أحدث المقالات

الفتاة المسلمة ودعوات الانفتاح

 

أ. د. محمد البشير الهاشمي مغلي(*)

 

تمهيد: في الأطوار الإنسانية

نعيش في عصر مذهل يتفجَّر بالتغيَّرات الجذرية المتسارعة على نحو غير معهود في تاريخ الأطوار البشرية الرئيسية، فبالنظر إلى مدى تطور وسائل الإنتاج وطرائق العيش يمكن بإيجاز وتبسيط تبيّن ثلاثة أطوار وطور رابع يبدو في الآفاق:

أوَّلها الطور الطبيعي القنصي الذي بدأ منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض، وامتد إلى اكتشافه وسائل الزراعة التي مكّنته من الاستقرار، ومن إنشاء القرى والمدن، وبالتالي ولوج ميادين التمدّن أو التّحضر. وكان أطولها؛ حيث امتدّ حوالي خمسمائة ألف سنة.

ثانيها الطور الزّراعي الذي امتدّ حتى القرن الثامن عشر بعد الميلاد وساد، في عهوده الأولى، نظام الرّق، وفي عهوده الأخيرة نظام الإقطاع، ثم قامت بعده الثورة الصناعية في الغرب، بعد أن مهَّدت لها "النهضة" الفكرية والفتوحات الجغرافية والتوسّعات التجارية والإصلاحات الدينية وظهور الطبقات الوسطى وبداية القضاء على الإقطاع بتصنيع وسائل الإنتاج. ونتيجة لهده التبدُّلات الكيفية انبثق الطور الثالث.

ثالثها هو إطلالة الطور الصناعي الذي جاء مختلفاً اختلافاً نوعياً عن سابقه، ومكّن لثورة علمية وتكنولوجية فريدة أدخلت العالم إلى عهد جديد بخصائص لم يعرفها من قبل، وعلى حين يكون الطور الثاني قد دام حوالي عشرة آلاف سنة، فإن الطور الثالث لم يكد ينقضي على ظهوره أكثر من مائة سنة حتى طفقت تبدو نهايته في المجتمعات المتقدمة وتطل طلائع الطور الرابع الذي يليه(1).

رابعها هو الطور الذي يطلق عليه تارة الطَّور "ما بعد الصناعي" أو "ما بعد الاقتصادي" أو "ما بعد الحضاري" الذي يمهد لمجتمع المعرفة الذي أصبحت فيه الموارد البشرية أهم من الموارد الأولية، وحيث يبرز الدور المتنامي للثقافة بروزاً واضحاً لعلاقته بالقيم التي هي الركيزة في التحديد للأهداف والوظائف والبنيان، داخل عالم القرية الكونية الصغيرة(2).

في زمن كهذا من الطبيعي أن يكتسح فعل التغيير المتسارع والشامل ما دون المظاهر والنتائج لينفذ بقوة أيضا إلى البواطن والأصول"، فإن القوى الثائرة التي تطلقه تنفذ به عمقاً كما تدفع به اتساعاً، ولكن من الطبيعي أن يكون نفاذه العمقي أقل من اتساعه الأفقي"، فنحن نرى أن التبدلات في مظاهر العيش هي اليوم أكثر انتشاراً من التبدلات في النظم الفكرية والنفسية التي تمس صميم الحياة، فالمسافر المنتقل من البلد المتطور إلى بلد متخلف يستخدم اليوم وسائل النقل نفسها التي تستخدم في بلده، وينزل فنادق متماثلة أينما حلّ، ويجد البضائع نفسها معروضة في واجهات المخازن، ولا يكاد يطلب شيئا من الأشياء التي تعوّدها في بلده إلا وجده، ولكن هذا التماثل في الأدوات والمستحدثات والوسائل الظاهرة لا يقابله تماثل مواز في البواطن والدوافع، أي في الشؤون الاجتماعية والعقلية والثقافية، وفي الأفكار والقيم التي تنشأ منها التصرفات الفردية والجماعية"(3)، حتى أن الفروق تتَّسع بين المجتمعات النامية بوتائر خيالية بل لا نكاد نجافي الحقيقة في أن نلاحظ تعاظم الفجوات بين الأجيال المتقاربة في المجتمع الواحد ومدى تسارعها ، فما كان يحدث في الماضي من تغيير اجتماعي أو عقلي أو أخلاقي كان يستغرق قروناً، أو عقوداً في أفضل الأحوال، بينما قد لا يستدعي ذلك اليوم بضع سنوات أو أقل.

 

خمائر التغييرات الجذرية

في خضم أصداء هذه الأجواء العالمية التي تتصاعد فيها دعوات التغيير وتستقطب بالأخص الأجيال الصاعدة، لا يملك الملاحظ أن يتغاضى، على اختلاف المنطلقات في المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة، عن التماثل أو التطابق في "النقمة على التقاليد والأوضاع والنظم الموروثة وفي ضرورة العمل الانقلابي السريع لإحداث التغيرات الجذرية والتّبدلات الأساسية المنشودة"(4). وكأنّ الجامع في اقتضاء الثورة العارمة على كلّ شيء تقريباً منزع عامّ نحو تجريم ضروب الواقع في أوطاننا وتحميله مسؤولية التخلف عن الركب الحضاريّ، وهو يرزح تحت كلكل التّراث القديم وذخيرة قيم الماضي التي يعتقد بأنّها تشذُّ عن التطوّر، وتحول دون استشراف مستقبل زاهر

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً