أحدث المقالات

لم يعد خافياً على أحد ـ فيما يبدو ـ دور التربية وأهميتها في بناء المجتمعات والأمم، ورسم مستقبلها، فما يرتسم في الأجيال الناشئة يترك بصماته بالتأكيد على مستقبل المجتمع عموماً.

وقد تنبّه ـ إلى حدّ معين ـ التيار النهضوي الإسلامي لهذه الحقيقة، فنادى البعض بالأسرة، أساساً في العمل الاجتماعي والسياسي، وركّزت جماعات أخرى على تربية الناشئة بوصفها العنصر المقوّم لأيّ مشروع تغييري.

1 ـ وإذا أردنا ـ في البداية ـ أن نسائل أنفسنا، فإننا نجد سؤالاً جوهرياً ماثلاً أمامنا؟

هل هناك نظام تربوي في الإسلام أساساً؟!

وهل هناك مشروع تربوي يُعنى بالطفل والناشئة في منظومة النص الديني الإسلامي؟!

وهذا السؤال، يعيد إلى الأذهان ذاك الخلاف الطويل حول وجود نظم اقتصادية أو سياسية أو… في الإسلام.

فهناك من يرى في هذا الدين مجموعةً من الضوابط العامة والمؤشرات الكلية، أما نظم وبرامج ومشاريع فهو ما لا يتحمّله دين يدّعي لنفسه الخلود، وفي المقابل هناك من يفرط في دعوى وجود التفاصيل كافّة على هذا الصعيد أو ذاك بما فيها الصعيد التربوي، فيرى القضايا التربوية ماثلةً برمّتها أمامه في النص الديني، أو في التراث الإسلامي عموماً.

ولسنا بصدد تقييم المواقف هنا، لأن المجال مختصر، سيّما وأنّ هذا الموضوع يجب حلّه فلسفيّاً وكلاميّاً على صعيد نظرية شمول الدين لكلّ وقائع الحياة، ومن ثمّ ورود عالم النصوص التفصيليّة على أساسٍ منه ومنطلق.

إنما تثيرنا مسألة النص الديني حول الموضوع التربوي، وماذا فعلنا لاستدعاء هذا النص؟

إن مشكلة تنظيم النصوص الدينية مشكلة عسيرة، فإذا أردنا أن نراجع موضوعاً معاصراً في النص الديني (الكتاب والسنّة و…) فإننا نجده موزّعاً في عشرات الأبواب والفصول، لأن العلماء المتقدّمين لم يبذلوا جهداً لتنظيم مصادرنا النصوصية وفقاً لواقعنا اليوم، بل ما فعلوه كان يتناسب مع واقعهم الذي مضى ممّا يسهّل عليهم استدعاء النص، ويصعّب علينا أحياناً العملية نفسها، ولهذا وجدنا أنّ مصادر النصوص والأحاديث تمّ تبويبها وإعادة تنظيمها عدّة مرات في التاريخ الإسلامي تبعاً لتطوّرات الدرس الديني عموماً، ولك على الصعيد الإمامي ـ كأنموذج ـ أن تلاحظ ما يسمّى بالأصول الأربعمائة وما شابهها في القرنين الثاني والثالث الهجري، ثم الكتب الأربعة في القرنين الرابع والخامس، ثم موسوعات الوسائل والبحار والمستدرك و.. فيما بعد القرن العاشر الهجري.

إن نصوص التربية والتعليم في الإسلام مشتّتة موزّعة في مختلف النصوص القانونية والأخلاقية، الأمر الذي يستدعي إعادة تنظيم مصادرنا النصوصيّة انسجاماً مع تطوّرات الواقع، فبدل أن نجد بعض النصوص التربوية في الحج أو الديات أو … يلزم إعادة بلورة هذه النصوص بما يسمح للباحث بوضع تقييم وافٍ إزاء هذا الأمر بدل التسرّع بنفي وجود نظم تربوية في الإسلام أو التسرّع بإثبات مثل هذه النظم وعلى نطاق واسع.

2 ـ وعلى موازاة الحالة نفسها، نلاحظ عجزاً واضحاً في الفكر التربوي الإسلامي، وشحّاً بليغاً على هذا الصعيد من دراسات وبرامج و…، ولسنا نقصد عجزاً عند المسلمين عملانيّاً فهذا ما لا نتعرّض له فعلاً، وإنما عجزاً في الدرس الفكري الإسلامي من موضوعة التربية، وسنوضح ذلك أكثر.

إن المراجع لنتاجات الفكر الإسلامي على هذا الصعيد يجد تراجعاً ملحوظاً قياساً بالصعد الأخرى، فثمّة رأي يقول مثلاً بأن دراسات الفكر السياسي الشيعي في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى يومنا هذا توازي ــ كمّا وكيفاً ــ بل وتفوق ما قدّمه الفكر الشيعي على هذا الصعيد طيلة أربعة عشر قرناً مضت، وهكذا نجد من يذهب إلى حصول تطوّرات في البحث التفسيري في القرن الأخير توازي أو تقارب عدّة قرون من الزمن الإسلامي في هذا المجال.

وهذا معناه أن قفزة مذهلة قد حصلت سواءً كانت ضمن الحدّ المطلوب أم لا، لكن أمراً من هذا القبيل لم يحصل على صعيد الدرس الفكري الإسلامي التربوي، فجهابذة الفكر الإسلامي في القرنين الأخيرين لم يعنوا بالموضوع التربوي كما فعلوا في غيره من موضوعات الفلسفة والكلام والفكر السياسي و… فكانت المساهمات محدودة نسبياً، وهذا ما سبّب إخفاقاً جادّاً، بل وغربة على هذا الصعيد.

ولسنا نغضّ الطرف عن محاولات مشهودة بذلها علماء وباحثون مهتمّون في الساحة الإسلامية، من أمثال سيد قطب وباقر شريف القرشي ومحمود البستاني و… بل نقايس لنرصد مدى الاهتمام والرعاية اللذين حازهما هذا الموضوع في القرنين الأخيرين، وإلا فإنّ معطيات إحصائية تؤكّد ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أنّ جهداً غير عادي قد بذل في الجمهورية الإسلامية الإيرانيّة في العقد الأخير من القرن الماضي على الصعيد الإسلامي مما يلوّح بتباشير عن ولادة رؤى أكثر نضوجاً وعلميّة وشفافية وعملانيّة.

3 ـ وقد جاءت المحاولات ـ على محدوديتها ـ مشوبةً بالهاجس الدفاعي، فتمّ التركيز على نقد آليات تربوية غربية بدأت بغزو المجتمعات الإسلامية، واستنـزف الدارس الإسلامي نفسه بهذا الوضع، دون أن يقدّم أنموذجاً بديلاً مكتملاً نابعاً من تراثه ومن خصوصيّته وظروفه.

وقد أدّى هذا الوضع إلى نفوذ المناهج التربوية الغربية في الحياة الإسلامية، بل وحتى في أوساط أولئك الذين طالما نقدوا هذه المناهج، وكان المبرّر لهذا الاستدعاء ما قيل ويقال عن عمليات الفرز في الحضارات الوافدة بين صحيحها وسقيمها، والحال أن عدداً كبيراً من المفاهيم التربوية ــ ومن البرامج كذلك ــ لا يمكن أن يعطي نتائج إلاّ في مناخ حضاري خاص يماهي ذاك المناخ الذي تولّدت فيه البرامج نفسها أو يقاربه، وهذا ما أدّى ويؤدّي إلى واحدٍ من اثنين: إمّا اصطدام هذه المناهج بتيار تراثي متحفّظ ومن ثم الانسلاخ عنها دينياً بسحب الشرعيّة أو العمق الديني عنها… أو تسرّبها لنظم التفكير بما يزيل تدريجياً معالم المنهج التربوي الذي تُدّعى الخصوصية له.

وفي كثير من الأحيان حصل الأمر الثاني ووجدنا ازدواجيةً في معالجة الأمور، كان سببها الرئيسي العجز الفكري عند الباحث المسلم عن تحديد موقف فلسفي يشكّل المنطلق للتعامل مع هذه الموضوعات، مما جعله أحياناً كمن يريد أن يستخدم الآلة المتطوّرة في مجتمع يصرّ هو نفسه على إبقائه زراعياً بما للكلمة من معنى، فإنّ للآلة بصماتها الخاصّة على المجتمع فعندما يراد ترويجها فإن ذلك يعني الإقرار سلفاً بتلك التأثيرات، وهذا يعني أن الإصرار على تكوين مجتمع يناقض ما تتركه الآلة من آثار في مناخ يصرّ في نفس الوقت على ترويج الآلة ليس إلا مناقضة وتهافت بيّنين.

إنّ المعاهد العلمية والحوزات الدينية والجامعات المعنية كلّها مطالبة بهذا الدرس، وخلق عقليّة تربوية في الذهن الجماعي، وهو أمرٌ يمكن أن يكون التراث الأخلاقي والصوفي والعرفاني مادّة خصبة لتنميته والانطلاق به، فقد انطوت كلمات العرفاء وعلماء الأخلاق المسلمين منذ ابن مسكويه والغزالي و… على معطيات ثرّة على الصعيد التربوي العام، مما يسهّل عملية الانطلاق الداخلي في بلورة مشاريع ونظم تربوية في الوسط الإسلامي عموماً.

4 ـ ولا نهدف من وراء تثوير التراث الروحي والخلقي في الإسلام نَمْذَجَة نتاج الغزالي وابن مسكويه وابن طاووس والنراقي والفيض الكاشاني وغيرهم، لأن الإشكاليّة الهامة التي تواجه هذه النمذجة هي طفو اللغة التعميمية ذات الخيوط العريضة على لغة الأخلاق والتربية في التراث الإسلامي، وعدم وجود تصوّرات تفصيلية نابعة من ظواهر مستقرءة عادةً، ولذلك وجدنا أن الرؤى التربوية في السياق التراثي كانت رؤى عامة وكلّية إلى حدّ ما، فيما تشتدّ الحاجة إلى رؤى عملانية تواكب الواقع أيضاً علاوةً على التصوّرات العامة التي تؤسّس للبرامج والمشاريع، فأن يصاحَب الولدُ سبع سنين أو يترك سبعاً موضوع عام لا يلامس معالجة مفردات الظواهر السلوكية التي تواجه الطفل أو المراهق في حياته من الكذب والاحتيال وعقدة الحقارة و…

وهذا ما يعني أن الدرس التربوي الإسلامي يجب أن يفرغ عن وضع المبادئ العامة والتصّورات البنائيّة، دون الجمود عليها أو اعتبارها عنصراً كافياً على صعيد آليات التربية والتعليم، بل لابدّ ــ إذا لم يجد في التراث ــ أن يراكم المخزون البشري والتجارب التربوية الإنسانية بما يقع ضمن السياق الديني العام في عملية يجدر أن لا تبدو محض انتقائية.

وهذا ما يفتح المجال على التجارب البشرية كافّة، عندما لا تكون منطلقة من الخصوصية التي تمتاز عن خصوصية الذات، الأمر الذي تحدّده قراءتنا النظرية لموضوع التربية وكلّياته.

5 ـ ويبقى نشر الروح التربوية في المجتمع ضرورة، إنّ النص القرآني واضح في مزجه ـ بلغة رائعة ـ ما بين المعطيات العلمية والروح التربوية، فالنصوص القرآنية الفقهية بل والعقائدية والتاريخيّة تمتزج بعبارات ذات محتوى تربوي من إنذار وتبشير ووعدٍ ووعيد وأمل ورجاء و…، وهذا ما يؤكّد أن النص القرآني قد زاوج بين التربية والتعليم ولم يفصل بينهما، إيماناً منه بغائيّة المعرفة وهادفيّتها.

ومن هنا كان القرآن الكريم كتابَ هدايةٍ رغم ما يزخر به من معطيات علميّة وجودية هامّة للغاية، لأن الأولوية ـ قرآنيّاً ـ إنما تحظى بها الأبعاد التربوية للنفس الإنسانيّة عموماً، وهذه الأولويّة تبدو جليّةً لكلّ من يطالع هذا الكتاب المقدّس.

وفي هذا السياق، تأتي ضرورة تحويل برامجنا التعليمية ضمن الحدّ الممكن والمناخ المناسب ـ سيما للأطفال والناشئة ـ إلى برامج تخيّم عليها الروح التربوية النضرة، ولا تبقى محصورةً في إطار لغة العلم الجافّة، تلك اللغة التي سيطرت حتى على قسمٍ من علومنا الدينية نفسها، الأمر الذي كانت له ضروراته ومقتضياته التاريخيّة وغيرها.

 

 

 

المصدر: موقع الشيخ حيدر حب الله www.hobbollah.com




(*) نشر هذا المقال في العدد 32 من مجلة المنهاج في بيروت، شتاء عام 2004م.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً