أحدث المقالات

مقدمة ــــــ

يقول الإمام الخميني: «لقد كان من المؤمَّل أن ينتفع الإسلام كثيراً من السيد محمد باقر الصدر، ولا سيّما أنّه عقليّة إسلاميّة مفكِّرة، وآمل أن يطّلع المسلمون على كتب هذا الرجل العظيم»([1]).

ولد السيد الشهيد الصدر في مدينة الكاظمية سنة 1353هـ (1934م).

أبوه هو السيد حيدر الصدر، وهو من علماء الشيعة الكبار في العراق، ومن أهل العلم والتقوى.

وأمّه ابنة الشيخ عبد الحسين آل ياسين من علماء الدين البارزين في العراق، وكانت امرأة طاهرة وتقيّة.

فَقَدَ الشهيد الصدر والدَه في الثالثة من عمره، وتربّى في كنف أخيه الأكبر السيد إسماعيل الصدر، وخاله([2]).

ودرس في مرحلة الصبا في المدرسة الابتدائية (منتدى النشر)، وظهرت عليه علامات الذكاء والنبوغ الفريدة في هذه المدرسة.

وفي الثانية عشر من عمره (1365هـ) هاجر إلى مدينة النجف الأشرف برفقة أخيه السيد إسماعيل الصدر؛ لإكمال مرحلة الدراسة العليا في الحوزة العلميّة، وأخذ يحضر دروس السيد الخوئي وخاله الشيخ محمد رضا آل ياسين. وكان السيد الصدر يمضي حوالي ستّ عشرة ساعة في اليوم في الدراسة والتحقيق أثناء دراسته. وبلغ درجة الاجتهاد في السابعة عشرة من عمره. ودرس الفلسفة عند الشيخ صدرا بادكوبه، أستاذ الفلسفة الإسلاميّة بلا منازع؛ إذ كان يشرح أسفار الملاّ صدرا على أحسن وجه، إلاّ أنه كان يتجنَّب تدريس الفلسفة علانيةً؛ خوفاً من المتحجِّرين المعارضين للفلسفة، وتعلَّم السيد الصدر الفلسفة بشكل خاصّ ومبرهَن على يد ذلك العالم&، وأصبح أستاذاً في الفلسفة خلال مدّة وجيزة.

وفي الخامسة والعشرين من عمره شرع في تدريس الدروس الدينيّة الحوزوية العالية للطلبة، وبالتدريج أصبح يتمتَّع بأفضل كرسيّ للتدريس في الحوزة العلميّة في النجف.

تزوَّج السيد الصدر من إحدى بنات عمّه، وهي شقيقة السيد موسى الصدر، الرئيس الأسبق للمجلس الشيعي الأعلى في لبنان، ورزق منها بستّة أولاد.

وبالإضافة إلى جهود السيّد الصدر وجهاده المضني فقد كانت مرجعيّته الدينيّة تشكِّل خطراً كبيراً على النظام البعثيّ، وخلقت بالتدريج أجواءً قلقةً غير مستقرّة لنظام صدام. وأدَّت هذه العوامل إلى أن يقوم النظام بالقضاء على أنصار السيد الصدر والمقرَّبين منه، عن طريق الاعتقال والتعذيب والسجن والإعدام، ونتيجةً لذلك تعرَّض السيد الصدر للاعتقال والسجن في السنوات 1391 و1396 و1398 و1399هـ، على خلفية مواقفه التي اتَّخذت طابعاً ثوريّاً. وأخيراً، بعد أن قام بإيقاف دروسه في البحث الخارج والشروع في الدرس الجديد، الموسوم بالتفسير الموضوعيّ للقرآن؛ بهدف خلق الأفكار الثوريّة وتوعية الناس وإيقاظهم، والتي لم يُلْقِ منها سوى أربعة عشر محاضرة، انتهت هذه المرحلة بفرض الإقامة الجبريّة عليه، ومحاصرة منزله بشكل كامل، ومنع الناس من الاتّصال به ولقائه، واستغرقت حوالي تسعة أشهر، حتّى تمّ اعتقاله في نهاية المطاف، في 19 جمادى الأولى سنة 1400هـ ـ 6 نيسان 1980م، بأمرٍ من صدّام، واقتادوه إلى بغداد، وتمّ إعدامه في 22 جمادى الأولى 1400هـ، مع شقيقته بنت الهدى، بعد تعذيبهما([3]).

 

 نظريّة الوجود لدى السيد محمد باقر الصدر ــــــ

يرى السيد محمد باقر الصدر أن نظريّة الوجود يمكن تفسيرها إلى حدٍّ كبير من خلال السياسة والتغييرات والتطوّرات المرتبطة بها. والواقع أنه كلّما كان تفسيرنا الفلسفيّ للوجود والحياة واضحاً فإن مناهجنا السياسيّة والاجتماعيّة ستكون هي الأخرى بنفس النسبة من القدرة على الحلّ. ويعتقد أن كلّ حكم صادر في شأن النظم السياسيّة والاجتماعيّة للبشريّة يرتبط بمدى نجاح التفسير الفلسفيّ لذلك النظام في تصوير الحياة وفهمها([4]).

وعلى أساس هذه الرؤية يسعى السيد محمد باقر الصدر في موضوع علم الوجود للبحث في معرفة الخالق وأوصافه بشكلٍ أكبر، ومعرفة مكانة الإنسان في الوجود، والغاية من خلقه، بشكلٍ أكثر نضجاً، وبعبارة أخرى: إن الرؤية الكونية للسيد محمد باقر الصدر تسعى للبحث عن تعريف الظواهر الطبيعيّة في مدى علاقتها وارتباطها بالإنسان وبالله تعالى.

ومن أهمّ الأسس التي تقوم عليها دراسة السيد محمد باقر الصدر لعلم الوجود يمكن أن نشير إلى مسألة عالم الغيب والشهادة. فمراده من عالم الغيب في مواضيع علم الوجود أنه يشكِّل جزءاً من دراسة الكون الخارج عن مستوى إدراك حواس البشر، والذي لا يمكن إدراكه بواسطة الإدراك الحسّي المتعارف عليه. والواقع أن جميع حقائق الوجود الموجودة خارج كيان الإنسان ليست محسوسة. إلاّ أن هذا الاستنتاج يجعل الصدر أمام مذاهب فكريّة تنكر وجود الحقائق غير المادّيّة وغير المحسوسة. وهذا التفكيك للغيب عن الشهادة يعني ـ عند الصدر ـ أن الوجود ليس محدوداً بعالم الطبيعة فقط، بل إن عالم المحسوسات هو مجرَّد عالم واحد من عوالم الوجود. ويرى الصدر أنه على الرغم من وجود اختلافات جوهريّة بين عالمَيْ الغيب والشهادة فإنّ هناك علاقة وثيقة وعميقة بينهما، لا يمكن أن تنفرط، وكلُّ ما هو موجودٌ في عالم الشهادة له جذورٌ في عالم الغيب. وفي رؤية الصدر هذه لم يَعُدْ الله تعالى مجرَّد خالق لهذا الكون وللقوانين والسنن المتحكِّمة في الوجود فحسب، بل الأهمّ من ذلك أنّه المدبِّر للكون أيضاً، وحسب التعبير الفلسفيّ: إنّ العالم ليس بحاجة لله تعالى في حدوثه فحسب، بل هو مرتبطٌ به ومحتاجٌ إليه في بقائه أيضاً، بمعنى أن الله تعالى ليس مجرَّد خالق وموجِد الموجودات فحسب، بل مدبِّرها أيضاً([5]).

ولعله يمكن القول: إن ذلك هو إحدى الرؤى المنطقيّة الأخرى للشهيد الصدر في علم الوجود، في خصوص انسجام رؤيته الكونيّة مع فطرة الإنسان ومحتواه الداخليّ. فهو يرى أنّ الدين الإسلاميّ منسجمٌ مع الفطرة الداخليّة أو المحتوى الداخليّ للإنسان، ومع قابلياته وحاجاته وأمنياته، ويشتمل على الثوابت المشتركة بين جميع أفراد البشر([6]). وبناءً على هذه النظريّة فالوجود يقوم على أساس الحقّ، وإن أصالة عالم الوجود وهدفيّة الخلقة إنّما تكتسب معناها في أصالة خلق الكون من سعة معنى «الحقّ»، وعمقه، وتتجلّى بصور مختلفة. ومن إحدى تجلّيات هذه الحقيقة أنّ الكون يقوم على أساس القوانين والسنن الإلهيّة، ويتقوَّم بها، وبتعبير آخر: إن التقدير الإلهيّ يتوقَّف على انتظام الوجود بنظامٍ خاصّ، وتعمل ظواهره ضمن حدودٍ خاصّة. وبناءً على ذلك يلعب الناس دوراً مهمّاً في حياة البشريّة وفي الحياة السياسيّة، وفقاً لقاعدة الهدفيّة في خلق العالم، وأن خلقه لم يكن عبثاً.

ومثل هذا الإنسان لا يفتح أبداً أيّ مجال أمام الأفكار الخاوية الفارغة، ويبقى ثابتاً على المبدأ القائل: إنّه من خلال كيفيّة الفهم الفلسفيّ للوجود سيتولَّد نوعٌ من الرؤية الكونيّة تقول: إنّ الإسلام قادرٌ على هداية البشريّة، وقيادتهم، وتوجيه مسار حياتهم([7]). وأشار في أوّل مصنَّفاته العلميّة إلى هذا الموضوع، وذلك أن الإسلام هو الفكر الأقوى لحمل مسؤوليّة القيادة العقائديّة، وتوجيه الأمّة الإسلاميّة نحو أسمى الأهداف والمُثُل، وجعلها أفضل الأمم على وجه الأرض([8]).

ويمكن أن نقتبس هذه النقاط من النتائج المترتِّبة على دراسة نظريّة الوجود للسيّد الصدر:

أـ إن الله حكيمٌ وعادلٌ محض.

ب ـ  صفاته وأفعاله هي عدلٌ محضٌ أيضاً.

ج ـ  نظام الوجود هو النظام الأكمل والأحسن، وليس فيه أيّ اعوجاج ونقص.

د ـ  يتطرَّق إلى رفض الحكم لغير الله في المجتمع.

هـ ـ إن العدالة السياسيّة والاجتماعيّة وتحقيقها في المجتمع البشريّ أمرٌ واجب([9]).

 

 أنثروبولوجيا السيد محمد باقر الصدر ــــــ

يرى السيد محمد باقر الصدر أن الإنسان يملك طبيعة ذات بُعدَيْن، ولكن ليس حسب تعبير الفلسفة الثنائية، التي كانت تتحدَّث عن الطبيعة المزدوجة. فالصدر يبيِّن الجوانب المختلفة لدى توضيحه لقابليّات الإنسان، ويعبِّر عن الجانب المادّيّ بعبارة الصلصال والطين اللازب والحمأ المسنون. وإن هذه العبارات تكشف عن البعد المادّيّ والحيوانيّ للإنسان، وإنّ البعد الملكوتي يعبِّر عن النطق والحالة المعنويّة والعقليّة. ويرى أنّ الإنسان مخلوقٌ بأبعاده المختلفة والمرتبطة بقوّة ببعضها البعض. والعامل المهمّ في رؤية الصدر هو الطبيعة الداخليّة للإنسان، وإنّ دور حبّ الذات يعتبر أمراً حيويّاً ومهمّاً جدّاً لديه في توفير احتياجات الإنسان. فهو يعتقد أن تاريخ الإنسان يشهد على أنّ غريزة حبّ الذات هي غريزة أصيلة. فلو لم يكن حبّ الذات موجوداً في طبيعة الإنسان لما كان لديه أيّ دافع يحفِّزه لتوفير الاحتياجات. على أنّ توفير هذه المتطلَّبات كان موجوداً قبل تكوين المجتمعات، وهذه المسألة تمخَّضت عنها عمليّة تشكيل وتكوين المجتمعات؛ ليتمكَّن الإنسان في ظلّها من الحفاظ على بقائه([10]).

ويرى السيد الصدر أنّ البعد المعنويّ له بعض المتطلَّبات الموجودة في ثنايا وزوايا هذا الجسم والمحيط الاجتماعيّ، والتي يفتح الطريق من خلالها نحو مستقبل مظلم أو منير باختياره. فالإنسان بطبيعته لا هو ظلمة، ولا نور، بل كلاهُما من صنعه، ونتيجة اختيار الإنسان هي الأصيلة. إن الصدر في تفسيره للإنسان يركِّز اهتمامه على المحتوى الباطني للإنسان (العامل الأساسيّ للطبيعة الداخليّة للإنسان)، أي دور الفكر والإرادة اللذين يصنعان ويشكِّلان حركة التاريخ والمجتمع. ويقول في هذا الخصوص: إنّ الوجود الذهني يعبِّر من جهةٍ عن البعد الفكريّ، أي الجانب الذي يتضمَّن تصوُّر الهدف، ويعبِّر من جهة أخرى عن الإرادة، وبامتزاج الفكر والإرادة تتحقَّق القدرة على بناء المستقبل وطاقة الحركة الإبداعية للنشاط التاريخيّ في الميدان الاجتماعيّ([11]).

ومن خلال هذا الوصف يمكن القول: إنّ مَنْ يصنع حركة التاريخ هو المحتوى الباطني للإنسان، أي الفكر والإرادة. ويرى الصدر أنّ الإنسان بهذا الوصف مدنيٌّ بالطبع، واجتماعيٌّ. وبما أنّ الإنسان اجتماعيٌّ فهو يحتاج إلى قانون. ومنجزاتُ النبوّة هي القانون([12]). إلاّ أنّ هذا الإنسان المدنيّ بالطبع (الاجتماعيّ) ـ برأي الصدر ـ عندما يريد أن يتَّخذ قراراً وهو على مفترق طرق، وخاصّة عندما تؤدّي تعقيدات الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة إلى حصول التداخل بين الحقّ والباطل بالشكل الذي يحتار فيه أكثر الناس حكمةً وتعقُّلاً في التمييز بينهما، يصبح طريق النجاة الوحيد أمام الإنسان يتمثَّل في امتلاك دليل الإيمان بقواعد محدَّدة وواضحة، وبامتلاك الفكر والإرادة([13]).

