أحدث المقالات




مواقف من حياتي مع سماحة السيد

باسم الجيل الشبابي الذي تربى على يديه الحانيتين

 

 ألقيت في حسينية البلوش في منطقة الجابرية – ضمن مراسم تأبين سماحة السيد محمد حسين فضل الله(قدس) في دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

 

سيَّدي

لن أتحدث عن مآثرك أيها العظيم.. ولن أتحدث عن فكرك أيها الشامخ.. ولن أتحدث عن مواقفك أيها الشجاع.. فها هي تملأ الأرض والسماء.. ويتحدث عنها القاصي والداني.. ويشهد بها الصديق والعدو.. فتراثك محفوظ ومدون بالكلمة والصوت والصورة.. ولكل من يريد أن ينهل المزيد من نبعك الصافي.. لابد وأن يجد ما يرويه.. بين كل هذه المؤلفات والندوات المتوفرة في المكتبات أو على الانترنت..

لذلك فضلت أن أتحدث بكل طبيعية وكما عودتني يا سماحة السيد منذ صغري عن أبرز مواقفي معك والتي كان لها الأثر الكبير في حياتي.

 

السيد والدعاء

كانت فعلا صدمة، فلم أر قط في حياتي عالما يقرأ الدعاء بصوته للناس، فقد تعودنا أن تكون قراءة الدعاء لأحد غير العالم، لأنه ربما سيقلل ذلك من شأنه أو ربما تترك قراءة الدعاء لمن يملك الصوت الأكثر جمالا. و لكن سماحة السيد المرجع كان يبدع في دعائه مع الله عزوجل، بالرغم من أنه لم يكن يملك أجمل صوت، لكنك حين تستمع لدعائه، تحس أنه يعيش كل كلمة يقولها، ولذلك كان كثيرا ما يؤثر في قلوب الناس وعقولها.

لقد كان القائد المثالي.. القائد الذي ليس فقط يقول ويفعل.. فهو يفعل قبل أن يقول، وهكذا حرص سماحة السيد على أن تكون للإنسان علاقته الخاصة مع الله سبحانه وتعالى، يخاطبه بما يريد، كيفما يريد، متى يريد. كان دائما يقول: إن كنت لا تحفظ من الأدعية المأثورة شيء، فلا يمنعك ذلك من الحديث مع الله عزوجل، خاطبه بقلبك، خاطبه بروحك، خاطبه بكلماتك العامية، فلا حواجز مع الله، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وعندما تكون قريبا من الله فإنك تستمد القوة من القوي، والعزة من العزيز، والعلم من العالم، وهكذا دون حواجز.. هكذا تستطيع أن تعيش الحب مع الله.. في علاقة محب يعشق حبيبه.. فيطيعه في كل شي.. و يحرص ألا يعصيه.. وفي المقابل يغدق ذلك الحبيب عليك كنوز الرحمة والمغفرة والرضوان والتوفيق في الدنيا قبل الآخرة.

حرص السيد أن يحيي ثقافة الدعاء والتواصل مع المولى عزوجل بكل وسيلة متوفرة. وقد أحيا فينا أهمية الأدعية الرائعة في الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (ع)، وحرص على تفسيرها وشرح أعماقها العاطفية والثقافية والاجتماعية، وكيف كان لكل شيء في حياة الإمام السجاد (ع) دعاء يدعو به في مختلف الحالات. وكذلك أدعية الأيام، فقد كان يؤكد أننا يجب أن نبدأ يومنا مع الله.. ونختمه مع الله.. هكذا يكون اليوم الإلهي.. وهكذا يكون الأسبوع الإلهي.. وهكذا يجب أن تكون حركتنا مع الزمن. وكذلك أيضا دعاء أبي حمزة ودعاء كميل ودعاء الافتتاح ودعاء مكارم الأخلاق.. كثيرا ما كان يؤكد عليهم.. ويستخدم مقاطع مؤثرة منهم في أدبار الصلوات، وفي مواعظ ليلة الجمعة.

 

السيد والقرآن

أما مع القرآن الكريم، فقد حرص السيد أن يمزج الآيات مع كل خطاب يقوله، وضمن كل سطر يخطه قلمه، حيث ركز أنه هو الأساس في فهمنا للحياة. هكذا يجب أن نقرأ القرآن، نقرأه وكأنه خطاب الله عزوجل لنا شخصيا، فنفكر إذا نشرنا المصحف بين أيدينا اليوم وبدأنا بقراءة ما تيسر لنا منه، نفكر ما الذي سيقوله لنا سبحانه وتعالى هذا اليوم، وما الذي علينا فعله تجاه هذه الكلمات الموجهة إلينا.

فعندما نقرأ آيات فيها مديح للمؤمنين، نتساءل هل يا ترى نحن منهم؟ وما الذي يجب أن نغيره من سلوكنا اليومي كي نكون كذلك؟ أو عندما نمر على آيات فيها ذم للمنافقين المشركين، نتساءل هل يا ترى تشملنا هذه الآية؟ وما الذي يجب أن نحركه في حياتنا كي نبتعد عنهم؟ ما هي جوانب ضعفنا فنقويها، وما هي جوانب قوتنا فنشكر الله عليها. وكذلك نفكر في آيات السنن الإلهية، وآيات الأخلاق، وآيات القصص والتاريخ والعلوم، ونحركها في واقعنا، ندرسها نتفحصها، وكأننا ندرس كتابا لاختبار سنقدمه في المدرسة أو الجامعة، إنه اختبار الحياة اليومي، وها هو العليم القدير يرى عملنا ورسوله والمؤمنون.

والمتصفح لتفسير سماحته "من وحي القرآن" يجد ما أقوله جليا واضحا في منهجه الحركي التطبيقي الذي يركز على ربط الإيمان بالعمل ربطا لا ينفصل أبدا، ولذلك فإن إيمان الإنسان قد يدفعه لقراءة القرآن وقد يدفعه أيضا إلى مرحلة أعمق وهي إتقان قراءته وترتيله والتدبر فيه، ولكن ذلك كله يبقى مجرد وسيلة لوصول الكلمات إلى أعماق القلب، فإنها عندما تصل هناك تتحرك أعضاء البدن صانعة التغيير في السلوك والعمل. وهكذا كان رحمه الله.. وهكذا رحل .. رحل والصلاة بين شفتيه، وذكر الله على لسانه..

 

السيد وأهل البيت (ع)

أما مع الثقل الثاني، أهل البيت(ع)، فلم أر أحدا يتحدث عنهم(ع) كما تحدث سماحة السيد. لقد كان يصفهم وكأنه يراهم أمامه. لقد جعلنا سماحته نفهم شخصياتهم وسلوكياتهم وطريقتهم في اتخاذ القرار أمام كل التحديات التي تواجههم سواء كانت كبيرة أم صغيرة، فقد كان يغور في أعماق الماضي ويأتي بالنبي وأهل بيته والأئمة الأطهار ألف عام إلى الأمام ليصيغهم شخصيات عصرية رائدة تمثل قمة القدوة الإنسانية في كل مجالات الحياة، بحيث نستطيع أن نفهم أن لو أنهم عاشوا بيننا كيف سيتصرفون، و بالتالي نتصرف نحن على ضوء ذلك.

هكذا كان يحيي أهل البيت عليهم السلام في قلوب الناس عاطفة وعقلا وحركة.. بإنسانيتهم الراقية بعيدا عن الغلو أو الخرافة أو الاستغراق في السيرة الجامدة من أحداث وألقاب ونقش للخاتم وعدد الزوجات والأولاد وغيرها من المعلومات التي يذكرها الكثيرون ولكنك حين تقرؤها بهذا الجمود تشعر وكأنك تقرأ لأناس عاشوا في الماضي وقضوا في الماضي ولا علاقة لك بهم. بل هم القدوة الحية الراسخة لسلوكنا وواقعنا بدل الكثير من الشخصيات السلبية المفروضة علينا من خلال الأفلام والرياضة وغيرها.

لقد علمنا السيد كيف يجب أن تكون لنا علاقة شخصية يومية معهم، من خلال زيارته لهم بصوته الخاشع في أدبار الصلوات، زيارة شاملة لا يبدؤها إلا بالسلام على نبينا المصطفى (ص) ولا يختمها إلا بصاحب العصر والزمان إمامنا المهدي (عج)، لقد علمنا كيف نزور هؤلاء الأطهار بقلوبنا قبل ألسنتنا، بحيث تشعرنا هذه الزيارات بقربهم منا وشوقنا إليهم على الدوام. هذا الشوق الذي يجعلنا حين نمر على رواية من رواياتهم الصحيحة، لا نملك إلا أن نتحرك وفق ما يحبونه ويرشدون إليه.

 

السيد والعلم

يتبادر في أذهان معظم الشباب وفي سن مبكرة أسئلة عديدة، يرتبط معظمها بعلاقة الدين والعلم، هل العلم الديني منفصل عن بقية العلوم؟ وهل دراسة العلوم المختلفة جزء من العمل الإسلامي في سبيل الله؟ وهل هناك أولولية لدراسة العلم الديني عن غيره من العلوم؟ لكنه كان يجيب إجابة الإنسان الذي يعيش عمق الواقع، ليرى آفاق المستقبل بكل صفاء، فكان يردد أن الإسلام بحاجة إلى علماء بارزين متميزين في جميع التخصصات العلمية وليس فقط في المجال الديني.

كان يؤمن رحمه الله بتكامل المعرفة، وضرورة الاستفادة من العلوم التطبيقية في الفقه وغيرها من العلوم الدينية، كما كان واضحا في فتاواه الشهيرة حول امكانية رؤية الهلال، وتحريم التدخين، وبعض الفتاوى الأخرى المرتبطة بالتقدم العلمي في علوم الأحياء. و من جهة أخرى، كان يشجع على ضرورة الاستفادة من المفاهيم الإسلامية من خلال القرآن الكريم وسيرة أهل البيت (ع) خاصة في المجال التربوي والاجتماعي والاقتصادي، وتأصيل تلك المفاهيم في مختلف العلوم الإنسانية.

 

السيد والعقل

أما حديثه عن دور العقل في حياة الإنسان، فقد كان لا يفوته ذكر ذلك في كل ندوة أو خطاب أو مقاله، وقد علمنا سماحة السيد كيف نحترم عقولنا، و كيف أن هذا العقل هو من أبدع من صنعه الخالق، وبه عرف، وبه عرفنا الرسل، به نفهم القرآن، وبه نفهم أنفسنا، و به نعرف الحقيقة. فلا يجب أن نستسلم لأي فكرة بسبب ضغط اجتماعي هنا، أو تعصب أعمى هناك، أو أن نؤجّر عقولنا لغيرنا، يفكرون لنا ويقررون كما يشاءون فنتبعهم اتباع الأنعام. لكننا يجب أن نتفكر في كل ما يدور من حولنا، فهذه هي دعوة القرآن. وقد كان سماحته كثيرا ما يؤكد على أهمية التفكر، و ضرورة تخصيص جزء من اليوم أو الأسبوع للتأمل والتفكر بعيدا عن ضوضاء الحياة، فيردد: " إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا "

 

السيد والحوار

عندما نأتي للحوار، نجد أن سماحة السيد كان رائد الحوار في عصره، قولا وفعلا وتحديا. فقد كتب سماحته "الحوار في القرآن" وناقش الأسلوب القرآني الراقي في الحوار حتى قال أن "الحقيقة هي بنت الحوار". علمنا سماحته كيف نفتح قلوبنا للآخرين وكيف نحاور الجميع ونفهم منطلقاتهم، وكيف نحاور أنفسنا أيضا ونفهما قبل أن نحاور الآخرين. كيف تكون المحبة والحكمة والانفتاح هو الأسلوب، والعقل وميزان الحق والعدل هو ما تقاس عليه الأمور. كثيرا ما كان يقول: "املك قلب الإنسان ينفتح لك عقله".

كان قدس الله نفسه يجسد ذلك عمليا في كل لقاء نلتقي به، فالصدر الرحب والاستقبال الحنون والابتسامة المشرقة كانت أعذب من فنجان الشاي الذي يقدمه لنا في كل لقاء. وكان هو من يبادر بالسؤال، وهو من يسأل عن الآراء، لدرجة أنه كان يقول: "فكروا معي، فقد أكون مخطئا". هكذا علمنا كيف نحاوره، ونحن في صغرنا بكل تواضع منه، وهو العالم المفكر المرجع الذي تتقاطر عليه مختلف الوفود والشخصيات.

وقد شجعتنا جرأة سماحته على الحوار، واختياره للحوار الهادف المنتج عنوانا لكل نقاش ندخل فيه. فقد حاورنا الملحدين والمسيحيين واليهود، وفي الإطار الإسلامي وفي سبيل الوحدة الإسلامية انفتحنا على إخواننا أهل السنة بكل أريحية ومحبة ولم نخسر أي علاقة مع أي شخص بالرغم من التشدد الفكري عند بعضهم. ومبادرة سماحته الأخيرة في الحوار الشيعي السلفي ما هي إلا دعوة لتقوية لحمة الإسلام، وسد نقاط ضعفه، وإخماد نار الفرقة والتعصب. أما الذين اندفعوا في مهاجمة فكر سماحته، حاورناهم بكل هدوء وتعقل وتسامح وبقيت علاقة الود والصداقة حتى لو لم تتفق الأفكار. فهذا ما علمنا إياه سماحته، في أقسى الهجمات التي تلقاها، و كل الأحجار التي رميت عليه، وأدمت قلبه وروحه، فكان يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".

 

السيد والإمام المهدي(عج)

وفي الموقف الأخير، كنا كما الكثير من الشباب نسأل عن إمامنا، بكل عفوية ومحبة وشوق لظهوره، وقد كان السيد يقول لنا: ألا تريدون أن تكونون معه؟ لا تركزوا على مسألة توقيت الظهور، بل ركزوا كيف تدربون أنفسكم على أن تكونوا مع خط العدل في حياتكم اليومية، عندها ستكونون معه لاشك عندما يظهر، لأنه سيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. فما فائدة من يعلم توقيت الظهور، لكنه لا يعرف كيف يكون الإنسان العادل في حياته فهل يا ترى سيكون من أنصار الإمام المهدي (عج) عند ظهوره؟ كانت كلماته: "حركوا الإسلام في حياتكم، ومهدوا لخروجه بالدعاء والعمل، وأصلحوا حياتكم، أصلحوا أنفسكم وعائلتكم ومجتمعكم هذه هي مسؤوليتكم"

 

سيّدي

وهنا أتوقف مجبرا لمساحة الكلمة، ولكن قلبي لا يريد التوقف، فقد كنت أيها الصافي نبعا أصيلا من منابع الفكر المحمدي الأصيل الذي لا ينضب. وقد نعيتك مرتين.. مرة في حياتك عندما اشتدت عليك وعلى محبيك الهجمة الشرسة الظالمة التي وصلت إلى حد الإخراج من التشيع أو حتى من الإسلام، وقد كان الإسلام هو هواءك الذي تتنفس فيه، ودمك الذي يجري في عروقك. فكتبت أنعى فكرك فأقول:

"أبكيكَ قد أَبكَى زَمَانُكَ مُهجَتِي * عَلَمًا بَقِيتَ وخَادِماً للعِترَةِ"

 

وها أنا ذا أنعاك مرة أخرى في مماتك فأقول معلقا على مربينا الكبير الشيخ الوائلي رحمه الله عندما قال: "قرأتك في هذا جميعا فبان لي * بأنك كون لخصته سطور".. وعلى الألحان الحزينة لجدتك الزهراء (ع) عندما نعت رسول الله (ص) في وفاته فقالت: "ماذا على من شم تربة أحمد * ألا يشم من الزمان غواليا"، "صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام صرن لياليا" كتبت أقول:

"إِذْ ذَاكَ فَضلُ اللهِ كَونٌ فانْطَوى * فتناثَرَتْ صُحُفُ الحَياةِ نَواعِيا"

 

أحبتي الشباب

وللمستقبل أقول.. أيها الأحبة.. أيها الشباب الإسلامي الحركي الواعي.. إن العالم بحاجة إلى الإسلام.. و الإسلام بحاجة إليكم..بحاجة إلا من يرص صفوفه.. وبحاجة إلى من يقدمه إلى العالم.. بصورة يفهمها.. وتحل له أزماته و مشاكله..

سألني أحد الشباب بكل حسرة وألم وقال: "السيد راح ياهاشم"، فقلت له بكل صدق وحرارة: أن السيد لا يموت.. فعندما يموت الإمام الخميني أو يموت الشهيد الصدر.. سيموت السيد فضل الله..

عظم الله لكم الأجر.. وأشهد أن الموت حق..

أيها القلب الكبير.. قد يموت جسدك سيدي..

لكنك تبقى بروحك وعقلك.. في قلب كل إنسان عاش إنسانية الإسلام..

لن تموت يا أبا الأيتام

لن تموت يا أبا المجاهدين

لن تموت يا أبا الإنسان

اللهم عجل لوليك الفرج!

 

ابنك المحب

هاشم عبدالمطلب الوزان

رجب 1431هـ

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً