أحدث المقالات
يمرّ العالم العربيّ بمرحلةٍ مصيريةٍ الآن، مرحلةٍ جديدةٍ من تاريخِهِ الحديث، عنوانُها ثوراتٌ في أكثر من بلدٍ.

ونحن لا يمكننا أن نتعامل مع هذه الثورات الا بالنظر اليها من مستويات عدة، قد تختلف فيها الأحكام باختلاف زوايا النظر ومجالاته.

أحد المستويات هو النظر الى أطرافٍ، أداروا هذهِ الثوراتِ بما يُشبه غرفة عمليات، تلقّفوها ودعموها ووضعوها في تصرّف هذا الواقعِ الدوليِّ أو ذاكَ واحتفظوا بحق التدخل والسطوة وقت الحاجة لذلك.

على مستوى آخر، لا أحد يمكنه أن ينكر وجود شعوب مُضطهدة مظلومة مقهورة، جاءت الفرصة لها لتنعتق من أسرِها، ومن قيودِها وأغلالِها، فانطلقتْ نحو المناداة بالحريةِ، وبالتعبير عن إرادةٍ داخليةٍ هي ثمرةُ عُنفوانٍ متجذِّرٍ في النفوسِ، وشعور إنساني مرتبط بالكرامة والعزة التي يتوق إليها كل بشري مهما كانت اتجاهاته الثقافية والدينية والفكرية وأين ما كان على وجه هذه البسيطة…

على هذا المستوى الأصيل والحقيقي، شكّلت هذه الثورات حالة انصهار وذوبان في جوهر القضية الإنسانية أكثر من مسمّياتها، التي أُريد لنا ان نستغرق في عَنْوَنَتها وتأطيرها الى حدٍّ أنسانا أساس القضية، علماً أن هذه الثّورات بديهية التأطير، وتلقائية العناوين: رفع الظلم، استعادة الكرامة الإنسانية، الحصول على ابسط حقوق العيش الهانئ. ولعل هذا الاطار الانساني الجامع، لم نعتد عليه في عصرنا الحديث الذي يُراد ان تثار فيه العصبيات والتناقضات وكسب المغانم قبل انتهاء المعركة، بالرغم من ان التجارب الاسلامية وأبرز ثوراتها القديمة والحديثة ما انطلقت الا لقيمة الاصلاح، وقيمة مقاومة الاستعمار، وإحقاق العدل الانساني.

إننا ومن قبيل فضيلة الإنصاف، نرفض أن يحتكر تيار إسلامي هذه الصحوة لحسابه مطلقاً، في الوقت الذي نَستغرِبُ فيه أن يتحدَّثَ البعضُ أن هذهِ الثوراتِ لم تنطلقْ من روحٍ إسلاميةٍ، ويستندونَ في ذلكَ إلى أنَّ شعاراتٍ أو مفاهيمَ مثلَ الحريةِ والديموقراطيةِ وحقوق الانسان ومواجهةِ الفسادِ، التي تقودُ عمليةَ التغييرِ، هي مفرداتٌ لا يعرفُها الإسلاميون، وهي من بضاعةِ القاموسِ السياسيِّ الليبراليِّ أو القوميِّ فحسْبُ. ونسوا ان الاسلام في مفرداته هو دعوة تحرر من كل عبودية، وهو بعد عن الاستئثار بالفيء، وهو دعوة عدل وعدالة وإصلاح. هو عولمة لإنسانية الانسان قبل ان يتعرف العالَم الى العولمة الحديثة. فمنذ البداية أعلنها محمد: لا فرق بين أبيض وأسود ولا بين عربي وأعجمي أو بين غني وفقير وبين قريب وبعيد.. والعدل فوق الجميع: «والله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

أليست هذه كانت الشعارات التي حملها المسلمون وواجهوا بها التحديات وعانوا لأجلها..!

لهذا، دعونا نتفق على أننا نلتقي على المنطلقات القِيَميَّة للثورات ودعونا لا ندخل في هذهِ المرحلةِ بالذاتِ، في سجالٍ كهذا، لمن تُنسب الثورة ولماذا، فهذهِ الثوراتُ ما زالتْ تتعرَّضُ للهجماتِ من داخلِها، ومن خارجِها، كي تُحرف عن مسارِها أو يتمُّ تدجينُها وإسكاتُها وإسقاطُها، علماً أن سلاحها هو في شعاراتها الانسانية الجامعة للكل بدون استثناء…

 

تحديات الواقع

إنَّ هناكَ تحدِّياً كبيراً أمامَ كلِّ الفاعلينَ في هذهِ الثوراتِ وهم بين فكي كماشة من جهة، هناك الذينَ يتضرَّرونَ من هذهِ الثوراتِ ويريدون ان يفصّلوها على مقاسهم، ويعملونَ بكلِّ جهدٍ على احتوائِها أو إسقاطِها.. ومن جهة أخرى هناك أزمات الواقع الصعب.

فإذا جلنا سريعاً في هذا الواقع الذي سيتسلمه التيار الإسلامي فسنرى أنهم امام مهمة شائكة، حيث تشتدُّ الضغوطُ عليهم، من الدولِ الاستكباريةِ، والقوى المرتبطةِ بها.

– في الاقتصادِ، يُراد فرضُ اقتصادِ السوقِ، والاقْتراضُ من صندوقِ النقدِ الدوليِّ لإنعاشِ البلدِ.

÷ وفي الحكم وإدارة البلاد، يجري التركيزُ على شطبِ أيِّ عنوانٍ إسلاميٍ في الدستورِ والقوانينِ.

÷ وفي المسألةِ الاجتماعية، تزداد سطوة وسائل الإعلام وغلبتها وهي مجندة عن قصد او غير قصد لتغزونا ليل نهار فتغير المعالم الاجتماعية فينا وتؤثر في سلوكياتنا ووجدان أجيالنا…

÷ وفي الامن وتحديداً في ما يتعلَّقُ بالقضيةِ الفلسطينيةِ، يُراد من كل الثورات أن لا تمس بالمعاهداتِ التي فرضَتْها على الأمةِ لتبقى خطاً أحمر، حتى ولو كانَتْ مُضرةً بالمصالحِ العربيةِ وحتى ولو خالفت أهداف الثورات.

 

ثوابت الصحوة

ومن هنا لا بدَّ منَ الالتفاتِ إلى عناوينَ عدة:

الاول: استدعاء الصحوة على كل الأصعدة وخاصة تجاه الشريك في الوطن وفي الدين وفي الامة حتى لا يصبح ثوار الامس مصدر خوف وقلق للبعض على وجودهم، وإقصاء لمن يختلفون معهم، فتحركُ الفتنةِ الداخليةِ؛ داخلَ التيارِ الإسلامي، أو بينَ الإسلاميينَ والقوميينَ والعلمانيينَ وسائرِ القوى الأخرى، أو بينَ المسلمينَ والمسيحيينَ، أو إحداثُ إرباكاتٍ كبيرةٍ في الواقعِ ممّا يُؤدي إلى إشغالِ الثوراتِ بالفتنِ، تمهيداً لإجهاضِها في الوقتِ المناسبِ.

الثاني: الحذر من ابتزاز هذهِ الثوراتِ، من خلالِ حاجاتِها إلى الدعمِ الماليِّ أو السياسيِّ أو الاقْتصادِيِّ أو الاجْتماعي، لجعلِها تتنازلُ عن شعاراتِها التغييريّةِ، وهذا يتطلب استنفاراً لسد المنافذ: منافذ الحاجة التي تقدَّم كمساعدات او قروض: وهناك عبارة للإمام علي: «احتج الى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره..».

الثالث: عدم سقوطُ الثوراتِ في لعبةِ السلطةِ، بحيثُ يسعى كلُّ فريقٍ وحتى كلُّ فردٍ للحصولِ على موقعٍ لهُ في السلطةِ الجديدةِ، وإنْ لم يحصلْ عليها، أو وصلَ إليها غيرُهُ، فإنه يُعلنُ الثورةُ على الثورةِ نفسِها.. وهكذا تنقلب الثورة على نفسها وتأكل أبناءها.

العنوان الرابع: وهو مفصل أساسي في التحدي، فالتيارُ الإسلامي وقَفَ لعقودٍ من الزمنِ موقفَ المراقبِ، و المُناضلِ في تعاملِهِ معِ السلطةِ وقضاياها، وكان مقصياً عن المشاركة في عملية إدارة شؤون الدولة وما يتطلب ذلك من أفكارٍ وبرامجَ حولَ النظامِ الاجتماعيِّ والسياساتِ الاقتصاديةِ، والخارجية والتربوية والثقافية وغير ذلك من شؤون إدارة البلاد.. لهذا فإن التيارَ الإسلاميَّ اليومَ أمامَ مهامَ ومسؤولياتٍ جمة، يُعوِّل الناسُ عليها آمالاً كبرى لانه خيارها وليس مفروضاً عليها.

وبدورنا كمراقبين علينا أن نُنصف هذه التجربة وأن نكون واقعيين في تقييمها، لا أن نجلدها ونثبط عزائمها.. ولنعي ان نقدنا السلبي لها سيكون هدية لمن يتمنون ويعملون على إفشال التجربة الاسلامية ليطالوا الاسلام من خلال ذلك، وليطالوا مفهوم الدين، متهمين اياه بالعجز عن مواكبة مشاكل العصر!!

إننا نثِقُ بأن وعْيَ الإسلاميينَ وحكمتَهُمْ في التعاملِ مع كلِّ الواقعِ، سيؤدي إلى تلبيةِ آمالِ وطموحاتِ الأمّةِ.. التي تنتظرُ تجربةً جديدةً نظيفة.. تُبعدُها عنْ كلِّ معاناتِها، طوالَ تاريخِها الطويلِ..

ونحنُ نعتقدُ أن تبنّي الإسلام المنفتح..، هو الذي يُلغي الصورةَ التي يصر الغرب على تقديمِها ويستعملها فزاعة عنِ الإسلامِ الإقصائيِّ.. الإسلامِ التجزيئيّ.. الإسلامِ الحربي.. وغير ذلك من التوصيفات.

فلِيكنِ الإسلامُ جامعاً لنا ورائدَنا.. و الهدفُ الذي نتحرَّكُ من خلاله بكل منظومته الأخلاقية والايمانية والوحدوية..

إنَّ عنوانَنا الإسلاميَّ يتطلبُ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (آل عمران:103)، {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46).

وأخيراً ندعو المفكّرينَ الواعين سواء أكانوا من الإسلاميينَ ام غيرهم في هذهِ الأمةِ إلى مواكبةِ الحركةِ الشعبية والحركة الإسلامية، ورفْدِها بكلِّ الخبراتِ والتجاربِ، والنقد البناء لان الامة هي كالجسد الواحد لا يمكن ان يرتاح بعضها إذا كان الجسم عليلاً، او يشكو خللاً.

إن المرحلةَ هي من أهمِّ المراحلِ في الواقعِ الإسلامي.. ومن أصعبِها.. لذلك مزيداً من الوعي، والتخطيطِ والتلاحمِ والتعاونِ والتوادِّ.

إن فجراً إسلامياً انسانياً حوارياً بدأَ يلوح، وعلينا أن نغتنِمَ فرصتَهُ لِيطلَعَ النهارُ، ويعمَّ النورُ كلَّ الأرجاءِ، ليُحرِّرَ الأمةَ كلَّ الأمةِ، من جهلِها وتخلّفِها وتبعيتِها وتكون «خير أمة أخرجت للناس».

 


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً