أحدث المقالات


 
   
قبل أيّ شيء، أؤكّد على أنني لست هنا بصدد محاكمة أو تقييم الفكر الأخباري، وإنما أمارس تحليلاً معرفيّاً ومناخياً له، وعندما نتحدث عن المدرسة الأخبارية الحيّة لنجيب عن سؤال: هل توجد اليوم مدرسة أخبارية؟ فقد نستخدم منهجين: الأول منهج الاستنساخ التاريخي، والثاني منهج التجريد التاريخي؛ ففي المنهج الأوّل نحن ندرس الحركة الأخبارية العريقة التي عرفها تاريخ التشيّع، وننظر في واقعنا المعاصر لنجد نسخة أخرى مطابقة لهذه الحركة، وقد نرى أنّ الأخبارية تراجعت لكنّها بالتأكيد لم تندثر، خلافاً لما يراه بعض الباحثين؛ أمّا في المنهج الثاني؛ فنحن نطالع تاريخ الأخبارية، لكن لا نجعل النموذج التاريخي نسخة أصل، لإسقاطها على النموذج المعاصر، وإنمّا نجرّد هذا التاريخ من العناصر الشكلية الزمكانية التاريخية، ونأخذ جوهر هذه الحركة ولبّها، ثم نفتش له في واقعنا عن نسخة بديل، وهذا هو المنهج الصحيح في مثل هذه القضايا.

وإذا أردنا تحليل الخيوط البنيوية للمدرسة الأخبارية، فلن نجد أفضل من البنيات المعرفية لها، لتكوّن النسيج الداخلي، هذا من جهة، ولن نجد أيضاً أفضل من الإطار المناخي الذي تولد فيه هذه الحركة وتنمو وتترعرع، وهذا ما سأتحدث عنه هنا بإيجاز، إن شاء الله.

1 ـ أمّا المناخ والبيئة اللذين تعيش فيهما الحركة الأخبارية، فيتمثلان في توليفة عناصر أختار منها هنا:

أ ـ القلق وأزمة الهوية، فهذا السياق هو الذي يدفع إلى ظهور هذه الحركة؛ وقد وجدناه في تاريخ الأخبارية السابق؛ إذ تصرخ نصوص عمالقة الأخباريين تنادي لتعزيز الهوية الذاتية للتشيّع، والحدّ من النفوذ غير الشيعي في الثقافة الشيعية، ولست بحاجة إلى برهنة كثيرة؛ فالمعيار المعرفي الأول هو سنّة أهل البيت، فيما ذهب الكثيرون منهم إلى عدم حجية ظهورات القرآن، بل ذهب مثل الأمين الاسترآبادي إلى عدم حجية السنّة النبوية المنقولة، وهكذا استُبعد العقل لأنه قاسم مشترك بشري، ونحّي علم الأصول وحوربت مقولة الاجتهاد لسبب واحد يصرّحون به وهو أنّ هذا العلم سنّي والاجتهاد مقول سنّي في حدّ نفسه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فأقصي علم الدراية كونه يمارس النقد في الحديث، وكذا علم الرجال عند بعض الأخباريين؛ لأن هذين العلمين ـ عندهم ـ ولدا في المناخ السنّي الذي يعاني من أزمة حديث صحيح؛ على خلاف المناخ الشيعي؛ فكل العناصر الاستقلالية كانت الأخبارية تدعمها بقوة لصالح الخصوصية الشيعية؛ وقد تعرّض العلامة الحلي لنقد مركز لتأثره بالمدارس السنية على حدّ رأي بعض الأخباريين، هذا هو المناخ القلق، أزمة هوية، وهو مناخ نشط اليوم في عالمنا الإسلامي؛ في علاقته بالغرب، إذاً فمن المتوقع حصول نشاط أخباري في المرحلة الحالية.

ب ـ أزمة العلاقة مع السلطة؛ فالأخباريون في نموذجهم التاريخي لم يكونوا على علاقة ودّ مع السلطة، وأركّز هنا على السلطة المنتمية للداخل المذهبي، إنّ العزلة عن مواكبة هموم السلطة سيفضي إلى تقييم خاص لتصرّفات الحاكم، وسيعزز ذلك عملية النقد على أيّ تبرير ديني لممارسات السلطة، وهذا ما يلغي بشكل ما العناصر الدينامية في العقل الفقهي والقانوني؛ لأنه سيعتبرها عناصر مخارجة للنص، إنّ عدم فهم المعارضة لحاجات السلطة وعدم فهم السلطة لهموم المعارضة قد يؤدي أحياناً إلى تعطيل حركية الفئة المعارضة، ويدفعها لليأس من النموذج القائم، وليس أمام العقل الديني سوى نموذج القرون المفضلة أو التاريخ كي تنادي به وتعيش معه، وهنا تنمو العقلية الأخبارية، من هنا نترقب في الفريق الذي لا ينفتح على قضايا السلطة، أن يحمل ردّ فعل سلبي اتجاهها ما سيعزز في هذا الفريق نواة العقل الأخباري.

ج ـ المناخ السياسي المتشنّج، فقد ظهرت الأخبارية في العصر الصفوي المعروف بحالته المتشنّجة مع الدولة العثمانية، فهذا التشنّج السياسي القائم على امتيازات دينية يسمح بشكل قوي باستثارة التراث الغاضب من الآخر، وفي هذه الحالة تكثر التشظيات الصغيرة لصالح التمترس داخل الذات في خطةٍ لمواجهة الآخر، وإذا لعب السياسيون لعبتهم في توظيف الدين لمصالح سياسية فسنرى بوضوح كيف ستظهر العقلية الأخبارية لتوظّف المقولات الدينية بأجمعها لصالح مقولة الصراع، وفي عصرنا الحاضر كلّما تنامى الصراع السياسي ذي الطابع المذهبي فعلينا توقع ظهور نزعات أخبارية جديدة وإن بأشكال مختلفة.

2 ـ أمّا البنيات المعرفية، فتقوم على جماع عناصر، أضيء هنا منها على:

أ ـ إعادة رسم خارطة مصادر المعرفة الدينية؛ فالقرآن لم يعد مصدراً مستقلاً في هذه المعرفة؛ بل لابد من قراءته عبر نص السنّة؛ ولهذا ازدهر التفسير الروائي في الحقبة الأخبارية ازدهاراً منقطع النظير، كما أنّ العقل غير قادر على النفوذ والتدخل في المسائل الدينية، وإذا فعل ذلك فلا يسمح له إلا بمقدار الضرورة الضاغطة، مثل ما فعل العلامة المجلسي حينما أعطى القيمة للعقل إلى أن يعرّفنا على الإمام المعصوم فإذا أثبته لنا، انتهى دوره ونحّيَ جانباً لصالح مرجعية النص، ورغم التركيز السلفي على مقولة الماضي والسلف الصالح إلا أنّ الأخبارية رفضت الإجماع نظرياً بوصفه نتيجاً سنيّاً؛ لكنّها في الممارسات الفكرية ظلّت تسعى للبقاء تحت مظلة السائد في الفكر القديم، وبهذه الطريقة تربعت السنّة على عرش الصدارة المعرفية في الفكر؛ على حساب النص القرآني والعقل.

ونستنتج من ذلك، أنّ العقل الأخباري يهدف إلى جعل الروايات والأحاديث أساساً لمعرفتنا؛ مع التركيز جيداً على العنصر النفسي السالف، والذي يحدّد الأحاديثَ هنا ـ معرفياً ـ بخصوص الأحاديث المذهبية، ومن ثم يستبعد قدر الإمكان الحديث النبوي الذي يأتينا من الآخر.

وحينما نقول الحديث، فإنّ طريقة التفكير الأخبارية تميل إلى القراءة الاستنساخية للتراث، لهذا تكون أقرب للحديث منها لنصوص تقعيدية كالنص القرآني.

ب ـ إعادة اليقين إلى سدّة العرش بدلاً من الظنون، فالأخباري رجل يقين، ولهذا ذكر الحر العاملي أن هناك في الدين عشرة آلاف مسألة عليها تواتر، فيما قال محمد باقر الصدر ـ على الخط الآخر ـ: إنّ خمسة بالمائة من الفتاوى التي بين أيدينا يقينية والباقي ظن، نعم ظنّ حجة ومعتبر.

ولست بصدد المحاكمة، فقد أتيتُ على ذكرها في موضع آخر، لكن هذه النقطة بالغة الأهمية حيث يصرّ الأخباريون على أنّ العلم الذي يطالبنا به الكتاب والسنّة لا يراد منه اليقين الفلسفي القاطع، وإنما العلم العادي الذي يبلغ الاحتمال فيه تخوم التسعة والتسعين في المائة مثلاً؛ من هنا نجد العقل الأخباري يقترب من المدارس الاستقرائية المعاصرة في الغرب، والتي تقوم عليها مجمل علوم العصر، سيما عندما يتخذ موقفاً من العقل الفلسفي التجريدي ولا يصرّ على التعريف الفلسفي العقلي لمفهوم اليقين، كما يقترب ـ من جهة أخرى ـ من النزعات الدوغمائية حينما يرفع معدّلات اليقين في الدين، مصحوبةً بنزوع نحو الخصوصية والتمترس داخل الهوية، بصرف النظر عن الموقف الإيجابي والسلبي من الدوغمة.

انطلاقاً من الصورة التي رسمناها، نجد ـ بوضوح ـ أنّ العقل الأخباري قد يحمله علماء أصوليون ومحدّثون وعلماء تفسير وكلام و.. وليس من الضروري أن نفهم المشهد تبايناً وقطيعة، كما حصل في بعض الظروف التاريخية، فأن تهيمن المدرسة الأصولية اليوم على العقل الشيعي لا يعني أنّ العقل الأخباري غدا متنحياً، بل يمكن أن يكون هناك نزعة أخبارية في جوانية المدرسة الأصولية العقلية السائدة، كما بتنا نرى اليوم في غير موقع وصعيد، فمن الخطأ الجمود على الثنائية القديمة للمشهد والتي تقسّم الفكر الشيعي إلى أخباري وأصولي.

وأخيراً، أسجل ملاحظة تحتاج إلى الكثير من الكلام، وتقوم على أن تحليل العناصر النفسية التي شرحناها أولاً في العقل الأخباري، سيؤدي إلى الاعتقاد بأنّ هذا التيار لا يمكن أن ينتهي ـ دوماً ـ بممارسة العنف في حقّه، سواء العنف المادي أم العنف الإعلامي أم غيرهما ـ بل قد يقوى؛ لأن حسّ القلق على الهوية سوف يزداد عنده، كما لن ينتهي بممارسة أيّ قطيعة معه أو عزل؛ لأنّه سوف يتكاثر بالعزلة والانزواء، فأحد السبل الرئيسة لهذا الفريق أن نعطيه حقّه واحترامه وندخله في السياق الميداني العام الذي قد يفضي به إلى تعديلات في الوعي والثقافة، مع التأكيد على حق الفرقاء الآخرين ـ معه ـ في العيش والاستمرار والديمومة والنضال الشريف، إذ الجميع إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، على حدّ تعبير إمام البيان علي بن أبي طالب.

إنّ استخدام طريقة السخرية بأفكار الأخبارية أو السلفيين ليس بالصحيح، ليس فقط من الناحية الأخلاقية، بل أيضاً من الناحية الميدانية، لأنّ هذه الطريقة تنفع في بعض الحالات التي يراد من خلالها إدارة حرب إبادة ضدّ الآخر، وهي حالات تمثل الاستثناء لا القاعدة، وإلا فالمفترض أن يسعى الجميع لإشراك الحركة الأخبارية في التفكير في مواقع الحياة ضمن عملية نقدية تجعلها تطلّ على نواقص التفكير من خلال الفشل العملي لعصارة الأفكار التي تحملها.

 

>يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ<]الحجرات: 13[.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً