أحدث المقالات
– مقدمة
 
علّ بعض القراء يتساءلون، ماذا تكتب هذه الكاتبة؟ فالدنيا تضج بالمشكلات والجدليات، وقلمها يكتب في منطقة أخرى.
 
وهو حق لكل قارئ طرح هكذا تساؤلات، وحق لي أن أوضح أمورا أجدها مهمة.
 
لو يرصد الفرد المشكلات التي تحدث على الساحة، خصوصا السياسية، فسيجد أنها تتكرر بين الفينة والأخرى، ولكن بوجوه مختلفة، فهي أعراض لأمراض، فنقوم حين يطرأ العرض بالانفعال الشديد والتداعي القوي لمعالجة الأعراض، وهي معالجة آنية مبنية على سياسة رد الفعل والانفعال.
 
والواقع يفترض أن تكون المعالجات للأمراض وليس للأعراض بجميع أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يتطلب علاجا جذريا متأنيا ترسم له استراتيجيات مرحلية، كي يتعافى المجتمع، وتتعافى الدولة من هذه الأمراض، يتصدى لها متخصصون حقيقيون درسوا كي ينفعوا وطنهم ومجتمعهم بما درسوه، لا أنهم حصلوا على شهادات لينتفعوا هم بها، ويحولوها إلى أدوات تسلطية على عقول الناس، بما يسمى إرهاب العلم، ويستخدموا هذه التخصصات وفق ما تدر عليه مصالحهم حتى لو زوروا الحقائق العلمية فلا ضير عندهم.
 
لذلك، أدعي أنني أحاول في هنا تسليط الضوء على المرض حينما يطرأ عرض على المجتمع متعلق خاصة بكل ما يؤثر على مكونات الدولة. وأهمها المجتمع في الأبعاد السياسية والاجتماعية.
 
– أزمة المعرفة
 
إننا نهيم على وجوهنا في صحراء المعرفة لا ندرك من أين نستقي معارفنا، ومن أي منبع، وما هي الطريقة، وكيف يمكننا امتلاك عقل علمي موضوعي يتجرد عن كل القبليات والمذهبيات والقبيليات، كي يصل إلى الحقيقة أو يقترب منها، فيستطيع فعلا أن يبني عليها حكما وتصورا، ومن ثم يرتب الأثر عليها، ويرسم خريطة طريق للمعالجة والتصحيح.
 
ما يحدث اليوم هو فوضى إعلامية ومعرفية، سببها يتمركز في فوضى العقل، وادعاء امتلاك الحقيقة من دون برهان، والثقة بالنفس بطريقة أوصلتنا إلى التكبر، وأعمتنا عن البحث والتحري، والتكنولوجيا التي باتت مرتعا للغث والسمين، ووسائل التواصل الاجتماعي التي يكتب فيها الجميع من دون ضوابط ولا اعتبارات ولا تقوى، أو بمعنى أصح فوضى غياب العقل والتبعية العمياء والتقليد الأعمى والتسليم والترميز والتقديس، وسأحاول تسليط الضوء على كل مفهوم على حدة، لتحديد دلالاته وتشخيص خلله، وتقديم معالجات لأمراض حقيقية وليس لمجرد أعراض وأوهام تصنع لنا خيالات، فنصنع على أساسها الوهم، لنصل بعد ذلك إلى انحدار حتى نجد أنفسنا في الدرك الأسفل بين الدول.
 
فصناعة الحضارات لا تبنى على الأوهام، ولا التبعيات والتقليد والتقديس والتهويل والتعصب، إن الحضارة تصنعها العقول الناقدة الموضوعية التي تسعى إلى الحقيقة بتجرد، وبخلاف هوى النفس، أرأيت من اتخذ إلهه هواه، فأضله عن سبيله، والتجرد من أهواء النفس وانفعالاتها والمسبقات والعصبيات والبيئة أمر صعب، لكنه يحقق الكثير لنا ولأوطاننا، ويخرجنا من دائرة من ينعقون مع كل ناعق، ويميلون مع كل ريح إلى دائرة المتعلم على سبيل النجاة، كي نصبح في مصاف الدول التي لها وزنها العلمي، وثقلها السياسي في احترامها للعقول، ولإنسانية الإنسان.
 
هناك فرق واضح بين العلم والمعرفة، فالعلم مجموعة من المعلومات التي لا تؤثر في السلوك ومنهجية التفكير، مجرد معلومات يكدسها العقل، ولكن المعرفة حينما تتحول هذه المعلومات إلى منهجيات تفكير تؤثر في سلوك الإنسان، لذلك نجد أكاديميين كثرا لكن سلوكهم لا يعكس مستوى علمهم، لكننا قد نرى إنسانا متوسط التعليم لكنه عارف يمتلك وعيا منعكسا على سلوكه.
 
إن ما يحرك الكثيرين اليوم هو الغرائز والمصالح الشخصية رغم ما يحملونه من شهادات وخبرات على جميع المستويات، وما يحرك من ورائهم ليتبعوهم هو الجهل والتبعية وعدم الثقة بالنفس والميل نحو الانقياد، بسبب كسلنا في السعي والتحصيل والتنقيب وراء كل معلومة لنكشف من هو الكاذب ومن هو الصادق إنها فوضى، واستمرارها يعني الانهيار، لأن الاستمرار في فوضى السياسة وفوضى المجتمع وضرب أسس النظام والدستور وتمييع القانون، هو انحدار سريع نحو الزوال الذي لا يمكن أن يتمناه مواطن لوطنه، لكنه الجهل الذي يجهله أصحابه، فكثير منا يعتقدون بأنهم مصيبون، ولكن قلة من يحاول تمحيص ما لديه وتعريضه للدليل والبرهان لمعرفة الحقيقة، وإن خالفت هذه الحقيقة رأي الجميع، أو رأي من سبقنا من الآباء والأجداد أو حتى هوانا الشخصي والقبلي والمذهبي.
 
إننا اليوم أمام مأزق معرفي حقيقي سبّب أزمة عقلية أدخلت العقل في سجن التعطيل والتهميش وأطلقت العنان للأهواء والغرائز، وما نحتاجه فعليا هو وقفة مع النفس لتعرف كيف يمكنها الوصول للحقيقة، ومن ثم التحرك على أساسها. وأن نخرج أنفسنا من سجون الذات والقبيلة والمذهب والحزب إلى فضاء الوطن الذي يسع الجميع. إن من عجز أن يستعمرنا بالسلاح استطاع اليوم أن يستعمر عقولنا بالتفرقة واللعب على كل التمايزات التي جعلها الله بين الناس للتعارف والتكامل والتراكم المعرفي الذي يعود بالمنفعة على البشرية ليتحول بيد الإنسان إلى أداة قتل ومعول هدم وتمزيق.
– مصادر المعرفة
 
عل كثيرا من التساؤلات يطرحها الإنسان على نفسه أولها كيف أعرف وما هي مصادر المعرفة التي منها أستقي لأسعى في الوصول إلى الحقيقة في أي موضوع ؟ وماهي المنهجية السليمة في ذلك؟
خاصة وكما أسلفت آنفا أن كثيرا من مشاكلنا هي نتاج صراع فهم بشري لمدارس عدة شكلت أفهاما وأفكارا ورسمت لذلك أهدافا ووضعت آليات لتحقيقها،فالصراع السياسي اليوم واقعا نتاج جدل في العقل الإنساني شكل له رؤاه وأفكاره ومفاهيمه وسلوكه، وكثير منها سبب فوضى نبعت منها كثير من الفتن عبر التاريخ إلى يومنا هذا.
بالطبع هناك مدرستان رئيسيتان في مصادر المعرفة وكل مدرسة تتفرع منها مدارس .
المدرسة الأولى في المعرفة هي المدرسة الإسلامية التي حددت مصادر المعرفة ب:
الحس ، التجربة ، العقل ، الوحي بما يمثله من كتاب الله والسنة النبوية الشريفة الصحيحة سندا ومتنا.
والمدرسة الثانية هي المدرسة الغربية التي حددت مصادر المعرفة بالحس والتجربة.
من المدرسة الأولى تفرعت مدارس عديدة على أساس علاقة العقل بالوحي ، وفي المدرسة الثانية أيضا كانت الانقسامات حول دور العقل في كل من الحس والتجربة وفي كلا المدرستين ظهرت مدارس تتمايز بين الافراط والتفريط وكان الاعتدال المدرسة الأكثر ضآلة وخفوتا في صراع ابتنى على فعل ورد فعل ترشحت عنه نظريات كثيرة بني على أساسها فكر ومنهج وسياسات واستراتيجيات كان لها وقعا كبيرا في حياة الإنسان سلبا وإيجابا.
 
– أثر نظرية المعرفة
 
إذا الاطلاع على مصادر المعرفة يحدد لي من أين استقي تلك المعارف ، ويضع لي بعد ذلك منهجيات وآليات الوصول والبحث بطريقة تبني إنسانا بحاثا عن الحقيقة بطريقة منهجية علمية موضوعية إذا ما التزم بشروط المنهجية الموضوعية العلمية المعتدلة وإلا أصبح إما من مدرسة الافراط أو التفريط.
والسعي وراء هذه المعارف يساعد في تأسيس بنية العقل بنية معرفية ومعيارية تنأى بالإنسان عن الغوغائية والفوضى والازدواجية وتساعده في التحول إلى شخص ناقد مراقب وشخص تنموي إيجابي،بعكس ما هو واقع أغلبنا اليوم يحركه الصوت العالي من قبل الرموز ورفع الشعارات المستثيرة لكل أنواع العصبيات ، وازدواجية المعايير. إن بناء عقل معرفي يتجاوز كل هذه المعارك الوهمية إلى معركة الحياة الحقيقية في بناء حضارة وطن حقيقية يتحول فيها المواطن إلى مراقب معرفي موضوعي لكل متصدي في السلطتين التشريعية والتنفيذية وليس مجرد تابع تثيره العصبيات وتعطل عقله بما يمَكّن أصحاب الشعارات الواهية والمشاريع الوهمية من مزيد من السلطة والنفوذ بطريقة ملتوية بعيدة عن سلطة القانون والدستور.
إن كل مصدر من مصادر المعرفة يلعب دورا محوريا في نهضة الإنسان .
ولكن أين يقع الخلل الذي يبعدنا عن طريق العقل العلمي الموضوعي أو النظام ويدخلنا في الفتن والغوغائية والفوضى ؟ ما هو العقل ، وما علاقته بمصادر المعرفة ؟ وما علاقة العقل بكل من التقديس والترميز والتقليد والاتباع والتسليم ، وكيف يمكننا الوصول للعقل العلمي الموضوعي الذي يراقب ويحاسب الجميع لا يتبع ويسلم لأحد إلا وفق أسس وشروط ؟ وما علاقة ذلك في بناء الدولة المدنية؟
للعقل دوراً محورياً في المعرفة كمصدر من مصادرها ، لأن العقل يلعب دور الحاكم والقاضي الذي يعقل كل معلومة ويتدبرها ويوجهها وفق مجموعة معطيات منطقية، ووفق مجموعة شروط أهمها تجرده تماما من كل قبلية وكل مستمسكات بيئية وعقدية كي يستطيع الخروج برؤية موضوعية متجردة قدر الإمكان حول موضوع معين.
 
– العقل والوحي
 
أجد أجدر نقطة لها أهميتها هي علاقة العقل بالوحي لما لذلك من أهمية في العالم الاسلامي تتعلق بتأثير الوحي في حياة الإنسان وتوجيه سلوكه العام.
 
وانقسمت على أساس علاقة العقل بالوحي المدرسة الاسلامية في نظرية المعرفة إلى مدارس كثيرة أدى اختلافها إلى خلاف كبير في النظريات وبالتالي في الفكر والعقديات وبالتالي ايضا في السلوك ومنهجيات الحياة بكل أشكالها.
 
المدرسة النصية التي مالت كثيرا إلى اعتماد النص وتطبيقه كما هو ولم تجعل للعقل دورا كبيرا في قراءته، بل كان دوره فقط في تفسير بعض الألفاظ والتحقق من السند والمتن ثم طبقت النص كما هو والتزمت خط الإفراط.
 
المدرسة العقلية التي اعتمدت العقل بشكل كبير في استقراء النص لدرجة تمييع المتن بطريقة ابتعدت عن مراد الوحي من النص فعقلنت النص بطريقة مُفرطَة.
 
المدرسة الحضارية التي التزمت بالنص كما هو ولكن كان للعقل دور بارز في قراءة النص وفق معطياته الزمانية والمكانية ووفق بيئاته واتخذت في ذلك الكثير من المنهجيات دون تأويل، واستطاعت قدر الإمكان الوصول إلى أقرب مراد من النص وأحدثت تغييرا حقيقيا في قراءة النصوص حافظت من خلالها على عنصري الاسلام: الاصالة والخلود، فأصبح النص ثابتا لكنه ديناميكيا صالحا لكل زمان ومكان، حيث ان التراكم العقلي المعرفي يساعد في استقراء النص واستخراج كنوزه.
 
فالعقل محوري جدا في نظرية المعرفة وفي قراءة النص بطريقة معتدلة تحافظ على ألفاظه ومتنه لكنها تقرأه وفق التراكم المعرفي للعقل ووفق مقتضيات الزمان والمكان ومقاصد الشرع.
 
وكان لكل مدرسة أثر في تشكيل كثير من الرؤى السياسية والاجتماعية والمعرفية التي أثرت في الحياة البشرية، خصوصا المدرسة النصية التي يميل لها السلف من كل المذاهب، حيث لعبت دورا في صناعة عقول شمولية تتعبد بالتسليم والتقديس والتبعية دون إعمال العقل، وكان شعارها اتباع السلف نصا دون تمحيص للعقل، ولا ننكر تطور فكر بعض هذه المدارس في الآونة الأخيرة إلا أن أثرها كان كبيرا في صناعة عقليات تعبدية مطلقا لم تراع تطور وتغير الزمن، والتعبد هنا نقصد به التزام كثير من أقوال السلف وافهامهم للدين لمجرد أن قائلها فلان دون تدخل العقل في النقد والتقييم العلمي، وهناك شخصيات موجودة حاليا في السلطتين التشريعية والتنفيذية من هذه المدرسة تمارس دورها وفق هذه الرؤية البعيدة عن زماننا وواقعنا مما حجّم تفكيرها السياسي على مشكلات هامشية وترك المشكلات الكبرى المتعلقة بالعدالة والتنمية واستكمال مشروع الدولة المدنية.
 
ولكن كيف لعبت المدرسة النصية دورا محوريا في بنية العقل المعرفي وما علاقة هذه البنية بواقعنا السياسي؟
 
 
– المدرسة النصية السلفية
 
كان من مخرجات المدرسة النصية السلفية عقول هيمنت على أفكارها ثلاثية كان لها أثر كبير في صناعة الرموز والأنظمة المستبدة.
 
هذه الثلاثية هي: التعبد والتسليم والتقديس، وطبعا العقل ضمن هذه الثلاثية لا يمكنه أن يجسر العلاقة بينه وبين الحس والتجربة المصادر الأخرى للمعرفة إلا في إطار هذه الثلاثية التي يلعب الوحي فيها أداة مهمة في يد المتنفذ سواء كان فردا أو نظاما أو حزبا.
 
فيخضع الحس والتجربة بشكل كامل لحكم الوحي من دون إعمال العقل إذ لا ضير في كون الوحي مرجعية ثابتة، ولكنه كذلك بشرط وجود العقل معه كشريك في هذه المرجعية شراكة مناصفة لا تفاضل فيها.
 
لكن المدرسة النصية السلفية تخضع كل شيء لمرجعية الوحي من دون إعمال العقل، وهو ما ينعكس على رؤيتها للكون ودور الإنسان ونظرتها للطبيعة، ومنها بنيتها الفكرية السياسية وخاصة المتعلقة ببناء الدولة المدنية، ومساحة تداخل الديني بالمدني وهيمنته عليه بعقلية المدرسة النصية السلفية التي لا تجد للعقل دورا في تشكيل رؤى حول المجتمع والإنسان والدولة.
 
فمنهجها هو التعبد بالسلف تعبدا كاملا لافهام هذا السلف للدين، بطريقة تعطيلية للعقل، حيث لا يمكنه إخضاع فهم السلف لسياقات النقد البناء وفق حيثيات الزمان والمكان، هذا التعبد اللاعقلي ينتج بشكل تلقائي تسليما مطلقا لكل تراث من دون تمحيص، ومن ثم اتباعا يتمظهر هذا الاتباع في بنية العقل المعرفي وفق تشكيل رؤاه الفكرية السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وتتحول تدريجيا هذه الرؤى وأصحابها لمقدسات يحرم المساس بها، وهنا نصل لمرحلة التعطيل الكامل للعقل.
 
تكمن المشكلة في أن هذه الرموز تبدأ تستخدم أداة الوحي بعقلية المدرسة النصية السلفية في إثارة الجماهير عاطفيا، وتحشيدها بدواعي المساس بالمقدسات وبطبيعة الحال الجماهير متصلة اتصالا نفسيا وفطريا بالمقدس، وبذلك يسهل تحشيدها خاصة في أجواء يهيمن عليها الفكر النصي السلفي الذي يغيب فيه دور العقل وتستحضر فيه العواطف.
 
وعل أهم مصداق لذلك هو ما يحدث من قبل بعض التيارات السياسية أو الاسلامية بين الحين والآخر، ومن مختلف المذاهب في تحشيد جماهيرها حول قضية سياسية أو دينية بطريقة بعيدة كل البعد عن لغة العقل البرهاني، وعن لغة الدولة المدنية التي تؤخذ فيها الحقوق وتعالج فيها القضايا وفق القانون والدليل ونظام المؤسسات.
 
– العقل السلفي والدولة
 
إن العقل النصي السلفي في رؤيته للدولة المدنية لا ينظر للعصر ومكوناته وحاجياته بل ينظر للدولة على أنها تقوم على النص الوحياني كما هو حتى لو لم يتناسب وزماننا ومكاننا، لأن العقل معطل بالثلاثية السابقة بالتالي لا يمكنه وفق ذلك إعادة قراءة النص وفق الزمان والمكان. بل هم ينظرون للدولة على أنها دينية بامتياز، ولا مدخلية للعقل في صياغة رؤى فكرية سياسية حول الحكومة والدولة المدنية.
 
وعل ما يحصل في دول دينية في المنطقة خير دليل، ومن يحاول اليوم من نواب المدرسة النصية السلفية في السلطة التشريعية في الكويت مثلا من تحويلها المن دولة ديموقراطية إلى دولة دينية، تشبه هذه الدول الدينية، لهو خير دليل على مخرجات هذه المدرسة في الفكر السياسي وأثرها على واقعنا السياسي اليوم، وفلتات ألسنة كثيرين منهم توضح تعطيلية العقل بناء على النص الوحياني الذي لا يرى أي قيمة وفق وجهة نظرهم للوطن والمواطنة وما يبتنى عليه من قيام دولة مدنية.
 
لا بد لي أن أشير إلى أن العقل السلفي لا يرمز لطائفة أو مذهب بعينه، بل هو منهج وطريقة تفكير في التعاطي مع الوحي، كون الوحي والعقل من مصادر المعرفة البشرية وفق نظرية المعرفة الاسلامية.
 
وهذه المنهجية توظف العقل في مساحات ضيقة في النص، تكون وظيفته التأكد من المتن والسند وتحديد دلالات الالفاظ واستعمالاتها وانصرافات الذهن إليها، وغير ذلك لا يكون للعقل أي دور سوى التعبد بالنص، كما هو أو التعبد بقول السلف من العلماء وفهمهم له من دون التركيز على البعدين الزماني والمكاني، أو إعادة نقد الموروث طالما هو أفهام بشرية للنص.
 
وسبب تسليطنا الضوء على هذه المدرسة هو ما تمر به المنطقة، أو الكويت من تموجات وفتن تعود أسبابها الرئيسية لتصدي مصداق لهذه المدرسة للشأن السياسي، وخوضها للفعل السياسي، وما تمخض عنه من إشكاليات وتصادمات بين منهجيتها السلفية والدولة المدنية، مع تحفظنا على كون الكويت مصداقا حقيقيا للدولة المدنية وفق التعريف لها.
 
ومعرفة ذلك يفيد في تشخيص الخلل الحقيقي، ووضع معالجات جذرية لكيفية التعاطي مع هذه العقلية، ومواجهتها بطريقة تستخدم أدوات العصر، وتعيد للعقل موقعيته الحقيقية في كيفية كسب المعارف والحقائق.
 
الدولة المدنية مصطلح له منشأ كانت له ظروفه، ولضيق المساحة نحيل القارئ للبحث عن مناشئ هذا المصطلح الفلسفية والفكرية وكيفية صيرورته التاريخية.
 
وباختصار تتكون الدولة المدنية من سلطة تنفيذية وسلطة تشريعية وأخرى قضائية، وتقوم على نظام مؤسساتي تديره قوانين تم وضعها بناء على دستور الدولة التي يكون فيها الشعب مصدر السلطات. أهم مبادئها هي العدالة والمساواة والمواطنة التي تقوم على الحقوق والواجبات وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني التي تمثل شريكا للدولة في عملية التنمية.
 
وهي توفر العيش بكرامة للإنسان بطريقة تفجر طاقاته وإبداعاته بما ينعكس إيجابا على تطور الدولة وتقدمها، إذن هي الديموقراطية ومقوماتها باختصار.
 
وحيث إن العقل السلفي وفق مبانيه لا يؤمن بأي نظرية سياسية للدولة خارجة عن إطار النص ولا مدخلية للعقل البشري فيها، بالتالي تكون نظرته إلى الديموقراطية نظرة سلبية، بل تطورت قليلا لتتحول لأداة يتم من خلالها تقويض هذه النظرية، وإعادة بناء مفهوم العقل السلفي للدولة وفق النصوص الدينية، أي كما مارسها الخلفاء الراشدون نصا وفعلا وتقريرا من دون أدنى تغيير أو إعمال للعقل في اختلاف الزمان والمكان.
 
بالتالي هو ينظر إلى الدستور والقانون على أنه وضع بشري يجب أسلمته، ولكن وفق فهمهم للأسلمة الذي يلغي كل دور للعقل، ويعيد قيام دولة راشدة على النسق الخلافي.
 
وكشاهد على علاقة هذه المدرسة بالدولة المدنية ما حدث أخيرا من قبل أحد النواب، حيث لم يقف لتحية العلم، بناء على نص فتوى أحد العلماء البارزين في تحريم ذلك، وآخر يصف العلم بخرقة أيضا، بناء على عقلية النص والفتوى في التعاطي مع مفهوم الدولة بالعصر الحديث.
 
و لا بد من التنويه بأن الدولة المدنية مسألة جدلية وللاسلام نظرته الخاصة بالدولة ومدنيتها، ومناشئ هذه المصطلحات وبيئتها موضوع خارج عن بحثنا. العقل الجماهيري في المدرسة النصية السلفية تهيمن عليه ثلاثية: التعبد والتسليم والتقديس. بالتالي هذه المدرسة قادرة على تحشيد الجمهور وكسبه لصفوفها بطريقة شعاراتية بعيدة عن العقل والدليل، وتميل بكلها لاستثارة العواطف، وما حصل في رد قانون المسيء للذات الالهية الأخير من تهديد بالنزول الى الشارع ورفع شعارات نصرة لله وللدين وللرسول وغيرها من الشعارات العاطفية التي تدغدغ البعد المقدس لدى الجماهير لدليل على عدم احترام الدستور والقانون وعدم اللجوء إلى الأدوات الدستورية في اعادته مجددا للسلطة التشريعية.
 
وهو خروج صارخ على مقومات الدولة المدنية، ولجوء إلى الناس في الشارع كي يمرروا ما يريدون من رؤيتهم المبنية على العقل النصي السلفية.
 
– وظيفة الشعب
 
الا أن اليوم يجب على الشعب الوقوف أمام هذا الهدم الممنهج لمنجزات الديموقراطية الكويتية وتقويض الدستور وازدواجية المعايير في تطبيق القانون.
 
ما يحدث اليوم من تعدي بعض نواب الأمة على الدستور والقانون واسقاط هيبة الدولة وضعف السلطة التنفيذية في القيام بواجباتها وتنفيذ خطتها وتقديم برنامجها، يتطلب وعياً جماهيرياً خاصاً يبتعد عن ثقافة الهيجان العاطفي والصوت العالي، ويميل إلى العقل في معالجة المشكلات المتعلقة بالفساد من خلال بناء أولويات صحيحة في المعالجة والاعتماد في ما يقدم من قبل النواب على مرجعية الدستور والقانون وتقديم أدلة قطعية على أي تهمة أو فساد وعدم الرضوخ لمرجعية القبيلة والمذهب أو رمزية الشخص التي تحوله إلى مقدس لا ينطق عن الهوى. وطالما الدستور يقر بفصل السلطات فلا بد ألا يتدخل النواب وأعضاء الحكومة في عمل القضاء ويجب أن يرضخ الجميع لحكم القضاء اذا اتكأ على أسس قانونية، أي الخروج من هيمنة منطق التسليم والتعبد والتقديس، الى منطق الدليل والبرهان والدستور والقانون.
 
فمهما كانت رمزية الشخص فهو يجب ألا يعلو في ذهنية الشعب على المحاسبة والمراقبة ولا يعلو على الدستور والقانون.
 
فمحاربة الفساد لا تكون بفساد آخر، ومواجهة المفسد لا تكون بمفسد آخر، بل الفساد يحارب بالقانون والدستور، والمفسد يحارب بإثبات فساده قانونياً وتطبيق القانون عليه مهما كانت موقعيته. لأن في الدستور الناس سواسية أمام القانون. ولا توجد شخصية في السلطات الثلاث مقدسة ومنزهة عن الخطأ.
 
فهيمنة العقل النصي السلفي أو القبيلة أو المذهب يجب أن تتلاشى من ذهنية الجماهير أمام هيمنة القانون والدستور الذي جعل أحد مصادر تشريعه الإسلام.
 
ولم يرض بتشريعات تخالف العرف العام وتخل بشخصية المجتمع وآدابه وعاداته وتقاليده.
 
اذا هي مرجعية آمنة الى حد كبير على عمقنا الديني والعرفي، بما لا يجعل مجالاً لإرجاف المرجفين في تقويض بنية الدستور والقانون بحجة الأسلمة من خلال الالتفاف عليهما والنزول إلى الشارع حينما يتم تطبيقهما وفق الأصول، لأن ذلك لم يأت على هوى بعض النواب، خصوصاً أصحاب منهج العقل النصي السلفي، فالشعب كما هو مصدر السلطات اليوم، ومصدريته تتم من خلال فهمه للدستور والقانون وجعلهما مرجعيته في فهمه للدولة، فهو أيضاً مصدر مواجهة فساد هذه السلطات في حال خرجت عن هذه المرجعية.
 
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً