) إنّ هذه الدقائق المفيدة في معرفة سبك التدوين، وكذلك نقد السيد محسن الأمين غير بادية ومدلولة في الترجمة الفارسية.

([28]) راجع: ثورة التنـزيه: 33.

([29]) المصدر نفسه: 33 ـ 34؛ إنّ هذه السلسلة الاستدلالية غير موجودة في ترجمة جلال آل أحمد للكتاب إلى اللغة الفارسية، بل قد ترجم هذا الموضوع هنا على الشكل التالي: «بعضهم ولكي يجعل ضرب الزناجير واللطم مستحباً يمثل ـ دون أدنى فكر وتعقل ـ بالفصد والحجامة، ويقول: حيث كانت الحجامة ـ وهي نوعٌ من تعذيب البدن ـ جائزةً بل مستحبة، فاللطم والأعمال الأخرى التي تلحق التعذيب بالبدن ستكون مستحبةً.. هل هناك طبيب يجوّز الزناجير واللطم المحرّمين في الدين ويعطي ذلك وصفةً للصلاح ورفع المرض؟!» آه من هؤلاء الجهلة والتعساء، لنفرض أنّ الأطباء رخّصوا في هذا العمل القبيح، إلا أن هؤلاء الأشاوس الغليظين الذين يضربون رؤوسهم ويضربون أجسادهم بالزناجير.. أي مرضٍ عندهم حتى يقدموا على هذا العمل للشفاء منه؟ وأيّ وضعٍ لديهم حتى يكون علاجهم ومداواتهم في ذلك؟ (ص 46 ـ 47)، في هذه الترجمة تلاشت حالة الاستدلال الموجودة في النص الأصلي، بل إنّ المترجم تحدّث عن الزناجير وضرب الصدور و.. وما شابه ذلك، وهو ما لا إشارة له في المصدر الأصلي إطلاقاً.

([30]) ثورة التنـزيه: 27.

([31]) المصدر نفسه.

([32]) راجع حول الأكاذيب الدينية ومسألة التسامح في أدلّة السنن التي استند إليها ناقدو السيد محسن الأمين: دروغ براى مصالح ديني در دروغ مصلحت آميز، بحث در مفهوم وكستره آن: 331 ـ 363.

([33]) ثورة التنـزيه: 41.

([34]) المصدر نفسه.

([35]) المصدر نفسه: 42 ـ 43.

([36]) المصدر نفسه: 43.

([37]) حركة الإصلاح الشيعي: 311؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ كلاً من السيد محسن الأمين ومهدي القزويني كانا من السادة الأشراف، فيما كان عبد الحسين صادق من غير السادة، من هنا ينتهي نسب الرجلين للإمام الحسين%، ليس هذا فقط، بل أراد محسن الأمين بكلامه هذا أن يستفيد من المثل كي يقول: إنّ من قتل هو جدنا، فلماذا تجعل نفسك قابلةً تدّعي أنها أكثر حناناً من الأم؟! فالثكلى هي المرأة المفجوعة، والمستأجرة هي تلك التي تُستأجر كي تنوح، ومهما فعلت ونجحت في أداء دورها فلا يمكنها أن تكون كالثكلى.

([38]) وقد صُحّح هذا الكتاب ونشر فيما بعد تحت عنوان: «الشعائر الحسينية في الميزان الفقهي» للشيخ عبد الحسين الحلي، نزار الحائري، دمشق، مكتبة الطف، 1995م.

([39]) الملفت أنّ هذا القسم وغيره مما نقله عن الأمين في كتاب «النقد النـزيه» لم نجده في رسالة التنـزيه الموجودة في «ثورة التنـزيه»، والذي يبدو أنّ الكتاب أخضع لتصحيح وتعديل ثقافي فحذفت منه العبارات النابية، وقد جرت مقارنة العديد من المواضع بين رسالة التنـزيه وبين ما نقله عنها الحلي في «النقد النـزيه»، ومع الأسف وجدنا هذا الاستنتاج أكثر صحّةً وجدية، كذلك الحال في الكلمات الأخيرة في الرسالة أي «ليست الثكلى كالمستأجرة»، وغيرها من العبارات الرئيسة التي أشار إليها الآخرون ومن بينهم الحلّي، وربما انتقدوها أحياناً، فهل جرت تعديلات وتصحيحات حقيقيّة على نصّ الرسالة بعد وفاة المؤلّف وأعيد إنتاجها من جديد؟ فإذا كان الأمر كذلك فالأسف هو المناسب هنا.

([40]) «فأدخلوا فيها أموراً أجمع المسلمون على تحريم أكثرها». أنظر: ثورة التنـزيه: 21.

([41]) الشعائر الحسينية: 16 ـ 17.

([42]) المصدر نفسه: 56.

([43]) المصدر نفسه: 74.

([44]) المصدر نفسه: 87.

([45]) المصدر نفسه: 89.

([46]) المصدر نفسه: 147.

([47]) المصدر نفسه: 149؛ وهذه الجملة موجودة في رسالة التنـزيه، إلا أن فقرة: «الثابت تحريمها في الشرع» غير موجودة، فانظر الرسالة: 22.

([48]) الشعائر الحسينية: 149 ـ 150.

([49]) ما لم يكن عندك قدر من الوعي والفطنة، فسوف يلحقك عار الخمر والزمر، كما قال الشاعر الرومي في المثنوي المعنوي، الكتاب السادس: 18.

([50]) الشعائر الحسينية: 150.

([51]) المصدر نفسه: 151 ـ 157.

([52]) المصدر نفسه: 159 ـ 162.

([53]) المصدر نفسه: 170.

([54]) المصدر نفسه: 179.

([55]) المصدر نفسه: 180.

([56]) جملة: «لأنّ صوتها عورة» جاءت في رسالة التنـزيه، ولم ترد في «ثورة التنـزيه».

([57]) الشعائر الحسينية: 189 ـ 190.

([58]) معجم المطبوعات النجفية منذ دخول الطباعة إلى النجف وحتى الآن: 88.

([59]) الذريعة 11: 254.

([60]) حركة الإصلاح الشيعي: 312.

([61]) الذريعة 14: 191.

([62]) المصدر نفسه 1: 512.

([63]) حركة الإصلاح الشيعي: 312.

([64]) المصدر نفسه.

([65]) معجم المطبوعات النجفية: 284.

([66]) حركة الإصلاح الشيعي: 312.

([67]) المصدر نفسه: 311.

([68]) الذريعة 8: 228.

([69]) حركة الإصلاح الشيعي: 313.

([70]) المصدر نفسه: 314.

([71]) المصدر نفسه.

([72]) وقد أصدر أنصار محسن الأمين مطلعاً آخر في الجواب، جاء فيه (ثورة التنـزيه: 53):

أبعد الله أناساً           قولهم كذب ومين

([73]) المصدر نفسه.

([74]) المصدر نفسه: 319؛ وجلّق في جنوب دمشق، والأمين كان من سكّان دمشق.

([75]) انظر في ذلك: سيد العلويين وسيد الأمويين، في ثورة التنـزيه: 57.

([76]) حركة الإصلاح الشيعي: 319.

([77]) الذريعة 18: 9.

([78]) حركة الإصلاح الشيعي: 320.

([79]) المصدر نفسه: 206.

([80]) المصدر نفسه.

([81]) عزاداري از ديدكاه مرجعيت شيعه: 96.

([82]) ثورة التنـزيه: 59؛ ودائرة المعارف تشيّع 2: 531.

([83]) حركة الإصلاح الشيعي: 307.

([84]) وقد جاءت هذه الفتوى في كتاب: الآيات البيّنات في قمع البدع والضلالات، لمحمد حسين آل كاشف الغطاء، النجف، علوية، 1345هـ؛ ومعجم المطبوعات النجفية: 102 ـ 103؛ والذريعة 1: 46.

([85]) حركة الإصلاح الشيعي: 307.

([86]) هذا الكرّاس من الحجم الجيبي، وفي 40 صفحة، وليست فيه مشخصات واضحة.

([87]) وهو في 128 صفحة، مرفقاً بصور خطّية للفتاوى.

([88]) وهذه المجموعة طبعتها إدارة الإرشاد الإسلامي، قم، في 52 صفحة، بلا تاريخ.

([89]) المصدر نفسه: 27.

([90]) المصدر نفسه: 37.

([91]) فتاوى العلماء الأعلام: 10 ـ 14.

([92]) بيانات حضرت إمام خميني..: 29.

([93]) فتاوى العلماء الأعلام: 15.

([94]) عزاداري از ديدكاه مرجعيت شيعه: 71 ـ 72.

([95]) الهوسات العربيّة: نوع من القفز الذي قد يحصل في العزاء وقد يحصل في الأفراح.

([96]) فتاوى العلماء الأعلام: 6 ـ 7.

([97]) الاستفتاءات: 330، نقلاً عن مجموعة أسئلة طلاب الجامعات: أسئلة وأجوبة مختارة خاصة بمحرم، لمجموعة من المؤلّفين، قم، نشر معارف، 1384ش/2005م.

([98]) الحيدري، أصول الاستنباط: 174.

([99]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 1: 317.

([100]) الكافي 5: 313.

([101]) ثورة التنـزيه: 33.

([102]) الشعائر الحسينية: 109.

([103]) السيد محمد رضا الحسيني العرجي الفحّام، أحسن الجزاء في إقامة العزاء على سيد الشهداء 1: 275.

([104]) الشعائر الحسينية: 126.

([105]) المصدر نفسه: 127؛ وراجع: الشعائر الحسينية في الميزان الفقهي: 116.

([106]) الشعائر الحسينية: 128؛ وراجع: الشعائر الحسينية في الميزان الفقهي: 134.

([107]) أحسن الجزاء: 275؛ والشعائر الحسينية: 128، وعندما سئل السيد محمد الشيرازي عن صحّة هذه الرواية كان يجيب: «ثابتٌ ذلك»، فانظر مجلّة المنبر، العدد 12: 11، صفر 1422هـ؛ وفتاوى كبار علماء الشيعة في جواز اللطم والضرب بالسلاسل والسيوف، نقلاً عن موقع البرهان: www.alborhan.com

([108]) أحسن الجزاء: 277.

([109]) الشعائر الحسينية: 126 ـ 127.

([110]) المصدر نفسه: 127، وراجع أيضاً كلمات كاشف الغطاء في كتاب فتاوى العلماء الأعلام: 16؛ وكلمات آية الله السيد محمد وحيدي، في كتاب عزاداري از ديدكاه مرجعيت شيعه: 93.

([111]) اين إدريس الحلّي، مستطرفات السرائر: 626.

([112]) فتاوى العلماء الأعلام: 20.

([113]) الشعائر الحسينية: 25 ـ 26.

([114]) المصدر نفسه: 129.

([115]) الشعائر الحسينية: 32.

([116]) المصدر نفسه: 32 ـ 33.

([117]) المصدر نفسه: 131.

([118]) ومن باب المثال، لاحِظْ السيد محسن الأمين والبحراني في قامعة أهل الباطل: 13؛ حيث يؤكّدان على البدعة.

([119]) انظر بهذا الصدد: أهداف دين از ديدكاه شاطبي (أهداف الدين عند الشاطبي): 146.

([120]) انظر حول اعتبار هذا الكتاب وأنّ أصله ليس في يدنا اليوم: جشم اندازي به تحريفات عاشورا، لؤلؤ ومرجان 6: 219.

([121]) اللهوف في قتلى الطفوف: 86.

([122]) بحار الأنوار 45: 114 ـ 115.

([123]) القمّي، منتهى الآمال: 753.

([124]) المصدر نفسه.

([125]) جشم اندازى به تحريفات عاشورا: 287 ـ 288.

([126]) راجع حول هذا الكتاب: عاشورا بزوهي با رويكردي به تحريف شناسي: 63.

([127]) العوالم: 373.

([128]) ينابيع المودّة لذوي القربى 2: 87.

([129]) وفيات الأئمة: 164.

([130]) مستدرك سفينة البحار 4: 6.

([131]) تفسير تاريخ سرخ: 321 ـ 322.

([132]) للمزيد أنظر: تحريف شناسي عاشورا وتاريخ الإمام الحسين: 209 ـ 213.

([133]) اللهوف في قتلى الطفوف: 50؛ ولواعج الأشجان: 103؛ وموسوعة كلمات الإمام الحسين: 406.

([134]) الكافي 5: 527؛ ووسائل الشيعة 2: 211، و 14: 154؛ ومستدرك وسائل الشيعة 2: 449؛ وبحار الأنوار 21: 113، 134، و 64: 187، و 79: 77؛ والطباطبائي، سنن النبي: 143.

([135]) الطوسي، تهذيب الأحكام 8: 324.

([136]) المفيد، المقنعة: 575؛ والطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 573؛ وابن البراج، المهذب 2: 424؛ وابن إدريس، السرائر 3: 78؛ والآبي، كشف الرموز: 263؛ والنجفي، جواهر الكلام 4: 368؛ والخميني، تحرير الوسيلة 1: 91.

([137]) الشعائر الحسينية: 127؛ وعبارة كاشف الغطاء في الآيات البيّنات بهذه الصورة أيضاً،
فانظر: فتاوى العلماء: 16.

([138]) عزاداري از ديدكاه مرجعيت شيعه: 93.

([139]) الطوسي، تهذيب الأحكام 8: 324.

([140]) الفاضل الآبي، كشف الرموز: 263.

([141]) ابن فهد الحلي، المهذب البارع 10: 29؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 2: 507؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 4: 152؛ والنجفي، جواهر الكلام 4: 368.

([142]) راجع للمؤلّف: رؤياى خلوص، باز خواني مكتب تفكيك.

([143]) النجفي، جواهر الكلام 4: 368.

([144]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 10: 29.

([145]) ثورة التنـزيه: 27.

([146]) راجع حول مفهوم الشعائر وحدودها: الفاضل النراقي، عوائد الأيام: 23.

([147]) السيد محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء: 22.

([148]) الخوئي، المسائل الشرعية 2: 337، نقلاً عن حديث عاشوراء: 220.

([149]) لمزيد الاطلاع على هذه الرؤية والدفاع عنها، انظر: الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: 50 وما بعد.

([150]) فتاوى العلماء الأعلام: 20.

([151]) ثمة مثل آية الله الخوئي من يجيز التطبير بالعنوان الأولي لكنه يحرّمه إذا أوجب وهن التشيّع في نظر العرف، فانظر: حديث عاشورا: 221.

([152]) راجع: الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 2: 129.

راجع: أجوبة الاستفتاءات 2: 129.

([153]) حركة الإصلاح الشيعي: 328.

([154]) المصدر نفسه: 280.

([155]) فتاوى العلماء الأعلام: 21.

([156]) مطهري، حماسه حسيني (الملحمة الحسينية) 1: 214.

([157]) عزاداري از ديدكاه مرجعيت شيعه: 81؛ وفتاوى العلماء: 3؛ والشعائر الحسينية: 22.

([158]) نعم، السيد محمد الشيرازي له وجهة نظر أخرى هنا، فقد سُئل عن تضعيف التطبير للإسلام، فكان جوابه: «بالعكس، يقوّي الإسلام»، انظر: فتاوى علماء الشيعة، وذلك على صفحة الانترنت: www.alborhan.com

([159]) ميرفان، حركة الإصلاح الشيعي: 315.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً