أحدث المقالات

نقد مقولات د. سروش

(القسم الثاني)

 

السيد محمد علي أيازي(*)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

 

دور النبي’ بين النقل والفعل ــــــ

قال د. سروش: إنْ النموذج الذي يُرسم للوحي يجعل من النبي مجرّد ناقل محض، ويقيم بين النبي والباري تعالى نسبة الخطيب ومكبِّر الصوت. ويتنزلون بدور فؤاد النبي وضميره إلى درجة الصفر.

نقول: لا شكّ في أنّ لضمير النبي وقلبه دوراً هاماً في استيعاب وتقبّل الوحي، بل إنّ النبي قابل وطالب. وما لم يكن مستعداً لن ينزل وحي. وإنّ ما قاله الإمام الخميني&، من أن النبي كان يُنزل جبرئيل، إنما هو ناظر إلى مقام الطلب عند رسول الله. ومن هنا قيل: «إننا لا نعتبر المقام الربوبي والمقام النبوي بمنزلة الخطيب ومكبّر الصوت، بل نعتقد بأن الله تعالى مرسِلٌ، وأنّ النبي مرسَلٌ وحاملٌ للنداء. إلا أنّ بين حمل النداء هذا وبين مكبّر الصوت بَوْنٌ شاسعٌ، بحيث لا يصحّ التشبيه بينهما؛ وذلك أنّ هذا المرسَل يجب ـ من الناحية الروحية والكمال المعنوي ـ أن يتوفر على درجات ومراتب عالية، حتى يكتسب سمعاً برزخياً، علاوةً على سمعه الطبيعي، لكي يكون أهلاً لسماع نداء الوحي والملك، وأن تكون له عينٌ برزخية، حتى يتمكن من رؤية الملك، وأن يبلغ من ناحية المقدرة الروحية أن يشهد عالم الغيب، رغم مكوثه في عالم المادة، دون أن يستولي عليه خوف أو تردُّد، وأن يعمل على تبليغ الوحي إلى أتباعه دون أن يغيّر في مضمونه مقدار أنملة، فهل يضطلع مكبّر الصوت بمثل هذه المهمّة؟»([1]).

وعليه فإننا ننكر أن يكون الوحي متأثِّراً بثقافة العصر. ومن هنا كان هناك اختلاف جذريٌّ بين القرآن والحديث النبوي الشريف. ومن هنا فقد قسَّم بعض العلماء المعاصرين الأحكام الشرعية إلى فرائض (أحكام القرآن)، وسنن (الأحكام النبوية الواردة في السنة الشريفة). وطبعاً ليست هناك ملازمة بين عدم التأثُّر بثقافة العصر والتشبُّه بمكبِّر الصوت. إن للوحي النبوي حقيقة واسعة وتراتبية عن حقائق العالم الأعلى، تلقى على قلبه بتوسُّط من قوة غيبية وخارقة للعادة، بحيث يرى الأشياء على حقيقتها: «ربي أرني الأشياء كما هي».

وإنّ تلك الحقيقة وذلك المعنى العقلي ينزل من طريق ذلك الفيض، ومن خلال الكشف المعنوي، على مرتبة عقل النبي الأكرم’، ويظهرها على صفحته. وإنّ تلك القوة تنزلها بالكشف الصوري، وتعمل على تصويرها وتنزيلها إلى عالم الخيال والمثال والشعور، لا أنّ تلك القوة حاضرة في المراتب السفلى من الوجود، ليتماشى معها فضاء عقل النبي’، وعندها يترك له مضمون الوحي، دون تصويره، ليعمل النبي على تصويره بشكل يفهمه المعاصرون من قومه وجيله.

فهل كان ذلك المبدأ الغيبي الذي ينزل الوحي، ويكشفه للنبي الأكرم’ بمعناه ومضمونه ومحتواه، عاجزاً عن إنزاله بشكل صحيح وكامل، وطبعه وتصويره في قالبه اللفظي على صفحة ذهن النبي بشكل يفهمه المعاصرون له، ومطابقاً وصحيحاً عند الأجيال القادمة والمقبلة، وأن يكون ـ باختصار ـ مفهوماً للجميع؟

ولفهم هذا المعنى يمكنني التمثيل بالحاسوب، الذي هو شيء مادي، ينظم على أساس من رقم الصفر والواحد من قبل أنظمة (الويندوز)، ضمن شبكة معقَّدة من المعلومات، من خلال برنامج آخر، من قبيل: (وورد) مثلاً، ويتم تحويلها إلى حروف ولغة مناسبة، كالعربية واللاتينية، وغيرهما. فالحاسوب لا يعمل من غير برمجة أو خطّ معيّن، وإنما يحدِّد له الصانع والمبرمج الحروف، إلا أن مسار ذلك يتمّ عبر الصفر والواحد (بواسطة الأدوات المرنة)، فتتحوّل إلى حروف عربية، أو فارسية، أو لاتينية، ووراء ذلك إرادة وإيعاز من الأصابع، وتدبير خالق.

هناك وسائط وعلل طبيعية، إلا أن تدبير الحروف منتسب إليه أيضاً. إنّ هذا المثال إنما هو لتشبيه المعقول بالمحسوس، ولا نريد من ورائه إثبات المثلية. فهو لفهم مسار الوحي، أما حقيقة الوحي فشيءٌ آخر.

وأما ما ذكره من أن صدر المتألهين قال بشأن الوحي: حذارِ أن يذهب بك الظنّ إلى أنّ النبي كان يستمع إلى الوحي وكلام الله من جبرئيل، كما تسمع أنت كلام النبي أو تتصوّر أن النبي’ كان مجرّد مقلِّدٍ لجبرئيل، كما أنّ الأمّة مقلِّدة للنبي. هيهات، فأين هذا من ذاك؟ فهما نوعان متباينان. وإنّ التقليد لا يكون أبداً من العلم الأصيل والسماع الحقيقي.

لا شكّ في أن سماع كلام الله ليس كسماع كلام الإنسان. إلا أنّ هذه العبارة، التي قالها صدر المتألهين، هي في سياق تثبيت النظرية القائلة بأنّ الوحي النبوي يختلف عن وحي النحل اختلاف السماء عن الأرض. لا شكّ في أنّ ما فهمه المعاصرون للنبي من ذلك الوحي لم يكن إلا جزءاً من الحقيقة، التي كانت تتجلى على مراحل، تبعاً لتقدم التجارب العلمية، وانكشاف الحقائق التي كانت غائبة عن الأجيال السابقة. وعلى حدّ تعبير الراغب الإصفهاني: «كلّ من كان حظّه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر»([2]). وبناء على هذه القاعدة قال الإمام الخميني، في بيان أهمية تهذيب النفس وتأثير ذلك على فهم القرآن الكريم: «كلّ من كان تنزهه وتقدّسه أكثر كان تجلي القرآن له أكثر، وحظه من الحقائق أوفر»([3]).

إنّ نقدكم هذا جيد بالنسبة إلى التفسير التقليدي للوحي، إلا أنه لا ينفع في نقض الكلام الإلهي، وإثبات عدم قداسة جميع كلمات القرآن، وما تبع ذلك من الاستنتاجات.

 

دور الخيال في ظاهرة الوحي ــــــ

قال سروش: إنّ كلّ الكلام يدور حول ملك الوحي، ونوع الارتباط الذي أقامه مع رسول الله. فإذا تجاوزنا الحشوية والحنابلة لم يذهب أيّ واحدٍ من الفلاسفة ـ ابتداءً من الفارابي إلى ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي، وصدر المتألهين الشيرازي ـ إلى إمكان نزول الوحي على النبي، دون توسط قوّة الخيال. وإذا كان هناك جبرئيل فلابد أنه كان يتجسّد ويحضر في قوّة الخيال التي يتمتع بها النبي، أي حتى على هذا الفرض يلعب الخيال دوراً في فتح الطريق لجبرئيل، وتمنحه صورة وصفة، وإذا كان يقوم بعمل فهو لا يتجاوز (إعداد) النبي للوصول إلى (العلم الأصيل)، لا أن يكون النبي مجرّد تلميذ يتلقى على يده الدروس، لينقلها بعد ذلك إلى الناس.

إنّ خلاقية قوّة الخيال، وإعداد الذهن والضمير النبوي، لا يعني أنّ الوحي النبوي عبارة عن هوية خيالية مشوبة بالمادة، بل إنّ للخيال دور الوعاء لتلقي العلوم من الخارج، والاصطباغ بصيغتها. وإنّ هذه الصبغة مناسبة لمستوى إدراك الناس، لا أنّ هذا المستوى قد أثَّر في الوحي، وفرض عليه قيوداً. ومن هنا نجد القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4). وبعبارة أخرى: إنّ للنبي محورية ودوراً قابلاً، وليس له دورٌ فاعلي أو تصرُّفي.

يقول الشيخ منتظري في تحليل هذه النقطة: «لما كان الله تعالى مطلق وغير محدود، ولما كان وجوده تعالى غير متناهٍ، وكان المتلقي وشخص المكاشف محدوداً ومتناهياً، فإنّ محورية ودور كلّ مكاشف ومشاهد وصاحب وحي وإلهام، في تلقي الحقيقة، إنما هو دور قابلي ومستقبل، وليس دوراً فاعلياً ومؤثِّراً، أو أن نقرّ له الأمرين معاً، ليلزم من ذلك ـ مثلاً ـ اعتبار النبي’ إنساناً كاملاً، واعتبار كتابه الإلهي بشرياً، وأنه كان مؤثِّراً في تصويره وصياغة معناه في إطارٍ لفظي، أو أن تؤثِّر فيه حالاته وانفعالاته النفسية من السرور والغضب. بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً، فإنّ ذلك المعنى والصورة التي يحصل عليها المكاشف وصاحب الوحي والإلهام في عالم العقل والخيال هي التي تخلق حالة الفرح والسرور، أو الاستياء والغضب، عند المكاشف والموحى إليه، فإن السرور والفرح، والاستياء والغضب، من الحالات الانفعالية، والتي تكون ردود فعلٍ على أفعال. فهي لذلك من الصفات ذات الإضافة، والتي تحتاج إلى طرفين. فلابدّ أن يكون هناك شيء مزعج، فيورثنا الغضب، أو مفرح، فيترك فينا انطباعاً حسناً. وفي ما يتعلق بحالة الوحي، حيث الفناء والكشف التام، بل هو الكشف النبوي الأتم، لا يكون هناك إمكان لتدخل  الانفعال في صياغة الحقيقة التي يتمّ الحصول عليها، حتى وإن كانت تلك الحقيقة المنكشفة قد شغلت بال النبي وذهنه قبل انكشافها له بالكشف التام، أو كان حزيناً أو فرحاً في ما يتعلق بها»([4]).

وعليه هناك اختلاف حادٌّ بين تفسير وفهم هؤلاء العرفاء للوحي وكلام الدكتور سروش، فإنّ هؤلاء لا يقولون في تحليلهم لظاهرة الوحي: إن بعض هذه الكشوفات قد يتطرق إليها الخطأ، أو أنها تخضع لتأثير الثقافة المعاصرة، أو أن يكون هناك اختلاف بين أجزاء الوحي، بل يقولون: «ليس هناك أيّ فرق في المسائل الدينية الصرفة، من قبيل: صفات الله، والحياة بعد الموت، وما يقع في هذا العالم والمجتمع الإنساني من المسائل؛ وذلك لأنّ عالم الكشف والوحي نوع من العبور من أفق عالم المادة والسيطرة عليه من الأعلى إلى الأسفل، بالعلم الحضوري الذي لا تستره الحجب، ويتم فيه الإشراف على الزمان والمكان. وفي ما يتعلق بالعلم الحضوري لا مجال لاحتمال الخطأ وعدم الإصابة»([5]).

 

النبيّ بين حصار الصور وحصار العرف ــــــ

يقول سروش: إنّ  نبي الإسلام كان يمارس النبوّة في إطارٍ من حصارين: الأول: حصار الصور؛ إذ كان يحدّ المكشوفات غير المصوّرة أو المحصورة، ويضع اللامكان في ظرفٍ مكاني. والثاني: حصار العرف، الذي كان يضفي على عدالته وسياسته صبغة المحلية والعصرية، ويلبسها ثوب القوانين القبلية الضيق.

وسؤالنا: أين يكمن هذا الحصار؟ هل هو في توظيف اللغة والثقافة، التي تريد جعل ما تروم بيانه قابلاً للفهم والتأثير؟ فهذا ليس هو محل النزاع. فكلّ نبيّ يضطر إلى صياغة مراده في قالب من الكلمات السائدة بين الناس. فحيث إنّ الألفاظ أدوات للتفاهم لا يَسَعُ أي إنسان أن يستغني عنها في مقام التفهيم والتفاهم. ومن هنا نجد القرآن أحياناً يستخدم نفس كلمات مخاطبيه، فيؤكِّدها، أو يصحِّحها، أو يتجاوز عنها ساكتاً، أو يرفضها بالمرّة.

وفي هذا السياق نجد أن أسباب النزول هي من الحقائق التي لا يمكن إنكارها؛ لأنّ خلود القرآن لا يعني أن مفاهيم الوحي أجنبية عن حقائق العصر، وأنّ هذا الكتاب السماوي قد تعرّض إلى بيان أمور مجرّدة عن ذهنية وتفكير المجتمع الذي خاطبه. فمن بين 114 سورة و6236 آيةٍ تحدثت عن مسائل متنوّعة لم يتناول مسائل ذلك العصر، والأسئلة التي وجَّهها أهل ذلك العصر للنبي الأكرم’، إلا نزرٌ قليل منها.

وعليه صحيحٌ أنّ الخصوصية الثقافية والزمانية لذلك العصر قد تجلَّت في هذه الموارد القليلة، إلا أنها أولاً: ليست مقيِّدة. وثانياً: إنّ القسم الأهم والأكبر من آيات القرآن يحتوي على المسائل العامة، التي تتحدّث عن المسائل الاعتقادية، والأحكام العملية، والأفكار، والأساليب، والسير والسلوك، والأخلاق الفردية والاجتماعية.

وأما ما ذكره عن واقعية الوحي ووقوعه في حصار من القالب العرفي، الذي صوّر عدالته وسياسته، ومنحها صفة عصرية ومحلية، وألبسها ثوباً ضيقاً، قوامُه القوانين القبلية، فبغض النظر عن النقد الذي يوجَّه إلى هذا الكلام بشأن القرآن (دون الحديث)، يجب حمل ذلك على الأخطاء التفسيرية([6]). وعلى فرض صحة تفسير جميع هذه الموارد فإنه في هذه الصورة ـ وكما أنّ بإمكان الشمول المعنوي([7]) أن يغدو وسيلة تفسيرية عصرية منهجية ـ بإمكان كشف الملاك وجوهر الحكم أن يكون واحداً، من طرق الخروج من المحدودة التاريخية والجغرافية، والتي ذكرت تفصيلاتها وتوضيحاتها في موضعٍ آخر([8]).

قال د. سروش: ما إن يتكلم الله (أو النبي) باللغة العربية، ويمضي ذلك العرف العربي، يكون قد قبل مسبقاً الكثير من القيود. وقال في موضع آخر: إنّ الألفاظ وإنْ كانت من النبي، إلا أنّ التصوّرات والمفاهيم لها مصدر آخر. وإنّ هذه التصوّرات والمفاهيم تفرض قيودها على تصديقاته. وهكذا الأمر بالنسبة إلى العرف والآداب السائدة في عصر النبي، التي لم تكن من أفضل الآداب الموجودة أو المتصوّرة والممكنة أبداً، ولكن أكثرها أُقِرّ من قبل الشارع، واكتسبت صفة الأحكام الإلهية. إنّ لغة وحي النبي عربية. واللغة العربية مرآة لثقافة الشعوب العربية.

لم يكن الأمر كما تمّ تصويره، بأنّ جميع ما كان يحدث في عصر النبي كان النبي يقدمه في القرآن بوصفه حلاًّ اجتماعياً وعادلاً. فهناك منه ما ورد في الحديث، ولم يرِدْ في القرآن. ولا شكّ أنّ وروده في الحديث وعدم وروده في القرآن لم يكن اعتباطياً. ويمكن القول بكل ثقة: إنّ هذه الانتقائية في وحي القرآن إنما كانت لغاية. ومن هنا يرى القرآن أحياناً عدم مناسبة ذكر تلك الحوادث لبيان تلك المقاصد، ويختار ذكر حوادث أخرى أنسب لبيان المقاصد القرآنية. وهذا هو الحال بالنسبة إلى الأحكام أيضاً. فمثلاً: تمّ بيان حكم الزنا، والسرقة، ولكنه سكت عن حكم الرجم، والارتداد. وتمّ الحديث عن مسائل الدية، ولكنه لم يقدِّم توضيحاً بشأن خصوصيات دية المرأة والرجل، وترك بيانها لسنّة النبي، وأحكامه الحكومية. وتارةً تذكر مع بيان علتها، وإنّ هذه التعليلات تضع النقاط فوق الحروف، وتساعد الفقيه البصير والمدرك لخصوصيات اللغة([9]).

وبعبارة أخرى: قدَّم القرآن الكريم حلولاً عملية في مجال المسائل الاجتماعية، وتوصيف حوادث العصر. وهو يصوغ الحوادث ـ في الغالب ـ بشكل إجمالي، يمكن تجريدها. والملفت أننا نجد أن ما تمّ انتقاؤه في القرآن من بين جميع ما وقع من الحوادث الكثيرة لا يزال يحمل من المفاهيم ما يصلح درساً لعصرنا الراهن، كما هو الحال بالنسبة للتبنّي، والظهار، في سورة المجادلة، لتقدم رسائل في الإنسانية والعدالة في قالب من العبارات المقتضبة، مثل: قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القَوْلِ وَزُوراً} (المجادلة: 2)، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} (المجادلة: 4)، والتي هي أكثر تأثيراً من ذكر الحوادث والوقائع نفسها. ومن هنا  نجد ـ مثلاً ـ في القرآن التذكير بالمؤمنين، والكافرين، والمنافقين، واليهود، والنصارى، بكثرة، دون ذكر المسمَّيات، وإنما يكتفي بذكر الأوصاف؛ ليمكن تطبيقها على مصاديقها في كلّ زمان ومكان. وربما يشير إلى هذا الإمامُ الرضا×، حيث يقول: «إنه لم يجعله لزمان دون زمان،… فهو في كلّ زمانٍ جديد»([10]).

 

الوحي بين مفهوم النزول ومقولة البشرية ــــــ

يقول سروش: ينبغي عدم الابتعاد كثيراً. لابد من أخذ مفهومي (النزول) و(البشرية) بنظر الاعتبار في فهم معنى الوحي، واعتبار كلّ ما فيه (بشرياً). وهذا هو عين تعاليم القرآن وإرشاداته.

إذا كان من المقرر أن يكون الوحي بشرياً بأجمعه لم تكن هناك من حاجة إلى إضافة جميع القيود على مجموع كلمات نزول الوحي. إنّ هذه القيود تثبت أنّ نزوله لم يكن من سنخ نزول المطر واللباس والحديد والماء، ولا وحيه من سنخ الوحي الطبيعي والغريزي والمادي. وهذه الأمور هي التي تستفاد من الآيات التالية:

1ـ لم تكن هناك ضرورة إلى التأكيد على أنّ تعليمه قد كان على يد ملك شديد القوى، وأنه في الأفق الأعلى: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} (النجم: 4 ـ 7).

2ـ التأكيد الخاص من خلال القول بأنه نزل بأمر الله على قلب النبي: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ} (البقرة: 97).

3ـ إنّ وحي الله يناله ولي الله دون غيره. وإنّ ولاية الله هي القيد والشرط للنزول وتولي الصالحين: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف: 196).

4ـ إنه بشرٌ، ولكن أيّ بشر؟! إذ يتميز منهم بالوحي إليه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110).

5ـ يحصر ويقصر كلمة الله على نزول الكتاب: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً} (الزمر: 23).

6ـ أو بقيد السمع (طه: 13)، ويتلو القرآن بتحريك اللسان (الكهف: 27، وطه: 114). وإنّ وحيه ليس من قبيل الوحي إلى السماء (فصّلت: 12)، أو الشياطين (الأنعام: 121).

إنّ هذه القيود، وقيودٌ غيرُها، تثبت أنّ الوحي ليس من سنخ العلوم والمعارف المادية والطبيعية، كما حاول تصويره من كونه بشرياً تماماً، وإلا كان مباحاً للجميع، ويتساوى الجميع في الوصول إليه، وتكون طريقة حصوله معلومة للجميع، في حين أنّ الأمر بخلاف ذلك.

أجل، لقد كان النبي إنساناً استثنائياً، وكان في اللغة الدينية ولياً من أولياء الله، إلا أنّ كونه ولياً لا يلغي كونه إنساناً؛ فإن ظرفية الإنسان من السعة بحيث يمكنها أن تجمع بين النبوّة والولاية. وإن رحيق كلامه يشهد بأنه نحلة في العالم القدسي، وليس ببغاء سدرة المنتهى. وكانت حدود صلاحيّاته واسعة أيضاً. فكلّ ما كان يفكِّر فيه أو يقوله محكومٌ عليه بالصحّة من قبل الله تعالى.

إنّ الإنسان يحصل على ما يحتاج إليه من الأرض. كما يحصل عليه من السماء أحياناً. والمهم هنا أن نعرف سنخ الوحي النبوي. صحيح أنّ وعاء البشرية متَّسِعٌ، إلا أنّ ولاية الله تغيّر ماهية الارتباط وآليته. فإنها وإنْ كانت لا تنفي البشرية، إلا أنها تحدد سنخ النتيجة، وتبين طولاً وعرضاً قدسياً غير قابل للخطأ. إن هذا النوع من الرؤية والفهم لإسلام وأحكام القرآن يُيَسِّر علينا فهم (الظاهرة القرآنية)، ويدفع التكلفات والتأويلات غير السليمة، ويفتح القرآن أمامنا بوصفه نصاً بشرياً ـ تاريخياً، ويبيِّن صعود ونزول جغرافية السماء، تبعاً لصعود ونزول جغرافية الأرض.

إنّ حدود هذا الكلام غير واضحة. فالمهم أن نعرف التأثير الذي يتركه هذا التأكيد على النصّ البشري والتاريخي في فهم الشريعة واستنباط الحكم. لو قيل: إنّ اللغة الدينية قد تضمّنت الارتباط بالمجتمع، أي إنّ هذه المفاهيم اجتماعية وتاريخية، وتحمل في واقعها آثاراً بشرية. وعليه لابد من التعرُّف على الشروط والظروف التي اكتنفت تلك الأحكام، وأدت إلى صياغتها وبلورتها. فمثلاً: إنّ الأحكام قد بُيّنت في ظرف ولغة خاصة، ودلالة معيّنة، وإنّ ظروف مكة تختلف عن ظروف المدينة، أو إنّ هناك آيات أحكام لا يمكن فهمها إلا بعد التعرف على أسباب نزولها. وعليه لابد أن نأخذ جميع  لوازم هذه الحقائق في تشريع الأحكام بنظر الاعتبار. وعندها يكون من المقبول أن توجد لنا مناخاً آخر. وأما إذا كان المراد من التاريخية أنّ هذه النصوص غير مقبولة في مجال الأحكام الاجتماعية فهو ما لا يسعنا القبول به؛ وأنّها عاجزة عن مواصلة الترابط الهادف في قالب الألفاظ، وأنه ليس لها أيّ موقع، وإنْ كان على نحو الدلالة التجريدية([11]) في العصور الأخرى، فهو مجرّد ادعاء، لا ينسجم مع أصل شمولية القرآن. فالقرآن يحمل رسالة عامة، ونداء اجتماعياً خالداً، لجميع العصور والأجيال. وعندما يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ}، و{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، و{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}، و{مَّا أَفَاء اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}، ومئات الآيات الأخرى، الناظرة إلى الأوامر العامة، التي تهدف إلى سعادة الإنسان وهدايته في كل العصور.

وعليه إذا قيل: إنّ القرآن مؤرّخ فهذا يعني أنه لابد من التعرّف على ظرف دلالته؛ وإذا قيل: إنه لجميع العصور والأجيال فهذا لا يعني أنّ هذا يتمّ دون انعكاس للعلل والعوامل، ومن دون التفات إلى متطلبات عصر الرسالة، وأنه لم تأتِ في هذا القرآن آية ناظرة إلى حكم أو حادثة خاصة، وأنه ينبغي تصوّر عمومية وشمولية جميع الآيات.

 

المظاهر الزمنية في القرآن الكريم ــــــ

قال سروش: وعندها لن نتعجب إذا وجدنا تقويم القرآن (تقويماً قمرياً)، وأنه يوجب الصيام على جميع الناس في شهر رمضان، أو أن تتمّ الدعوة من قبل الله لجميع البشر إلى التدبُّر في خلقة الجمل، أو أن يحدّثهم عن إيلاف قريش، أو أن يخصّ أبا لهب باللعن من بين جميع الناس.

أيّ إشكال في أن يتمّ وضع الأحكام على أساس من التقويم القمري، فيكون الصيام في شهر نزول القرآن، الذي فيه الليلة التي هي خير من ألف شهر؛ أو نتحدث عن عجيب خلقة الجمل، المعروف في البادية العربية، وعن عظيم خلق السماوات والمجرّات؟ إن الفارق بين التوصيف الثقافي والأحكام الشريعة الموجودة في القرآن يكمن في أنّ المجموعة الأولى تنشأ من اللغة والثقافة العربية، ومع ذلك فإنها غير محدودة على الشعوب العربية، وإلاّ فلِمَ يتمّ انتخاب فئة واحدة من بين عشرات الأوصاف العربية في القرآن الكريم؟

عندما يقول القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فهذا يعني أنّ كلّ نبي مضطر إلى بيان مراده قالب من الكلمات والمفاهيم السائدة في المجتمع الذي بعث فيه. ولما كانت الكلمات وسيلة لإيصال المعاني فليس هناك إنسان يستطيع إيصال مراده دون أن يستعين على ذلك بالألفاظ المتداولة في عصره. ولذلك نجد القرآن ينقل أحياناً عين الكلمات المستعملة عند مخاطبيه، فيؤكِّدها حيناً، ويصحِّحها حيناً آخر، أو يسكت عنها، أو يردّها بالمطلق.

ومن جهة أخرى فإنّ درك الحقائق التاريخية لعصر النزول لا ينحصر في هذا الأمر؛ فإنّ القرآن نزل في رقعة جغرافية خاصة، ميَّزته من هذه الناحية. وكانت هناك قوميات وأديان مختلفة. وكان الناس في مكة والمدينة يتحدثون بلغات مختلفة، ابتداءً من أعراب البدو إلى اليهود والنصارى، الذي وفدوا على هذه المنطقة من بقاع أخرى، وكانوا يعيشون تقاليدهم الثقافية والتاريخية، وأعرافهم وآدابهم الخاصة، وكانت لهم لغاتهم ومفرداتهم الخاصة، التي يعبّرون بها عن مراداتهم في مختلف المجالات: الدينية، والغيبية، والاقتصادية.

ومن البديهي أنّ القرآن لم ينزل في فراغ، ولم يتكلم بألفاظ دون الالتفات إلى مراميها في التفهيم والتفاهم. وقد كانت مكة ملتقى السائحين والتجار، ومختلف القبائل، على اختلاف عقائدها وثقافاتها. ومن هنا نجد الكثير من المفردات الدخيلة في القرآن الكريم، سواء من الفارسية، والحبشية، والرومية، والسريانية، أو اللهجات المحلية في منطقة الحجاز محل نزول القرآن. وهذا أمرٌ طبيعي؛ لأنّه خطاب لمثل هذه الجماعات من الناس.

والنموذج الآخر للحقائق التي لا يمكن إنكارها نجده في التساؤلات والحوادث التي اقتضت صدور بعض الأحكام، والآيات التي نزلت لحل مشكلة عصرية. ولا شك في أنّ خلود القرآن ليس بمعنى أنّ القرآن كان منقطعاً عن حقائق عصره، وأنّ هذا الكتاب السماوي قد بيّن المسائل بمعزل عن ذهنية وتفكير أبناء المجتمع الذي خاطبه. إلا أنّ كلّ الكلام في حدّ تمكُّن شرائط العصر من التأثير على هذا التلقّي الخاص. إنّ اعتبار فاعلية النبي في الوحي لا يترتب عليها محذور في مقام الاتباع والعمل والهدف من الوحي؛ لأنها لا تنقص تلك القداسة وعلو مرتبة الوحي، ولا تقلل من التعبّد به؛ وذلك لأنّ النبي مهما وصل من القرب، حتى غدا قاب قوسين أو أدنى، لم يتوصل إلى مقام إطلاق الحقّ تعالى، ولم يبلغ مرتبة الوجود اللامتناهي، ولن يبلغها أبداً. وإنّ الوحي المستند إليه، وفقاً لتلك القداسة والنزاهة وعلو الرتبة، لن تكون له قداسة الوحي المستند إلى الحق المطلق واللامتناهي، وهو الله تبارك وتعالى([12]).

 

وقفات نقدية أخيرة مع سروش ــــــ

قال سروش: إنّ هذا بأجمعه درسٌ شفاهيّ له، والذي سيغدو مصحفاً فيما بعد. ويعطي المونولوج مكانه للحوار. ويتولد القرآن في صلب هذه التجربة الحياتية الحية والمليئة بالصعود والنزول. وإن المعلم المعالج يتقدم خطوة خطوة مواكباً هذه التجربة الحياتية. ويغدو في هذه المدرسة الاجتماعية أكثر تعليماً وأشدّ «نبوّة»، وتتوفر دروسه على تنوّع وثراءٍ أكثر. إنّ تطوّر النبي في التعليم والنبوّة نحو الأحسن، وهو الذي جاء في بعض كلمات العرفاء المعاصرين، هو أنّ حقيقة التكلم لا تتقوّم بخروج الكلام من مخارج الفم. وإذا فهم ذلك في الحوارات العادية فإنما هو نتيجة للأنس والعادة التي جرت بين الناس. أما حقيقة التكلم فهي إظهار مكنونات الخواطر، وإبراز ما في الضمير، دون أن يكون هناك دخل لأداة الكلام في معنى التكلم. لذلك فإنّ الكلام من أوصاف الوجود الكمالية. وكلما اتجه الوجود نحو الكمال والقوّة كان ظهوره وإظهاره أشدّ وأقوى، حتى يصل إلى الأفق الأعلى، فيكون (نور الأنوار، ونوراً على نور)»([13]).

وعليه من الممكن أن تغدو دروس النبي في الأمور الجزئية والتذكيرات المكرَّرة أكبر حجماً. كما تصل قصة موسى× بفعل التكرار من خمسين مرّة إلى ستين مرّة. وهذا بدوره يدعو إلى التأمّل([14])؛ لأننا نعلم أنّ ثلثي القرآن قد نزل في مكة المكرّمة، وأن الثلث المتبقي قد نزل في السنوات الأولى من الحقبة المدنية، وأما السنوات الأخيرة من حياة النبي‘ فإنها لم تشهد سوى نزول نزر قليل من الآيات والسور القصيرة في الأحكام، والأخلاق، وتعزيز الأسس السابقة، وليس أصول العقائد، وفي السنة الأخيرة نزل القرآن عليه مرّتين.

وعليه فهذا لا يعني أن تنوّع الخطاب يؤدي إلى تغيير الرسالة والتعاليم الاجتماعية والأخلاقية، وازدياد حجم ملف الأحكام. باستمرار البعثة نعلم أنّ قسماً كبيراً من آيات السور المدنية قد تكرر بشكل وصيغ مختلفة، وتمّ تأكيد أو تفصيل الخطابات المتقدّمة، وللتذكير بحادثة والتمعّن فيها. إنّ أساس الخطابات يتعلق بنزول السنوات المكية، وسنوات النزول الأولى من الحقبة المدنية، إلا أنّ الأهم من جميع ذلك هو أن طول النزول قد أدى إلى تكرار الخطابات والقصص. وقد كان هذا التكرار والتفصيل بداعي تثبيت النبي وتلقينه، ومَنْ حوله من المسلمين. وكما أن التكرار مفيد في الذكر والتلاوة فإن تكرار المعارف والقصص مفيد ونافع؛ لغاية التلقين. ولذلك فإنّ طول حياة النبي لم يؤثِّر في زيادة الخطاب، أو يؤثِّر فيه. وإذا كان القرآن يكرّر في كل عام للنبي مرة واحدة فقد نزل في السنة الأخيرة وتكرَّر مرتين. وهذا ما يثبت التفاوت في نوعين من الفهم والتحليل لحقيقة الوحي.

قال سروش: وهنا يصعب القول بنزول آيات لهذه الوقائع والحوادث، وأنها كانت مكتوبة منذ الأزل، وأنّ الله قد وظَّف جبرئيل بأن يختار من رصيد الآيات أكثرها ملاءمة مع الأحداث، لينزل بها على النبي، ليقرأها بدوره على أمته.

إنّ نزول الوحي من صفات الله الفعلية، وليس من الصفات الذاتية، من قبيل: المعجزات التي تتحقق فجأة، ودون ترقُّب مسبق. ولا يمكن مقارنتها بالأمور العادية، التي قد تكون سبباً سائداً، مثل: نزول المطر (الرعد: 17)، ونزول اللباس (الأعراف: 26)، والحديد (الحديد: 25). ومن هنا فإنّ الوحي ليس قديماً أو أزلياً، ولا يخلق مشكلة لتصوير حدوث الكتاب السماوي. وعليه لا فرق من هذه الناحية، فالجميع منسوب إلى الله، ومن تجلياته. ويمكن التمثيل لعلاقة المخلوقات بالربّ بمثال النفس والتفاتها؛ لأنّ التفات النفس لا يمكن تصوُّره مستقلاًّ عن النفس ولو للحظة واحدة. إنّ فعل الله الذي يُعبّر عنه بالتجلي، والخلق، وما إلى ذلك من العناوين، ليس محكوماً بحكم القوانين السابقة؛ لأنه غير محكوم لأيّ حكم، بل إنّ كلّ شيء ينشأ عنه، إلا أنّ العقل يمكنه أن ينتزع فعل الله الحكيم، والأنظمة التي يُعبّر عنها بأنظمة العلية والمعلولية من الحقائق والواقعيات. وكما أنّ عالم الغيب لله، وهو مطوي بيمينه، فإنّ عالم الشهادة خاضع ليد حكمته أيضاً. وكما أنّ المعجزات من صفات فعل الله فكذلك الوحي منسوب إلى الله، وهو فعله. وهنا يمكن؛ لتقريب المعنى إلى الأفهام، أن نستعين بالتمثيل بالحاسوب، فعندما ينقل شخص معلومات من موقع في الصفحة الضوئية فإنه في الحقيقة ينقل في جزء من الثانية مجموعة من الرموز، التي يشار إليها بالصفر والواحد، إلى ما يسمى بـ (الهارد ديسك)، إلا أن الذي يظهر على الشاشة هو الحروف والكلمات، في حين لم يحصل فيما وراء ذلك سوى تفاعلات الصفر والواحد، في نظام منهجي يُغذّى به الحاسوب.

يقول د. سروش: أليس من الأكثر مقبولية من الناحية العقلية تصوّر أن شخصية النبي القوية كانت تقوم بكلّ شيء، فكان هو الكاشف، وهو المعلم، وهو المتكلِّم والسامع، وهو الواضع والشارع؟ أي إنّ الله لم يبعث سوى (المعلِّم)، وأما سائر الأمور فكانت تدور مدار هذا المعلِّم، وتجاربه، وردود أفعاله. فإنّ هذا المعلم كان معدّاً بحيث يعلم جيداً ما عليه أن يفعله وما عليه أن يقوله، وهو مع ذلك بشر بكل ما يحمله الإنسان من أحوال، وكان يحصل على غذائه العلمي من هنا وهناك، كما يصنع النحل في تحصيل طعامه من هذه الزهرة أو تلك، فكان النبي يحصل على المعلومة من خلال كشفه المتعالي والروحي، ومن التساؤلات وردود الأفعال الخبيثة، التي كان يمارسها الخصوم، ومن معلوماته الشخصية. وطبعاً فإنّ طرف هذا الحبل ينتهي في النهاية إلى المبادئ العالية، ومنها إلى مبدأ المبادئ، وغاية الغايات، الذي لا تسقط من ورقة إلا بإذنه، ولا ينتج نحل وحي العسل من دون إذنه.

إننا نرى الكلمات والحركات الصادرة عن النبي، ولكن علينا أن نفسّر الفعل الكلامي لله من خلال نسبته إلى النبي. فالنبي والمعصوم إذا حصل على معلومة من طريق الغيب والوحي فهي ليست من قبيل العلوم الكسبية، حتى تنسب إليه. فهو وإنْ تحرَّكت يده، ودار لسانه، إلا أننا لا نسمع سوى صوته، كما حصل ذلك بالنسبة إلى تجربة موسى× وسماع الصوت من الشجرة (القصص: 30)، وهو شيء آخر غير كلمات النبي العادية، ومختلف عنها من ناحية الجوهر، وإلا لم يُسمَّ قرآناً (وليس حديثاً قدسياً، أو حديثاً نبوياً). فهذه الكلمات علوم تفوق العلوم البشرية، ولا يمكن أن يتطرق إليها الخطأ، وهي نازلة من الأعلى إلى الأسفل. والمراد من الخطأ هو الخطأ الواقعي، أي عدم مطابقة المراد الجدّي للواقع، وليس الذي يعدّ خطأ في رؤية البشر. وفي هذه الصورة لا يكون النبي صانعاً لكلّ شيء، وإنما تجري كل الأمور وفقاً لإرادة الباري تعالى ومشيئته. وكما تقدم ليس للنبي مقدار ذرّة من الاختيار في قبال إرادة الله، وما عليه إلا متابعة الوحي. قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(يونس: 15).

قال سروش: هذان نموذجان للوحي: النموذج الذي أقدمه، وهو المنسجم مع تجربة النبي الحية، وما بعد الطبيعة لدى الحكماء المسلمين، وتأويل العرفاء؛ والنموذج الذي يطرحه الآخر، وهو يعود في واقعه إلى عالم الأساطير، ويتناسب ورؤية أهل الحديث. أنتم تقولون: إن الله يقوم بكل الأعمال بتوسّط من جبرئيل. وأنا أقول: إنه يقوم بكل الأعمال بتوسط من النبي، وهو النبي الذي يشكِّل جبرئيل جزءاً منه.

صحيحٌ أنّ هذين نموذجان من الوحي، إلا أن حكماء المسلمين لم يقولوا بالفصل بين نوعين من الوحي، ولم يقولوا بمثل هذا الاستنتاج، ولم يذهبوا إلى أن الوحي متأثِّر بثقافة العصر، ومعلوماته الشخصية، وأنه قد يتطرّق الخطأ لما يعرضه أو يقوله. وقد كان جبرئيل مستقلاًّ عنه، ولم يكن جزءاً منه، فكان جبرئيل واسطة الفيض إليه، وكان النبي قابلاً لذلك الفيض وطالباً. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، وقال أيضاً: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ.

قال سروش: استفدت من القاعدة الفلسفية القائلة: «كلّ حادث مسبوق بمادّة ومدّة»، وذهبت إلى شمول هذه القاعدة للوحي. فهو مسبوق ومقارن للشرائط المادية. ومن هنا اعتبرت الشروط الذهنية والجسدية للنبي معدّة لنزول الوحي، وليس الأمر أنّ هذه القاعدة لا تجري إلا في الصور الجسمية والحادثات المادية ـ كما تصوّرتم ـ، بل هي جارية وصادقة في الصور الجسمية، وفي النفوس الإنسانية، ولا تخرج عنها سوى المفارقات المحضة.

سأكتفي هنا بردّ الشيخ منتظري، وهو إنّ مجرّد كون الوحي حادثاً لا يخوِّلنا تطبيق هذه القاعدة عليه، والقول بأنّ الوحي كسائر العلوم التحصيلية يجب أن يكون مسبوقاً بالمادة والمدة، وبذلك يتأثر الوحي بالظروف المادية المحيطة بمَنْ يتلقى الوحي؛ وذلك لأنّ الموحي هو الله القديم والأزلي. ورغم توقف ذلك، مضافاً إلى الموحي، فإنه يتوقف أيضاً على الموحى إليه، وهو مسبوق في وجوده بالمادة والمدة، من وجود الآباء والأجداد الطاهرين، إلاّ أنّ الوحي أمر إلهي ومجرّد، وهو يلقى من السماء إلى الأرض، ولا يتأثر بالماديات أبداً. إنّ الوحي ينزل تبعاً لثقافة ولغة المبعوث إليهم، إلا أنّ هذه التبعية تبعية شكلية، وليست جوهرية، كما تمّت الإشارة إليه. وربما كان هذا هو المراد من التبعية. وإنّ هذه التبعية من قبيل تبعية العلم للمعلوم، فإن العلم بكلّ شيء وإنْ كان مطابقاً له، إلا أنّ خصائص المعلوم ـ من قبيل الجوهر والعرض، أو ثبات المعلوم وتغيّره ـ لا تؤدي إلى حصول الأمر نفسه بالنسبة إلى العلم به.

يقول سروش: ذكر العلامة الطباطبائي في حاشيته على هذا الموضع من الأسفار أنّ هذه القاعدة جارية على النفوس، حتى على رأي المشّائين، الذين يذهبون إلى كونها مجرّدة منذ البداية. وإلا فإنّ هذه المسألة أوضح على رأي صدر المتألهين، الذي يذهب إلى كون النفوس جسمانية الحدوث، وروحانية البقاء.

أولاً: أشير إلى هذه القاعدة الفلسفية القائلة: «كلّ حادث مسبوق قبل حدوثه بالمادة والمدة». وحيث كان الوحي حادثاً فهو لا يستثنى من هذه القاعدة. فلا يمكن تنزيه الوحي الإلهي عن هاتين المسألتين. إنّ هذا الكلام؛ بشهادة البرهان، والدليل، وكلمات الحكماء من المسلمين، من أمثال: صدر المتألهين، والمحقق السبزواري، وغيرهما، مرتبط بالحادث المادي، دون المجرَّد، وخاصة ما كان من مقولة العلم والمعرفة، وما هو أسمى منهما، وهو الوحي الإلهي. فكيف تمّ تطبيق هذه القاعدة على المجرّد، وتوصَّل إلى نتيجة منسجمة مع ما بيَّت الوصول إليه مسبقاً؟! وكنتيجة لذلك قال بعدم انسجام ظواهر القرآن مع معطيات العلوم البشرية!

ثانياً: إنّ روح النبي عند الاتصال بمبدأ الفيض روح مجرّدة. وفي هذه المرتبة لا ينطبق عليه حكم النفوس العادية، كي تكون أحكام النفوس قبل نموها وكمالها وبلوغها وتجرّدها مسبوقة بالمادة. فعند الاتصال بمبدأ الوحي يكون له حكم المفارقات المحضة. والحركة في قوس الصعود تبدأ من الأسفل متَّجهة إلى الأعلى.

وفي ما يتعلق بتعارض ظواهر القرآن مع العلم فقد أبدى الدهشة والتعجب من سبب عدم اتّعاظ علماء الدين المسلمين، من السنّة والشيعة، من تجارب الكنيسة، فنجدها تكرر نفس أخطائها التي ارتكبتها بحقّ كوبرنيق، وغاليلو.

وينبغي أن نقول له: نحن نعتقد أنّ الذي يستطيع الاتصال والارتباط بما وراء الطبيعة، والحصول على العلوم والمعارف الدينية السامية، يمكنه أيضاً الوصول إلى العلوم والمعارف المتعلقة بمسائل هذا العالم من المصدر ذاته، بشكل جيِّد وصحيح، وإتقان لا يتطرق إليه الخطأ؛ وذلك لعدم وجود فصل بين هاتين الفئتين من العلوم والمعارف، التي يشكل ما وراء الطبيعة مصدراً لها. فيُقال ـ مثلاً ـ: إن النبي والمعصوم يمكنه التوصّل إلى الفئة الأولى المتعلقة بالمسائل الدينية فقط، بل هو بلحاظ الكشف المعنوي يفوق الكشف الصوري، وإنّ كشف العلوم والمعارف الدينية لمرتبة عقل النبي كشف معنوي، وبعد ذلك تتنزل من مرتبة الخيال إلى الكشف الصوري، ويكون كشف العلوم والمعارف المتعلقة بجزئيات أمور هذا العالم المادي كشفاً صورياً.

ومن جهة أخرى فإنه وغيره يعمدون في باب الكلام الإلهي، ونزول القرآن، وأسماء الله وصفاته، إلى التأويل. بل إنه يقوم بتأويل جميع الأفعال، مثل: نزول المطر، بالأمور الطبيعية. وعليه لماذا نجد منه كلّ هذا الإصرار على تخطئة فهمهم في المواطن الأخرى، بينما يعمد في خصوص مسائل العلم التجريبي إلى التثبيت، والقول بالتعارض بين القرآن والعلم، ويبادر إلى رفع هذا التعارض من خلال القول بثقافة العصر. إن كان التأويل في خصوص المسائل الاعتقادية أمراً طبيعياً، ولا مناص منه، فإن هذا التأويل طبيعي ولا مناص منه في ما يتعلق بتعارض العلوم أيضاً.

ثمّ هل هناك من معنى في أن ندَّعي وقوع القرآن في أخطاء في ما يتعلق ببيان الوقائع التاريخية، وتوضيح المذاهب البشرية والأمور الأرضية، ولكنه معصوم من الخطأ في جميع ما يتعلق بالأمور السماوية والميتافيزيقية؟ فكيف يمكن الفصل بين هذين العالمين من هذه الناحية؟ وإذا قيل: إنّ الأدلة العقلية والفلسفية تؤيِّد كلام القرآن في ما يتعلق بمباحث ما وراء الطبيعة فعندها نقول: هل تمكّن العقل من نفي سائر الأمور بالدليل والبرهان؟

قال سروش: إذا لم يتضح المراد الجدّي للمتكلِّم، حتى بعد مضي ألف وأربعمائة سنة، فلِمَنْ وأين يكون هذا المراد الجدي؟ وإذا تعيّن علينا انتظار العلم التجريبي، ليوضِّح لنا حقيقة المراد من السماوات السبع، فلماذا نكيل كل هذه اللعنات لهذا العلم؟

إنّ الكثير من الآيات المتعلِّقة بالشريعة والأخلاق، ممّا ينظر إلى العمل، واضحة في زمن النبي وزماننا على السواء. وأما في ما يتعلق بدائرة العقائد، وفهم أسس معرفة الوجود، فقد اتضحت على نحو إجمالي، من قبيل: وجود القيامة، والجنة، والنار، وما كان من هذا القبيل، ممّا يختلف المفسرون في بيان تفاصيلها وجزئياتها. وإنّ الفهم الإجمالي للمراد الجدّي لا يضرّ بقوّة ذلك المراد؛ لأن الوصول إلى المعنى الدقيق للموضوع لا يتوقف على اللفظ، بل على فهمه العيني والخارجي. ومن جهة أخرى فإن متعلق الكلام في المراد الجدي لا ينحصر دائماً في المحكمات من الآيات، بل أحياناً يكون المراد الجدي في المتشابهات أيضاً، وإنّ فهمه الإجمالي هو الذي يظهره على هيئة متشابهة.

هذا مضافاً إلى أنّ صنعة الإيهام تعدّ من المحسنات البديعية في علم البلاغة، وهو ما وظَّفه القرآن الكريم في الكثير من الموارد. وفي هذه الصورة ألا يكون هناك مرادٌ جدّيٌّ وراء هذه الإيهامات؟ أيّ إشكال في أن نخوض في هذه الإيهامات، ونسعى إلى كشفها، كما هو الحال بالنسبة إلى المتشابهات؟ فيقوم معنى السماوات السبع على الفهم الإيهامي، فتختلف الآراء حوله، فكان المخاطبون في عصر النصّ يطبقونها على هيئة بطليموس، وكانت هذه هي العقيدة الغالبة، ولكنها في الوقت نفسه صالحة لأن تحمل على معنى آخر يمكن أن يفهم في العصور اللاحقة، وليس من المفروض أن نتقيد بالفهم السائد في العصور المتقدّمة، ونصرّ عليه. فلابد من الأخذ بنظر الاعتبار الاحتمالات التفسيرية الأخرى في الكلام أيضاً.

لا ننسى أيضاً أنّ القرآن لم يكن في مقام بيان هذه العلوم، وإن مساحة البعثة ودائرة الهداية في القرآن لم تصِلْ إلى هذه الأمور. والشيء الوحيد الذي يبقى هو استنباط مسائل في ما يتعلق ببيان هذه العلوم من طيّات هذه الكلمات. وقهراً فإن هذه البحوث لا تختص بعصر الصحابة، بل هي بحوث هامشية يتمّ طرحها بعد تطور العلوم الإسلامية، واتساع رقعة العلوم، فيستنبط الفهم العلمي والفلسفي والعرفاني من هذه الآيات. وقد استنبط منها أولئك تفسيرات تتناسب وهيئة بطليموس، وطبّ جالينوس، وما شاكلهما. ومن هنا فإن الإرادة الجدية (الطبقة الظاهرية) المتعلِّقة بالصحابة هي الفهم العام الذي لا ينافي الفهم المعاصر، بل هو فهم بديلٌ وتفصيليٌّ وتصحيحي للمراحل المتأخرة.

وأنت نفسك تذعن بأنّ هذه الآيات قد نزلت في عصر لم يكن فيه العرب يواجهون تحدّيات كبيرة، ولم تكن لديهم أسئلة عميقة، ولم يكن لهم همٌّ في التوصل إلى الأجوبة الشافية. وفي هذه الصورة من الطبيعي أن يقوم فهمهم على المعاني الإجمالية للمعاني العلمية، وأن يقتصر كلام الله على ما يتناسب والمعاني العلمية وفقاً لتصوّرهم، كما هو الحال في رسالة الإمام الحسن العسكري× إلى إسحاق الكندي، التي ينهاه فيها عن نقد القرآن، وما تصوَّره من التناقض في القرآن، مذكراً إيّاه، قائلاً: ألا تحتمل وجود تفسير آخر لهذا الوحي لا يستقيم معه التعارض؟([15]).

والأمر الآخر: إنك تدرك الاختلاف بين القرآن والإنجيل والتوراة، فهل يمكن المقارنة بين القرآن والعهدين، وخاصة القديم منه، من ناحية المتانة، والرصانة، والقوّة، واستقامة الكلام، وبيان المعارف، والدّقة في التعبير، والانسجام في القول، وهو ما يُعبّر القرآن به عن نفسه بكونه مصدِّقاً ومهيمناً (المائدة: 48).

وعليه ما هو سبب إخفاقهم في عدم التوفيق بين الكتاب المقدس والعلوم الحديثة؟ هل كان هناك مجرّد مشكلة في المتن أم كانت هناك أسبابٌ أخرى، مثل: الجمود على النص، وحصر التفسير بالكنيسة، وما شاكل ذلك؟ إنّ حجم الأدبيات والمكتوبات بشأن الجمع بين العلم والوحي والتحليلات الفلسفية والعلمية الجديدة فوق أن يحصى.

وأما ما قلتموه من حديث تلقيح النبات وتأبير النخل فربما كان على حدّ تعبيركم حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً، فهناك الكثير من الأحاديث الموضوعة في الكتب السنية والشيعية، وليكن هذا الحديث واحداً منها، إلا أنّ الكلام ليس في هذه الناحية، إنما الكلام في أن المسلمين، وكبار العلم والعرفان، قد عايشوا هذا النوع من الأحاديث قروناً طويلة، وآمنوا بها، ولم يعتبروها منافيةً للإيمان والنبوّة مطلقاً.

هناك بحثان: أحدهما: تاريخ التفكير، وما قاله من معايشة أكابر العلماء والعرفاء لهذه الأحاديث قروناً طويلة؛ والآخر: إنّ هناك من استند إلى هذه الأحاديث، وجعل منها وثيقة نظرية على جهل النبي. ففي الصورة الأولى يقع البحث بلحاظ معرفي وتاريخي؛ وفي الصورة الثانية يقع الكلام في الحجية والدلالة. أما محل بحثكم فهو إثبات المدعى من خلال هذه الرواية، التي تثبت أنّ النبي لم يكن على علم بالعلوم السائدة، حتى في عصره، والمعروفة عند قومه.

وبغضّ النظر عن عدم حجية أخبار الآحاد في مثل هذه الأمور، فإنّ هذا الخبر بالذات ليس له سند ومستند صحيح، ولا يمكن لشخص أن يثبت جهل النبي بالعلوم التجربية من خلال هذه الرواية.

والأمر الآخر: إنّ ما هو محلّ بحثكم ونقاشكم يقع في آيات القرآن والوحي النبوي، وليس في الروايات وموافقتها للعلوم التجريبية، ولا صرف علم النبي الشخصي (بغض النظر عن الوحي)، حيث يصرِّح القرآن بعدم علمه قبل النزول بالكثير من الأمور، كما في سور (هود: 49؛ الأعراف: 188؛ الشورى: 52). وإذا كان القرآن ـ طبقاً لبعض التفاسير ـ قد ذكر آيات مخالفة للعلم فيعود سبب ذلك إلى أنكم تصوِّرون عدم علم النبي بمثل هذه المعلومات. ومن هنا فإن استنادكم محل نقاش. فلا ينبغي تحميل النبي أخطاء المفسرين، بل يجب القول بأننا لم نفهم تمام المعنى من الكلام.

المسألة الأخرى: «إن هذا الحديث موجود في صحيح مسلم. وقد أشكل عليه المحقِّقون سنداً ودلالة. كما أنّ مضمونه لا يتطابق مع سيرة النبي. فلو فرضنا أنه‘ لم يكن نبياً، ولا عالماً، ولكنه على كلّ حال قد ترعرع في بقعة أرضية كان التمر معروفاً عند سكانها، وكانت النخيل تشكل أكثر أشجارها، فهل يعقل أن يجهل النبي في اكتمال سنه سنّةً كان العرب يعيشونها، ويعلمون تفاصيلها».

لقد أطلنا الكلام. وطبعاً هناك أمور أخرى، ولكن الوقت لا يتَّسعُ للخوض فيها. وسنتحدث في فرصة لاحقة حول تاريخية وكشف ملاكات الأحكام، وكيف يمكن الاستنباط من هذا الكتاب، رغم كونه نزل بلسان عربي.

الهوامش:

(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وأحد أبرز الباحثين القرآنيين، لديه أكثر من ثلاثين كتاباً في الدراسات القرآنية وغيرها، كانت له مساهمات جادة في موضوعات قرآنية وإشكالية، من رموز الفكر التجديدي في إيران.

([1]) جعفر السبحاني، الإجابة الثانية، الوحي النبوي، مجمع المدرسين والمحققين.

([2]) مقدمة جامع التفاسير: 76.

([3]) شرح دعاء السحر: 59؛ وكذلك تفسير القرآن الكريم، نقلاً عن مؤلَّفات الإمام الخميني 1: 197.

([4]) حسين منتظري، أجوبة عن تساؤلات بشأن نظرية القرآن والوحي، كتيب في الاستفتاءات: 9.

([5]) المصدر السابق.

([6]) هناك الكثير من النماذج على هذه الأخطاء التفسيرية: ومن ذلك تفسير الآية 34 من سورة النساء، والآية 29 من سورة التوبة، بشأن كلمة (صاغر)، وعشرات الموارد الأخرى، التي أشار إليها المفسِّرون المعاصرون، والتي ذكرت بعضها في كتابي «القرآن والتفسير العصري».

([7]) من باب المثال قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. كيف كان المخاطبون في عصر النص يفهمون هذه الآية؟ وكيف يفهمها الناس في العصر الحاضر؟ قد يفهم من ذلك أن الله يُمسك السماء بما فيها من الكواكب والنجوم والأجرام السماوية، وهذا هو الفهم الساذج والبسيط؛ والفهم الآخر من الإمساك بالسماء يكمن في فهم قانون الجاذبية، وقد تمّ بيانه بلغة مفهومة لعصر النص. وبذلك يبيح المفسِّر المعاصر لنفسه أن يفسِّره بتفصيل وتوضيح أكثر تعقيداً مما كان عليه الفهم في عصر النص.

فإنّ مفردة الإمساك في رأي المفسرين العلميين يمكن أن تشتمل على معنى الجاذبية أيضاً، وإن لم يكن ذلك مفهوماً للناس في عصر النص، ويمكن الرجوع في ذلك إلى مقالة (شمول پذيري معنى در قرآن)، لمحمد علي أيازي، فقيه رباني (مجموع المقالات في إحياء ذكرى آية الله ميرزا علي فلسفي): 631 ـ 681.

([8]) وقد أشرت في كتابي «ملاكات أحكام وروش استكشاف آن» إلى الطرق التي يمكن من خلالها الوصول إلى التاريخ من خلال الصبغة العامة، دون التأثر بثقافة العصر، أو الالتزام بمثل هذه الأمور.

([9]) راجع: محمد علي أيازي، فقه پژوهي قرآن، درآمدي بر مباني نظري آيات الأحكام: 102.

([10]) عيون أخبار الرضا 2: 87.

([11]) إنّ المراد من الدلالة التجريدية دلالة النص المجرَّد من الحجب الزمانية والمكانية. وبعبارة أخرى: مجرد من جميع خصوصيات العصر وشرائطه. وهو ما يجب على مفسِّر القرآن والحديث والفقيه المدقق أن يقوم به، وأن يستخرج هذه الخصوصيات من رحم النص، ليتمكن من خلال ذلك على ديمومة الشريعة، من خلال كشفه لملاكات الأحكام.

([12]) حسين منتظري، أجوبة عن تساؤلات بشأن نظرية القرآن والوحي، كراس استفتاءات: 9.

([13]) روح الله الخميني، شرح الأربعون حديثاً: 618.

([14]) انظر: الخطيب، دراسات في إعجاز القرآن: 234.

([15]) بحار الأنوار 5: 311؛ مناقب آل أبي طالب 4: 458.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً