د. محمد شيباني(*)
مقدّمةٌ
إن من بين المسائل التي تثار اليوم في بعض الصحف والمجلات من حينٍ لآخر مسألة سماوية أو عدم سماوية ألفاظ وكلمات القرآن الكريم، حيث يتمّ طرح السؤال على النحو التالي: هل نزلت ألفاظ القرآن وكلماته ـ مثل معانيه ـ وحياً من قِبَل الله سبحانه وتعالى، ولم يكن للنبيّ الأكرم| أيّ دَوْرٍ أو تدخُّل في هذه الألفاظ، أم أن القرآن ظاهرةٌ بشرية، وأنه من صنع النبي الأكرم| نفسه، وأن آيات القرآن الكريم بحَسَب المصطلح قوالب عبَّر بها النبيّ عن تجربته الباطنية؟
لقد كان هذا السؤال مطروحاً في مورد النصوص المسيحية المقدّسة أيضاً؛ إلا أن الدافع والمصير الذي كان لهذا السؤال في مورد النصوص المسيحية المقدّسة يختلف عن دافعه ومصيره في مورد القرآن الكريم في أمرين رئيسين، وهما:
أوّلاً: إن الجذور التاريخية لهذا السؤال في مورد القرآن ـ على ما يلوح من «الإتقان» للسيوطي، و«البرهان» للزركشي ـ تعود إلى ما قبل قرون خلَتْ، وإن السبب الذي أدّى إلى طرح هذا السؤال وبيان نظرية عدم سماوية ألفاظ القرآن الكريم ـ كما سنأتي على ذلك ـ كان أمراً من داخل الدين، من قبيل: الفهم الخاص لبعض الآيات، أو الرأي الخاص بشأن الكلام الإلهي. وأما في المسيحية فيعود طرح هذا السؤال أوّلاً إلى فترةٍ متأخِّرة جدّاً، وثانياً: كان الدافع إلى طرحه يكمن في بعض التهافت الموجود؛ حيث لا تنسجم النصوص المقدَّسة مع المعطيات العلمية.
والاختلاف الآخر أن هذا السؤال على الرغم من طرحه في العالم المسيحي بشكلٍ متأخِّر، ولكنْ تمّت الإجابة عنه بشكلٍ مبكِّر جدّاً أيضاً. إن تطوّر العلوم والتحقيقات التاريخية حول النصوص المقدّسة، وكيفية تبلورها، أوضحَتْ بما لا مجال معه للشكّ في هذه الحقيقة، وهي أن النصوص المقدّسة من صنع البشر، لا على يد النبيّ موسى× أو النبيّ عيسى المسيح×، بل على يد أفرادٍ من أتباعهم بأعيانهم، من الذين عاشوا في مراحل زمنية متأخِّرة جدّاً عن مرحلة النبيّين موسى وعيسى’. وأما في مورد القرآن الكريم فإن الأمر معكوسٌ تماماً؛ بمعنى أن نظرية عدم سماوية ألفاظ القرآن بعد طرحها عُرفت منذ البداية بوصفها نظريةً شاذّة وغريبة، وكلما تقدَّم الزمن أصبحت هذه النظرية منبوذةً بشكلٍ أكبر؛ وذلك لأن التقدُّم العلمي لم يأتِ بما يثبت خطأ الحقائق القرآنية، بل أيّد صحتها أيضاً. وأما لماذا عاد طرح هذه النظرية الشاذّة إلى الواجهة في هذا العصر من جديد؟ فإن السبب في ذلك يعود إلى تقليد بعض المستنيرين [من المسلمين] للغرب؛ حيث أخذوا يسعون إلى إسقاط التحديات والأزمات الخاصة بالمسيحية على العالم الإسلامي بشكلٍ وآخر.
لقد عمدنا في هذه المقالة إلى بحث مسألة سماوية أو عدم سماوية ألفاظ القرآن الكريم، ولكنْ لا يعود سبب بحث هذه المسألة إلى أهمّية ذات هذه المسألة، وإنما لأن بعض الاتجاهات في مورد الدين أخذت تقوم بشكلٍ إرادي أو لا إرادي على أساس عدم سماوية ألفاظ القرآن الكريم.
1ـ مفهوم الوَحْي
إن من أهمّ الوظائف الأساسية للأنبياء حملُ الرسالة الإلهية بعد تلقّيها من السماء، وهو ما يتمّ التعبير عنه بـ «الوحي». إن الحديث حول ماهية وحقيقة الوحي أمرٌ بالغ الصعوبة؛ إذ إن حقيقة الوحي بعيدة المنال، بل هي متعذِّرة؛ لأن الوحي ليس ظاهرةً طبيعية يمكن التعرُّف عليها بالأدوات العلمية والعامّة، بل هي ظاهرةٌ خارقة تحدث بين الله وبعض الأشخاص الذين يختارهم ويجتبيهم بنفسه، بحيث لا يمكن لغيرهم أو للذين لم يصلوا إلى هذه المرحلة أن يحكموا حول ماهيّتها، بَيْدَ أن معناه ومضمونه قابلٌ للفهم والتحقُّق، ويمكن لكلّ شخصٍ بحدود عقله وفهمه وإدراكه ـ وعلى أساس كلمات الأنبياء ـ أن يفكِّر ويتأمَّل حول الوحي.
أـ المعنى اللغوي
قال ابن منظور في (لسان العرب): «الوَحْيُ الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفيّ وكلُّ ما ألقَيْتَه إلى غيرك»([1]). إن التعبير بـ «وحى إليه وأوحى» يعني أنه تعامل معه بشكلٍ يخفيه عن الآخرين.
وقال الراغب الأصفهاني: «أصل الوحي: الإشارة السريعة. ولتضمُّن السرعة قيل: أمر وحيّ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوتٍ مجرّد عن التركيب، وبإشارةٍ ببعض الجوارح، وبالكتابة»([2]).
يذهب علماء اللغة إلى الاعتقاد بأن الجامع لكافّة معاني واستعمالات مفردة الوحي هو القول: «إن الوحيَ تفهيمٌ وإلقاءٌ سريع وخفيّ»، يتمّ توجيهه إلى مخاطبه الخاصّ، ويُحْجَب عن غيره.
إن هذا المعنى المشترك يصدق على جميع مصاديق الوحي، سواء أكان من قبيل: إلقاء الأمر التكويني على الجمادات، أو إلقاء الأمر الغريزي إلى الحيوانات، أو تفهيم الخطورات الفطرية والقلبية على الأشخاص العاديين من الناس، أو تفهيم الشريعة للأنبياء المجتبين؛ وسواء أكان على سبيل الإشارة أو الصوت الخفيّ أو الكتابة البشرية. ففي جميع هذه الموارد يكمن تفهيمٌ خفيّ وسريع([3]).
ب ـ المعنى الاصطلاحي
إن الوحي في المصطلح الإسلامي عبارةٌ عن: إيصال الرسالة الإلهية إلى الأنبياء من طريق ربطهم بعالم الغيب، وإيجاد نوعٍ من الارتباط ما فوق الطبيعي. وحيث إن هذا النوع من الخطاب وإيصال الرسائل يتمّ بشكلٍ سريع وخفيّ عن الآخرين يتمّ التعبير عنه بلفظ «الوحي»([4]).
قال العلاّمة الطباطبائي: «الوحي هو كلام سماوي (غير مادّي) ليس للحواسّ الظاهرية والعقل أن تصل إليه، بل رُبَما يوجد في بعض مَنْ يختاره الله تعالى ما يدرك بواسطة قوى ربّانية الأوامر الإلهية والدستور الغيبي (غير المحسوس بالعقل والحواسّ الأخرى)، وهذه الحالة هي من حالات النبوّة، وبها يتلقّى النبيّ الشريعة الإلهية»([5]).
2ـ التجربة الدينيّة
إن التجربة واقعةٌ يخوضها الشخص (سواء بوصفه فاعلاً أو ناظراً) مع علمه وإدراكه بها. إن للتجربة أنواعاً مختلفة، ودائرتها واسعةٌ جداً، وتشمل طائفةً كبيرة من التجارب. ومن بينها: التجربة الجمالية، والتجربة الأخلاقية، وتجربة اللذّة، والتجربة الحسّية، وما إلى ذلك.
وأما التجربة الدينية فهي تختلف عن التجارب المتعارفة؛ فإن متعلَّق هذه التجربة عبارةٌ عن كائن أو حضور يفوق الطبيعة أو يرتبط بما وراء الطبيعة أو الحقيقة الغائية. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن تجربة الله عبارةٌ عن تجلّي الله في شيءٍ أو شخصٍ مثل السيد المسيح×، أو السيدة مريم العذراء÷، أو رؤية المَلَك أو التكلُّم معه، وما إلى ذلك([6]).
وكذلك فإن صاحب التجربة ـ في خوضه للتجربة الدينية ـ يذهب إلى الاعتقاد بضعف وعدم كفاية بيان تلك التجربة على أساس الأمور الطبيعية، ويجب بيانها على أساس التعاليم الدينية. وبعبارةٍ أخرى: إن المتديِّنين يقدِّمون تفسيراً دينياً عن تجربتهم، ويفسِّرون تجربتهم على أساس التعاليم الدينية. وعلى هذا الأساس هناك شرطان لتصبح التجربة دينيةً: الأوّل: أن تحصل التجربة في دائرة الدين؛ الثاني: أن يستفيد صاحب التجربة في توصيف حالاته من المفاهيم الدينية([7]).
إن التجربة الدينية تجربةٌ يكتب لها التحقُّق من خلال المواجهة المباشرة للنبي مع الله، وتكون مقرونةً بالتأثُّر الديني. وفي هذه المواجهة لا يتمّ تبادل الرسائل أو الكلمات، ولا يتمّ إلقاء حقائق على شكل قضايا إلى النبيّ، بل النبيّ يجد نفسه أمام أمرٍ قُدْسيّ، وإن الذي يبلغه إلى الناس باسم الوحي ليس رسالة أو كلاماً إلهياً، وإنما هو تفسيرٌ لتلك المواجهة مع ذلك الأمر القُدْسي.
3ـ اختلاف الوَحْي عن التجربة الدينية
هناك اختلافاتٌ كبيرة بين الوحي والتجربة الدينية؛ بحيث إن هذه الاختلافات تنفي أيَّ توهُّمٍ في القول بالاتحاد بين الوحي والتجربة الدينية بالمرّة.
ويمكن بيان هذه الاختلافات على النحو التالي:
1ـ إن من بين الخصائص الرئيسة للوحي إعجازه، الذي يميِّزه من التجربة الدينية. إن الذي ينزل من الله في إطار الوحي يتصف بالقدرة الخارقة؛ إذ يتمّ فيه إبراز أثرٍ واحد أو مجموعةٍ من الآثار التي تفوق قدرة البشر؛ الأمر الذي يُثبت أن النبيّ مسدَّد بقوّة إلهية خارقة للعادة. إن القرآن الكريم يطلق على هذا النوع من الآثار الخارقة التي يجترحها الأنبياء بإذن الله؛ للدلالة على صدق ما يدَّعونه من الوحي، مصطلح «الآية»، بمعنى الأمارة والعلامة على نبوّة النبيّ. وأما المتكلِّمون فمن حيث إن هذه الآيات والعلامات تثبت عجز سائر الناس عن الإتيان بمثلها فإنهم يطلقون عليها لفظ «المعجزة». ومن هنا فإنه بأدنى تأمُّلٍ يمكن لنا أن ندرك أن التجربة الدينية لا يمكن أن تكون معجزةً.
2ـ النقطة الأخرى بشأن اختلاف التجربة الدينية والعرفانية [عن «الوحي»] هي أن التجربة عند صاحب التجربة تتأثَّر بثقافته ومعتقداته السابقة. عندما يشتغل صاحب التجربة بالسير والسلوك والتجربة العرفانية فإنه يرى نتائج أعماله الراهنة أو الماضية في المنام أو اليقظة، ومن هنا فإن ثقافة وعقائد الشخص صاحب التجربة تتعيَّن وتكتسب تشخُّصاً خاصاً بتجربته. وأما وحي الأنبياء فهو على العكس من التجارب الدينية؛ فإن الذي يتلقاه النبيّ في إطار الوحي يعارض الأفكار والعقائد السائدة في عصره، ويسعى بالكامل إلى تغيير الأوضاع والأحوال الحاكمة على ثقافة مجتمعه وعصره، ولا يكتفي بتغيير الأفكار والعقائد والآراء السائدة في المجتمع فقط، بل يعمل أيضاً على تحويل وتغيير القِيَم الأخلاقية والاجتماعية أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن الوحي النازل على الأنبياء ـ على خلاف التجارب الدينية والعرفانية المتأثِّرة بثقافة عصرها ـ كان هو المؤثِّر في ثقافة عصره. وفي الواقع فإن عدم تأثُّر النبيّ بثقافة العصر يعود إلى خصوصيةٍ أخرى يتحلّى بها الأنبياء، وهي صفة «العصمة».
و«العصمة» ـ كما يقول الشهيد مطهَّري ـ عبارةٌ عن الصيانة من الذنوب والأخطاء؛ بمعنى أن الأنبياء لا يقعون تحت تأثير الأهواء النفسانية، ولا يرتكبون الذنوب، ولا يخطئون في أعمالهم وأفعالهم، ولذلك فإنهم يتأثَّرون بالعادات الاجتماعية والثقافية لعصرهم. ومن هنا فإنهم عندما يتلقّون الوحي من الله سبحانه وتعالى فإنهم ينقلونه ويبلِّغونه إلى الناس دون أدنى تدخُّلٍ أو تصرُّف منهم.
ومن هنا يمكن لنا أن نميِّز بين الأنبياء والعباقرة والنابغين. فإن العباقرة يمتلكون طاقةً فكرية وعقلية دقيقة؛ بمعنى أنهم يرتبطون بالأشياء من طريق حواسّهم، ويعملون على معطياتهم الذهنية بواسطة قواهم العقلية والرياضية، ويصلون إلى النتائج، ويُخطئون أحياناً. وأما الأنبياء فإنهم، بالإضافة إلى الاتصاف بقوّة العقل والتفكير الذهني، يتمتَّعون بقوّةٍ أخرى باسم «الوحي»، وهو ما يفتقر إليه سائر العباقرة. ومن هنا لا يمكن مقارنة الأنبياء بالعباقرة أبداً؛ لأن المقارنة إنما تصحّ إذا كان عمل الفئتين من سنخٍ واحد؛ ولكنْ حيث يكون فعل الأمرين من نوعين وسنخين مختلفين تكون المقارنة خاطئةً.
3ـ الاختلاف الآخر بين الوحي والتجربة الدينية هو أن لازم الوحي إلى النبي هو القيادة وزعامة الأمّة. وإن النبوّة على الرغم من انطلاقها من المسار المعنوي والروحي إلى الله سبحانه وتعالى، والتقرُّب إلى ذاته، والانفصال عن الخلق (في السير من الخلق إلى الحق)، الأمر الذي يقتضي الانصراف عن الخارج والتوجُّه إلى الداخل، بَيْدَ أن هذه الرحلة سوف تنتهي في نهاية المطاف عند العودة إلى الخلق والخارج؛ من أجل إصلاح وتنظيم حياة الإنسان وهدايته في مسارٍ صحيح يتمثَّل بـ (السير بالحقّ في الخلق)([8]).
4ـ تداعيات عدم سماوية ألفاظ الآيات
قبل الدخول في بيان ومناقشة نظريّاتهم، وبحث أدلّتهم، من الضروري طرح هذا السؤال القائل: ما هي التداعيات والتَّبِعات المترتِّبة على القول ببشرية وعدم سماوية ألفاظ القرآن الكريم؟
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال يمكن ذكر الأمور التالية، بوصفها من تَبِعات القول بعدم سماوية ألفاظ القرآن الكريم:
1ـ إن الأثر الأوّل المترتِّب على هذه النظرية عبارة عن نَبْذ القداسة عن ألفاظ وكلمات القرآن. فقد كان المسلمون ولا يزالون ينظرون إلى ألفاظ القرآن بقيمة وقداسة، ويراعون حرمتها. إن توظيف فنّ الخط وأنواع الخطوط والتذهيب وغير ذلك من التجلِّيات الفنية في مورد القرآن الكريم، وظهور علم القراءات والتجويد من أجل تحسين الأدواء الصوتي المناسب لكلمات وحروف القرآن، ومراعاة الأدب والطهارة في لمس كلمات القرآن، يُشير بأجمعه إلى تجلِّيات الشعور بالقداسة والقيمة التي يوليها المسلمون تجاه كلمات القرآن الكريم وحروفه. وعليه فإن القول ببشرية ألفاظ القرآن يزيل هذه القيمة والقداسة، ويُنْزِل ألفاظ القرآن وكلماته إلى مستوى ألفاظ وكلمات سائر الكتب البشرية الأخرى.
2ـ الأثر الآخر المترتِّب على القول بهذه النظرية هو نفي الإعجاز عن البُعْد اللفظي لكلمات القرآن الكريم. فمن الواضح أن أحد الأبعاد الإعجازية للقرآن، والذي كان مطروحاً منذ بداية نزول القرآن الكريم وصولاً إلى هذه اللحظة، هو القول بالإعجاز البياني، أو بعبارةٍ أخرى: الإعجاز في الفصاحة والبلاغة. وأما الأبعاد الأخرى من الإعجاز القرآني ـ من قبيل: الإعجاز العلمي والإعجاز التشريعي ـ فهي من الحقائق التي ظهرت لاحقاً، وتمّ اكتشافها من قِبَل الإنسان بفعل التطوُّر الفكري والتقدُّم العلمي الذي حصل عليه بمرور الزمن. بَيْدَ أن الذي اتَّفقت عليه كلمة أصحاب الفنّ وذوي الاختصاص منذ البداية إلى الآن، والذي رُبَما كان هو المحور الأساس الذي تحدّى به القرآنُ الناسَ منذ بداية نزوله، هو هذا البُعْد من الإعجاز البياني والبلاغي. ومن ناحيةٍ أخرى فإن المستويات المختلفة من الإعجاز البياني، من قبيل: جمالية التعبير، وعذوبة النغمة، ودقّة الكلام، والسهولة والرصانة، والترتيب الدقيق والمنظَّم والمدروس لمواضع الكلمات، وما إلى ذلك من الأمور الأخرى، إنما يقوم على محور الألفاظ والكلمات. إن معنى الإعجاز في هذا البُعْد لا يعدو أن يكون شيئاً آخر غير القول بأن الإتيان بمثل هذه الألفاظ والكلمات ـ بهذه الخصائص والأوصاف ـ خارجٌ عن قدرة البشر؛ بحيث لا يمكن لأيّ إنسانٍ ـ بما في ذلك رسول الله| ـ أن يأتي بمثل هذا الكلام. إن نظرية عدم سماوية ألفاظ القرآن تنكر هذا البُعْد من الإعجاز قولاً واحداً؛ إذ عندما يُقال بأن هذه الألفاظ من صنع الإنسان فمن الطبيعي أن يكون الأشخاص الآخرون قادرين على أن يأتوا بمثلها أو ما هو أفضل منها. ومن هنا يمكن القول بأن أدلة الإعجاز البياني خير شاهدٍ على بطلان هذه النظرية، على ما سيأتي بيانه في سياق هذا البحث.
3ـ التَّبِعة الثالثة التي تترتَّب على القول بعدم سماوية ألفاظ القرآن هي التنكُّر للنصّ القرآني، أو بعبارةٍ أخرى: تجاهل مرجعية القرآن في فهم الدين.
4ـ إن التعدُّدية الدينية من بين الآثار والتداعيات الأخرى المترتِّبة على القول بنظرية عدم سماوية الألفاظ القرآنية. إن هذه النظرية هي الأساس في القول بالتعدُّدية في مجال الأديان؛ إذ تقول هذه النظرية: ليس هناك دينٌ يحمل الحقيقة على نحوٍ كامل، بل لكلّ دينٍ نصيبٌ من الحقيقة، ومن هنا لا يبقى هناك وجهٌ للقول بالانحصار أو الشمولية([9]).
5ـ فرضيّاتٌ متعدِّدة
قبل الخوض في بيان الآراء المطروحة، ونقدها ومناقشتها، سوف نذكر في بادئ الأمر الفرضيات المتصوَّرة في هذه المسألة، لنعمل بعد ذلك على تحليلها ومناقشتها.
يبدو أن بالإمكان تصوُّر خمس فرضيات في خصوص المسألة مورد البحث، وهي:
1ـ إن ما نزل على النبيّ الأكرم| هو خصوص المعاني والمعارف السماوية للقرآن الكريم، وإن النبي الأكرم قام بعد ذلك بصبّ تلك المعاني في قالب الألفاظ والكلمات والعبارات، وقام بعرضها على الناس.
وقد ذكر العلامة الطباطبائي هذا الفرض كإحدى الفرضيات المذكورة في هذا البحث، دون أن يقول به([10]).
2ـ إن المعاني والمعارف القرآنية السامية قد نزلت من عند الله سبحانه وتعالى، وأما الألفاظ والكلمات والعبارات فقد صاغها مَلَك الوحي (جبرائيل×)، وألبسها على تلك المعاني قبل عَرْضها على النبيّ الأكرم|، على ما ذكره بدر الدين الزركشي، دون تبنِّيه([11]).
3ـ إن ما نزل على النبيّ الأكرم| هو مجرّد الألفاظ والكلمات والعبارات، ثمّ انتقل النبيّ الأكرم| من طريق هذه الألفاظ إلى معانيها ومعارفها السامية، وهو ما ذكره الشيخ مصباح اليزدي، دون أن يتبنّاه([12]).
4ـ إن كلاًّ من ألفاظ ومعاني القرآن الكريم من عند شخص النبيّ الأكرم|، وإن إسناد القرآن الكريم إلى الله سبحانه وتعالى إنما يعود سببه إلى أن الله هو الذي أوجد أرضيّة مثل هذه الألفاظ في وجود النبيّ الأكرم|، وهو ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في مورد البحث، دون أن يرتضيه([13]).
5ـ إن المعاني والمعارف السامية للقرآن الكريم، وكذلك ألفاظه وكلماته وعباراته، بأجمعها من عند الله سبحانه وتعالى، وإن النبيّ الأكرم| قد تلقّى هذه الكلمات والمعاني بأجمعها من الله، وبلَّغها إلى الناس، دون أن يتدخَّل في صياغتها أو يُحدث فيها أدنى تغييرٍ أبداً، وهو ما نقله العلاّمة الطباطبائي، وتبنّاه من بين سائر الاحتمالات([14]).
إن دراسة الآراء في باب ألفاظ القرآن الكريم تثبت أن بعض الفرضيات الخمسة المذكورة لم يكن مورد قبول أيٍّ من المنظِّرين في مجال التفسير وعلوم القرآن، وأن الذي حظي بالاهتمام من بينها هو ثلاث فرضيات فقط. وقد تعرَّض بدر الدين الزركشي إلى ذكر ثلاثة آراء تنطبق على هذه الفرضيات، وهي:
أـ نزول المعاني والمعارف القرآنية من قِبَل الله سبحانه وتعالى على شكل ألفاظ وعبارات على جبرائيل×، ومنه إلى النبيّ الأكرم|، حيث كانا كلاهما مجرّد واسطة في إبلاغ الرسالة الإلهية إلى الناس (الفرضية الخامسة).
ب ـ إن المعاني والمعارف القرآنية وحدها هي التي نزلَتْ من قِبَل الله سبحانه وتعالى على النبيّ الأكرم بواسطة جبرائيل×، وإن النبيّ الأكرم| هو الذي صاغها على شكل ألفاظٍ وعبارات، وعرضها على المؤمنين (الفرضية الأولى).
ج ـ نزلت المعاني والمعارف القرآنية على جبرائيل×، وألقاها جبرائيل بدَوْره على النبيّ الأكرم| في إطار الألفاظ، وقام النبيّ بنقلها وعرضها على الناس (الفرضية الثانية)([15]).
وعلى الرغم من أن الزركشي لم ينسب أيّاً من هذه الآراء إلى قائلٍ بعينه، ولكنْ يتّضح من كلامه السابق على نقل هذه الأقوال أن أهل السنّة يُجمعون على اختيار الرأي الأوّل؛ إذ يقول: «واعلم أنه اتّفق أهل السنّة على أن كلام الله مُنْزَلٌ، واختلفوا في معنى الإنزال؛ فقيل: معناه إظهار القرآن؛ وقيل: إن الله أفهم كلامه جبريل وهو في السماء، وهو عالٍ في المكان، وعلَّمه قراءته، ثمّ جبريل أدّاه في الأرض، وهو يهبط في المكان»([16]).
وقد اكتفى السيوطي بنقل هذه الأقوال الثلاثة، وأقام بعض الأدلة، مؤكِّداً على اختيار الرأي الأوّل([17]).
كما يتّضح من الكلام الدقيق للزرقاني في هذا الشأن أن هذه الآراء الثلاثة وحدها هي المطروحة من قِبَل العلماء والمنظِّرين، وأما الفرضيتين المتبقّيتين (الفرضية الثالثة والرابعة)، فإما أنهما لم تكونا مطروحتين أبداً، أو أنه لم يتمّ تبنّيهما من قِبَل شخصٍ يمكن الاعتناء برأيه من بين علماء الدين([18]).
ويُستفاد من كلام العلاّمة الطباطبائي أن الفرضية الرابعة (الألفاظ والمعاني كلاهما من عند شخص النبيّ الأكرم|) كان لها قائلٌ من بين الفرضيات الخمسة المتقدِّمة. ولكنه رفض هذا القول، وعدَّه قولاً سخيفاً، دون أن يُشير إلى قائله: «وأسخف منه قول مَنْ قال: إن القرآن بلفظه ومعناه من منشآت النبيّ|، ألقَتْه مرتبةٌ من نفسه الشريفة تسمّى الروح الأمين إلى مرتبة منها تُسمّى القلب»([19]).
إن من بين الفرضيات والآراء المذكورة في موضوع ألفاظ القرآن هناك رأيان حظيا بالاهتمام الأكبر من قِبَل عموم المسلمين والمفكِّرين في المجال الديني، وقد اختصَّتْ بهما معظم الأبحاث منذ البداية وحتّى اليوم. ورعايةً للاختصار سوف نكتفي ببيان وبحث هذين الرأيين، وإحالة تفصيل وبسط الكلام فيهما من خلال الإحالة إلى المصادر الأخرى.
أـ سماويّة المعاني والألفاظ
إن الرأي الغالب بين المسلمين كان منذ بداية التعرُّف على الوحي الإلهي وإلى اليوم يقوم على هذا الأصل القائل: إن القرآن الكريم ـ بجميع معارفه ومفاهيمه السامية ومضامينه السماوية ـ قد نزل بألفاظه وعباراته وتركيبه على النبيّ الأكرم|، وإن النبيّ ـ بوصفه واسطةً بين خالق الوجود والناس ـ قد تلقّى هذه الرسالة الإلهية، وأبلغها إلى الناس دون أن يُحْدِث فيها أدنى زيادةٍ أو نقصانٍ.
وقد كان هذا الرأي يحظى ولا يزال بالدعامة البرهانية والتأييدات القرآنية والروائية، بحيث أخذ المسلمون ينظرون إلى هذا الأمر كضروريٍّ من ضروريات الدين. وذهب الكثير من العلماء إلى ادّعاء الإجماع على كلّ ذلك([20]).
إن الجهود الحثيثة التي بذلها رسول الله| من أجل الحفاظ على القرآن من أيّ تحريفٍ أو تغيير، وتوظيف جماعةٍ من المؤمنين في كتابة آيات القرآن الكريم وضبط كلماته، والعمل على تعليم المسلمين وتشجيعهم على حفظها فور نزولها، وإرسال بعضهم إلى سائر المناطق البعيدة والقريبة لغرض نشر القرآن وتعاليمه في الأصقاع، وتأكيده على ضرورة قراءة القرآن وحفظه؛ كلّ ذلك يدلّ على أن القرآن بألفاظه وعباراته، مثل معارفه وتعاليمه السامية، قد نزل من المصدر الذي لا ينضب من العلوم الإلهية.
كما أن السيرة والسلوك العملي للمسلمين في التعاطي مع القرآن الكريم كان يُشير على الدوام إلى هذه الحقيقة؛ فإن المسلمين كما سعَوْا إلى فهم التعاليم والمفاهيم السماوية للقرآن، وقاوموا تشكُّل أيّ نوعٍ من الانحراف في هذا المجال، قاموا بجهدٍ مماثل من أجل معرفة الألفاظ والعبارات والأساليب التركيبية والبِنْية الظاهرية للنصّ وفهم الأسلوب البديع ووجوه الفصاحة والبلاغة والنَّغَم الموزون للقرآن أيضاً. إن الجهود الواسعة المبذولة من قِبَل المسلمين حول البِنْية الظاهرية والأسلوب الكلامي للقرآن تستند ـ قبل أيّ عنصرٍ آخر ـ إلى الاعتقاد بسماوية ألفاظ القرآن الكريم. إن الكثير من الأبحاث حول ظواهر القرآن، وإمكان فهمه وتفسيره وترجمته إلى سائر اللغات الأخرى، وجمعه وتدوينه، وتواتر القرآن عبر العصور، وعدم تحريف القرآن، قد نشأَتْ بأجمعها عن نوعٍ من الاعتقاد بسماوية هذا الكتاب الإلهي في محتواه وشكله ومضمونه. إن الاعتقاد بسماوية ألفاظ القرآن والبِنْية الظاهرية لنصّه من الرسوخ في وجدان المؤمنين بحيث إنهم ينظرون إليه على الدوام بوصفه نصّاً مقدّساً يحظى باحترام وتقديس المسلمين، ويتمّ وضعه في مكانةٍ ومنزلةٍ أسمى من أيّ نصٍّ بشريّ على الإطلاق.
أدلّةٌ وشواهد قرآنيّة
هناك الكثير من الأدلة على سماوية ألفاظ القرآن والتركيبة الظاهرية لنصّه. وفي ما يلي نشير إلى بعضها:
1ـ إن القرآن الكريم يُعرِّف بنفسه بوضوحٍ على أنه كلام الله. ومن ذلك، على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ﴾ (التوبة: 6). (كما ورد التعبير في الآية 75 من سورة البقرة، والآية 15 من سورة التوبة، بكلام الله أيضاً). وإن نسبة الكلام إلى متكلِّمه إنما تكون منطقيةً ومعقولة إذا كان المتكلِّم قد تكفَّل بالدَّوْر الأصلي في اختيار الكلمات وتنظيمها وتشكيل بِنْيتها وتركيب عباراتها([21]). وأما إذا قام شخصٌ بمجرّد إلقاء المفاهيم إلى شخصٍ آخر، وقام هذا الشخص الآخر باختيار الكلمات وتنظيمها وتركيب العبارات، عندها سوف يُنسب الكلام إلى الشخص الثاني، وأما نسبته إلى الشخص الأوّل فلن تكون منطقيةً أو متعارفة أبداً([22]).
2ـ لا شَكَّ في أن الجانب الأكبر من إعجاز القرآن الكريم يعود إلى البِنْية الظاهرية للنصّ، وإلى أسلوبة الفريد والبديع. إن الفصاحة والبلاغة الفذّة للقرآن، والتي كانت منذ القدم موضع إجماع كافّة المختصّين في بلاغة اللغة العربية، بوصفها أحد وجوه إعجاز القرآن، إنما هي ناظرةٌ إلى ألفاظ القرآن والعبارات الظاهرية لنصّه. إن رسالة آيات «التحدّي»، التي تدعو الجميع إلى الإتيان بمثل القرآن الكريم، إنما تعني البِنْية الظاهري للنصّ؛ إذ تقول: «إنْ كنتم تشكّون في سماوية الألفاظ والعبارات المشتملة على المعارف القرآنية السامية فلكم أن تأتوا بمثله من الألفاظ والعبارات؛ لتثبتوا ما تدَّعونه». إن هذا التحدّي، وعجز المشركين عن الإتيان بمثل ألفاظ القرآن، دليلٌ على أن البِنْية الظاهرية للنصّ والأسلوب البياني للقرآن من عند الله أيضاً، وليس هناك ذهنٌ أو لسانٌ بشريّ ـ بما في ذلك النبيّ الأكرم| ـ قادرٌ على الإتيان بمثله.
قال الزرقاني في بيان هذا الدليل: «إن الإعجاز منوطٌ بألفاظ القرآن؛ فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، وكان مظنّةً للتغيير والتبديل»([23]).
3ـ هناك الكثير من آيات القرآن الدالّة بوضوحٍ على سماوية ألفاظ القرآن العربية، ومنها:
ـ ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 3 ـ 4).
ـ ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ (الأحقاف: 12).
إن هذه الآيات تنسب البِنْية والتركيبة اللفظية العربية للقرآن إلى الله صراحةً، ومن الواضح أن «اللسان» و«العربية» لا يمكن أن يكون لهما أيّ صلةٍ بالمضمون والمحتوى؛ إذ يعدّان من أوصاف الألفاظ والبِنْية الظاهرية للفظ.
وهناك آياتٌ آخرى تدلّ بوضوحٍ على التَّبَعية المَحْضة من قِبَل النبي الأكرم| للوحي الإلهي، وعدم تدخُّله في التركيبة الظاهرية للقرآن، ومنها:
ـ ﴿قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ (يونس: 15).
ـ ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 ـ 4).
ـ ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ (الكهف: 27).
وبالإضافة إلى الآيات السابقة، هناك آياتٌ أخرى تتحدَّث صراحةً عن تلاوة القرآن الكريم وقراءته على النبيّ الأكرم|؛ وبذلك فهي تدلّ بوضوحٍ على موضوع بحثنا أيضاً، ومنها:
ـ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ (الفرقان: 32).
ـ ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة: 17 ـ 18).
ـ ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزّمل: 5).
من الواضح أن «الترتيل» و«القراءة» و«إلقاء القول» وما إلى ذلك من العبارات تتعلَّق بأجمعها بالألفاظ والكلمات، ولا يمكن العثور فيها على أيّ صلةٍ بمحتوى الكلام ومعناه أبداً. ومن خلال التدقيق في الآيات المتقدِّمة، والآيات الكثيرة التي تعرِّف بكيفية نزول الوحي على النبي الأكرم|، لا يبقى لدينا أدنى شكٍّ في أن الألفاظ والبِنْية الظاهرية لنصّ القرآن وأسلوبه البياني هو ـ مثل محتواه السامي ومعارفه العالية ـ قد نزلت على سفير الوحي من عند الله سبحانه وتعالى أيضاً، وأن دَوْر مَلَك الوحي والنبيّ الأكرم| في هذا الشأن لا يتعدّى دَوْر الوسيط في تلقي الوحي من الله ونقله إلى الناس.
4ـ إن الاختلافَ الواضح بين التركيبة والبِنْية الظاهرية لنصّ القرآن الكريم عن الكلام والحديث المنقول عن النبيّ الأكرم|، وهو اختلافٌ بيِّنٌ لا يخفى على أيٍّ من الخبراء المدقِّقين في فنون الكلام، دليلٌ آخر على سماوية ألفاظ القرآن الكريم وعباراته. إن العرب الذين عاصروا النبيّ الأكرم|، وعاشوا معه على مدى سنوات طويلة، وتعرَّفوا على أسلوب كلامه، وجدوا أنفسهم فجأةً ـ لدى سماع أولى آيات القرآن من لسان النبيّ ـ أمام محيطٍ وبحرٍ هادر من المضامين السامية في قالبٍ من الألفاظ والأساليب البلاغية أرقى بكثيرٍ من الأساليب البشرية؛ فأقرّوا جهاراً بسماوية هذه الألفاظ. ومنهم مَنْ بادر إلى الإيمان به واعتنق الإسلام فور سماع الآيات، ووضع وجوده على طبق من التضحية والتفاني في سبيله؛ بينما آثر آخرون سلوك طريق العناد، رغم اعترافهم الواضح والصريح بأن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من صنع البشر، فسقطوا بعنادهم ومكابرتهم في الظلام الأبديّ([24]).
وقال عبد العظيم الزرقاني في هذا الشأن، تحت عنوان «أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي»، ما نصّه: «ولقد كان هؤلاء العرب يعرفون نبيّ الإسلام، ويعرفون مقدرته الكلامية من قَبْل أن يوحى إليه، فلم يخطر ببال منصفٍ منهم أن يقول: إن هذا القرآن كلام محمد|؛ وذلك لما يُرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول|»([25]).
وقد أشار القرآن الكريم بوضوحٍ إلى الاختلاف بين كلام النبي وآيات الوحي؛ إذ قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (يونس: 16).
5ـ إن معارف وحقائق ومحتوى القرآن الكريم من العظمة والعمق والسعة بحيث يكون وضعها في إطار من الألفاظ والعبارات القادرة على حمل تلك المعارف والحقائق السماوية فوق مستوى قدرة الإنسان. وقد عبَّر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بنفسه عن عظمة وثقل الوحي بقوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزّمل: 5).
ومن جهةٍ أخرى فقد تمّ التعريف بالنبيّ الأكرم| في القرآن الكريم بوصفه إنساناً مثل سائر الناس، وإن اختلافه الوحيد عنهم يكمن في نزول الوحي عليه من قِبَل الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ (الكهف: 110).
إن النبيّ الأكرم|، الذي هو إنسانٌ مثل سائر الناس، إنما يكون ـ بفعل شرح الله سبحانه وتعالى لصدره([26])، وطهارته من جميع أنواع الأدران والشوائب([27]) ـ مجرَّد قادرٍ على حمل الوحي الإلهي بما يتّصف به من العمق والعظمة، وتبليغه إلى الناس دون أدنى زيادةٍ أو نقصان. وإن إلباس الحقائق السماوية العظيمة والمحتوى الرباني العميق والمطلق بلباس الألفاظ والعبارات، كما هو مستحيلٌ على الإنس والجنّ([28])،هو كذلك خارجٌ عن قدرة شخص النبيّ الأكرم| أيضاً.
وقد ذهب جلال الدين السيوطي إلى الاستدلال على سماوية ألفاظ القرآن بهذا الدليل، قائلاً: «وإن تحت كلّ حرفٍ منه معاني لا يُحاط بها كثرةً، فلا يقدر أحدٌ أن يأتي بَدَله بما يشتمل عليه»([29]).
نستنتج من مجموع الأدلة المتقدِّمة بوضوحٍ أن الألفاظ والعبارات والتركيبة الظاهرية لنصّ القرآن، هي ـ مثل محتواه السامي ومعانيه النورانية ـ من الوحي الإلهي الذي انتقل من مَلَك الوحي إلى النبيّ الأكرم|، ومنه إلى الناس، دون أدنى تغييرٍ بزيادةٍ أو نقصانٍ. إن ما هو معروف باسم القرآن في عصر النزول والعصور اللاحقة وصولاً إلى اللحظة الراهنة، ويستفيد المجتمع البشريّ من حضوره النوراني بينهم، هو بجميع وتمام حروفه وكلماته وحيٌ إلهي يخاطب جميع الناس في جميع العصور على وتيرةٍ واحدة.
ب ـ إلهيّة المعارف والمحتوى وبشريّة الألفاظ
يذهب الرأي الثاني إلى الاعتقاد بأن الذي نزل من عند الله سبحانه وتعالى على النبي الأكرم هو مجرَّد المعاني والمضامين العميقة للقرآن الكريم، والتي يستحيل على الناس معرفتها إلاّ من طريق الوحي، بَيْدَ أن إلباس تلك المعارف والمعاني الإعجازية بلباس الألفاظ والعبارات قد تحقَّق من قِبَل شخص النبيّ الأكرم|.
إن جذور هذا الرأي تعود إلى المتكلِّم الشهير، في القرن الهجري الثالث، أبي محمد عبد الله بن سعيد، المعروف بـ «ابن كُلاّب» القطّان البصري. وهو من المدوِّنين لعقائد السَّلَف الكلامية، وقد سار على أثره لاحقاً بعض العلماء، من أمثال: أبي الحسن الأشعري، في تأسيسه للمذهب الكلامي المعروف بـ «المذهب الأشعري».
وقد كان ابن كُلاّب واحداً من أشهر المخالفين للمعتزلة، وقد صنَّف بعض الكتب في الردّ على آرائهم. لم يتمّ ضبط تاريخ وفاته بشكلٍ دقيق، ولكنهم ينسبون تاريخ وفاته إلى ما بعد عام 240هـ.
وقد كان لآرائه الكلامية تأثيرٌ هامّ وملحوظ على بلورة الكلام الإسلامي؛ إذ واصل المتكلمون بعده بناء الكلام الإسلامي في إطار نقد آرائه، وكانوا ما بين موافقٍ ومخالفٍ لتلك الآراء التي صدع بها. وقد عُرف أنصاره بـ «الكُلاّبية»([30]).
إنه يُعَدّ من طلائع المنظِّرين في مذهب الأشاعرة. وهو في ما يتعلَّق بكلام الله، يذهب إلى الاعتقاد بأن كلام الله صفةٌ ذاتية له، وهو قديمٌ وغير مخلوق. كما أنه بالإضافة إلى هذا الرأي، الذي تمّ تبنيه من قِبَل الإشاعرة، له رأيٌ خاصّ آخر في باب القرآن وسائر الكتب السماوية؛ إذ يعتقد أن الكلام النفساني وكلام الله القديم لم يتحوَّل إلى شكل «مصحف» وكتاب مدوَّن.
ودليله على هذه المدَّعى ما يلي: «إن الرسم والتعبير العربي أو العبري لكلام الله هو ليس عين كلام الله، والقرآن الكريم هو كلام الله وليس عينه، وقد ذهب [ابن كُلاّب] إلى الاعتقاد أنه أثناء نزول الوحي القرآني وسماعه من قِبَل النبيّ الأكرم حدثَتْ ظاهرة «التعبير»، حيث تشتمل على خصائص اللغة العربية»([31]).
وكان يذهب إلى الاعتقاد بأن القيود الموجودة في الكلام العربي تتسبَّب بمحدودية كلام الله عند نزوله، وصبغ كلام الله بصبغةٍ عربية. ومن هنا فإنه يدَّعي أن القرآن عين كلام الله»([32]).
وعلى الرغم من تبنّي هذا الرأي الخاصّ من ابن كُلاّب بشأن ألفاظ وعبارات القرآن الكريم من قِبَل كبار العلماء، من أمثال: القاضي عبد الجبّار وأبي الحسن الأشعري في القرنين الرابع والخامس الهجريّين، وقد تعرَّض لهجمةٍ عنيفة من قِبَل ابن تيمية([33])، ولكنْ كان هذا الرأي منذ ذلك الحين وإلى اليوم يعتبر رأياً نادراً بين المفكِّرين في مجال العلوم وتفسر القرآن.
إن وضع هذا الرأي إلى جوار الرأي الأول (الرأي الغالب المتَّفق عليه بين المسلمين في القرون الإسلامية الأولى) في المصادر الهامّة، من قبيل: البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، ومناهل العرفان للزرقاني، ونقله عن العلماء السابقين، يثبت بدَوْره الحضور المستمرّ لهذا الرأي في مجال التفكير الديني والبحث والنقاش حوله، وإنْ لم يذكر أيٌّ من المصادر المذكورة قائلاً بهذا الرأي.
ويبدو أن هذا الرأي قد حظي في القرن الأخير باهتمامٍ وإقبال أكبر؛ لأن بعض الكتّاب المجدِّدين في العالم الإسلامي، من خلال نزوعهم إلى هذا الرأي، صاروا في صدد تقويته والترويج له.
كان الشاه ولي الله الدهلوي ـ الذي لعب دَوْراً في حركة الإصلاح الديني في شبه القارّة الهندية ـ يذهب إلى الاعتقاد بأن الذي نزل على النبيّ الأكرم| وحياً من الله هو مجرّد معاني ومفاهيم القرآن ومعارفه وتعاليمه، بَيْدَ أن القوالب والتركيبات الظاهرية وألفاظ ونصّ القرآن هي من صنع شخص النبيّ الأكرم([34]). كما ذهب السيد أحمد خان الهندي([35])، والسيد أمير علي الهندي([36])، إلى هذا الرأي أيضاً. ويُفْهَم هذا الرأي من بعض كتابات المفكِّر المصري نصر حامد أبو زيد([37]). وإن الذين يعتبرون الوحي تجربةً فردية لشخص النبيّ يندرجون ضمن القائلين بهذا الرأي، شاؤوا ذلك أم أبَوْا.
تأمُّلاتٌ وملاحظات
لم يقِمْ أنصار هذا الرأي أيّ دليلٍ منطقي على مدَّعاهم، واكتفوا بمجرّد بيان هذا الادّعاء فقط. ورُبَما أمكن العثور على المستند الأصلي لهذا الرأي في بعض آيات القرآن الكريم؛ إذ هناك تصريحٌ في بعض الآيات بنزول الوحي على قلب النبيّ الأكرم|، بتقريب أن الكلام ونزول الوحي على القلب لا يحتاج إلى استعمال الألفاظ بطبيعة الحال([38]). وإليك في ما يلي هاتين الآيتين:
ـ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (الشعراء: 193 ـ 194).
ـ ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: 97).
إن محل نزول الوحي في ضوء هاتين الآيتين هو القلب الشريف لرسول الله|، ولا شَكَّ في أن إخطار أمرٍ على القلب لا يحتاج إلى استعمال الألفاظ والعبارات، وإنما استعمال الألفاظ والعبارات الكلامية يكون لغرض إيصال المعنى إلى الإنسان من طريق الأذن، وهي من الحواسّ الظاهرية للإنسان، كما لا يخفى.
ويبدو أن الأدلة الخمسة التي تقدَّمت لإثبات الرأي الأوّل قادرةٌ ـ بالإضافة إلى إثبات ذلك الرأي ـ على إثبات بطلان الرأي الثاني بوضوحٍ أيضاً.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن التمسُّك بالاستدلال بالآيتين الآنفتين لإثبات الرأي الثاني موضع إشكالٍ من عدّة جهاتٍ. وفي ما يلي بيان هذه الإشكالات:
1ـ إن الآيات التي ورد ذكرها في إثبات الرأي الأول تتحدّث بوضوحٍ عن سماوية الألفاظ والعبارات العربية في القرآن الكريم. وإن ألفاظ «التلاوة»، و«الترتيل»، و«إلقاء القول» ـ التي تُعَدّ بأجمعها من خصائص البِنْية والتركيبة الظاهرية للنصّ ـ تتحدَّث عن التَّبَعية البَحْتة من قِبَل النبي الأكرم| للوحي الإلهي، وعدم تدخُّله في تبديله وتغييره بالنقصان أو الزيادة. وفي بعض هذه الآيات تمَّتْ نسبة «عربية» القرآن بشكلٍ مباشر إلى الله سبحانه وتعالى([39]). وعلى هذا الأساس يجب تفسير الآيات التي ترى أن محلّ نزول القرآن هو القلب الشريف لرسول الله| بحيث تتناغم وتنسجم مع الآيات الأخرى الكثيرة.
2ـ إن سماوية الألفاظ والعبارات والبِنْية العربية للقرآن الكريم لا تتنافى أبداً مع نزول القرآن على قلب النبيّ الأكرم|؛ إذ لم يعمد القرآن الكريم، ولا أيّ واحدٍ من العلماء القائلين بسماوية الألفاظ، إلى بيان وتفسير نزول الوحي بآليّةٍ مادية وأدوات حسّية أبداً. إن نزول المعارف والمفاهيم السماوية السامية في إطار الألفاظ والعبارات واللغة العربية المبينة، وإنْ كان مورداً لتأكيد القرآن واعتقاد المؤمنين قاطبةً، منذ بداية نزول الوحي إلى يومنا هذا، بَيْدَ أن هذا الكلام والاعتقاد لا يستلزم في تحقُّق الوحي استعمال الأسباب والأدوات الحسّية المتعارفة، من قبيل: الفم واللسان (من قبل المرسِل)، والأذن (من قِبَل المستَقْبِل). فكما أن الوحي من مقولة العلم الحضوري فإن قوالبه وتركيباته الظاهرية يمكن أن تكون بدَوْرها من مقولة العلم الحضوري أيضاً، ولا يمكن الادّعاء بأن الوحي من مقولة العلم الحضوري في حين أن القوالب والبِنَى الظاهرية لتحقُّقه هي من نوع الأسباب والأدوات المستعملة في العلم الحصولي([40]).
وعلى أساسٍ من هذا البيان، كما أن المفاهيم والمعارف السماوية السامية كانت في إطار تحقُّق الوحي تُعْرَض على النبيّ الأكرم| من المحيط المطلق للعلوم الإلهية على نحو العلم الحضوري، وإثر ذلك كان يتّسع الوجود المبارك للنبي الأكرم|، ويتّصل ببحر العلوم الإلهية، كانت القوالب في الوقت نفسه والعبارات والبِنْية الظاهرة تنطبع في وجوده بما يتناسب مع تلك المفاهيم والمعارف العميقة، وتكون في نظره بمثابة المرآة. وإن هذه القوالب المطبوعة في وجود النبيّ الأكرم| هي التي تمكِّنه من عرض الوحي الإلهي وتبليغه إلى الناس دون أدنى تغييرٍ بالزيادة أو النقصان.
وعلى هذا الأساس فإن الآيات التي تعتبر قلب النبيّ الأكرم| موضعاً لنزول الوحي لا تتنافى أبداً مع الآيات التي تعتبر الألفاظ والبِنْية الظاهرية لنصّ القرآن أمراً سماوياً، بل إن جميع الآيات يكمِّل بعضها بعضاً، ويُفسِّر بعضها بعضاً.
لقد ذهب العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآيتين 193 و194 من سورة الشعراء ـ وفيهما تصريحٌ بنزول القرآن الكريم على قلب النبي ّالأكرم ـ، ضمن ردّ الرأي القائل بنسبة الألفاظ والبِنْية الظاهرية لنصّ القرآن الكريم إلى النبيّ الأكرم|، إلى التأكيد على الجواب المذكور. وقد ذهب إلى الاعتقاد بأن «القلب» المستعمل في هذه الآية عبارةٌ عن النفس البشرية التي تمتلك الشعور والإدراك والإرادة، وأن نزول الوحي على القلب في هذه الآية ناظرٌ إلى كيفية أخذ الوحي من قِبَل النبيّ الأكرم|. وقد صرّح العلاّمة بأن تلقّي الوحي كان يتمّ من قِبَل شخص النبيّ الأكرم، من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة في ذلك. فكان النبيّ الأكرم أثناء نزول الوحي يرى جبرائيل ويسمع كلامه من غير أن يستعمل حاسّتي البصر والسمع وحواسّه الظاهرية الأخرى([41]).
3ـ بعد أن تحدّّث القرآن الكريم في الآيتين 193 و194 من سورة الشعراء عن نزول القرآن الكريم على قلب رسول الله| قال تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 195)، وهذا الأمر يدلّ في حدّ ذاته على عدم تنافي نزول الوحي وسماوية ألفاظ القرآن والبِنْية الظاهرية لنصّه. وعلى هذا الأساس فإن الآيات التي تعتبر قلب النبيّ الأكرم| محلاًّ لنزول الوحي الإلهي لا يمكن أن تكون مستنداً مقبولاً للقول بالرأي الثاني أبداً. ومن هنا يكون هذا الرأي مجرَّد دعوى من دون دليلٍ وبرهان أو دعامةٍ علمية.
النتيجة
أوّلاً: يُستفاد من استعمال كلمة «التلاوة» ـ (التي يكون اللفظ مأخوذاً فيها بنظر الاعتبار) في ما يتعلَّق بما نزل من قِبَل الله على النبيّ الأكرم| ـ سماوية ألفاظ القرآن الكريم.
وثانياً: إن عبارة «كلام الله» قد أُطلقت على القرآن الكريم في آيتين، وهما:
ـ ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ (التوبة: 6).
ـ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ…﴾ (الفتح: 15).
إن المراد من «كلام الله» في هذه الآية الكريمة قسم من القرآن الكريم. وإن إطلاق عبارة «كلام الله» على القرآن الكريم يدلّ على إلهية وسماوية ألفاظه؛ لأن «الكلام» في اللغة يطلق على الكلام الناقل للمعاني والأصوات المتعاقبة بغية إيصال المعنى. وعلى هذا الأساس فقد أخذ المعنى والاشتمال عليه في مفهوم الكلام. ولهذا السبب ورد استعمال الفعل «يسمع» في الآية 6 من سورة التوبة، وتمّ الحديث عن سماع كلام الله.
يُضاف إلى ذلك أن إسناد الكلام إلى القائل إنما يكون صادقاً إذا كان هو الذي صبّ المعاني في قالب الألفاظ، وقام بتنظيمها، فلو كان النبي الأكرم| هو الذي أنشأ الألفاظ القرآنية وألبس المعاني بلباس الألفاظ لن يكون القرآن الكريم كلام الله.
وبالنظر إلى إطلاق «كلام الله» على القرآن الموجود بين أيدينا، وكان مفهوم «الكلام» الملحوظ فيه الاشتمال على الألفاظ، يتّضح أن ألفاظ القرآن الكريم إلهيّة وسماوية، وليست من صنع النبيّ الأكرم|.
الهوامش
(*) أستاذٌ، وعضو اللجنة العلميّة، في جامعة المصطفى| العالميّة في مشهد ـ إيران.
([1]) محمد بن مكرم (ابن منظور الأفريقي)، لسان العرب 15: 240، نشر أدب الحوزة، قم، 1405هـ.
([2]) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب ألفاظ القرآن: 515، أرومية، 1385هـ.ش.
([3]) انظر: حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن 3: 55، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، 1371هـ.ش.
([4]) انظر: علي أصغر ناصحيان، علوم قرآني در مكتب أهل بيت^ (العلوم القرآنية في مذهب أهل البيت^): 41، دانشگاه علوم إسلامي رضوي، طهران، 1389هـ.ش. (مصدر فارسي).
([5]) محمد حسين الطباطبائي، قرآن در إسلام: 85، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1361هـ.ش؛ (القرآن في الإسلام، ترجمة السيد أحمد الحسيني: 95، مؤسسة المحبّين للطباعة والنشر، ط1، قم، 1425هـ ـ 2004م).
([6]) انظر: مايكل بيترسون وآخرون، عقل واعتقاد ديني (العقل والاعتقاد الديني): 36 ـ 37، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد نراقي وإبراهيم سلطاني، نشر طرح نو، طهران، 1379هـ.ش.
([7]) انظر: هادي صادقي، كلام جديد (الكلام الجديد): 132 ـ 134، كتاب طه ونشر معارف، قم، 1382هـ.ش.
([8]) انظر: مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة) 2: 159 ـ 160، انتشارات صدرا، طهران، 1376هـ.ش. (مصدر فارسي).
([9]) انظر: موسى الحسيني، وحياني بودن ألفاظ قرآن (سماوية ألفاظ القرآن)، مجلة پژوهشهاي قرآني، العدد 21 ـ 22، دفتر تبليغات إسلامي، مشهد، 1379هـ.ش. (مصدر فارسي).
([10]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 317، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
([11]) انظر: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 291، دار الحديث، القاهرة، 1427هـ.
([12]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، راهنما شناسي (معرفة الهداية) 1: 93، مركز مديريت حوزه علمية، قم، 1367هـ.ش. (مصدر فارسي).
([13]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 317.
([15]) انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 291.
([17]) انظر: جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 58 ـ 59، نشر فخر الدين، 1380هـ.
([18]) انظر: محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن 1: 41 ـ 42، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
([19]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 317.
([20]) انظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن 1: 44؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 290؛ محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن، مركز مديريت حوزه علميه، قم، 1368هـ.ش.
([21]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 1: 210.
([22]) انظر: المصدر نفسه؛ الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن 1: 44.
([24]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 4: 28 ـ 29.
([25]) انظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن 2: 235.
([29]) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 59.
([30]) انظر: محمد كاظم بن حسن الموسوي البجنوردي، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج4، ط1، طهران، 1370هـ.ش.
([31]) محمد مجتهد شبستري، هرمنوتيك كتاب وسنّت (هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة): 126، نشر طرح نو، طهران، 1375هـ.ش.
([33]) انظر: المصدر السابق: 126.
([34]) انظر: بهاء الدين خرمشاهي، تفسير وتفاسير جديد (التفسير والتفاسير الجديدة): 68، نشر كيهان، طهران، 1364هـ.ش. (مصدر فارسي).
([35]) انظر: المصدر السابق: 67.
([36]) انظر: علي أصغر حلبي، تاريخ نهضت هاي ديني إسلامي معاصر (تاريخ النهضات الدينية الإسلامية المعاصرة): 148، نشر بهبهاني، طهران، 1374هـ.ش. (مصدر فارسي).
([37]) انظر: نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن: 18 ـ 19، المركز الثقافي العربي، ط5، بيروت، 2000م.
([38]) انظر: سيد أبو الفضل مير محمد زرندي، تاريخ و علوم قرآن (تاريخ وعلوم القرآن): 45، مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، قم، 1369هـ.ش. (مصدر فارسي).
([39]) انظر: الزخرف: 3 ـ 4؛ يوسف: 5.
([40]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، راهنما شناسي (معرفة الهداية) 1: 26 ـ 27.
([41]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 252 ـ 253، دار إحياء التراث العربي، ط1، بيروت، 1427هـ ـ 2006م.