وبعد ذكر هذه الأوصاف يرى السيد الصدر أن النقطة المهمّة تتمثَّل في المحتوى الباطنيّ للإنسان، مع جميع التغييرات السياسيّة والاجتماعيّة([14]). يرى السيد الصدر أن الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة هي وليدة صنع الإنسان وما قدَّمت يداه. ويشير إلى هذا الموضوع في تفسيره للآية 11 من سورة الرعد، فهذه الآية تقول: إنّ تفسير الأوضاع والأحوال الاجتماعيّة لأيّ قومٍ يتوقَّف على ما قام به أولئك القوم. فالتغيير الأساسيّ والحقيقيّ هو التغيير الذي يحصل في نفوس أولئك القوم، وإنّ أيّ متغيِّر آخر إنّما يستمدّ وجوده من هذا التغيير الأساسيّ. ومن الطبيعيّ فالمراد بالتغيير في قوله تعالى: ﴿مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ هو التغيير الحاصل في أعماق أفراد الأمّة، بحيث يتغيَّر المحتوى الباطنيّ للمجتمع ليصبح أمّة واحدة([15]).

 

نظريّة المعرفة عند الصدر ــــــ

يجب أن نضع السيد محمد باقر الصدر ضمن مجموعة الفلاسفة السياسيّين، الذين يمكن أن تكون منظومة أفكارهم ومؤلَّفاتهم منظَّمة وممنهجة. إلاّ أن المعوقات والظروف الخاصّة، من قبيل: دكتاتوريّة النظام في العراق، واستشهاد السيد الصدر في السابعة والأربعين من عمره، أدّت إلى أن يخسر فرصة التنفيذ، وتقسيم الفكر السياسيّ.

وسعينا في هذه الدراسة إلى إعادة قراءة أفكاره العلميّة على أساس المباني والأسس الفكريّة التي يتبنّاها هو.

وبشكل عامّ فإنّ نظريّة المعرفة للسيد الصدر تقوم على مبدأين:

أحدهما: إنّ العقل الاستدلاليّ لا يكفي لوحده لإثبات الحقيقة، بل يجب أن يكون ممتزجاً مع معارف أخرى([16]).

والآخر: إن نظريّة المعرفة للسيد الصدر من النوع المرتبط والمقارن، أي إنّه مازَجَ الفلسفة الاستدلاليّة مع باقي الفلسفات الأخرى، ومن ثم ربطها بالوحي، وقارنها بعقائد الشيعة([17]).

وعلى العكس من بعض العلماء الذين وقفوا جلّ جهودهم الفكريّة على إيجاد التناسق والانسجام بين الفلسفة والعلوم التطبيقية فإنّ الشهيد الصدر لم يحصر المعرفة في وسيلة واحدة، بل يرى أنّ القيمة والحجّيّة هما أبعد وأوسع من المعرفة الأحادية، وأنها تستند وتقوم على نظريّة المعرفة للحكمة المتعالية، وحدَّد معيار كشف الواقع بأربعة مصادر. وبتعبير آخر: إن نظريّة المعرفة يتمّ تحديد خطوطها في الخطوط العامّة للحكمة المتعالية، وإن مصادرها وأدواتها المعرفيّة، أي العقل والفكر (أصالة العقل) على أساس مصدر العقل، والتجربة والمشاهدة (أصالة التجربة) على أساس مصدر الطبيعة، وكذلك الكشف والشهود (أصالة العرفان) على أساس مصدر القلب، والشريعة والكتاب (أصالة الوحي) على أساس مصدر السنّة والكتاب الإلهي، استخدمت كلّها بصيغة الجمع، على أن جميع هذه الأضلاع المرتبطة مع بعضها تشكِّل مربَّعاً واحداً، وليس أن تكون على شكل خطوط متوازية، وأن يكون لكلٍّ منها مكانه المستقلّ به. فجميع هذه الأدوات برأي السيد الصدر، كما هو رأي الملا صدرا أيضاً، لها قيمتها واعتبارها، ولا ينقض أيٌّ منها الآخر، إلاّ أنّ حدود ومساحة عمل كلٍّ منها يختلف عن الآخر.

وعلى سبيل المثال: إن التجربة وأصالة التجربة لن تستطيع بمفردها خلق المعرفة القائمة على اليقين. كما يشير أيضاً إلى عجز المنطق التجريبي في توضيح المسائل الرياضيّة، ويعتقد أن مسألة اليقين في القضايا الرياضيّة تخرج على أساس المنطق التجريبي بصورة معلَّقة وغير محسومة([18]).

ولكن السيد الصدر يعتبر المعرفة التجريبية مكمِّلاً للمعرفة العقليّة، ويعتقد أن المعرفة في هذه الصورة تصبح ذات مرحلة مزدوجة: المرحلة التي تجمع فيها نتائج الحسّ والتجربة؛ والمرحلة التي تفسّر فيها تلك النتائج عقليّاً([19]).

ومن أكثر أنواع المعرفة يقيناً لدى السيد الصدر هي المعرفة الصادرة من الوحي، وهي المعرفة التي يؤيِّدها العقل أيضاً، بنفس الشكل الذي تأخذ فيه المعرفة الصادرة من الوحي بالمعرفة العقليّة والعرفانيّة.

ففي معرفة السيد الصدر أصبح الإنسان قابلاً لتحمُّل المسؤوليّة بناءً على ما يمتلكه من الوعي، وليس على أساس الإمكانات فقط. ويعتقد أن الإنسان يجب عليه أن يدرك مسؤوليّته الحقيقيّة من أعماق وجوده، ويعيها؛ لكي يتمكَّن من تحقيق سعادته الأبديّة، من خلال أدائه لتلك المسؤوليّة([20]).

ويمكن القول باختصار: إن السيد الصدر كان يرى إمكانيّة القيام بدراسة مواضيع مسألة الإدراكات والمعرفة بمساعدة نظريّة الحكمة المتعالية؛ لأنّ الإطار العامّ للفلسفة السياسيّة الكلاسيكيّة للمسلمين ما زال يقوم على أساس المنطق الصوري، الذي يعتبر المعرفة مدخلاً له. ومن هنا فقد سعى إلى أن يستفيد من التنظيم الرياضيّ، ومسألة الاستقراء لهذا الموضوع؛ إذ إنّ السيد الصدر كان يرى أن المنطق الصوري يتكفَّل ببيان العلاقات الموضوعيّة للمعلومات والمدركات فقط. وعلى أساس هذا المخرج اعتقد السيد الصدر أنّه لو تمّ الأخذ بأسلوب المنطق الصدرائي (نسبةً للملاّ صدرا) ومدرسته المعرفيّة فبإمكان علم المعرفة الجديد أن يمثِّل حلاًّ لفلسفة الإسلام السياسيّة.

وبشكل عامّ يمكن القول، في توضيح نظريّة المعرفة للسيد الصدر: إنّ السيد الصدر يؤسِّس لنظريّة جديدة تقريباً في علم المعرفة.

فمن حيث الأسس يختلف السيد الصدر مع الفلسفة السياسيّة للغرب (الليبراليّة والماركسيّة)، ومن ناحية أخرى فالصدر دخل بأسلوبه العلميّ المعرفيّ القائم على الأسلوب المقارن والمرتبط، والذي سبق أنْ تطرَّقنا إليه، دخل ميدان علم البناء المعرفيّ والإدراكات، الذي أحدث في الواقع شيئاً من التنوُّع في الفلسفة السياسيّة للإسلام، الذي كان يهتمّ فقط بمواضيع علم الوجود حصراً.

 

نظريّة السيد الصدر في «فلسفة التاريخ» أو «سنن التاريخ» ــــــ

سعى السيد الصدر في موضوع فلسفة التاريخ لكي يجيب عن الأسئلة التالية:

1ـ هل هناك قوانين خاصّة تتحكَّم في مسيرة التاريخ، وفي حركة التاريخ البشريّ وتكامله؟

2ـ ما هي القوانين التي تصنع تاريخ البشريّة؟

3ـ هل للإنسان دورٌ في عمليّة التاريخ؟

انطلاقاً من أن القرآن الكريم كتاب هداية، جاء من أجل إحداث التغيير المطلوب في الإنسان، فإن هذا التغيير يتطلَّب أن يكون ذا بُعدَيْن:

البعد الأول: يرتبط بمحتوى عمليّة التغيير، أي إنّ له بعداً يفوق البشر وقدراتهم، يرتبط فيه بالأحكام والبرامج والقوانين الإلهيّة. ولهذا الجانب من عمليّة التغيير بُعدٌ إلهيّ، ويعبِّر عن القوانين الإلهيّة.

أما البعد الثاني، أي البعد البشريّ والأعمال التي تقاوم جهوداً بشريّة أخرى في الميادين الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة، فعندما ننظر إلى عمليّة التغيير من هذه الجوانب تصبح عبارةً عن جهد بشريّ([21]). ومن ثم يقسِّم عمليّة التغيير التي قام بها الأنبياء، ذات البعد البشريّ، إلى قسمَيْن: فمن جهة صلتها بالشريعة والوحي ومصدر الوحي هي فوق التاريخ، وهي ربانية؛ ولكنْ من حيث كونُها جهداً بشريّاً يقاوم جهوداً بشريّة أخرى تعتبر عملاً تاريخيّاً، تحكمه سنن التاريخ، وتتحكَّم فيه الضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسمّاة بالساحة التاريخيّة. ولهذا نرى أن القرآن الكريم حينما يتحدَّث عن الزاوية الثانية، عن الجانب الثاني من عمليّة التغيير، يتحدَّث عن أناس بوصفهم بشراً من البشر، وليس عن رسالة السماء. وكمثال على ذلك: القرآن الكريم يتحدَّث في هذه الآيات مع الناس بوصفهم أناساً، ويقول: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140)، أو قوله تعالى، في نفس الآية من سورة آل عمران: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾.

ويستنتج السيد الصدر من هذا النمط من الآيات الكريمة أن المراد بها ما يلي: لا تتخيَّلوا أنّ النصر حقٌّ إلهيّ خصّه الله لكم، وإنّما النصر حقٌّ طبيعيّ لكم بقدر ما يمكن أن توفِّروه من الشروط الموضوعيّة لهذا النصر. هذه السنن التي يطرحها هي غير السنن والضوابط الشخصيّة في خصوص الأفراد الواردة في خصوص شخصيتهم حصراً.

مثلاً: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ (الحجر: 4 ـ 5)؛  و﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ (المؤمنون: 43)؛ و﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (آل عمران: 13)؛ و﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام: 34)؛ وأخيراً ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ (البقرة: 214).

يقول السيد الصدر: إنّ الله سبحانه وتعالى يهدِّد هذه الجماعة البشريّة، ويستنكر عليهم أن يأملوا في أن يكون لهم استثناءٌ من سنّة التاريخ، هل تطمعون أن يكون لكم استثناءٌ من سنّة التاريخ؟([22]).

وبعد هذا التوضيح المختصر للسيد الصدر، الذي وضّح فيه أن الجانب الثاني لعمليّة التغيير محطّ اهتمام القرآن الكريم، يطرح أهمّية كشف السنن التاريخيّة من وجهة نظر القرآن الكريم، وضرورة استقراء الحوادث التاريخيّة، أي دقِّقوا وتأمَّلوا وتدبَّروا لكي تتَّضح لكم حقائق معيَّنة في خصوص علم التاريخ والسنن التاريخيّة، عن طريق استقراء نواميس الطبيعة وسنن الكون.

وقد دعم السيد محمد باقر الصدر هذا الكلام بآياتٍ، من قبيل: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ (محمد: 10)؛ و﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 109)؛ و﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 45 ـ 46)؛ و﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 36 ـ 37).

وبشكل عامّ يقول السيد الصدر: إنّ الاطّلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكِّن الإنسان من التوصُّل إلى النصر. ويشير في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ (سبأ: 34 ـ 35). ويرى السيد محمد باقر الصدر أنّ العلاقة القائمة بين النبوّة على مرّ التاريخ وبين موقع المترَفين والمسرِفين في الأمم والمجتمعات كانت علاقة تضادّ وتعارض. وهذه العلاقة تمثِّل سنّةً من سنن التاريخ([23]).

 

 تقسيم السنن التاريخيّة عند السيد الصدر ــــــ

السنن التاريخيّة ليست علاقةً عشوائية، فهي علاقة ذات طابع موضوعيّ لا تتخلَّف. شمولية هذه القوانين وعموميتها تكسب سنن التاريخ طابعاً علميّاً؛ لأن أهمّ ما يميز القوانين العلميّة هو الاطّراد والتتابع وعدم التخلُّف.

الحقيقة التي يؤكِّد عليها القرآن الكريم هي ربّانية هذه السنن. فالسنن التاريخيّة ربّانية؛ بمعنى أنها مرتبطة بالله تعالى: ﴿سُنَّةَ الله﴾، وبعبارة أخرى: هي ﴿كَلِمَاتُ الله﴾، بمعنى أن كلّ قانون من قوانين التاريخ هو  «كلمة الله»، وهو قرار ربّاني. وهذا يستهدف تربية فكرة ربط الإنسان بالله تعالى؛ أي حتّى عندما يريد الإنسان أن يستفيد من الطبيعة فهو مرتبطٌ بـ «كلمة الله».

وبعبارة أخرى: يستطيع الإنسان أن يستعين بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونيّة، ويستفيد من القوانين والسنن التي تتحكَّم بالطبيعة، عندما لا يكون منعزلاً عن الله؛ لأن الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن، وهذه السنن والقوانين تمثِّل «إرادة الله»، وهي ممثِّلة لحكمة الله وتدبيره في الكون([24]).

ومن الممكن أن يقال: إنّ الطابع الغيبي والإلهي لعلم التاريخ يؤدّي إلى إبعاد التاريخ عن إطار التفسير العلميّ والموضوعيّ للتاريخ. في حين أن القرآن لا يسبغ على الحادثة التاريخيّة طابعاً غيبيّاً؛ لكي يقطعها عن الروابط والعلاقات الأخرى، ويربطها بالله تعالى مباشرة. فالقرآن الكريم لا يجعل الصلة بالله بديلاً عن صلة العِلّة والمعلول، والأسباب والمسبَّبات، بل يربط السنّة التاريخيّة بالله تعالى. بمعنى أنه يربط شكل العلاقات وأوجه الارتباط بالله تعالى. القرآن يعترف بوجود الصلة بين الحوادث التاريخيّة لهذا الكون، ولكنّه يقول: إنّ هذه الصلات بين الحوادث التاريخيّة هي تعبيرٌ عن حكمة الله، وحسن تدبيره وتقديره، وبنائه التكوينيّ للساحة التاريخيّة. وبناءً على ذلك حين يريد القرآن الكريم أن يسبغ الطابع الإلهيّ على السنن التاريخيّة لا يريد أن يفسِّر التاريخ بتفسيره الإلهيّ، بل يريد أن يؤكِّد على الحقيقة التالية، وهي أن هذه السنن ليست خارجةً عن القوانين الإلهيّة.

 

مسألة حرّيّة الإنسان واختياره ــــــ

يقول السيد الصدر: إنّ السنن التاريخيّة ليست أعلى من يد الإنسان إطلاقاً، بل تجري من تحت يده ـ كما يقول السيد الصدر ـ. وإن مسألة اختيار الإنسان تلعب دوراً متميِّزاً في الإطار الذي يرسمه القرآن الكريم للسنن الإسلاميّة. ثم يشير فيما بعد إلى قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (الرعد: 11)؛ و﴿وَأَنْ لَوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾ (الجن: 16)؛ و﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾ (الكهف: 59).

 ميدان السنن التاريخيّة ــــــ

هذه السنن تجري على الساحة التاريخيّة، لكن هل أن الساحة التاريخيّة بامتدادها هي ميدان للسنن التاريخيّة أم أن السنن التاريخيّة تتحكَّم بجزء من هذه الحوادث، إلاّ أن الساحة التاريخيّة عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتمّ بها المؤرخون؟.

والسؤال الأفضل هنا هو: هل أن جميع الحوادث والقضايا محكومةٌ بالسنن التاريخيّة؟

الصحيحُ أنّ جزءاً معيَّناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ، وبدلاً عنها تنطبق عليها قوانين الفيزياء والكيمياء والقوانين الفسيولوجيّة أو أيّ قوانين أخرى لمختلف الساحات الكونيّة الأخرى.

إذاً سنن التاريخ لا تتحكَّم بكلّ الساحة التاريخيّة.

ولكن ما هي الميادين التي تتحكَّم فيها؟

يشير السيد الصدر هنا إلى وجود نوعٍ من العلاقة والصلة بين الظواهر في ميدان الساحة التاريخيّة، ويقول: «العلاقة والصلة الموجودة في بعض الظواهر في الميدان التاريخيّ هي علاقة تنظِّم الحركة نحو الهدف، وتنشِّط باتّجاهه؛ بهدف الوصول إلى هدف معيَّن، أو ما يسمّيه الفلاسفة بالعِلّة الغائيّة، فضلاً عن العِلّة الفاعليّة. وهذه الروابط غير موجودة في جميع الميادين. وبعبارة أخرى: هذه الميزة عبارةٌ عن دور العِلّة الغائيّة في العمل، فالعمل مرتبط بالمستقبل. وفي نفس الوقت يجب أن نعلم أنّه ليس بالضرورة أن يكون لكلّ عملٍ هدفٌ وغايةٌ، ويكون عملاً تاريخيّاً، ولا يمكن القول: إن السنن التاريخيّة تجري عليه، بل هناك بُعدٌ ثالث، ولكي يصبح العمل تاريخيّاً لابدّ من أن يؤخذ البُعد الثالث بنظر الاعتبار».

وبناءً على ذلك فالبعد الأول هو العِلّة الفاعلية، والثاني هو العِلّة الغائيّة، والبعد الثالث اللازم للدخول إلى منطقة السنن التاريخيّة هو العِلّة المادّيّة، وهي شرطٌ لكي يأخذ العمل بُعداً اجتماعيّاً([25]).

المجتمع هو الذي يشكِّل عِلّة مادّيّة للعمل، بمعنى أنه هو الذي يمهِّد الأرضيّة المناسبة للعمل.

وانطلاقاً من هذه الخصوصية الاجتماعيّة نعتبر العمل تاريخيّاً، ويعتبر عملاً للأمّة وللمجتمع، وإنْ لم يكن المباشر في جملة من الأحيان إلاّ فرداً واحداً، ولكن باعتبار الموج الذي يحدثه يعتبر عمل المجتمع.

إذاً العمل التاريخيّ الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملاً لعلاقةٍ مع هدف وغاية، ويكون في نفس الوقت ذا أرضيّة أوسع من حدود الفرد، ذا موجٍ يتَّخذ من المجتمع عِلّة مادّيّة له، وبهذا يكون عمل المجتمع([26]).

 

صيغ السنن التاريخيّة (فلسفة التاريخ) ــــــ

  1ـ الصيغة الشرطية ــــــ

الشكل الأول للسنّة التاريخيّة هو شكل القضيّة الشرطيّة. وفي هذا الشكل تتمثَّل السنة التاريخيّة في قضيّة شرطيّة تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخيّة، وهذه العلاقة تؤكِّد العلاقة الموضوعيّة بين الشرط والجزاء. والمثال على السنن التاريخيّة الشرطيّة ما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، و﴿وَأَنْ لَوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾ (الجن: 16)، و﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ (الإسراء: 16). ومثل هذه القوانين تقدِّم خدمة كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية، وتلعب دوراً عظيماً في توجيهه.

 

 2ـ الصيغة القطعية ــــــ

الشكل الثاني التي تتَّخذه السنن التاريخيّة شكل القضيّة الفعليّة الناجزة المحقَّقة، أي إنّها تعرض بدون حالة التوقُّعات. ومثال ذلك الشمس عندما تنكسف في اليوم الفلانيّ، فالإنسان لا يملك اتّجاه هذه القضية أن يغيِّر من ظروفها، وأن يعدِّل من شروطها؛ لأنّها ليست بصيغة القضيّة الشرطيّة، وإنّما هي قضيّة قطعيّة، سوف تتحقَّق بالفعل.

 3ـ الصيغة غير القطعية (المرنة) ــــــ

وهذا النوع من السنن اهتمّ به القرآن الكريم اهتماماً كبيراً، وهي السنن المصاغة على صورة اتّجاه طبيعيّ في حركة التاريخ، لا على صورة قانون صارم حدّّي لا رجعة فيه. والمعلوم أن الاتّجاهات تختلف عن القانون. وتوضيح ذلك أنّ القانون العلميّ ـ كما نتصوَّره عادةً ـ عبارةٌ عن تلك السنّة التي لا يمكن أن تهزم من قبل الإنسان؛ لأنّ الإنسان لا يستطيع أن ينقض القوانين الطبيعيّة، ولا يستطيع الخروج عن دائرة طاعتها. ولكن هناك اتّجاهات مرنة يمكن تحدّيها ومعارضتها، لكنّها مع ذلك قد تحطِّم هذا المتحدّي وتسحقه بسنن التاريخ نفسها تدريجيّاً. إذاً هناك بعض السنن يمكن تحدّيها، ولكنْ هناك اتّجاهات يمكن تحدّيها، ولو على شوط قصير، ومن ثمّ تحطّم هذا المتحدّي بسنن التاريخ نفسها. وهذا من خصوصيّات الاتّجاهات والتجاذبات الأصيلة للإنسان في حركة التاريخ([27]).

 

دور الإنسان في حركة التاريخ ــــــ

إن الإنسان أو المحتوى الداخليّ للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ. فحركة التاريخ هي حركة هادفة غائيّة، لا تخضع لتأثير قانون العِلّيّة والسببيّة، ومرتبطة بعِلّتها وماضيها فقط، بل إنها مرتبطة بهدفها أيضاً؛ ذلك أنّ الحركة الهادفة لها عِلّة غائيّة متطلِّعة إلى المستقبل. والواقع أنّ فكر الإنسان وإرادته هما اللذان يشكِّلان ضمير الإنسان، والمحتوى الداخليّ للإنسان يلاحظ في هذين الركنين الأساسيّين، وبناءً على ذلك فالمحتوى الداخليّ للإنسان هو الذي يصنع حركة التاريخ.

فالبناء الاجتماعيّ العلويّ، بكل ما يضمّ من علاقات وأنظمة وأفكار وتفاصيل، يقوم على قاعدة المحتوى الباطنيّ للإنسان. ويستنتج بعد ذلك أنّها علاقة تابع ومتبوع، أو عِلّة ومعلول؛ إذ إن القرآن الكريم يؤمن بأنّ عمليّة التغيير في ظاهر الإنسان وباطنه يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب؛ لكي يتمكَّن الإنسان من بناء محتواه الباطني، أي فكره وإرادته وميوله، وهذا المحتوى الداخليّ يجب أن يكون منسجماً مع بنائه العلويّ الخارجيّ([28]).

 المجتمع وعلاقة الفرد به لدى السيد الصدر ــــــ

يتطرَّق السيد الصدر في البداية إلى أعمال الإنسان وردود الأفعال. ويقسِّم السلوكيّات إلى ثلاثة أشكال:

1ـ عمل طبيعيّ تكون فيه العِلّة الفاعليّة هي الأساس (أحاديّ الجانب).

2ـ عمل فرديّ ذا عِلّة غائيّة، فضلاً عن العِلّة الفاعليّة؛ كونه يصدر عن الإرادة وذا هدفٍ خاصّ (ذو بُعدَيْن).

3ـ عمل اجتماعيّ ذو عِلّة فاعليّة، وعِلّة غائيّة هادفة، وكذلك ذو عِلّة مادّيّة أو عِلّة مؤثِّرة، فهو ثلاثيّ الأبعاد.

إذاً العمل الذي يمتلك البعد الثالث يصبح عملاً اجتماعيّاً، ثم يشير إلى أننا في دراستنا للمجتمع لدينا كيان بشأنَيْن ووجهَيْن: أحدهما: هو الشأن والوجه الفرديّ؛ والآخر: هو الشأن والوجه الاجتماعيّ. ويطرح هذا الموضع بالاستفادة من نظريّة الملاّ صدرا في موضوع نفس الإنسان([29]). وهذا الوجه الثاني هو الذي يبني (الأمة أو المجتمع). إذاً ليس لدينا هنا كيانان مستقلاّن عن بعضهما باسم (الفرد والمجتمع)؛ لكي نقول: أيُّهما له الأصالة، الفرد أم المجتمع؟ بل إن لنا كياناً واحداً بوجهين: أحدهما: فرديّ؛ والآخر: اجتماعيّ. ويجري ذلك على جميع مناحي الحياة البشريّة، ويعبَّر عنه بنظريّة «المثل الأعلى».

ويواصل كلامه بالقول: إن المراد في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، من تغيير ﴿مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾، التعبير عن «المحتوى الداخليّ للقوم»؛ ذلك أن تغيير الفرد الواحد أو الفردين والثلاثة لا يحلّ المشكلة الأساسيّة لـ «تغيير ما بالقوم»([30]).

المهمّ هو الوجه الاجتماعيّ. إذاً فهو يقبل بوجود كيان واحد بشأنَيْن.

ويرى السيد الصدر أنّه صحيحٌ أن المجتمع يتكوَّن من الأفراد، ويحمل ضمير الأفراد وإرادتهم المستقلّة التي يطبِّقها على الأفراد، ولكنّ الاستقلال النسبيّ للأفراد محفوظٌ. ولذا يتمكَّن الفرد من أن يغيِّر مجتمعه، كما يتمكَّن الفرد من أن يتحرَّك باتجاهٍ مخالفٍ لحركة المجتمع، رغماً عن مسيرة المجتمع وحركته. وهذه المسألة هي ذاتها التي يحافظ فيها الإنسان على حرّيته واستقلاله إلى حدٍّ كبير، في مقابل الجبر في المجتمع.

 

 خصائص المجتمع وعناصره عند السيد الصدر ــــــ

1ـ المجتمع الكامل هو القائم على أسسٍ فكريّة مبدئية وعقائديّة خاصّة.

2ـ المجتمع ذو ولادة خاصّة تنبثق من خلال مكانة الأمّة أو المجتمع، ويكون حيّاً.

3ـ المجتمع متحرِّك وفاعل.

4ـ السنن الإلهيّة تتحكَّم بالمجتمع وبحركته، أي التاريخ.

5ـ لهذه السنن ميدانٌ واسع ٌجدّاً، ومنسجمٌ مع حرّيّة الإنسان واختياره.

6ـ للمجتمع أَجَلٌ ما أو موتٌ (الحياة الاجتماعيّة)، ويعني موت الوجه الاجتماعيّ لأفراد المجتمعات.

7ـ للمجتمع عمليّة إحضار جماعيّة؛ لكي تعود العلاقات الباطلة إلى نصابها الحقّ، وجاء التعبير عنه بـ (يوم التغابن).

8ـ لكلّ مجتمعٍ سِجِلٌّ أو كتابٌ خاصّ.

ويوضِّح السيد الصدر عناصر المجتمع على أساس آية الخلافة، وهي:

1ـ الإنسان.

2ـ الطبيعة.

3ـ العلاقة أو الاستخلاف.

يذكر السيد الصدر خمسة خصائص في خصوص النظام الاجتماعيّ القِيَميّ، ومن ثم يقول: إنّ الإسلام هو نظام اجتماعيّ متكامل. ويذكر الخصائص القيميّة للنظام الاجتماعيّ في مقالة (المدرسة الإسلاميّة)، و(فلسفتنا):

1ـ يعطي التفسير الصحيح والواقعيّ لحياة البشريّة ووجودها، ليظهر الطريق الصحيح للمعرفة.

2ـ النظام الاجتماعيّ يكون منسجماً ومتوافقاً مع غرائز الإنسان وعواطفه.

3ـ يسعى النظام الاجتماعيّ لتغيير رؤية الإنسان، ولا يسعى لتغيير فطرته.

4ـ الاهتمام بالمعايير الأخلاقيّة والمعنويّة يشكِّل أحد الركائز الأساسيّة للنظام الاجتماعيّ الصالح واللائق.

5ـ يكوِّن علاقةً متوازنة ومنسجمة بين الدوافع الفطريّة والقِيَميّة والمصالح الاجتماعيّة العامّة.

ثم يقول السيد الصدر: «الدين الإسلاميّ؛ باعتباره نظاماً اجتماعيّاً كاملاً، يمتلك جميع هذه الخصائص»([31]).

 

نظريّة الخلافة العامّة للإنسان ــــــ

يرى السيد محمد باقر الصدر أن الخلافة قبل كل شيء هي «حقٌّ طبيعيّ» ناجمٌ من العلاقة الذاتيّة للمالك بالمملوك، وهي ذات الخلافة الحقيقيّة لله تعالى. وخلافة الإنسان هي ذلك الحقّ الذي يتمكَّن بنو البشر على أساسه من إدارة مصيرهم كجماعة. وهذا الحقّ ناجمٌ أوّلاً من حقّ الخلافة الإلهية، الذي عرض على الإنسان تحت عنوان الاستخلاف والاستئمام، فقبل الأمانة؛ وثانياً: هي حقٌّ اعتباريّ ونسبيّ ومحدود([32]). ومن ثم يقول، في تكملة بحثه بخصوص خلافة الإنسان: الخلافة الإنسانيّة على الأرض (مرحلة الوحدة الأولى) كانت بصورة خلافة الإنسان والاستخلاف.

وفي المرحلة الثانية تأتي مرحلة خلافة الأنبياء (مرحلة الفرقة واختلاف الناس فيما بينهم). وفي هذه المرحلة تتطابق مرحلة خلافة الإنسان والإشراف مع بعضهما البعض؛ بسبب عصمة الأنبياء.

وتأتي في المرحلة التالية مرحلة خلافة الأئمّة الأطهار^.

وفي المرحلة الرابعة في عصر الغيبة تأتي مرحلة «خلافة الإنسان» مرّة أخرى، وينتقل أفراد المجتمع البشريّ إلى إدارة شؤونهم وشؤون مجتمعهم. ولكنْ بما أنّها خلافة ذات بُعْدٍ دينيّ فهناك ضرورة لوجود إشراف وشهادة «المرجعيّة العامّة»، إلى جانب خلافة الإنسان.

وأخيراً تأتي المرحلة الخامسة، وهي مرحلة خلافة الإمام المعصوم× مرّة أخرى، حيث يتَّحد فيها في واقع الأمر خطَّيْ الخلافة والشهادة ثانيةً([33]).

 

  الخلافة العامّة ــــــ

يعبّر السيد محمد باقر الصدر عن هذه الخلافة بالولاية المعطاة من قبل الله تعالى للإنسان بصورة الجعل التكوينيّ. وبشكلٍ عامّ يرى أنّ الخلافة العامّة للإنسان ذات وجهَيْن:

أـ الوجه الإلهيّ، وهو الاستخلاف (خلافة الإنسان)، أو الاستئمام (إعطاء الإمامة)، وهو الجعل التكويني والفطري.

ب ـ الوجه الإنسانيّ، وهو الاستئمان، أو (الأمانة العامّة) التي قبلها الإنسان وتتلاءم مع فطرته. ويقول، بعد استعراضه لكلا الوجهين: إذاً جعل الخلافة للإنسان وعرضها عليه يعني أنّه عرض تكوينيّ، وليس تشريعيّاً أو كسبيّاً. وبما أن الإنسان يمتلك في تركيبته الأرضيّة الشروط اللازمة لهذه الخلافة والأمانة فقد قبل تحمُّلها قبولاً تكوينيّاً وفطريّاً بصورة طبيعيّة. وعلى هذا الأساس فالخلافة العامّة للإنسان في بُعْدِها البشريّ هي«أمانة عامّة»([34]).

 

 مناقشة المصطلحات الثلاثة: «الاستخلاف، والاستئمام، والاستئمان» عند الصدر ــــــ

استخدم الاستخلاف بمعنى التنصيب كنائبٍ، وبمعنى الاستدعاء للخلافة؛ إذ توجد في هذا الاستدعاء للخلافة ثلاثة أنواع من العلاقات، وهي:

أـ علاقة الإنسان بالإنسان (النفس).

ب ـ علاقة الإنسان بالآخرين (المجتمع).

ج ـ علاقة الإنسان بالطبيعة.

فالإنسان مسؤول أمام هذه المواضيع الثلاثة، ويتحمَّل الأمانة تجاه مصيره ومصير المجتمع والطبيعة. ومن ثم يقول: إنّ أركان الاستخلاف تشتمل على:

أوّلاً: الله (المستَخلِف)؛ ثانياً: الإنسان (المستَخلَف)؛ ثالثاً ورابعاً: المستَخلَف عليه (المجتمع والطبيعة؛ وما تمارس عليه الخلافة). وبعد أن يذكر العناصر الأربعة للاستخلاف يقول: إنّ دور الإنسان في ممارسة حياته إنّما هو دور الاستخلاف([35]).

ولدى تحليل موضوع الخلافة العامّة للإنسان يرى السيد الصدر أن بنية الحياة الاجتماعيّة تتغيَّر فيما لو أبعدنا الركن الأوّل، أي (الله تعالى)، عنها([36]).

وفي ما يتعلق بخصوص لفظة الاستئمام يرى السيد الصدر أن الله تعالى هو الذي كرَّم الإنسان بمقام الإمامة في الأرض، وأنّ الاستئمام هو تعبيرٌ آخر عن الاستخلاف أو خلافة الإنسان. فمن حيث البُعْد السماويّ، ومن ناحية جاعل الخليفة، يعني الاستخلاف النيابة والخلافة؛ ومن حيث البعد الأرضيّ، ومن ناحية الإنسان، يعني الاستئمام والإمامة والقيادة، أي إنّ الإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو الإمام والقائد والحاكم أيضاً. ومن الجدير بالذكر أن الإمام مفهومٌ تكوينيٌّ، وليس تشريعيّاً، أي له حالة تكوينيّة مبنيّة على طبيعة خلقة الإنسان وخصائصه الفطريّة، أي العقل والحرّيّة، ولذا له معنى عامّ، وليس خاصّاً.

والاستئمان هو عرض الأمانة أو إيداع الأمانة. والأمانة هي قبول تكوينيّ. والواقع هو سنّة إلهيّة متحقِّقة، والأمانة التي قبلها الإنسان وتحمّلها، عندما عرضت عليه، وفقاً للآية 72 من سورة الأحزاب، كان تقبُّله لها تقبُّلاً تكوينيّاً، واتّخذت في الواقع معنى السنّة التاريخيّة([37]).

ثم يخلص إلى النتيجة التالية: إنّ الاستخلاف وإمامة الإنسان في الأرض هي أمانةٌ، وإن علاقة الإنسان بالمجتمع هي علاقة أمين على أمانةٍ استُؤْمِن عليها، والحقيقة أنّها الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأَبَيْنَ أن يحملنَها وأشفقنَ منها.

 

  النظريّة العامّة للخلافة ــــــ

يرى السيد الصدر «أن الاستخلاف تقع مسؤوليّته على الله تعالى، والاستئمان مسؤوليّته على الإنسان. إذاً فالخلافة والإمامة تُعرَض من قبل الله تعالى، ولكنّ القبول بها من قبل الإنسان يأتي في إطار القبول بالأمانة»([38]).

ويرى السيد الصدر أنّ الجعل والعرض سنّة اجتماعيّة سياسيّة أو تاريخيّة، وليس تشريعاً أو قانوناً([39]).

ثم يطرح السيد الصدر السؤال التالي في خصوص الاستخلاف بقوله: هل أنّ الاستخلاف العامّ هو لشخص آدم× أم أنّه لنوع الإنسان؟

ويقول في الإجابة عن ذلك: يظهر من احتجاج الملائكة على الله تعالى أنه غير مختصٍّ بآدم×، فقد اعترضت الملائكة على موضوعٍ مستمرّ وباقٍ. إنه موضوع يعتبر سنّة على امتداد تاريخ الكون. كما يستنتج في خصوص الاستخلاف أنّه أمرٌ عامّ، وأنّ الجنس البشريّ في الواقع يمثِّل تكويناً لكمال الإنسان من قبل الله تعالى، ويسند هذا الكلام إلى ما استنتجه من الآيات 62 من سورة النمل، والآية 69 من سورة الأعراف، والآية 165من سورة الأنعام.

 

 قواعد نظريّة الخلافة العامّة للإنسان ــــــ

يبني السيد محمد باقر الصدر هذه النظريّة على فطرة الإنسان، والعقل والحكمة، والحرّيّة والاختيار، والإرادة والعزم، والإيمان بالوحدانيّة والشورى والتشاور([40]). وفي نهاية المطاف يستنتج الأمور التالية من نظريّة خلافة الإنسان:

أـ الربّانيّة والهدف اللامحدود([41]).

ب ـ وتيرة تكامل الإنسان وصولاً إلى الله، أي (النظريّة المطلقة)([42]).

ج ـ إقامة المجتمع السياسيّ، والدولة، وتشكيل الحكومة([43]).

د ـ حرّيّة الإنسان وعدم الاستبداد([44]).

هـ ـ عموميتها وطابعها الجماهيريّ، بمعنى أنها لا تتعلَّق بفردٍ أو طبقة خاصّة([45]).

و ـ المساواة والتكافؤ في الخلافة، بمعنى أنّ الناس هم أصحاب الحقّ في تحمُّل هذه الأمانة، والجميع متساوون أمام القانون([46]).

ز ـ وفي البعد السياسيّ للخلافة هناك ثلاثة أبعاد، هي:

أولاً: الولاية ـ قيادة المجتمع ـ.

ثانياً: الاستئمان والمسؤوليّة.

ثالثاً: الإشراف، والشهادة، والمشاركة في المجتمع([47]).

وهذه الأبعاد الثلاثة ناجمةٌ عن عقل الإنسان وحرّيّته.

 

نتيجة البحث ــــــ

كان السيد الصدر يسعى في دراسته لنظريّة الوجود إلى تفسير الظواهر الطبيعيّة من خلال علاقتها وارتباطها بالإنسان وبالله تعالى.

وجاء في هذه النظريّة أن الله تعالى ليس خالقاً للكون والقوانين والسنن الحاكمة على الكون فحسب، بل إن الأهم من ذلك أنّه مدبِّر هذا الكون أيضاً.

ومن هذه الناحية فهو يسعى بشكلٍ أكبر إلى معرفة الخالق، ومعرفة أوصافه، والمعرفة الأدقّ بمكانة الإنسان في الوجود، وغايات خلقه.

وفي ما يتعلَّق بعلم الإنسان اهتمّ كثيراً بالتعامل بين حبّ الذات لدى الإنسان والبعد المعنويّ لديه. ويرى أن المنهج الصالح والضلال في المجتمع والسياسة كلاهما من صنع الإنسان، وأن الفكر والإرادة لهما دورٌ فاعلٌ ومصيريٌّ في الحياة السياسيّة للناس.

وكان السيد الصدر يسعى في الواقع في موضوع علم المعرفة، ومن خلال إعادة قراءة المنطق الصدرائي، وإجراء التغيير في بنية علم المعرفة والإدراكات، يسعى إلى إحداث نوعٍ من التغيير في الفلسفة السياسيّة للإسلام، التي كانت تعنى بمواضيع علم الوجود فقط.

وفي موضوع تقسيم السنن التاريخيّة، وقوله: إنّ السنن التاريخيّة تقسَّم إلى شرطيّة؛ وقطعيّة؛ وغير قطعية، يرى أنّ النوع الثالث يحظى باهتمام القرآن الكريم، وأنّه يعكس دور الإنسان في صياغة حركة التاريخ.

وأخيراً يرى أنّ الإنسانَ في نظريّة الخلافة العامّة خليفةُ الله في الأرض بمواصفات خاصّة.

 

 

الهوامش:

([1]) الإمام الخمينيّ، صحيفة النور 14: 177.

([2]) السيد كاظم الحسيني الحائري، زندگي وأفکار شهيد صدر: 56، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1375.

([3]) محمد حسين جمشيدي، أنديشه سياسي شهيد رابع: 43، طهران، مكتب الدراسات السياسيّة والدوليّة.

([4]) محمد باقر الصدر، فلسفتنا: 28، قم، المجمع العلمي للشهيد الصدر، 1408هـ.

([5]) المصدر السابق: 29.

([6]) محمد باقر الصدر، رسالتنا: 71، 73، طهران، دار نشر توحيد، 1407هـ.

([7]) المصدر السابق: 81 ـ 82.

([8]) المصدر السابق: 18.

([9]) المصدر السابق: 20.

([10]) فلسفتنا: 40.

([11]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة: 138، بيروت، دار التعارف للمطبوعات.

([12]) الصدر، اقتصادنا: 337، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1399هـ.

([13]) المدرسة القرآنيّة: 67.

([14]) فلسفتنا: 28.

([15]) راجع: المدرسة القرآنيّة: 139 ـ 140.

([16]) راجع: رسالتنا: 41 ـ 46.

([17]) راجع: الصدر، إثبات خدا با روش علمي وفلسفيّ: 64 ـ 66، ترجمة: عابدي، طهران، روزبه، 1362.

([18]) الصدر، تيوري شناخت وجهان بيني در فلسفه ما: 24، ترجمة: حسيني، طهران، بدر، 1362.

([19]) إثبات خدا با روش علمي: 20.

([20]) الصدر، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء: 10 ـ 13، طهران، جهاد البناء، 1399هـ.

([21]) الصدر، تفسير موضوعي سنَّت هاي تاريخ در قرآن: 46.

([22]) المصدر السابق: 131.

([23]) المصدر السابق: 139.

([24]) المصدر السابق: 141.

([25]) المصدر السابق: 155.

([26]) المصدر السابق: 159.

([27]) المصدر السابق: 195.

([28]) المصدر السابق: 172.

([29]) مجلة قبسات الفصلية، العددان 10 ـ 11: 50 ـ 60، سنة 1377 ـ 1378.

([30]) المدرسة القرآنيّة: 141 ـ 142.

([31]) فلسفتنا: 11.

([32]) خلافة الانسان وشهادة الأنبياء: 50 ـ 53.

([33]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 170، طهران، وزارة الإرشاد الإسلامي، بدون تاريخ.

([34]) المصدر السابق: 134.

([35]) المدرسة القرآنيّة: 129.

([36]) المصدر السابق: 130.

([37]) المصدر السابق: 133.

([38]) المصدر السابق: 132.

([39]) المصدر السابق: 135.

([40]) خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء: 54.

([41]) المصدر السابق: 17 ـ 18.

([42]) المدرسة القرآنيّة: 179.

([43]) التفسير الموضوعيّ للقرآن: 229.

([44]) خلافة الإنسان: 10 ـ 12.

([45]) محمد باقر الصدر، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي: 15، طهران، جهاد البناء، 1399هـ.

([46]) محمد باقر الصدر، لمحة فقهيّة عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران: 14، طهران، جهاد البناء، 1399هـ.

([47]) خلافة الإنسان: 9 ـ 10.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً