أحدث المقالات

قراءةٌ في المكوِّنات والأسس

 

د. محمد فنائي إشكوري(*)

ترجمة: محمد عبد الرزّاق

 

 تمهيد ــــــ

لا بدّ في بيان أهمية الاستقراء والتجربة ـ ولا سيما على صعيد نظرية المعرفة في السابق ـ من إلقاء نظرة على القضايا البديهية في المنطق الأرسطي، حيث يرى أن البديهيات تقع في ستة أقسام، هي: البديهيات الأولية، المحسوسات، التجريبيات، الحدسيات، المتواترات، الفطريات. وليست هذه القضايا على مستوى واحد من البداهة، بل هي على نوعين: أولية؛ وثانوية. البديهيات الأولية هي التي لا يحتاج التصديق بها إلى شيء آخر، بل يكفي تصور الموضوع والمحمول للتصديق بها. أما في البديهيات الثانوية فإن العقل يحتاج في التصديق وإطلاق الحكم ـ سلباً أو إيجاباً ـ علاوة على تصور الموضوع والمحمول إلى أمور أخرى، تنشأ على أثرها أقسام البديهيات الثانوية. وتشترك جميع الأقسام الستة في استغناء العقل في عملية التصديق بها عن الحد الأوسط وتنظيم القياس، وإن كان في بعض الأحيان يتمّ اللجوء إلى عمليات الحسّ والتجربة.

وحتى في حالة الحاجة إلى القياس فإن ذلك يتم بصورة القياس الخفي، زِدْ على ذلك أنه قد يكون تصور هذه القضايا نظرياً واكتسابياً أحياناً.

يمكن ادعاء البداهة بحق هذه القضايا في قسم الأوليات والوجدانيات، كما أن الفطريات هي أقلّ حاجة إلى الوسائط في استنتاجها، أما الأقسام المتبقّية الأخرى فليست غير بديهية فحسب، وإنما يصعب الحكم بيقينيّتها أيضاً. هنا سنلقي نظرة عابرة على المحسوسات، وسيتضح حكم المتواترات والحدسيات من مفهوم التجريبيات أيضاً.

 

المحسوسات ــــــ

بدايةً علينا التفكيك بين المحسوس بالذات والمحسوس بالعرض. فالمحسوس بالذات هو انطباع صورة المدرك في الذهن بعد اتصال الحاسة بالخارج، وهو معلوم بالعلم الحضوري. فالقضية هنا تكشف عن أمر بديهي ومضمون الحقانية، حتى إنْ لم يكن لتلك الصورة مطابقٌ في العالم الخارجي؛ لأن الكلام هنا ليس عن حقانية كشف تلك الصور، وإنما عن حقانية وجود الصور في الذهن.

أما بالنسبة إلى ما يبحث تحت مسمى قيمة المحسوسات ودورها فإن ذلك عائد إلى جانب الكشف والإظهار لدى الحسّ عندما يتطابق المحسوس بالذات مع المحسوس بالعرض، وتتم نسبة المعلومة المحسوسة إلى الخارج.

لقد كان مبحث التشكيك في مصداقية المدركات الحسية، وحتى إنكار تطابقها مع الواقع، حاضراً على طاولة الأبحاث الفلسفية في سالف الأزمان، ويمتد حضوره حتى إلى ما قبل سقراط لدى بعض المذاهب الفلسفية. وشهدت القرون المتأخرة أيضاً الإصرار على رفض الاعتراف بالمدركات الحسية. وكان أهم أدلة الفلاسفة القدماء والمتأخِّرين في ذلك هو خطأ الحواس، الذي توصلوا إليه بدليل اختلاف الإدراكات الحسية تجاه الموضوع الواحد. وقد حظي هذا الرأي بتأييد العلم الحديث أيضاً، الذي أثبت بدوره وجود الاختلاف بين الشكل الظاهري للأشياء وحقيقة ما توصلت إليه الوسائل العلمية المتطورة.

قد يقال بأن خطأ الحواس يكتشف بالحواس نفسها. ولكنّ هذا ليس دقيقاً؛ لأن الحسّ غير قادر على اكتشاف الخطأ. فالإحساس بالشيء ـ سواء بمعية الوسائط أم بدونها ـ ليس إلا مجرد تحصيل لشكله وظاهره، أما ترجيح إحساس على آخر فهو حكم عقلي يتحقق عبر المقارنة بين نقاط الاختلاف بين إدراكين وتفحص التفاصيل، بعدها يحكم العقل بصحة معلومة حسية وخطأ أخرى. فالإدراك الحسي بما هو إدراك حسي ليس من شأنه البتّ في صحته أو خطئه. وما يتحصل منه هو مجرد صورة، سواء كان ذلك الإدراك صائباً أم مخطئاً؛ فإن الذهن في كلٍّ من هاتين الحالتين سيكون أمام صورة، وليس للصورة أن تحكم على نفسها بشيء، وإنما شرح وتفسير الصورة هو الذي يعلن مدى مطابقتها للواقع من عدمه. وهذا التفسير خارج عن دائرة الإدراك الحسي قطعاً. ففي الواقع ليس هناك خطأ أو صواب يصدقان على مجرد الإدراك الحسي بمفرده؛ لأن المعلومة الحسية لا تتبنى موقفاً لنفسها كي تتَّصف بالصدق أو الكذب، كما أنها لا تصدر حكماً كي يكون مطابقاً أو مخالفاً للواقع؛ اذ إن الخطأ والصواب من التفسير، وهو ما يقوم به العقل خاصة.

هذا الكلام لا يغيِّر شيئاً في مبدأ نفي البدهية واحتمال الخطأ عند الحس، فعلى أي حال يبقى الإدراك الحسي غير موثوق به وعرضه للخطأ أيضاً، ولا يهمّ مصدر الخطأ أيّاً كان شكله، بل حتى لو لم يشاهد الخطأ في الحس يبقى مشكوكاً في أمره، وبدهيّتُه مرفوضةٌ، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الدليل على البداهة والاعتراف بالإدراك الحسي؟ فقد يقال: وجداننا هو دليلنا في ذلك، فنحن بنفسنا نتبيَّن حقيقة المعطيات الحسية وصحتها؛ لأننا على اتصال مباشر مع الواقع. إلاّ أنّ هذا التفكير لا يخطر إلا للأذهان البدائية؛ فمن المسلَّمات أنّ محسوسنا بالذات ليس هو الحقيقة الخارجية إطلاقاً، أما بالنسبة لاتصالنا بالواقع فهو يتمّ عن طريق الصور الذهنية فقط، وعليه فنحن لا نخطىء الوجدان، لكنّ الخطأ الحاصل هنا إنما هو في التطبيق، ونسبة المعلومة الحسية إلى الخارج مباشرةً. اذاً ما هو المسوِّغ في نسبة هذه المعلومة الذهنية إلى الخارج؟ فحتّى الردّ على هذا السؤال يبقى الاعتراف بالحسّ والمحسوسات قضية معلَّقة. وقد ذهب البعض إلى أن المنفعة العملية وانتظام المعلومات الحسّية دليل على مصداقيتها ورجحانها، لكننا نقول: إن هذه المنفعة والانتظام قد يكون نتيجة للخطأ المنظَّم أيضاً.

التجريبيات ــــــ

وفقاً للنظرية الأشهر بين القدماء فإن التجربة عقد قويّ لا يشكّ فيه، وهي تتأتّى من تتبع المشاهدات المتكررة إلى جانب قياس خفي، فاذا لم يكن القياس الخفي حاضراً معها كان استقراءً([1]). بناءً على ذلك فإن لكل تجربة قوّتين، هما: الحسّ؛ والعقل. إما معقولٌ بمساعدة الحس؛ أو محسوس بمساعدة العقل.

وإن دور الحسّ في التجربة هو في المشاهدة المتكررة لاقتران ظاهرتين، وليست التجربة هي مجرّد عملية تقريرية للمشاهدات، بل هي حكم عام بتلازم ظاهرتين في حقيقةٍ ما، وهنا يكمن دور العقل. لكنْ كيف لنا إصدار حكم عامّ لمجرد رصد الاقتران بين أمرين، فنعمِّم الحكم على الحالات التي لم تتمّ مشاهدتها بعد، ونتوصل إلى القول بالتلازم عن طريق التعاون؟ فما هو المسوِّغ المنطقي في العبور من الاستقراء المحض إلى إصدار قانون تجربي عام؟ هذه هي أحجية الاستقراء التي شغلت الفكر البشري على مرّ العصور.

تجدر الإشارة إلى أن الاستقراء على نوعين: تامّ؛ وناقص. فالتام هو استقراء جميع الجزئيات، وهو محال في القوانين الكلية. أما الممكن تحصيله من الاستقراء التامّ فهي القضايا الخارجية في مفهومها الخاصّ، وهي ليست إلاّ مجموعة من القضايا الشخصية، وإن الحكم الناتج هو جمع لبعض التقارير الشخصية، وليست تعميماً لها.

أما ما هو متداول في المنطق بوصفه الطريقة الاستدلالية في مقابل القياس، وفي فلسفة العلوم بوصفه الطريق إلى تحصيل القوانين التجربية، فهو الاستقراء الناقص حصراً([2]).

فالجميع يدرك تماماً أن مجرد رصد الجزئيات والمصاديق ـ مهما بلغ عددها ـ لا يمكن أن يفرز لنا حكماً كلياً عاماً، والتجربة ليست سوى مشاهدات متكررة للاقتران بين أمرين. إذاً لا شكّ في ضرورة إضافة عنصر آخر إليها، والسعي وراء تحصيل المسوِّغ في تعميم الاستقرار.

هنا طرحت نظريات وحلول عديدة في معالجة موقف الاستقراء، وتصحيح التجربة، نوجز الكلام عن أبرزها في ما يلي:

قاعدة استحالة الغلبة ودوام الاتفاق ــــــ

وفقاً لهذه النظرية فبعد أن يقع الاقتران بين شيئين في حالات متكررة سيعمد العقل إلى العمل بقاعدة استحالة الغلبة ودوام الاتفاق؛ لينفي الصدفة في حصول ذلك التقارن، فيحكم بتلازمها، ومن ثم تعميم الحكم أيضاً. إذاً فالتجربة والاستقراء أمران مختلفان عن بعضهما؛ إذ التجربة من نتائج الاستقراء إلى جانب البرهان اللمّي، فلو لم نضِفْ هذا القياس الخفي كانت التجربة استقراءً. كما أن حكم كلّ واحد منهما مختلف عن الآخر، فالتجربة تفيد اليقين، أما الاستقراء فلا يفيد سوى الظن، وحسب القاعدة الآنفة الذكر فإن وقوع الصدفة النسبية بشكل دائم أو غالب ليس ممكناً.

الصدفة النسبية غيرُ الصدفة المطلقة. وما هو منافٍ للعلية هو الصدفة المطلقة، أما الصدفة النسبية فهي لا تنافي العلية. وليس معنى إمكانية حصول الصدفة النسبية وجود المعلول دون علّة، وإنما هو مجرّد القول بعدم وجود التلازم الذاتي في تقارن الظاهرتين. حتى أن هذا التقارن لا يحصل دون علّة ضرورية أيضاً. فكلّ تقارن من هذا النوع لازمٌ لا بدّ منه. فإذا رجعنا إلى سلسلة علل الاثنين سنجد أن وقوعهما في آن واحد ـ من قبيل: نهيق الحمار ونطق الإنسان ـ هو أمر ضروري وواجب نوعاً ما، وإلا لما وجد، لأن (الشيء ما لم يجب لم يوجد). وهذا ما ينطبق على صدفة تقارن حدثين أيضاً. إذاً فما هو المراد في المقام؟ المراد هو القول بأنه لا يوجد تلازم بين ذوات الحدثين، أي ليس كلما وجد (أ) وجد (ب)، بل إن لكلّ واحد منهما علله الخاصة به، فأحياناً يتحقق (أ) دون تحقُّق (ب)، أو بالعكس، وأحياناً يتحققان معاً. وإن هذا التحقُّق المتقارن أينما حصل فهو واجب وضروري، لكنه ليس قاعدة كلية. وهذا ما لا بدّ أن يفهم من إمكانية وقوع الصدفة النسبية، وإلا فإن (مَنْ يقول بالاتفاق فهو جاهل بالسبب).

وفقاً لقاعدة امتناع دوام الاتفاق فإن التقارن الدائم أو الغالب بين شيئين هو دليل على تلازمهما. وإن الشيء الأول إما أن يكون سبباً للشيء الثاني، أو أن يكون الاثنان معلولين لعلة ثالثة. وكيف كان فإن العلاقة بينهما علاقة تلازم، وليست صدفة. إذاً فليس المراد هو القول بضرورة أن تكون الظاهرة الأولى علة في وجود الظاهرة الثانية. نحن في التجربة نسعى إلى التفريق بين التقارن الضروري والتقارن بالصدفة. فبالنسبة إلى التقارن الضروري يمكننا القول: كلما وجد (أ) وجد (ب) أيضاً. وهذه القضية الشرطية صادقة في الحالات غير الملموسة فعلاً، وقد تتحقق في المستقبل. وعليه فإن مسوِّغ التعميم هنا هو الكشف عن العلاقة التلازمية عن طريق نفي التقارن بالصدفة وفقاً لقاعدة (استحالة الغلبة ودوام الصدفة النسبية)، وهذه هي الخطوة التي تنقلنا من الاستقراء إلى حدود التجربة.

يذكر أن بهمنيار بن مرزبان كان ينظم قياسه في كلّ تجربة على النحو التالي:

هذا الفعل دائمٌ؛

وكلّ فعل دائم لا يكون بالاتفاق؛

إذاً فهذا الفعل لا يكون بالاتفاق([3]).

إذ يتحتَّم علينا أن نعد تقارن الأمرين هو الصغرى، ومن خلال نفي الاتفاق والصدفة نتوصَّل إلى التلازم؛ حيث إن القول بالتلازم هو من أجل التخلُّص من محذور حدوث الصدفة الغالبة.

 

مديات التجربة ــــــ

من هذا المنطلق فإن حكم التجربة ليس مطلقاً تماماً، بل هو مقيد بقيود وظرف الحالة المشهودة، فإذا تمّ التقارن في ظروف خاصّة به فلا يمكن تعميم دائرة الحكم إلى ما هو أبعد من الظروف الملحوظة، أما إمكانية التعميم فهي في الموارد المشابهة لحالات التجربة حصراً. وكما ذكرنا فإن التجربة هي عملية مكونة من الحسّ والعقل، وهي أقصى من الحسّ، وأدنى من العقل، فهي تتمتَّع بمكانة وسيطة؛ حيث إنها تحررت من جزئية الحسّ، فوصلت إلى كلّية العقل، لكنّها لا تزال عالقة في شباك الحسّ، ولا تقوى عل اقتحام إطلاقات العقل. بناءً عليه فإن بين الحسّ والتجربة والتعقُّل علاقة طولية، فالمعرفة الحسّية جزئيّة، والمعرفة التجريبية كلّية مشروطة، والمعرفة العقلية المخصّصة كلّية مطلقة([4]).

علماً أنّه من الخطأ أن يفهم هذا الكلام على أن الإدراك العقلي والفلسفة ليس سوى تجربة وعلم متقدّم.

تنقسم الحالات الطارئة على موضوع التجربة إلى نوعين، هما: الحالات المقارنة بالذات؛ والحالات المقارنة بالعرض. والتجربة هي عبارة عن حكم مشروط بحالة مقارنة بالذات، وليس بالعرض. لذا ينبغي التفريق بين هذين النوعين. وكيف يتسنّى لنا ذلك؟ يقول ابنُ سينا: «نقول: إن كثيراً ما يعرض لنا اليقين عن التجربة فيطلب وجه إيقاع ما يوقع منها اليقين، وهذا يكون إذا أمنّا أن يكون هناك أخذ شيء بالعرض، وذلك أن تكون أوصاف الشيء معلومة لنا، ثم كان يوجد دائماً أو في الأكثر بوجوده أمر، فإذا لم يوجد هو لم يوجد ذلك الأمر. فإن كان ذلك عن وصف عامّ فالشيء بوصفه العام مقارن للخاص، فالوصف الخاص أيضاً مقارن للحكم، وإنْ كان ذلك الوصف مساوياً للشيء أيضاً فوصفه الخاص المساوي مقارن للحكم، وإنْ كان لوصف خاصّ، بل أخصّ من الطبيعة للشيء، فذلك الوصف الخاص عسى أن يكون هو الذي تكرَّر في ما امتحنّا، وفي أكثر الموجود من الشيء عندنا، فيكون ذلك مما يهدم الكلية المطلقة، ويجعلها كلّية ما أخصّ من كلية الشيء المطلقة، ويكون الغفول عن ذلك مغلطاً لنا في التجربة من جهة حكمنا الكلّي… إن التجربة ليست تفيد العلم لكثرة ما يشاهد على ذلك الحكم فقط، بل لاقتراف قياس به قد ذكرناه. ومع ذلك فليس تفيد علماً كلياً قياسياً مطلقاً، بل كلياً بشرط، وهو أن هذا الشيء الذي تكرر على الحسّ تلزم طباعه في الناحية التي تكرّر الحس بها أمراً دائماً، إلا أن يكون مانع، فيكون كلياً بهذا الشرط، لا كلياً مطلقاً. فإنه إذا حصل أمر يحتاج لا محالة إلى سبب، ثم تكرَّر مع حدوث أمر، عُلم أن سبباً قد تكرَّر. فلا يخلو إما أن يكون ذلك الأمر هو السبب أو المقترن بالسبب، أو لا يكون سبب. فإن لم يكن هو السبب أو المقترن بالطبع بالسبب لم يكن حدوث الأمر مع حصوله في الأكثر، بل لا محالة يجب أن يعلم أنه السبب أو المقارن بالطبع للسبب…»([5]).

وقفة تحليلية ــــــ

على الرغم من مزاعم أتباع أرسطو([6]) فإنّ قاعدة امتناع الدوام وغلبة الصدفة ليست من القضايا الأولية.

أما مسألة أن هذه القاعدة ليست ضمن الأقسام الستة في البديهيات عند أرسطو فهي واضحة:

أولاً: كون بديهية القضايا الأولية هي مسألة وجدانية، بمعنى أن كلّ مَنْ تصوَّر موضوع ومحمول القضية لن يتردَّد في التصديق بها، بل سيكون مضطراً إلى التصديق أيضاً. في حين ليست استحالة الدوام وغلبة الصدفة النسبيّة هكذا.

ثانياً: إن مضمون القضايا البديهية واضح ومحدَّد. وليس مضمون هذه القاعدة كذلك؛ لأنه لا يؤدي إلى كشف دوام الاقتران بين أمرين، فإن فهم دوام الاقتران هو من علم الغيب حصراً، كما أنها لا تبيِّن معياراً للأكثرية. يضاف إلى هذا أنّه حتّى في حالة تقديم الضابطة وتحديد عدد المرات فكما أنّ العقل لا يرى استحالة في وقوع الصدفة بأقلّ من ذلك العدد فلن تكون لديه استحالة في وقوعها بالعدد نفسه أو ما يتعداه؛ فإن مجرد تزايد الأعداد لا يجعل من الأمر الممكن مستحيلاً. وعليه فوفقاً لهذا الرأي لا يوجد دليل على تأييد التجربة والاعتراف بها، فأنّى لها أن تكون بديهية؟ ثم إن بلوغ اليقين عن طريق الاستقراء بحاجة ـ فضلاً عن القاعدة المذكورة ـ إلى قانونين آخرين:

1ـ مبدأ العلية: ويقضي بوجود علاقة تأثُّر وتأثير بين الموجودات، فإذا انتفت العلة انتفى وجود الأشياء. فمثلاً: يعود تمدُّد المعادن إلى الحرارة، وهي العلّة لا غيرها، لذا من العبث الكلام عن التجربة هنا.

2ـ مبدأ الاطراد ودوام العلية: ويقضي بأن الحالات المتشابهة في الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة، فإذا ترك أمر ما سبباً في الشيء ففي حالة بقاء الظروف نفسها سيترك الأثر ذاته في الأشياء المماثلة([7]).

وبناءً عليه لا يوجد ما هو بديهيّ من هذه القوانين، فكيف يمكن للتجربة القائمة على أسس نظرية أن تكون قضية بديهية؟

ثم إنّ التجربة قائمة على الحسّ، وبواسطة الحسّ نتوصَّل إلى نتائج التجربة. يقول رودلف كارناب في هذا الصدد: «تقوم المعرفة التجريبية في مجملها على المحسوسات»([8]). وعليه فإن اعتماد التجربة البالغ على المعرفة الحسية المتذبذبة مدعاة للتشكيك في كونها منهجاً في تحصيل المعرفة اليقينية.

 

أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ــــــ

من المحتمل في كل تجربة الوقوع في المغالطة في تحديد العلّة والسبب الحقيقي، فيؤخذ ما بالعرض مكان ما بالذات. أما قول ابن سينا في معالجة هذه الإشكالية، وذلك عبر معرفة أوصاف الشيء، فهذا الكلام لا يجدي نفعاً إلا في المنظومة الفكرية القديمة، وفي إطار تلك الطبيعيات التي تنظر إلى الموجودات في تعاريف بسيطة، فتختزل كلّ شيء في عدد من الصفات الذاتية والعرضية. أما على الساحة التجريبية الحديثة فلا يمكن طرق مثل هذه الأفكار؛ فإن خواص وصفات ومتعلقات الأشياء لا تعدّ ولا تحصى. أمّا قول نصير الدين الطوسي: «قد يكون من الصعب التمييز في مصاديق التجربة بين النواحي الذاتية والعرضية للشيء، الأمر الذي قد يؤدي إلى الحكم خطأً على الأشياء، والابتعاد عن اليقين»([9])، فهو قولٌ سديد جدّاً، لكن نحن نسأل: في أيّ مكان ليس الأمر بهذه الصورة؟

 

الأخذ بالعلة الناقصة مكان العلة التامة ــــــ

ما فتئت كلّ تجربة أن تشتمل على احتمالية أن يكون العنصر المكتشف في دوره وتأثيره على سائر المصاديق هو علّة ناقصة، ومجرد جزء من العلة المسؤولة عن الحدث الحاصل، في حين لا تزال الأجزاء الأخرى مجهولة لدينا؛ حيث إن تأثير المحسوس إنّما تحقَّق وفقاً لمجريات أخرى مصاحبة له أثناء إجراء التجربة، لكنها غابت عنّا، وعليه لا يمكن التكهُّن بسريان الأثر والتأثير إلى حالات مشابهة، اعتماداً على نتائج التجربة وحدها؛ لأن التشابه الذي ندركه حالياً قد يكون حاصلاً في بعض الجوانب دون غيرها؛ إذ إننا غير مطلعين على جميع العناصر المحسوسة وغير المحسوسة بين الحالتين في التجربة، فكيف لنا الحكم بالتشابه المطلق وتعميم الحكم على جميع الحالات، وكما يقال: «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال». فالاستقراء من هذه الناحية كالتمثيل، وكلاهما خاضع لنظرية:

بل ليس جزئي بكاسب ولا   مكتسب، بل كسراب في الفلا

فالتمثيل هو سريان الحكم من جزئي إلى آخر على أساس الشبه والاشتراك بينها في الأمر العام، والاستقراء أيضاً ثبوت حكم الجزئيات المحسوسة على جزئيات أخرى غير محسوسة على أساس وجود قاسم مشترك، أما كثرة الحالات المماثلة في الاستقراء فهي هواء في شبك لا طائل منها. نعم، هي تزيد من درجة الاحتمال، لكننا نبحث عن اليقين هنا.

يستشهد كلٌّ من ابن سينا ونصير الدين الطوسي بمثال السودان؛ حيث إن سواد كل مولود في السودان لا يمكن أن يستنتج منه بأنّ كل إنسان أسود؛ لأن كل تجربة إنّما هي محكومة بظروفها التي تمَّت فيها. وعليه فإن ما يستنتج من المثال المذكور هو أن كلّ مَنْ يولد في السودان فهو أسود. واذا أمعن النظر أكثر فحتى هذه النتيجة غير صادقة تماماً. فهل كنا سنقيِّد الحكم بموضوع السودان قبل مقابلة شخص ليس بأسود؟ من أين علمنا أن السواد متلازم مع مفردة السودان؟ فهناك آلاف الظواهر والحالات المرتبطة بالسواد على حدٍّ سواء لدينا، فمن بين آلاف المعايير ركَّزنا على الجانب الجغرافيّ، لماذا؟

في الواقع نحن نتوصَّل إلى تقييد الحكم بشيءٍ ما عقب نقض الحكم في حالة أخرى، وليس لنا تقييده قبل ذلك، وإلاّ فمثلما للمعرفة التجريبية أن تقيد بمكان ما من الممكن أيضاً تقييدها بزمان معين ـ شبهة نلسون غودمن ـ، أو أيّ قيود أخرى. ومع دخول الاحتمال هنا ألا ينبغي علينا التريُّث أكثر في تعميم الأحكام التجريبية؟ يقول رودلف كارناب: «إنّ الكون بالفعل في تحوُّل دائم، فحتى أقوى القوانين الفيزيائية ـ على رغم وثوقنا التامّ بها ـ قد تتبدَّل من قرن إلى آخر»([10]).

 

الاستقراء القائم على التعليل والمماثلة الكاملة ــــــ

يقسِّم البعض الاستقراء الناقص إلى قسمين:

أـ الاستقراء الذي لا يفيد القطع. وهو القائم على مجرَّد مشاهدة الجزئيات، من قبيل: مشاهدة حركة الفكّ الأسفل لدى الحيوانات عند مضغ الطعام.

ب ـ الاستقراء المفيد للقطع. وهو بدوره على نحوين:

الأول: الاستقراء القائم على التعليل، وذلك بأن يبحث المشاهد لبعض الجزئيات عن العلة في ثبوت الوصف، فيعرف أن الوصف إنما ثبت لتلك الجزئيات المشاهدة لعلة أو خاصيّة موجودة في نوعها. ولا شبهة عند العقل أن العلة لا يتخلَّف عنها معلولها أبداً، فيجزم المستقري حينئذٍ جزماً قاطعاً بثبوت الوصف لجميع جزئيات ذلك النوع، وإنْ لم يشاهدها. وليست هذه الأحكام قابلة للنقض، كحكمنا بأنّ الماء ينحدر من المكان العالي، فإنّنا لا نشكّ فيه مع أنّنا لم نشاهد من جزئياته إلاّ أقلّ القليل، وما ذلك إلا لأنّنا عرفنا السرّ في هذا الانحدار.

الثاني: الاستقراء القائم على المماثلة الكاملة بين الجزئيات، كما إذا اختبرنا بعض جزئيات نوع من الثمر فعلمنا بأنّه لذيذ الطعم مثلاً، فإنّنا نحكم حكماً قطعياً بأن كل جزئيات هذا النوع لها هذا الوصف، وكما إذا برهنّا ـ مثلاً ـ على أنّ مثلَّثاً معيَّناً تساوي زواياه قائمتين، فإنّنا نجزم جزماً قاطعاً بأنّ كلّ مثلَّث هكذا. فيكفي فيه فحص جزئيّ واحد، وما ذلك إلاّ لأنّ الجزئيات المتماثلة متشابهة في التكوين، فوصف واحد منها يكون وصفاً للجميع بغير فرق([11]).

 

وقفة تحليلية ــــــ

ليس هناك شكٌّ في صحّة الطريقة المذكورة على نحو القضية الشرطية، أي إذا تمكَّنا من تحصيل علّة ثبوت الصفة للشيء، وأن هذه العلة مختصّة بالنوع، فإنّنا سنحكم بثبوت الصفة لتمام المصاديق الأخرى، ولا يعترينا شكٌّ بأن الحكم منطبق على سائر الأفراد. لكن ليت شعري فإن العالَم الطبيعي عصيّ على الإنسان، ولا يمكن التكهُّن في كلتا المرحلتين؛ حيث من الصعب دفع احتمال أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات، أو أخذ العلة الناقصة مكان العلة التامة، أو اشتراط التأثير بشروط غير مرئية، وتأثير العنصر غير المحسوس، وما إلى ذلك.

أما بالنسبة لمثال انحدار الماء فنقول: ليس الأمر كذلك؛ بأن يكون الإنسان الذي يصدِّق بهذه الظاهرة قد علم بسرّ الانحدار من الأعلى إلى الأسفل، أو أن يكون قد علم بحرق النار، ثم جزم بتعميم حكمها.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى موضوع المماثلة؛ حيث إن الكشف عن المماثلة الكاملة بين ظاهرتين طبيعيتين لهو أمرٌ في غاية الصعوبة، بل متعذِّر أيضاً. فمن الممكن أن تكون المماثلة بين الأمرين في مجال غير مجال التأثير في السبب الخاصّ. فلا سبيل لنا إلى معرفة المماثلة من جميع الجهات. ثم إنْ كان المراد من المماثلة اشتراك الفرد في النوع الواحد فإن هذه الطريقة ـ على فرض صحّتها ـ لا تحتاج إلى الاستقراء إطلاقاً، فحتى لو شاهدنا حكماً منطبقاً في فرد واحد فبإمكاننا ـ دون الحاجة إلى استقراء الأفراد الآخرين ـ الحكم بأن هذه الصفة منطبقة أيضاً على جميع المصاديق المماثلة تماماً لذلك الفرد، أو منطبقة على جميع أفراد نوع هذا الفرد.

إن التمثيل بالقضايا الهندسية، وتشبيه القضايا الطبيعية بالرياضية، ليس هو إلا مجرد تمثيل باطل لا قيمة له أساساً، فبمجرّد كون بطيخةٍ ما حلوة المذاق لا يمكن أبداً القول بأن جميع مصاديق البطيخ حلوة المذاق أيضاً. وإذا كانت هذه القاعدة الكلّية تروق لباعة البطيخ أنفسهم فإنّ هذا لا يحلّ شيئاً في المنطق. إن عملية تحصيل الحكم الكلي بواسطة التعليل أو المماثلة إمّا أن يكون قائماً على معرفة طبيعة الأشياء، أو بالرجوع إلى طريقة ضبط العوامل والمؤثِّرات عند التجريبين.

 

التجربة على أساس معرفة طبيعة الأشياء ــــــ

تفيد الفلسفة المشّائية بأن النوع الجسماني مركَّب من المادّة والصورة النوعية. والصورة النوعية هي حقيقة الشيء وماهيته الخاصة به. والصورة النوعية هي المقوّمة للجسم المؤلَّف من المادة والصورة. وشيئية الشيء هي في الواقع قائمة بالصورة النوعية لذلك الشيء، ويطلق عليها طبيعة الشيء أيضاً. والطبيعة في كلّ جسم هي منشأ آثاره المختصّة به. والطبيعة لا وجود خارجي لها بمفردها، وإنما هي مقترنة بالأعراض والصفات. ومن شأن كل طبيعة نوعية موجودة في الذهن بشكل كلي، وفي الخارج بالتشخُّص، أن تشمل العديد من المصاديق والأفراد. والفرد هو عبارة عن مبدأ الطبيعة، مضافاً إلى الأعراض الزمانية والمكانية والكمية والكيفية وما إلى ذلك. وفي الأغلب يكون الأفراد في الخارج ـ مع قبول الإشارة الحسية ـ موضع التقاء لمختلف الطبائع المتواردة. لذا فكلّ عضو من هذه المجموعة هو فرد تابع لطبيعة ما، ومفهوم هذا الموضوع هو محمول عام، لكن بما أن الاثنين متحدان في الوجود فغالباً ما يغضّ النظر عن هذه التجزئة بينهما، بل هو موضوع واحد حملت عليه الطبيعة على نحو الحمل الشائع بالعرض، نقول مثلاً: سقراط إنسان. فحملنا الإنسانية على سقراط، وهذا بشكل عامّ صحيح؛ لأنّ ما ليس له تأثير على إنسانية سقراط في الواقع ليس مصداق الإنسان، وإنما من ناحية اجتماعهما في الوجود الخارجي، فقد حملت الإنسانية بشيءٍ من المجازية على سقراط. أما حمل الإنسان على سقراط من حيث إنسانيته فهو حمل الطبيعة على الفرد بالذات، وهو حمل حقيقي من نوع الحمل الشائع بالذات. هنا تجاهلنا جميع اللواحق المتحدة مع سقراط في الوجود، ولا دخل لها في ماهيته، وركَّزنا على الطبيعة المجردة، وفرد الإنسان بالذات.

إن عملية الذهن الاكتشافية هذه لو تمَّت بنجاح، وتحققت معرفة طبيعة الفرد بالذات، هنا من الممكن تعميم الأحكام والصفات الحاضرة لدى ذلك الفرد على أصل الطبيعة وسائر الأفراد. فالحقيقة المشتركة بين مجموعة من الأفراد هي الطبيعة المنشودة، ووجودها النوعي واحد لدى جميع الأفراد. وعليه فإن آثار وخصائص الطبيعة تكون على مستوى واحد لدى الجميع. فالحكم الصادق على فرد من تلك المجموعة يصدق على أصل الطبيعة، وعلى سائر الأفراد أيضاً. وهذا هو مفاد القاعدة الفلسفية القائلة: «كلّ ما صحّ على الفرد صحّ على الطبيعة، وكل ما صحّ على الطبيعة صحّ على الفرد»([12]). وعليه يبقى مفعول الطبيعة واحداً في جميع الموارد، وهذا ما يقال عنه أحياناً (مبدأ وحدة الطبيعة) (principle of unity of nature).

فعلى سبيل المثال: لو أخذنا جزءاً بالذات من الماء، وحلَّلناه، فاكتشفنا أنه مكوَّن من الأوكسجين والهيدروجين، فوفقاً للقاعدة المتقدّمة سيثبت هذا الحكم بحقّ طبيعة الماء أيضاً. هنا تجدر الإشارة إلى أن هذه القاعدة تصدق على ما كان فرداً بالذات، أما بالنسبة للفرد بالعرض فليس هناك قاعدة تجيز هذا النوع من التعميم. وعليه فإن الاستدلال في هذا المثال باطل:

سقراط إنسان؛

سقراط أحول؛

إذاً فكلّ إنسان أحول.

وذلك لأنّ الحَوَل صفة لفرد الإنسان بالعرض، وليس لفرده بالذات. أما حمله على سقراط فهو من باب كون سقراط اسماً لكيان من مكوِّنات الطبيعة الإنسانية.

ذهب البعض إلى تعميم هذه القاعدة على الموجودات غير المادية أيضاً. فشيخ الإشراق يثبت علم جميع الموجودات المجرَّدة بذواتها بالاستعانة بهذه القاعدة، عبر مقدّمتين:

نفس الإنسان المجرَّدة عالمة بذاتها؛

لجميع المجرَّدات طبيعة واحدة؛

إذاً كلّ مجرد عالم بذاته.

لأنّ ما يصدق على الفرد يصدق على الطبيعة أيضاً، وبالعكس: «إذ ما يجب على شيء يجب على مشاركه في الحقيقة»([13]).

إذا كان مراد شيخ الإشراق من الوحدة النوعية وعدم الاختلاف النوعي بين المجرَّدات هو أن جميع المجرَّدات أفراد لنوع واحد فهذا كلامٌ فيه نظر؛ لأن الفلاسفة أثبتوا في محلّه أن للمجرَّدات نوعاً خاصّاً بها، وأن تفاوت الذوات فيما بينها إنّما هو تفاوت نوعي. وإن كانت جميع هذه الاستدلالات محلّ نظر أيضاً. وإذا لم يكن مراده هذا النمط من الوحدة النوعية ففي هذه الحالة لا يمكن أن تشمل القاعدة المذكورة كلامه.

 

نقد المنهجية ــــــ

إنّ ما هو مطروح في بيان هذه النظرية لا ينسجم مع أيٍّ من الأشكال التاريخية في منهجيات العلوم التجريبية. كما أنه لا يعدّ تفسيراً منطقياً أيضاً. وبعبارة أخرى: لا في الجانب التطبيقي لدى علماء التجربة هذا ممكن، ولا من حيث المفهوم والمنطق، ولا في الجانب العلمي أيضاً. إنّ هذه المنهجية لا تتبع إلا في الفلسفة الطبيعية لدى الأقدمين في طبيعياتهم البسيطة، التي لا تتجاوز افتراض العناصر الأربعة، الكيفيات الأربعة، القوابس الأربعة، الأمزجة الأربعة، والعمل بقواعد من قبيل: امتناع الخلأ، واستحالة دوام القسر، واستحالة الطفرة، وعدم الاختلاف، والتخلف الذاتي، وزوال العرض، واستحالة دوام الصدفة، والتسليم لبعض العوامل، من قبيل: حكم الطبيعة، والميل الطبيعي، وتفسير بعض الظواهر بالغائيّة المحضة. والذين يعتمدون في معرفة الأشياء على التعاريف فعندهم العلم بالشيء هو عبارة عن العلم بالحدّ والرسم والجنس والفصل ومعرفة طبيعته، وعليه يتعيَّن على الباحث الاقتراب من طبيعة الشيء، ثم التعرُّف عليه.

لكنْ في العلوم التجريبية الحديثة لا محلّ لهذ المنهجية ولا جدوى؛ لأنها ـ مضافاً إلى اعتمادها على الفرضيات الظنية ـ ليست ذات مدخلية أساسية، ولا دور لها في معالجة المشكل. من هنا فإن مسألة الخوض في تفاصيلها من تعاريف وبيان المحتوى، والجدل حول صحتها وعدمها، وهل هي جامعة مانعة أو لا؟، كلّها قضايا لا طائل منها.

تعدّ التعاريف من القضايا التحليلية، ويستنتج محمولها من خلال تحليل الموضوع. وإنْ كان للتعاريف حضور وأهمية في الفلسفة فإنها لا تحظى بالأهمية ذاتها في العلوم التجريبية، التي تعنى بدراسة تفاعل تأثُّر وتأثير الموجودات الخارجية، ولا علاقة لها بالقضايا التحليلية. فهي بالنسبة لها كنقطة في بحر. كما أنّه في الفلسفة ليست التعاريف مجدية مطلقاً؛ لأنّه أولاً: ليست جميع الأشياء قابلة للتعريف، كالأجناس العالية، والحقائق الوجوديّة.

ثانياً: حتّى بالنسبة للأشياء القابلة للتعريف فإنّ عملية بلوغ تعاريفها الحقيقية، وتحصيل فصولها، قضية شبه مستحيلة. لهذا قيل: من أصعب الأمور اقتناص الحدود.

يقول ابن سينا في هذا الصدد: «الوقوف على حقائق الأشياء ليس في طاقة البشر. ونحن لا نعرف من الأشياء إلاّ الخواص واللوازم والأعراض، ولا نعرف الفصول المقوّمة لكل واحد منها، الدالّة على حقيقته، بل نعرف أنها أشياء لها خواصّ وأعراض؛ فإنّا لا نعرف حقيقة الأول، ولا العقل، ولا النفس، ولا الفلك والنار والهواء والماء والأرض، ولا نعرف أيضاً حقائق الأعراض…»([14]).

لقد استبدلت المعرفة الكلية (holistic)، وكذلك التعاريف القائمة على أساس الطبيعة وبيان ذاتيات الأشياء، والاعتماد على المعايير النوعية غير التجريبية في العلوم الحديثة، بالأبحاث الانتقائية (selective) العددية. زِدْ على ذلك كيف لنا التعرُّف على ذوات الأشياء؟ فهذا في الفلسفة ممكنٌ طالما أنّ الموضوع قابل للمعرفة الحضورية الشهودية. وهكذا بالنسبة إلى المعادلات الرياضية التجريدية، فمن الممكن اكتشافها وتعميم أحكامها على النحو الشهودي أيضاً، بالإضافة إلى كونها مدعمة بعنصر الاستدلال والبرهان. لكن على صعيد القضايا الطبيعية ليس هناك معرفة شهودية بهذا المعنى، فكيف لنا معرفة المصداق بالذات، وبأيّ الوسائل؟ فإنّ ما نراه على هيئة مصداق واحد هو في الواقع مجموعة معقَّدة من الخواصّ والأثر والمؤثِّر لا يمكن الإحاطة بتفاصيلها إطلاقاً. ولهذا دائماً ما يكون المصداق بالذات غائباً عن مداركنا، مختبئاً عنا، وكثيراً ما قد يكون الأثر المذكور تابعاً لعنصر مجهول أو شرط غائب عن المشهود، وليس الطبيعة ذاتها. من هنا فإن تحصيل اليقين في العلوم الطبيعية مهمّة تعترضها مشاكل جمّة.

يذهب البعض في مثل هذه الحالات إلى التشبُّث بمبدأ صحة الحمل وغيره. لكن إذا كان العمل بصحة الحمل، إلى جانب التبادر والاطّراد، قضية سائغة في علم الأصول على طريق معرفة الحقيقة من المجاز في المحاورات العرفية فإنّ تعميم هذه المنهجية إلى دائرة العلوم التجريبية سيثير دهشة علماء الطبيعيات أكثر من أيّ شخص آخر. فليس بمجرد الإشارة إلى شيء أبيض سيكون بإمكاننا أن نحكم بأن هذا الشيء هو مصداق بالذات لمفهوم البياض. فهناك عوامل داخلية وخارجية لها مدخليتها في تحقق هذا الانطباع لدينا تجاه هذا الشيء بالذات. فإن معرفة البياض بما هو في نفسه، وبعيداً عن المؤثرات المحيطة، ليس بالأمر السهل تماماً.

يعتقد أرسطو ومَنْ تبعه بأن القضايا العامّة التي تشكل مبادئ القياسات هي قضايا استقرائية. فقاعدة «الكلّ أكبر من الجزء» ـ مثلاً ـ هي من نتائج عمليات الاستقراء. لذا يقول أرسطو: «…وينبغي أن تعلم أن الاستقراء ينتج أبداً المقدّمة الأولى التي لا واسطة لها»([15]).

ويقول نصير الدين الطوسي: «يتأتّى القياس في مقدّماته الأولى بمساندة الاستقراء»([16]).

وهذا هو رأي الشيخ محمد رضا المظفَّر أيضاً؛ إذ يقول: «والاستقراء هو الأساس لجميع أحكامنا الكلّية وقواعدنا العامة. والحكم الكلي لا يكون إلاّ بعد فحص الجزئيات واستقرائها، فإذا وجدناها متَّحدة في الحكم نخلص منها القاعدة أو الحكم الكلي»([17]).

ولا يمكن لهذا الاستقراء أن يكون تامّاً. فليست القضايا الحقيقية من نتائجه، وما يستنتج ليس سوى مجموعة من القضايا الشخصية. لكنْ تبقى صحة الاستقراء الناقص منوطة بالقياس الخفي. فإذا كانت جميع مبادئ القياسات هي قضايا استقرائية، والحال أن كل استقراء قائم على القياس، فإن ذلك سيؤدي إما إلى التسلسل أو الدور. ثمّ إذا كانت مقدمات القياس الخفي ـ المساند للاستقراء ـ من القضايا الاستقرائية ففي هذه الحالة سيكون دليل حجية الاستقراء هو الاستقراء نفسه.

 

المنهج التجريبي وطريقة الاتفاق والافتراق ــــــ

يرى (جون ستوارت ميل) بأنّ التجربة هي عبارة عن مراحل تقودنا إلى تحصيل القاعدة والمعرفة. وهنا لا بدّ من توفر ثلاث مقدمات، هي: 1ـ مبدأ العلية (كبرى السببية)، 2ـ مبدأ اطّراد الطبيعة، 3ـ إثبات العلاقة السببية بين الظاهرتين (صغرى السببية)؛ إذ يرى (ميل) أنه ليس لدينا معرفة قلبية غير تجريبية بأيّ من هذه الأمور الثلاثة، وسبيلنا الوحيد إلى تحصيل المعرفة هي التجربة، ومن أجل الكشف عن العلاقة السببية بين العنصر (a) والعنصر (b) سنتبع منهجاً يقوم على أربع طرق أو مراحل:

1ـ طريقة الاتفاق.

2ـ طريقة الاختلاف.

3ـ طريقة التلازم في التغيُّر.

4ـ طريقة البواقي.

 

المرحلة الأولى ــــــ

إذا وُجدت حالاتٌ كثيرة متَّصفة بظاهرة معينة حضر فيها (b)، وكان هناك عنصر واحد ثابت في جميع الحالات في الوقت الذي تتغير فيه بقيّة العناصر، فإن العنصر الثابت هو السبب في وجود (b)، فإن شوهد (b) ضمن مجموعة (b c a) حيناً ومع مجموعة (f e a) حيناً آخر، وأيضاً مع مجموعة (s k a) مرة ثالثة، فإننا نستنتج أن السبب في وجود (b) هو (a)؛ لأنه العنصر المشترك الوحيد الحاضر في جميع الحالات.

 

المرحلة الثانية ــــــ

في هذه المرحلة يحذف أحد العناصر محتملة العلّية من المجموعة التي تخضع للاختبار، فإذا غاب (b) مع حذف ذلك العنصر، أو لم يظهر، سيتضح لنا أن العنصر المحذوف هو العلة في وجود (b). وبعبارة أخرى: إذا اتَّفقت مجموعتان من الأحداث والعناصر من كلّ الوجوه، إلاّ أحدها، فتغيَّرت النتيجة من مجرّد اختلاف هذا العنصر الواحد، فإنّ ثمّة صلة علّية بين (b) وهذا العنصر بالتحديد.

 

المرحلة الثالثة ــــــ

وهي المرحلة الأهمّ كونها تتضمَّن المراحل السابقة ـ نوعاً ما ـ، وفيها نحاول إجراء تغييرات على العنصر (a)، فإنْ طرأت في الآن ذاته تغييرات على العنصر (b) فإنّ ذلك يعني وجود علاقة سببية بين الاثنين.

 

المرحلة الرابعة ــــــ

إذا كان لدينا مجموعتان (a c d) و(e f b)، وعلمنا بنحو ما أن (c) علّة لـ (e)، وأن (d) علة لـ (f)، فإننا لن نحتاج إلى تجربة إضافية في إثبات أن (a) علّة لـ (b)؛ فثمة علاقة سببيّة بين المجموعتين.

من الممكن عبور هذه المراحل الأربع عن طريق الملاحظة، أو عن طريق التجربة. ففي الحالة الأولى يكون العالم مجرّد متابع لما يدور ويحدث دون أيّ تدخل في مجريات الأمور، من قبيل: علم الفلك، وبعض قوانين العلوم الاجتماعية.

أما في الحالة الثانية فليس العالم مجرّد متابع وحسب، بل هو مَنْ يصنع بعض الأحداث أيضاً، لكن من حيث المبدأ ليس هناك فرق بين الحالتين.

المحصِّلة التي نعود بها من هذه المراحل التجريبية هي أن (a) هو علّة لـ (b). لكنّ معضلة الاستقراء لا تحلّ بهذا؛ لأن مشكلة الاستقراء هي الحركة من الجزئيات إلى التعميم والكلية، أي تعميم حكم القضايا المشهودة على القضايا غير المشهودة. ثم إنّ الحكم بسببية (a) في (b) هو فرعٌ لقبول مبدأ العلية.

يذكر (ميل) بأننا سنتجاوز إشكالية الاستقراء عبر مبدأ العلية والاطّراد، إلا أن هذه القوانين ليست بديهية أو عقلانية، بل من نتاج الاستقراء والتجربة نفسها. وعليه فإن أساس الاستقراء هو مبدأ العلية والاطراد، وهما من نتائج ومحصلات الاستقراء نفسه. أَوَلَيْس هذا هو الدَّوْر؟

هنا يردّ (ميل) بأن الاستقراء الذي ينبثق عنه مبدأ العلية والاطراد هو أقوى أنواع الاستقراء على الإطلاق؛ لأنه كلما تضاعفت حالات الملاحظة كلما ترسخ الاستقراء وتعزَّز كيانه، وكلما كان التكرار أقلّ كانت النتائج أكثر هزالة. فأساس ودعامة مبدأ العلية والاطراد هي تجارب أكثر عدّة مرات من غيرها. وكما يقول (هربرت سبنسر): فإن «أساس الاطراد في الطبيعة لا يقوم على تجربة الفرد وحدها، وإنما جاء هذا المبدأ نتيجة لتجارب جميع البشر على مرّ العصور، بل وتجارب الحيوانات التي ورثها عقل الإنسان»، ثم هناك فرقٌ بين الاستقراء السطحي البدائي والاستقراء العلمي القائم على المناهج المذكورة([18]).

 

وقفة نقدية ــــــ

لا يمكن بالاستقراء إثبات مبدأ العلية أو مبدأ الاطّراد. فمجرد ملاحظة الاقتران والتوارد بين أمرين ـ مهما تكرَّر هذا الاقتران ـ ليس من شأنه إثبات مبدأ العلية والاطّراد وأيّ قانون آخر؛ لأننا نفترض عدم وجود قاعدة بديهية تنضمّ إلى الملاحظة. ففي الواقع لا يمكن إثبات أيّ قضية فلسفية بمجرد الاعتماد على الملاحظة والتجربة، وحتّى الاحتمالات لن تجدي نفعاً بدون طرح بعض القواعد البديهية.

ذهب (ميل) إلى أنّ دعامة الاستقراء هو مبدأ العلية والاطّراد، لكن إذا كانت هذه المبادئ نفسها استقرائية فهذا يعني أن حجّية الاستقراء باتت ذاتية مستقلة عن أيّ دليل وقاعدة. بالإضافة إلى إشكالية الدور الحاضرة بقوّة هنا. ولم يكن توجيه (ميل) سوى تهرب ومراوغة؛ إذ كان تفريقه بين الاستقراء العلمي والسطحي هو تبرير سطحي بدوره لا علاقة له بالأسس المنطقية المعهودة. لذا ليس ثمة فرق وتفضيل بين الاستقراء الجزئي والاستقراء الشامل لجميع البشر، أو حتى الحيوانات.

كان (ميل) قد بنى فرضيته هنا على الأسس التالية:

أولاً: إمكانية معرفة جميع العناصر الموجودة في المركَّبات المعقَّدة.

ثانياً: إننا سنعرف دور كلّ عنصر، أي بإمكاننا معرفة عدد العناصر وخصائصها أيضاً.

ثالثاً: افترض أنّ لكل عنصر مستقلّ دوراً مؤثِّراً في غيره، وهناك أثر واحد مترتِّب عليه.

رابعاً: من الممكن الفصل بين هذه العناصر مع الحفاظ على دورها وتأثيرها في الغير.

في حين يمكن أن نقول في المقابل:

أولاً: إنّ العناصر الموجودة في المركَّب قد تكون أكثر بكثير مما توصلنا إليه. وعدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

ثانياً: بما أننا لا نستطيع معرفة جميع العناصر فليس بالإمكان أيضاً الجزم بنسبة الأثر والسبب الملاحظ إلى عنصر بعينه دون آخر.

ثالثاً: قد لا تكون العناصر المستقلّة هي العلّة، بل العلّة ناتجة عن اتّحاد بعض العناصر؛ فإنّ أقسام التركيبات في المجموعة متشعِّبة الأطراف، تفوق هذه الفرضيات المحدودة.

وبناءً عليه لا يمكن استنتاج قضية قطعية من خلال حذف أحد العناصر في الملاحظة، وغياب العنصر الآخر، لنقول: إن ذلك العنصر هو علّة لهذه النتيجة؛ فقد يكون هو جزءٌ من العلة، وليس جميعها، وأن للعناصر الأخرى دخلاً في خلق هذه النتيجة بوصفها مقدّمات وشروط في تحقيقها. وبما أن إدراك جميع العناصر الدخيلة غير متحقِّق قطعاً فإن حذف العناصر المؤثِّرة، أو أي شيء دخيل في العلة من دائرة التجربة، قضية غير ممكنة أيضاً؛ فإن مسألة العلم بانتفاء وجود أيّ عنصر دخيل في إيجاد (b) باستثناء (a) من بين سائر الظواهر اللامتناهية حتّى على صعيد التأثير الجزئي أو الشرطي في علّة الشيء هي قضية مختصّة بعالم الغيب والشهادة حصراً، وإنّ ادّعاء نفي وجود التأثير بشكل قاطع ليس سوى رجمٍ بالغيب.

رابعاً: من الممكن أن يقسَّم كلّ عنصر إلى أجزاء، يكون لكلّ جزء دور في النتيجة، أو أكثر من دور.

خامساً: إن التفكيك بين عناصر المجموعة مع المحافظة على فعاليتها قضية ممكنة ـ عمليّاً ـ بحقّ بعض الموجودات في أقلّ تقدير.

سادساً: إذا كنّا في صدد تحديد العلّة من خلال التجربة فإنّ مجرد العثور على عنصر تابع لآخر في الوجود والعدم لا يدلّ على كون الأوّل علّة تامة للثاني؛ لأن هذا التلازم في الوجود والعدم حاضرٌ أيضاً في الجزء الأخير من العلة التامة وجميع المقدمات الأخرى، لهذا يقول الحكماء: «دوران الشيء مع الشيء وجوداً وعدماً لا يوجب علية المدار للدائر»([19]). وكما أن هذه الاحتمالات واردة في حقّ المركَّبات المعقَّدة جدّاً والكيميائية فهي أيضاً غير مستبعدة ـ ولو بدرجة أقلّ ـ في المركَّبات الأقلّ تعقيداً.

ينبغي لنا أن لا ننسى كوننا في صدد البحث عن قاعدة منطقية للتجربة يعمل بها في العلوم التجريبية، وبالتالي فإن ما ينتج عن تطبيق منهجية (ميل) ليس سوى اعتقاد راجح وظنّي بكون (a) علّة لـ (b)، ولن يبلغ هذا الاعتقاد مستوى اليقين من خلال هذه المنهجية إطلاقاً. علماً أن هذه الرؤية ممّا يؤثر عنه شخصياً؛ إذ لم يدَّعِ لنفسه القطع واليقين في العلوم التجريبية([20]).

وكان هذا ديدن معظم العلماء بعده، حتّى أن (أترونيرات) ذكر أنّه إذا قلنا: إن القوانين صحيحة فقد أذنبنا بحقّ المنهج التجريبي([21]).

يضاف إلى ذلك أنّ تطبيق هذه المنهجية يكاد يكون مستحيلاً في بعض مجالات العلوم التجريبية، من قبيل: قضايا علم الفلك المرتبطة بزمن مطلق وبصيرورات متغيِّرة، وكذلك النظريّات المتعلقة بالأنواء الجويّة، فإنّ التجربة هنا متعذِّرة.

 

تسوية مشكلة الاستقراء بالاحتمالات ونظرية الشهيد الصدر ــــــ

بعد فشل العديد من المذاهب الفكرية في تقديم حلٍّ منطقي للاستقراء وجد بعض التجريبين أنفسهم عاجزين عن تقديم حلٍّ يجعل من الاستقراء مفيداً لليقين، فاكتفوا بقيمته الاحتمالية وفقاً لحساب الاحتمالات. وخلافاً للمنطق الأرسطي الذي يرجع الاستقراء إلى القياس، ويمنحه بذلك الحجية القطعية، ذهب التجريبيون إلى التنظير لمفهوم الاحتمال والقضايا ذات القيمة الاحتمالية، وبدلاً من المنطق ذي القيمتين في السابق نظَّروا لمنطقٍ بقِيَمٍ ثلاث هذه المرّة.

وبناءً على هذا فإن رصد الاقتران المتكرِّر بين أمرين يضاعف من احتمال التلازم والتعميم على الأقران. وإنّ قيمة نتائج الاستقراء الاحتمالية تقوى وتضعف تبعاً لحجم ومستوى مرات الملاحظة. وعليه فإن قيمة العلوم التجريبية وحجّية نظريّاتها ـ المبتنية في نظرهم على الاستقراء ـ لا تتعدّى حدود الاحتمال أبداً.

علماً أن الاقتناع بهذا المستوى من القيمة لم يكن بالأمر السهل أيضاً، ولم يقف عند هذا الحدّ. فبمجرَّد دخول الاحتمال على الخطّ بات من الضروري الخوض في تفسير وتعريف مفهومه، الأمر الذي أفرز لنا مختلف الآراء والنظريات والمذاهب الفلسفية في التنظير لمفهوم الاحتمالات، فكان شوطاً رائعاً في صفحات الفكر الحديث.

بالطبع ليس من أهدافنا الخوض في تفاصيل مبحث الاحتمالات ونظريّاته. فعلى فرض وجود تعريف صحيح للاحتمال فإنّ السؤال الأهمّ هو: هل من الممكن افتراض قيمة احتمالية للاستقراء على أساس المنهج التجريبي وحده؟

الجواب: لا. وهذا ما تنبَّه له (برتراند راسل). وما ورد في نظرية الشهيد الصدر أيضاً التي تنصّ على ضرورة عبور الاستقراء بمرحلتي التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي، وصولاً إلى القطع واليقين، حيث تمّ التأكيد على أنّ ذلك لا يستغنى أبداً عن القواعد القبلية وغير التجريبية، وأنّ الاستقراء المحض لا يفيد حتّى القيمة الاحتمالية. لذا يؤكد الشهيد الصدر على أن حساب الاحتمالات ليس من شأنه مضاعفة قيمة الدليل الاستقرائي، إلاّ إذا ترك الأثر نفسه على العلة الفلسفية وترجيحها، الأمر الذي يرفضه المنطق التجريبي طبعاً. وعليه يتعيَّن على المنطق التجريبي إمّا التسليم بحتمية العلة، أو التنازل عن معطيات الاستقراء الاحتمالية؛ لأنّ أيّ شكل من أشكال ترجيح تعميمات الاستقراء الاحتمالية على أساس الاستقراء على اطراد مباشر مع قدرة الاستقراء على إيجاد الترجيح في مفهوم العلية العقلي([22]).

يضاف إلى ذلك أنّ قيمة الاحتمالات قائمة على أساس قبول فرضياتها، وقاعدة عدم التناقض، وهي مصادر قبلية، وليست تجريبية. ثم إن مَنْ يريد المبالغة بحبّه للمذهب التجريبي فينكر كلّ معرفة غير تجريبية هو في الواقع يغالط نفسه، كسرابٍ يحسبه الظمآن ماءً.

بعد إضافة مرحلة التوالد الذاتي والمضعِّف الكيفي إلى مرحلة التوالد الموضوعي والمضعِّف الكمّي يقرِّر الشهيد الصدر بأن الاستقراء موصِلٌ إلى اليقين. فمع تصاعد احتمال الافتراق سيتجاهل الذهن البشري الاحتمال الضعيف، وينتقل إلى الاحتمال الأقوى. إلاّ أنّ الإشكالية تكمن في هذا الانتقال تحديداً. والسؤال هنا: ما هو مسوِّغ ذلك؟ وما ورد في كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) ليس سوى بيان ووصف للانتقال، وأن العقل البشري خلق على نحو يدعوه إلى اتّخاذ مثل هذه الخطوة. إلاّ أنّ مشكلة الاستقراء لم تكن في إمكانية انتقال الإنسان من الاستقراء إلى اليقين، وعدمها؛ إذ معلومٌ أنه سيصل إلى اليقين. وهذا ما لا ينكره حتّى (هيوم) المنظِّر الأول لإشكاليّة الاستقراء في الغرب، بل كان قد نصَّ عليه، وقدَّم له تفسيراً سايكولوجياً أيضاً، وإنّما كان كلامه في مصداقيّة وحقانية اليقين الاستقرائي.

ورغم تأكيد الشهيد الصدر على صحّة هذا التفسير فإنّه لم يقدِّم دليلاً على مرحلة التوالد الذاتي يضمن حقّانية الدليل الاستقرائي والتجريبي، بل تم الاكتفاء ببيان كيفية تحقُّق هذا اليقين. وعلى الرغم من أن السيد الصدر كان يريد من تقسيم اليقين إلى: منطقي؛ وذاتي؛ وموضوعي، أن يقول لنا بأن اليقين الناتج عن الاستقراء ليس من سنخ اليقين المنطقي والرياضي([23])، وجعل في قبال العقل الأول (مدرك البديهيات)، والعقل الثاني (مدرك نظريات القياس)، عقلاً ثالثاً يسير إلى النهج الاستقرائي([24])، إلاّ أنّ هذا التفسير لا يسدّ حاجة ما يصبو إليه المناطقة في موضوع الاستقراء، ورفع المشكل، وإحراز حقّانية اليقين الحاصل من الاستقراء.

ورأي الشهيد الصدر هو أن الاستقراء يقود إلى اليقين الموضوعي إذا توفَّرت بعض الظروف والمستلزمات. وقد بيَّن هذه الظروف في محلّه، مؤكِّداً على أنّ تحصيل اليقين الموضوعي في الظروف المذكورة هي قضية طبيعية تحصل لأيّ إنسان. وليس لدينا ملاحظة على أيٍّ من هذه النقاط، لكنّ السؤال المطروح هنا هو: ما الدليل على حقّانية وصدق ذلك المدَّعى؟ وهذه هي مشكلة الاستقراء الأزليّة.

على صعيد التوالد الموضوعي فإنّ الأدلة العينية تضاعف من درجة الاحتمال. وفي مرحلة التوالد الذاتي فإنّ الذهن سينطلق من الأدلة العينية ضمن إطار من الظروف الخاصّة فيقدّم الاحتمال الضعيف المخالف قرباناً للاحتمال الأقوى الموافق، ليصل إلى اليقين. وبعد كلّ هذا العناء لا تزال مشكلة الاستقراء قائمةً أيضاً.

يذكر أنّ السبب في خوض الشهيد الصدر في مشكلة الاستقراء هي مباحث حجّية بعض الأدلّة، كالتواتر والإجماع والشهرة في علم الأصول، والتنبيه إلى هزالة الحلول المقدَّمة في السابق. هنا تنبَّه السيد الشهيد إلى أن الاستقراء من شأنه أن يمثِّل الدعامة الأقوى لتلك الأدلّة، فشرع في التأسيس لحجّية الاستقراء، فتوصَّل إلى منهج لم تقتصر معالجاته على مشاكل علم الأصول فقط، بل بات منطقاً جديداً للمعرفة البشرية ومفتاحاً لألغازها. وبناءً عليه التحمت مجالات المعرفة الثلاثة ـ العلوم العقلية، العلوم النقلية، العلوم التجريبية ـ جنباً إلى جنب، قوامها منطق واحد هو الدليل الاستقرائي. فعلى سبيل المثال: بات بالإمكان إثبات حجّية الاجتماع والتواتر من جهة، والتوحيد والنبوة من جهة أخرى، بالطريقة المتَّبعة في إثبات القضايا الفيزيائيّة عينها. هكذا اجتمعت جميع المعارف البشرية من دينيّة وعلمية تحت مظلّة المنهج الواحد، رغم التباين والاختلاف في الجزئيّات. وهذا ما يكشف لنا ـ ضمناً ـ أنّ مديات الدليل الاستقرائي أوسع بكثير من حدود ومجالات براهين القياس.

لا بدّ من التنويه هنا إلى أن المراد من نفي إنتاجية الاستقراء لليقين هنا ليس إنكاره جملةً وتفصيلاً؛ لأن العلم حقيقة ذات مراتب، ونفي مرتبة منها لا يعدّ نفياً لأصل العلم بالكامل، وإنما المراد هو أنه لا يوجد استقراءٌ منتج لليقين بالاستدلال المنطقي. لكنْ ليس من شكٍّ في إنتاجه لدرجاتٍ من العلم. فالعديد من المعارف البشرية ـ سواء في مجال العلوم أو الحياة اليومية ـ إنّما هي من محصّلات الاستقراء ذاته. وكثيراً ما يقع مجدياً في حلّ بعض الإشكاليات في العديد من الأبحاث والاستدلالات، وخصوصاً على صعيد استنباط الحكم الشرعي. وإذا كنّا نبحث في كلّ مرة عن المعرفة اليقينية المانعة لنقيضها فإنّنا لن نبلغها أبداً.

 

المنهج التجريبي عند (كارل بوبر) ــــــ

منح كارل بوبر (karl raimand popper) ـ صاحب الفلسفة الرائدة في المعرفة ـ دور تكذيب الفرضيات إلى التجربة، الفرضيات الناتجة عن تكهُّنات بعض العلماء غير المسؤولة. فنظرية النقض (refutability) في مقابل نظرية الإثبات (verifiability) ونظرية قابلية التأييد (confirmability). أولئك هم الوضعيّون الذين يقولون بتأسيس التجربة على الاستقراء، ومنحه القدرة على إثبات النظريات.

إلاّ أنّ (بوبر)، المتأثِّر بـ (هيوم)، لا يعترف بأيّ قيمة منطقية للاستقراء([25]).

ثم إنه ذهب أبعد من (هيوم) نفسه، الذي وإن لم يؤمن بيقينية الاستقراء لكنّه اعترف بوجوده واستعماله الواقعي، وأرجعه إلى المنشأ السايكولوجي، بمعنى أنه على الرغم من افتقار الاستقراء إلى الدليل المنطقي لكنه من الأمور المعتادة لدى الناس، وحاضر في محاوراتهم وأحكامهم اليومية.  وهذا ما لفت إليه المعلِّم الثاني أبو نصر الفارابي قبل قرون خلت، عندما رفض حجية الاستقراء، واعترف بواقعيته ورسوخه في الأذهان([26]).

إلاّ أن (بوبر) رفض بشدّة فكرة التفريق بين الواقعية والحجّية في الاستقراء، ولم يذعن له حتّى بصفة الواقعية. وكان يرى أنه ليس سوى زعم وأسطورة([27])، وأن العلوم التجريبية لا علاقة لها بالاستقراء من الأساس. لذا راح يقول: «الاستقراء بمعنى الاستدلال على أساس تكرُّر الملاحظة ليس هو إلاّ أسطورة زائفة، وليس له واقع سايكولوجي، أو واقع في الحياة اليومية، ولا هو من المناهج العلمية إطلاقاً»([28]).

وبناءً عليه فإنّ (بوبر) رفض منهج (ميل) الاستقرائي، واختار منهج (وليام هيوم) في استنباط الفرضيات. فالمنهجية العلمية من جهة نظر (بوبر) هي أن تلقي التكهنات على طاولة التجربة والاختبار، وحذف الباطل منها، وبهذا من الممكن لقافلة العلم أن تتقدَّم وتمضي إلى الأمام. ومضافاً إلى إشكالاته المنطقيّة المستوحاة من آراء (كانط) في تعريف الميتافيزيقيا واستحالة خضوعها للتجربة، وتأثُّره بـ (هيوم) في موضوع الاستقراء، فقد تأثَّر ببعض الأحداث التاريخية في حياته العلمية، من قبيل: موقفه إزاء النظرية الماركسية في تفسير التاريخ، ونظريات فرويد السايكولوجية، وكذلك  (آدلير)، ومقارنة ذلك بالنظرية النسبية عند إنشتاين. وفي المحصَّلة يخلص (بوبر) إلى تقديم نظرية التكذيب بوصفها مفتاح الحلّ لقضيتين أساسيتين في فلسفة العلم، أي مشكلة الاستقراء؛ ومشكلة ترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقيا([29]).

علماً أنّ نظرية قابلية التكذيب لم تخلُ من الاعتراضات والنقد. فعلى سبيل المثال: تعترضها إشكالية النظريات الوجودية (existential propositions)، التي هي قابلة للتأييد، ومعترف بها علمياً، لكنها غير قابلة للتكذيب، الأمر الذي اضطر (بوبر) إلى عدّها قضايا غير علمية([30]).

لقد ألغى (بوبر) جدوائية الاستقراء من جهة، ورفض أن يكون العلم استقرائياً من جهة أخرى. فإذا كان يرى العلم التجريبي يقينياً فإن بين هاتين المسألتين تلازماً واطّراداً، إلاّ أنّه لم يقُلْ بيقينية العلم أيضاً. إذاً فما يعجز عن تحقيقه العلم ليس متوفِّراً فيه أساساً. وعليه فلا شائبة على الاستقراء من هذه الناحية إطلاقًا. وبعبارة أخرى: لا يمكن أن نستنتج من افتقار الاستقراء للحّجية بأنّ العلم ليس استقرائياً، أو ينبغي أن لا يكون كذلك.

قد يقال بأن الدليل على نفي الاستقراء عن العلم هو التاريخ وتطبيقاته العملية، فلم تكن سيرة العلماء العملية (practice) منطوية على استخدام الدليل الاستقرائي. وهذا ما يشير إليه (بوبر) أحياناً. فإذا كان المراد أن تحصيل الفرضيات ليس عن طريق الاستقراء فهذا صحيح ـ نوعاً ما ـ، أي إن الاستقراء وحده لا ينتج لنا نظرية، لكنْ لا يمكن إلغاء دوره بالكامل في عملية بلوغ النظريات. فعلى الرغم من أن الاستقراء لا يمثِّل العلة التامة في كشف النظرية، لكنه المساعد والمؤهِّل لتخمينها. فلو أن (نيوتن) لم يكن يرى سقوط التفاحة أو سقوط أيّ شيء آخر، أو كان يعيش في كوكب لا يعترف بالجاذبية أصلاً، فلن يخطر على باله أبداً التفكير بنظرية الجاذبية. نعم، ليس مجرد رؤية الشيء الساقط إلى الأسفل هو العلّة التامة لاكتشاف النظرية، فهناك الملايين من الناس ممّن كان قد رأى سقوط الأجسام بأمّ عينه، لكنّه لم يتوصَّل أبداً لنظريةٍ بهذا الحجم. وعليه فإنّ بلوغ نظريةٍ ما يتطلَّب جملة مقدمات، منها: المعلومات القبلية، والملاحظة الفاحصة، بالإضافة إلى الإبداع الشخصي لدى العالم. لا ينبغي أن تنسينا نزعة الرياضيات في العلوم الدقيقة، وهيمنة المصطلحات التجريدية والنظرية، وتأخذنا بعيداً عن مبدأ العلوم الحقيقي. نعم، لا يقف العلم عند حدّ الملاحظة والتعميم الاستقرائي، لكنّ هذا لا يعني تجاهل أهمّية الاستقراء ودوره.

نحن بحاجة في كلّ تخمين لنظريةٍ ما إلى التجرية والبرهان من أجل بقائها. فحتى لو افترضنا أن القضايا العلمية ليست يقينية وقابلة للتنفيذ فإنّ قبل تحقُّق التنفيذ بالفعل هناك ما يحفظ لنا بقاء الفرضية، وهو الاستقراء والتجربة. فإنّ معنى نجاح النظرية في تفسير الظاهرة هو أن تسير الأحداث وفقاً للتنظير الحاصل فعلاً، أي رؤية الأشياء والأحداث بوصفها مصاديق للفرضية، ودليلاً على وجودها أيضاً. من هنا لا يمكن لنا قطع الصلة بين العلم والاستقراء.

يتَّضح ممّا تقدَّم في موضوع التجربة نفي البداهة عن المتواترات والحدسيات أيضاً.

وقد أرجع نصير الدين الطوسي ـ في أساس الاقتباس ـ المتواترات إلى الحدسيات نفسها؛ إذ يقول: «والمتواترات تعتمد على الحسّ الآخر. وعليه فحكمها كحكم المحسوسات تماماً»([31]).

كما ألحق الشهيد الصدر ـ في الأسس المنطقية للاستقراء ـ المتواترات والحدسيات، وكذلك المحسوسات، بالتجريبيات، فعرَّف كلّ واحد من هذه الثلاثة بتعريف التجريبيات([32]).

 

تأمل واستدراك ــــــ

على الرغم من جميع ما قلناه فإنه لا يبدو أنّ النزاع في الاستقراء قد انتهى.

فمحصّلة الكلام: إنّ جميع السبيل المتّخذة في إثبات حجية الاستقراء غير كافية حتّى الآن. ثم إنّه لا يوجد تحليل يثبت لنا إنتاجية الاستقراء لليقين المنطقي، بحيث يمتنع خلافه وجوداً.

وقلنا: إنه ليس من شكٍّ في أنّ الكثير من أحكامنا اليقينية هي استقرائية، لكنّ الكلام جلّه في حجّية هذا اليقين. ومع هذا ليس لنا أن نسأل: لماذا قد بلغنا اليقين بالاستقراء؟ ومع أننا نعلم بأن الاستقراء ليس حجة إلاّ أن أحكامنا اليقينية لا تزول. وهذا ينطبق أيضاً على المدركات الحسية والاستنتاجات الحاصلة من التواتر. فأنا لا أشكّ أبداً بوجود الشمس في الخارج، وهي قضية حسّية بالطبع، فإذا كان هذا اليقين ليس أقوى من سائر البراهين والجعجعات الفلسفية الأخرى فإنه ليس أضعف منها قطعاً. كما أنني لا أشكّ في وجود مدينة (موسكو) التي لم أزُرْها قط، وهي قضية متواترة. فإذا جاء أحد الفلاسفة واستند إلى أدلّة نفي حجّية الحسّ والاستقراء، وشكَّك في هذين المثالين، لن يكون من السهل عليَّ تقبُّل هذا الادّعاء أبداً.

إنّ كل قضية أو اعتقاد باطل أو قائم على المخالطة لا شكّ أنه سيزول بعد اكتشاف بطلانه ومغالطته، ولو من عند مكتشفه، والقائل به، في أقلّ تقدير. إلا أنّه وعلى الرغم من كلّ هذه الأدلة والبراهين المساقة ضد الاستقراء لا تزال العديد من أحكامنا الاستقرائية اليقينية والحسّية قائمة شاخصة، ولم تزُلْ حتّى عند النافين لحجية الاستقراء والحسّ أنفسهم. حيث نسمع الفيلسوف يؤكِّد على نحو القضية الكلية نفي قابلية الاستقراء والحسّ على توليد اليقين، لكنّه لا يزال موقناً بمصدايق الاستقراء والحسّ. وهذا بدوره إشعار بأنّ الحكاية لم تنتهِ بعدُ، ولها تتمة.

إنّ إداء الذهن الطبيعي ـ في التعامل مع القاعدة ـ لا ينصاع لاجتهاداتنا وتحليلاتنا، وإنّما هو يشقّ طريقه بنفسه، فالمنطق منتزع من هذا الأداء، وليس من التعليمات المفروضة عليه، فهي ثانوية وبالعرض. فإذا كان الذهن قد وصل إلى اليقين بالقياس فهذا لا يعني أننا بلغنا اليقين من خلال دراسة القياس، وحكمنا بأن القياس حجة ومنتج لليقين، فحتى لو لم نتوصل إلى هذه النتيجة فإن الذهن سيمضي في طريقه ويدرك النتيجة ذاتها عن طريق القياس أيضاً. لكنْ ليس كل قياس حجة، بل هناك من المغالطات ما يعكِّر صفو أجواء القياس، وهنا يبرز دور المنطق الأساسي في كشف المعوقات والمغالطات التي باتت معروفة وظاهرة للعيان إلى حدٍّ ما. ولهذا يتمتَّع المنطق القياسي بحظوة وتفضيل.

قد يمكن القول بأن الأمر ذاته منطبق على المحسوسات والمتواترات والاستقراء وما شابه. نعم، كثيراً ما يفضي الحسّ والتواتر والاستقراء إلى نتائج باطلة، لكنْ ألا يمكن القول بأننا لم ندرك بعدُ الآليات والمتطلبات المولّدة للعلم ومعوّقاتها في هذا المجال؟ فإنّ الآليات المتَّبعة في هذا الباب أكثر تعقيداً، ومعوقاتها أصعب وأكثر غموضاً أيضاً.

وبناءً عليه ليس من شكٍّ في وجود اليقين الاستقرائي والحسّي، لكنّ المشكلة في تفسير ذلك. وتبرز الصعوبة في غياب الملاك والضابطة في التمييز بين مصاديق اليقين ـ في الحسّ والاستقراء ـ الصادقة والكاذبة بشكل حازم وقاطع. لكنّ غياب ذلك ليس دليلاً على عدم الوجود، إلاّ أنّ إصرار الحسّ واليقين على عدم مبارحة الذهن ـ برغم جميع المساعي المبذولة من أجل إخراجهما ـ دليلٌ على تأصلهما في بنية الذهن البشري بوصفهما السكان الأصليين، وأن تلك المعوقات موجودة في كل حال.

المسألة الأخرى هنا هي أن اليقين الحسي أو الاستقرائي، مع أنه يقينٌ فعلاً، ليس حتمياً، بخلاف اليقين القياسي. فعلى فرض درك الضوابط والمعوقات فيهما يبقيان في هذه النقطة مختلفين عن اليقين القياسي، فهو حتميّ، بحيث إن خلافه ممتنع عقلاً، وهذا لا ينطبق على اليقين الحسي والاستقرائي؛ لأن خلافهما ليس ممتنعاً عقلاً. وهذا هو واجب المنطق الاستقرائي في تفسير هذه الحقيقة، وليس من شأنه إثبات الحتمية لليقين. علماً أنّ نقطة الاختلاف هذه لا تعني أن اليقين الاستقرائي ليس يقيناً، فالحتمية ليست ركناً في مقوّمات اليقين، وإنما هي صفة أخرى ملازمة لليقين القياسي، فإن إمكان الخلاف لا ينافي وجود اليقين، بل احتمال الخلاف هو المنافي له، والاحتمال غير الإمكان.

فخلاف وجود الشمس ومدينة موسكو ممكنٌ عقلاً، لكنه غير محتمل أبداً، أي لا يلزم من فرض الخلاف تناقض وإنْ كانا موجودين فعلاً. وهذا من قبيل أن اليقين بوجودنا بالفعل لا يتنافى مع إمكان عدمنا، لكنه ينافي احتماله طبعاً. وهذا فرق عقليّ وذهني، لكن إذا نظرنا إلى الواقع الخارجي، وأخذنا بنظر الاعتبار العلل والضرورات الأخرى، فلن يكون لهذا الفرق وجود أصلاً.

وبناء عليه فإن تحصيل اليقين في العلوم التجريبية أمرٌ ممكن، وموجود بالفعل. فالتجريبيون يوقنون بالكثير من قوانينهم العلمية. وإذا كان الفيلسوف مشكِّكاً في حجية الاستقراء؛ لعجزه في الفهم والتفسير، فهذه مشكلته وحده، وعليه أن يسعى في حلها. وهكذا بالنسبة للإجماع الموجود في العلوم، فهو ليس موجوداً في الفلسفة بالفعل، وليس هناك أملٌ في تحقُّقه في المستقبل أيضاً. وقد يقال: إن هذا الإجماع إنما هو نتيجة لخطأ منظم من أخطاء الذهن. نعم، هذا ممكنٌ، إلاّ أن نجاح وواقع هذه العلوم على الأرض إنْ لم يكن برهاناً قاطعاً على صدقها فهو دليلٌ قوي على ذلك.

إذا حمل هذا الإمكان على محمل الجدّ فمن المتوقَّع أن يسود المذهب المثالي في كلّ مكان، ولن يبقى الموضوع مقتصراً على العلم التجريبي، بل سيبطل ويهدم كل شيء. وهكذا بالنسبة لنظرية قابلية العلوم للتكذيب، فإنْ فرضنا فيها ملاكاً تاماً فلن تكون على علاقة بظنية العلوم ويقينيتها، فهي ليست بمعنى أن القوانين العلمية ستفنى يوماً ما، سواء في الحتم أو الاحتمال، بل المراد أنّ القضية العلمية إذا كانت باطلة يمكن ـ بطبيعة الحال ـ إثبات بطلانها من خلال التجربة.

وبناءً عليه فإنّ معنى القابلية على النفي والتكذيب في القوانين التجريبية ليس بطلانها بالفعل، ولا بطلانها بالقوة، وإنما المراد هو تقدير البطلان وافتراضه على نحو القضية الشرطية. ولا يفهم من هذا الكلام أن جميع العلوم يقينية. كما أننا لسنا في صدد التشكيك في عدم بداهة المحسوسات والتجريبيات بشكل مطلق. كما لا يمكن الدفاع عن الواقعية الساذجة (naiverealism). بل مرادنا من ذلك أن علماء هذه العلوم على يقين في العديد مما يتوصلون إليه من نتائج، وأنه لا يوجد دليل قاطع على نفي حجية هذا اليقين حتى الآن. وما قيل ويقال فهو أنّه ليس ثمّة دليل على حجية الاستقراء، ولم يتم العثور عليه حتّى الآن. ثم إنّ بطلان العديد من النظريات اليقينية السابقة لا يمكن أن يكون دليلاً على بطلان جميع النظريات. ناهيك عن أن هذا في حدّ ذاته من مصاديق الاستقراء الناقص، ولا يمكن من خلاله نفي الاستقراء وحجّيته.

 

كلمة أخيرة ــــــ

لا بدّ أن ينظر إلى المواضيع والاستطرادات التي طرحناها خلال البحث الأخير على أنها تساؤلات في هذه الدائرة، وفي مقابل سائر المواضيع الأخرى في البحث الكلي. فنحن لسنا أبداً في صدد بيان نتيجة قطعية في التحقيق، وإنما الهدف هو أن نبيِّن حقيقة مفادها أنّ مشكلة الاستقراء ـ نفياً وإثباتاً ـ لم تحلّ بعدُ، وليس مستحيلاً حلُّها، وأنّ ملف هذه الدعوى التاريخية لم يغلق حتّى الآن.

 

للاستقراء حدٌّ في المعاني   يلازمه القويُّ من الرجالِ
له حكمٌ ولا يعطيك علماً   فصورته كمنزلة الظلالِ
مزاحمة الدليل يقوم فيها   وأين العينُ من شخص المثالِ؟
منازلة الظنون وإنّ منها   لمعطيك النزول إلى سفال
فلا تحكم بالاستقراء قطعاً   فما عين الغزالة كالغزال
وإن ظهرت بالاستقرا علوم   فما حكم التضمر كالهزال([33])

 

 

الهوامش

_______________

(*) أستاذٌ جامعي متخصِّص بالعلوم الفلسفية.

([1]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، 1: 216، طهران، نشر الكتاب.

([2]) أما الاستقراء العقلي ـ  الذي من خلال حصر الأقسام يُستنتج حكمٌ كليّ لها ـ  فهو خارج عن محل البحث. فمن المناطقة مَنْ أرجعه إلى القياس المقسم، كأن نقول: إن الشكل إمّا كروي أو له أضلاع، وكل واحد منهما متناهٍ، إذاً فكلّ شكل متناهٍ.

([3]) بهمنيار بن مرزبان، التحصيل: 97، طهران، كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية، 1349.

([4]) ابن سينا، المصدر السابق 1: 217.

([5]) ابن سينا، الشفاء ـ المنطق (البرهان) 3: المقالة الأولى، الفصل التاسع، قم، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، 1404.

([6]) انظر: غلام حسين إبراهيمي ديناني، قواعد كلي در فلسفة إسلامي 1: هامش قاعدة الاتفاق، طهران، مؤسسة الدراسات الفكرية التابعة لوزارة الثقافة والتعليم العالي، 1365هـ.ش.

([7]) الشهيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 27، بيروت.

([8]) منطق أرسطو 1: التحليلات الأولية للمقالة الثانية، الفصل 23، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، 1980.

([9]) أساس الاقتباس، مقالة 5، فصل7؛ ابن سينا، البرهان، المصدر السابق، المقالة الأولى، الفصل التاسع.

([10]) رودلف كارناب، مقدمه إي بر فلسفة علم: 27، طهران، منشورات نيلوفر، 1363.

([11]) الشيخ محمد رضا المظفر، المنطق 1: 259 ـ 298، منشورات فيروز آبادي، قم، 1400.

([12]) انظر: مهدي  حائري يزدي، هرم هستي، الدرس 12.

([13]) شهاب الدين السهروردي، حكمة الإشراق: 120، تعليق: هنري كوربن.

([14]) ابن سينا، التعليقات: 34، تحقيق: عبد الرحمن بدوي.

([15]) منطق أرسطو، التحليلات الأولية، المقالة الثانية، الفصل 23.

([16]) أساس الاقتباس، المقالة الخامسة، الفصل الثامن.

([17]) المنطق: 295.

([18]) فيلسين شاله، شناخت روش علوم: 127، ترجمة: يحيى مهدوي.

([19]) شرح حكمة الإشراق: 128.

([20]) شناخت روش علوم: 124.

([21]) مقدمه إي بر فلسفة علم، الفصل 21.

([22]) الأسس المنطقية للاستقراء: 93 ـ 94.

([23]) المصدر السابق: 356؛ بحوث في علم الأصول 4: 126.

([24]) الأسس المنطقية للاستقراء: 137؛ بحوث في علم الأصول 4: 132.

([25]) كارل بوبر، حدسها وإبطالها: 52.

([26]) أبو نصر الفارابي، الجمع بين رأي الحكيمين: 28. وإليك نص كلامه: «اعلم أن ّمما هو متأكد في الطبائع بحيث لا تقطع عنه (الطبائع)، ولا يمكن خلوها عنه، والتبرؤ منه، في العلوم والآراء والاعتقادات، وفي الأسباب والنواميس والشرائع، وكذا في المعشرات المدينة والمعائشة، هو الحكم بالكلّ عند استقراء الجزئيات. أما في الطبيعيات فمثل حكمنا بأنّ كل حجر يرسب في الماء، ولعل بعض الأحجار يطفو، وأن كل نبات محترق بالنار، ولعل بعضها لا يحترق بالنار، وأن جرم الكلّ متناهٍ، ولعله غير متناهٍ».

([27]) حدسها وإبطالها: 57، 80.

([28]) المصدر السابق: 67.

([29]) المصدر السابق: 42، 52.

([30]) انظر تفاصيل الموضوع في كتاب (حدسها وإبطالها)، وكذلك مقالات الدكتور عبد الكريم سروش، وعنوانها «محكّ تجربة»، في صحيفة فرهنگ، الكتاب الأول والثاني. كما ورد تقرير عامّ عن نقد آراء بوبر في كتاب (در آمدي تاريخي به فلسفة علم)، تأليف: جان لازي ، ترجمة: علي پايا.

([31]) أساس الاقتباس، المقالة الخامسة، الفصل السابع.

([32]) الأسس المنطقية للاستقراء: 421، 424، 454؛ بحوث في علوم الأصول 4: مبحثا التواتر وحجية الدليل العقلي.

([33]) محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، الباب 56، الفصل 200.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً