أحدث المقالات







العقل النقلي والعقل النقدي

الدكتور خالص جلبي *

يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات (تمرير الافكار) بدون مناقشة و (تكرارها) بدون تمحيص و (تبريرها) بل والدفاع عنها حتى الموت. فبالأولى : يتحول العقل إلى (وعاء) يضم (كماً) فوضوياً من الأفكار بدون نسق معرفي (الابستمولوجيا)، وبالثانية: تتشكل الدوغمائية(1) لأن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك، وبالثالثة: تتشكل (العقلية أحادية الرؤية) المريرة، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص، فالوجود أبيض أو أسود، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير، معنا أو ضدنا. فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة، ويزداد التقليد، يشتد التعصب، ويتعمق اتجاه العنف، يتحنط العقل، ويتوقف النمو، يتعطل التطور، وتصبح الحياة مستحيلة، بسبب تشكل طريق ذي اتجاه واحد لامجال فيه للمراجعة، فلا غرابة أن يتحول المجتمع (كمونياً) إلى ما يشابه الحرب الأهلية المبطنة، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية بحالة عداء مع الآخرين، فالعقلية النقلية تسبح بين (الاطمئنان البارد) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة المطلقة، و (كراهية الآخر) المارق، ومع الكراهية تتبرمج (الحرب) سلفاً، لأن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد.

أما العقل (النقدي) فيقابل المعطيات السابقة، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على (تنقية وغربلة) الأفكار القادمة من العالم الخارجي، كما تقوم على (تأمل) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي، وطالما قامت بوظيفة (المراجعة الدؤوبة) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي، وأداة وعي حادة، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ، ولأنها تحولت إلى نظم (تردد – FREQUENCY  ) يشبه سريان التيار الكهربائي، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة، والحياة مثل (الطريق السريع) ذات اتجاه مزدوج، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب، لأن جوهر الحب مشاركة، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر، فالعقلية النقدية سلامية، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين.

هذا التكوين (الطفلي) للعقل له آثار اجتماعية مدمرة، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر، وفي الآية إشارة بديعة لهذا المعنى، لو أن البشر كان بيدهم الرحمة لأغلقوها، فضلاً عن أبواب جهنم السبعة المشرعة (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا)(2) اما إذا ملك البعض ليس (الكلام والفتوى) بل السلاح، فنموذج (كابول) والصومال جاهزة، فلا يتعب أحدهم ذهنه، في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد، وأنه قد يكون (مخطىء) لا أكثر، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم (يكفرون) ومن عادة أهل العلم أنهم (يخطئون)، ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يفترض (الخطأ) أو الطريق للحرب عندما تفترض (الهرطقة)، واسأل محاكم التفتيش تخبرك.

إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى مصيبة مرض (الآبائية) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة، فمالم ينكسر التقليد، لايبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة، فضلاً عن الإبداع، ومالم يتخلص العقل من ضغط البيئة، عند مواجهة الكوارث والمصائب، بتحرير منهج (الشك) فإنه لم يصل إلى شاطيء اليقين، لأن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج، والعقلية النقلية لا ترى ربطاً بين الأمرين، والعقلية النقدية  تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة، فلا صدفة في الكون ولا عبثية، وعندما تحدث الأغلاط، فإن خللاً في مستوى ما قد حدث، ولا نكون مثل الأم المهملة التي احترق طفلها فراحت تبحث عن أسباب خارج المحيط، ولم تراجع نفسها لحظة واحدة أنها المتسبب الأكبر في المصيبة، فإذا انهدمت بناية، أو مات مريض، أو توقف جهاز عن العمل، أو حلت هزيمة عسكرية أو تردي اقتصادي، أو نكبة حضارية، فيجب أن نفترض أن خطأ ما قد حصل، وليس لأن قوى لا نعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه، وهذا مبدأ قرآني (قل من عند أنفسكم) (3).

ينكفيء العقل ( النقدي) على الذات ليكتشف العالم الداخلي، لأنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي (الذات) فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون (جمع) للأشياء الخارجية، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها، وهذا ماهدف إليه القرآن في (التزكية) وأشار إليه الغزالي في كتابه (معارج القدس في مدارج معرفة النفس) من نقل النفس من (وضع – condition  ) إلى وضع، فزحزحة النفس من عالم (العفوية) وعدم المراجعة، أو بتعبير القرآن (الأمارة بالسوء) إلى عالم (الانضباط) والمراقبة، أو بتعبير القرآن (اللوامة) بالتشديد، وليس (اللائمة)، فالأولى تعني تشكل (آلية العمل الذاتي) أي التحول إلى وضعية الخلق والعادة، والثانية لحظة عابرة، فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ (اللوم) وليس لوم (العالم الخارجي) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع، فدخل عالم (الطمأنينة) القرآنية (رضي الله عنهم ورضوا عنه)، فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الانسانية، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس. يقول الفيلسوف الاسلامي محمد اقبال في كتابه تجديد التفكير الديني: "أأنت في مرحلة (الحياة) أم (الموت) أم (الموت) في الحياة.. أأنت مجرد ذرة من تراب.. اشدد عقدة كيانك واستمسك بكيانك الصغير.. ما أجل أن يصقل الانسان ذاته، وأن يختبر رونقها في سطوع الشمس.. فاستأنف تهذيب إطارك القديم، وأقم كياناً جديداً، والا فذاتك لا تزيد على أن تكون حلقة من دخان" (4).

ان الحاسة (النقدية) التاريخية التي تمتع بها (ابن خلدون) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الانساني، فالأخبار بعد اليوم لا تكتسب صحتها ممن رواها، بل باستنطاقها هي بالذات، ومن خلال (الواقع) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على (الواقعات)، فصخرة ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها، أياً كان كاتبه ومصدره، والسر سهل وبسيط، لأن حقيقة ان الشمس تدور حول الارض بقيت لقرون طويلة حقيقة، حتى تبين خلال ذلك، وإذا اراد الانسان ضرب المثل في شيء واضح استخدم حركة الشمس؟؟!! في حين ان وجود (الصخرة) و (واقعها الذاتي) يبقى مصدرا يضخ بالمعاني التي لا تنتهي، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها، والارض تحدث (بأخبارها) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها، والهياكل العظمية التي (تنبش) في صحراء عفار بالحبشة تقول أنها أصبح لها ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنين.

والنص لابد من الاحاطة بظروف ولادته، وكيف وضع نفسه في هذا العالم، واللغة هي ترميز للافكار، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل، أي أن اللفظة لا تشع بالمعنى، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى، فالمعنى هو مثل الشمس، والكلمة مثل القمر، والفرق كبير بين الأصل والفرع، بين السبب والناتج عنه، بين السراج والوهاج والقمر المنير، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي (اللفظ) كي ترتديه، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة، وهوما انتبه اليه ابن خلدون بحذق، هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ، مثل الحصان والعربة، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب، وعندما تضطرب الكلمات والالفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع اليه، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد، كلمة (نهر) نحن منحناها معناها باللغة العربية، ولكنها بالالمانية (فلس – FLUSS ) وهي بالانكليزية (ريفر – RIVER ) إذا كنا في (منحلة) ووضعنا (رمزاً) على طبيعة اصابات بعض في النهاية – مثل (فارغة) أو (مريضة) أو ناقصة، أو جاهزة للقطف. فإذا اختلطت علينا (الرموز) بسبب أو آخر، نزعنا الرموز كلها، ورجعنا إلى كل خلية نحل، أي الى (الواقع) كي نصحح رموزنا من جديد، أو أن نكتب رموزاً جديدة، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل اوهامنا التي تخطها أيدينا. كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع أضاعة للوقت، وسير في الطريق غير السليم، وترتيب مضلل ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية، فالخبر (التاريخي) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية، لا يعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع: "لأن الاخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الانساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العصور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق"(5)

وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر، فالأهرامات لم يبنها العمالقة، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة، وارادة البناء، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر، فضلاً عن الجبروت الفرعوني، وموسى(ع) لا يعقل أن يسوق جيشاً قوامة 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك، فجيش لايعلم طرفه ما يحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع، لعدم تطور نظام (الاتصالات) في ذلك الوقت، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامة (خمسة ملايين جندي) في عملية بارباروسيا، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات. والعباسة أخت الرشيد لا يعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيى بن جعفر، فتكون هذه الواقعة سببا في نكبة البرامكة، ففتشوا إذا بطن التاريخ لمعرفة السبب، او الاسباب الحقيقية خلف كارثة (البرامكة). وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطا خلف نمط، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير!! وهذه الجرأة جاءت من العلم (السنني) فالعلم قوة وتحرر، والجهل خوف واستكانة. يقول ابن خلدون: "واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح" ثم يخلص إلى هذه النتيجة: "وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق م الباطل في الاخبار بالامكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع الانساني الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الاحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه" (6)

إذا تبلور مامر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع الأخبار يجب أن يتم في اطارين: الأول هو ما أطلق عليه (الفهم البنيوي التركيبي) والثاني ربطه بالواقع (في الآفاق وأنفسهم) لأن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الاسلامي إلى وضع الكارثة اليوم، فأما الاول فكما هو الحال في ادراك الجغرافيا، فمدينة ما يجب أن تفهم ضمن حلقات تراكبية بين الدولة التي تنتسب إليها، مروراً بالقارة وانتهاء بالكرة الارضية، واقتلاع نص من مكانه، بدون سياقه العامل والحيثيات التي ولد فيها، والترابطات التاريخية، لايقرب من فهم النص.

بل قد يكون خطراً ومعطلاً، هو المصطلح الذي أطلق عليه المفكر الجزائري (مالك بن نبي) (الأفكار الميتة والقاتلة) فالميتة تلك التي ماتت في بيئتها ففقدت نبض الحياة فمل تعد تؤثر، أما القاتلة فهي تلك التي اقتلعت من ترابطاتها الذاتية، وإحداثيات الزمان والمكان، وتربتها الخاصة لتستخدم بغير شروطها في وسط مختلف(7) فيحدث لها رفض مرعب، مثل نقل الدم بزمرة مختلفة، أو زرع كلية لجسم يرفضها مع كل حاجته لها. والأخ الذي كان (يقتلع) نصف آية من سياقها يبرر بها (العنف) الذي يمارسه "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين" غاب عنه أولاً: أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء بل هناك تسلسل وترتيب بين نقطة بدء "كفوا أيديكم" مروراً بـ "كتب عليكم القتال" وانتهاء بـ (قاتلوا المشركين كافة)، وغاب عنه ثانياً ان هذه (الوظيفة العسكرية) هي أداة خطرة للغاية، لأنها مرتبطة بسفك الدماء، ولذا لجام السيف تحت الكتاب – على حد تعبير ان تيمية – يدور معه حيث دار، فهي (وظيفة – FUNCTION ) وبيد (الحاكم المسلم) فقط، فهي ليست لـ (وظيفة فرد) كما أنها ليست (مهمة جماعة) فالحاكم المسلم هو الذي يقيم الشريعة، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح، وضمن السياسة الشرعية، التي هي لدفع (الظلم) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة، بل بالأحرى لدفع الظلم، سواء صدرت من كافر أو (مسلم)!! كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ، وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحه قوة (الجهاد) بل اعتبر خروجاً باتفاق علماء الاسلام حتى اليوم، فالذي يريد احياء مذهبهم مرة أخرى، إنما يفجر الكوارث في كل مكان، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد، الذي خصه الاسلام بأرفع المزايا والمدح، وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولا تملقاً لآخر، ولا علاقة له بالصراع المسلح في البوسنة، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الاسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف، فالجهاد كان وما زال وظيفة تستخدم لحماية الانسان من (الفتنة) باكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة، أو بإخراجه من بيته (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)(8) فلا يقتل الانسان من أجل آراءه، لا يجبر على اعتناق مبدأ بالقوة، بما فيه الاسلام، إن المجتمع الاسلامي هو مجتمع اللا إكراه (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(9) فالاسلام وفر نفس الصرب، الذين يقتلون المسلمين اليوم في البوسنة ويخرجونهم من ديارهم، بأيدي الدول العظمى قبل أن تكون بيد حزاري البلقان، ولكل امرىء منهم ما اكتسب من الأثم، عطاء غير مجذوذ.

إنني أدرك الآن أهمية عملي كـ (جراح فكري) بعد أن تسلحت معرفياً بالثقافة التقليدية من كلية الشريعة التي تخرجت منها جنباً إلى جنب مع إجازة الطب، المربوطة بفكر المعاصرة، بضفيرة واحدة، إن جراحة الأفكار تفوق بكثير شق البطون وتسليك الأوعية واستئصال المرارة وترقيع الجلد، مع كل احترامي وتمنياتي بالتوفيق لمعشر الجراحين؟!!.

كي تفعل النصوص فعلها من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها، الأول: عمل الجهاز الكهربي، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض في اماكنها على وجه الدقة، فإذا وصلت فعلت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة، كذلك يقوم العقل (النقدي) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع، أي أخذ النتائج، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردت أخذ النموذج التقريبي، فنتائج عملنا (جراحي الاوعية) فوري، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية، ونتائج جراحة البطن ( تظهر) في مدى أيام، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض عن الطعام لأيام، ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع حتى يمد رجله ويحمل ثقله، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة، طالما كان العصب ينمو كل يوم ميليمتر واحد، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات، كما هو الشاب الذي أهداه، والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً، لا حي فيرجى ولا ميت فينعى، كذلك الحال في التغيرات والنتائج بين تربية انسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع، فالزمن يمتد في الشجرة عقداً من السنين، ومع البشر عقوداً أما التغيرات الاجتماعية، فليس عندنا من ( مطل) ننظر إليه من علو ونفهمه من خلال (بانوراما ابن خلدون) أي الحقل التاريخي (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)(10). الثاني: هي الصورة المقطعة التي يركبها الأطفال ( PUZZEL ) فلا يمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل، بحيث لو ضاعت قطعة واحد أثرت في المنظر، فحتى تتشكل الصورة الشمولية ( PANORAMA ) التي تعطي للصورة منظرها البديع، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة، لاكما فعل أحدهم عندما خرجنا من إحدى العمليات فلم يشأ أن يتركنا نتنفس الصعداء، فقام بحادث (فكري) قاد إلى نزف عقلي في قاعة العمليات، مما أجبرنا على التدخل السريع لإيقاف النزف العقلي، حينما اعتبر أن الرجل أفضل من المرأة (وليس الذكر كالأنثى) وفاته أن هذه الفقرة (مقتطعة) من خمس فقرات (إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى،وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) وهي لا تفيد أكثر من (الغيرية) وليس الأفضلية مثل قولك أ ن الطبيب غير الممرضة. وفاته جو (المؤودة) و (ظل وجهه مسوداً وهو كظيم) وان الاسلام كان ثورة تاريخية في إلغاء الفروق الطبقية والعرقية واللغوية والجنسية، كي يعترف فقط بجوهر الإنسان الأصلي (كلكم لآدم وآدم من تراب). الثالث: وكما ان الجهاز لا يشتغل بدون وصل قطعه بدقة، والصورة لا تفهم إلا بتضام أجزاءها، كذلك لا يفهم الفيلم السينمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه؟! فالفيلم لا يفهم المغزى الخفي منه، والذي لا يعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال (حركة)، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء، كل قطعة تؤثر بالتي بعدها كما تأثرت فيمن قبلها، وكل أحداث التاريخ يجب أن تفهم ضمن هذا الضوء الرائع، نرجع إلى ابن خلدون مرة أخرى: "ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي خلت في عباده"(11)

وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجاً عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا، في معنى العقل (النقدي) الذي يرشح ويغربل الأفكار، والعقل (النقلي) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه، فهي لا تدخل إليه مباشرة بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام، وحروفها الأصلية، ثم يقوم البدن بعد الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز، واللحم إلى (الحروف الأولى) في صورة الأحماض الأمينية، بعدها يركب الجسم ما يحتاجه وحسب الطلب، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة، أو إطلاق الطاقة من السكر. إنه يفعل ما يفعله (العقل النقدي) مع اللغة، فكلمة (فكر) تتكون من ثلاث حروف، ولكن حسب نظرية الاحتمالات، يمكن أن تتشكل منها ست كلمات (فكر – كفر – فرك – كرف – ركف – رفك) بمعاني عجيبة، فالأول (فكر) عمل ذهني راقي صاعد بالكينونة الانسانية، والثاني (كفر) ضلال وشقاء، والثالث (فرك) عمل يدوي، والرابع (كرف) "شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا؟!" والخامس والسادس (ركف + رفك) مبدئياً بدون معنى!! والعقل النقدي يتجه إلى كلمة (كفر) فيحيلها إلى (فكر وإيمان) كما يحول البدون الحمض الأميني إلى هرمون يضخ الفعالية والحبور في البدن، كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ سمي بالحاجز الدماغي الدموي (BBB-  BRAIN – BLOOD – BARRIER ) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية، قد تخصصت في (النقد الذاتي) فالدماغ يتعامل مع ما يأتيه من مواد، بشكل نقدي انتخابي اختياري كأحكم الحكماء وأعتى الدهاة، فهولا يمرر كل مادة تدخل البدن، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد، ويتمهل في اتخاذ قراراته، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثواني، تحتاج إلى ستين ساعة، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور (12) في حين أن الدماغ شره للغاية للحلوى (السكر) ولكنه يأكل نوع واحد من (البقلاوة) أي الغلوكوز فقط فيغربلة من بقية السكريات، كما يستهلك من الأوكسجين ربع كمية الجسم الكاملة، فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية؟

مجالات البحث لم نلمسها بعد، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب، او استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية، وهي كيف يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع (العقل النقلي) إلى وضع (العقل النقدي)؟؟، وفي ضوء هذا فإن (جراحة الفكر) لا تقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها، إن الخلل الذي يصلح هنا فتقاً معيباً بل استعصاء فكرياً، ليس انسداد شريانياً، بل انغلاقاً عقلياً، ليس شللاً عصبياً، بل كساحاً ذهنياً، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية، فتحطم الأغلال العقلية، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) فمنذ اليوم الأول لدخولي كلية الطب، أدركت أنني يجب أن أغوص في الثقافة الإسلامية التقليدية، وأتشربها حتى مخ العظام، كونها تشكل (اللاوعي والذاكرة الجماعية) للمجتمع الاسلامي، وكل آلية إصلاح لا تضع في عينها هذا الاعتبار، لن تصل إلى أي أثر اجتماعي ملموس، كما هو الحال لمفكرين هامين في الوقت الراهن من مدرسة (الحداثة) فهم على جلال قدر أفكارهم، كمن يريد إجراء عملية جراحية بدون تخدير وبالمنشار؟! فالضمير المسلم لا يخفق ويستجيب مالم يخاطب باللغة التي يفهمها(13) وهي آليات نفسية بحتة، ولابد فيها من اختراق الحاجز النفسي، ودفع أشباح الريبة والشك والخوف والحذر، فيجب أن نخاطب الإنسان العربي المسلم بالعمق التاريخي الذي شكل كيانه الواعي واللاواعي.

 نقلاً عن موقع مجلة الكلمة

الهوامش:

(1) الدوغيا ( DOGMA ) كلمة لاتينية وتعني العقيدة المتصلبة، المترافقة بجمود العقل فلا تتراجع عن موقفها حتى لو تبين لها خطأ الفكرة، وهي أقرب ما تكون للفظة القرآنية (إنا وجدنا آباءنا على أمة) أي تصبح رديف مرض الآبائية الذي استنكره القرآن.

(2) سورة الاسراء – الآية 100 .

(3) سورة آل عمران – رقم 165 (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها، قل أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير )

(4) ترجمة عباس محمود – ص 227 – دار آسيا .

(5) المقدمة ص9 .

(6) المقدمة ص 27 .

(7) يراجع كتاب مشكلة الأفكار لمالك بن نبي – بحث الأفكار الميتة والقاتلة .

(8) الممتحنة الآية 8 .

(9) البقرة 256 .

(10) الروم الآية 9 .

(11) المقدمة ص 27 .

(12) جاء في كتاب العقل البشري – تأليف جون فايفر – ترجمة م. عيسى ص229 – 230: فقد لاحظ (بول اهرلنج) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم، حقيقة فريدة من نوعها، لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل على جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون (الحاجز بين الدم والمخ) وهو مصمم بحيث يزود ما يعادل (811) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة. وهذا الحاجز الفاصل بي الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلاتين من الخلايا المرضعة – النجمية وهي غير النورونات المفكرة.

(13) يذكر مالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الاسلامي عن تأثير حسن البنا في مستمعيه الفقرة التالية: "وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيراً عميقاً في سامعيه فما ذلك إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن تفسيراً بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة أو قانوناً محرراً، بل كان يتفجر كلاماً حياً، وضوءاً آخذاً يتنزل من السماء فيضيء ويهدي، ومنبعاً للطاقة يكهرب إرادة الجموع" وجهة العالم الاسلامي – مالك بن نبي – ترجمة عبدالصبور شاهين – دار الفكر – ص 181 .

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً