أحدث المقالات

قراءةٌ أصوليّة

ـ القسم الثاني ـ

أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)

المبحث الرابع: إذن السلطان في إقامة صلاة الجمعة

رغم أنّ العبادة من مفردات العلاقة بين الله تعالى والإنسان الفرد، إلاّ أن بعض العبادات تؤدّى أداءً جماعياً، مثل: الحجّ؛ إذ لا بُدَّ من أداء المسلم للمراسيم العبادية في وقتٍ واحد ومكانٍ واحد، فيكون العمل جماعياً. وكذلك أداء صلاة الجماعة، أو صلاة العيدين، أو صلاة الجمعة، فهي عباداتٌ تؤدّى بصورةٍ مجتمعية. فهل إذْنُ السلطان أو حضوره شرطٌ لإقامة صلاة الجمعة أو لصحتها؟

في هذا انقسم الفقهاء إلى ثلاثة آراء:

1ـ رأي الحنفية والزيدية، الذين يقولون بأن شرط الأداء وجود السلطان أو إذنه.

2ـ رأي الشافعية والمالكية والحنابلة الذين لا يرَوْن وجود السلطان أو إذنه شرطاً في صلاة الجمعة.

3ـ مذهب الإمامية. وفيه قولان أساسيان: أحدهما: وجوب أدائها مطلقاً بلا شرط؛ والقول الآخر: لا تجوز إلاّ مع إذن السلطان العادل.

تفصيل الآراء الفقهية

1ـ يقرّر مذهب الحنفية أن إذن السلطان وإقامته، هو أو مَنْ ينصبه، شرط لصحته صلاة الجمعة. فإذا لم يأذن لا تصحّ أصلاً؛ لأنها من مختصات الإمام، لا يجوز لأحدٍ القيام بها. وهذا هو قول أبي حنيفة والزيدية، ورواية لأحمد والحسن البصري والأوزاعي وحبيب بن أبي ثابت.

2ـ أما مذهب الشافعية والمالكية والحنابلة فهو أن الجمعة، كسائر العبادات، قد حصل البلاغ بها، وأُدِّيت على مرّ العصور، ولم يرِدْ نسخٌ أو تخصيصٌ على نصوصها، فلا يشترط لإقامتها إذن ولا حضور للإمام([1]).

المطلب الأوّل: صلاة الجمعة وشرط السلطان العادل

يميّز فقهاء الإمامية بين زمن الحضور وزمن الغيبة. ففي زمن الحضور لا يقيمها إلاّ الإمام المعصوم، أو مَنْ ينيبه إنابةً خاصة.

أما في زمن الغيبة فقد اختلفت كلماتهم؛ فمنهم مَنْ أفتى بوجوبها عيناً إذا أقامها الفقيه العادل الجامع للشرائط، أو مَنْ ينصبه لإقامتها؛ لأنه بمثابة الإمام (السلطان العادل).

وقال فريقٌ من أهل الاجتهاد: إذا لم يوجد السلطان العادل أو نائبه، ووجد الفقيه العادل، يُخيَّر المكلَّف بينها وبين الظهر، مع رجاحة الجمعة.

وذهب فريقٌ ثالث إلى أنها من مختصّات الإمام المعصوم، فلا يجوز لأحدٍ مهما كان أن يؤدّيها بعد عصر الحضور.

ومن القائلين بأنّ للفقيه إقامتها الفقيه أبو الصلاح الحلبي: لا تنعقد الجمعة إلاّ بإمام الملّة، أو المنصوب من قبله، أو بمَنْ تكاملت له صفات إمام الجماعة([2]). وهذا يعني أن الفقيه متى قدر على إقامتها أقامها، فهي مرهونةٌ بالظروف السياسية العامة.

ومثَّل النمط الثالث، الذي يراها من مختصّات الإمام، السيد المرتضى، فقال: إذا عدم الإمام العادل أو مَنْ ينصبه صُلِّيت الظهر أربعاً. يقول العلاّمة: وهذا يشعر بعدم تسويغ إقامتها حال الغيبة([3]).

من ذلك يتبين أن فقدان السلطة السياسية الشرعية يؤدّي إلى تحويل العمل العبادي ذي الأبعاد المجتمعية إلى عملٍ فردي؛ لئلاّ يستغلّ العمل العبادي لحمل الناس على الضلالة من طريقٍ ديني.

وهو مذهب سلاّر، وابن إدريس، الذي أجاز للفقهاء أن يصّلوا بالناس في الأعياد والاستسقاء، بينما لم يجيزوا لهم الجمعة.

لكنّك تجد الشيخ الطوسي يذهب إلى أنه متى اجتمع المؤمنون ـ في زمن التقيّة ـ بحيث لا ضرر عليهم جاز لهم إقامتها، فإنْ لم يتمكنوا صلّوا جماعة أربع ركعات. فالمسلم بالخيار بينها وبين الظهر.

ويشدّد الطوسي في الخلاف على أن إقامة الجمعة على الإمام أو مَنْ يأمره بوصفه شرط انعقاد، ومتى أقيمت بغير أمره لم تصحّ، فلا خلاف في انعقادها بالإمام أو بأمره، ولا دليل على انعقادها بدونه.

وقد أورد العلاّمة الحلّي، استدلالاً منه للقائلين بعدم لزوم شرط الانعقاد، أربع روايات، كلّها لم تذكر شرط السلطان، ثم قال: ولأنّ الأصل عدم الاشتراط فلا دليل يسند القائلين بضرورة وجوده أو منصوبه أو إذنه([4]).

واستدل العلاّمة للقائلين بشرط وجود السلطان أو منصوبه بالإجماع، في نهاية الأحكام: (ويشترط في وجوب الجمعة السلطان أو نائبه عند علمائنا أجمع)، معزِّزاً بأن النبيّ‘ كان يعيِّن الأئمة لإقامة صلاة الجمعة، كما يعيِّن للقضاء. فكما لا يصحّ لشخص أن ينصب نفسه قاضياً من دون إذن الإمام فلا يجوز لأحدٍ أن ينصب نفسه إماماً لصلاة الجمعة. كما استدلّ بأن صلاة الجمعة تؤدّى جماعة، والاجتماع مظنّة التنازع، والحكمة تقتضي إنهاء التنازع، ولا ينهى التنازع إلاّ بسلطان([5]). واشترط أن يكون عادلاً؛ لأن الفاسق لا يزيل التنازع؛ لتبعية أفعاله لقوّته الشهوية، فليس هو محلاًّ للأمانة. كما استدلّ المحقِّق الأردبيلي على ذلك بالإجماع أيضاً.

أما الذين ذهبوا إلى عدم اشتراط السلطان أو إذنه فقد نقل عنهم العلاّمة رأيهم في المختلف: إنها بدلٌ عن الظهر، فلا يزيد حكمها على حكم البَدَل (الظهر). فكما لا يشترط لوجوب الظهر حضور الإمام أو إذنه فلا يشترط لها.

واستدلّ المحقّق البحراني على وجوبها من دون شرط السلطان بأن النبيّ‘ واظب عليها طول حياته، وحيث لا نسخ بعده‘ فلا يجوز وضع شروط لانعقادها بعد وفاته‘. ولأنه لم يشترط لوجوبها شيء فهي واجبةٌ عيناً على كلّ مسلمٍ، بلا شرط زائد. ويضيف بأن اشتراط المتأخِّرين لسلطان عادل فيه تعطيلٌ لأداء فرض من الفروض العبادية، فهو قد يوجد وقد لا يوجد، فلا تعلُّق لعبادة الله على أمرٍ قد يوجد وقد لا يوجد.

وبصدد ردّ العاملي على (الأخباريين)، القائلين بالوجوب العيني، دون اشتراط الإمام:

أـ إن ذلك يصادم الإجماعات المتواترة.

ب ـ إن ذلك بعيد عن مدلولات الأخبار.

ج ـ إنّ قولهم شاذّ نادر.

د ـ هو قولٌ أحدثه متأخِّرو المتأخِّرين، الذين اشتبه عليهم الحال، وأكثروا فيه الجدال، ونسبوا أعاظم العلماء الذين اشترطوا إذن السلطان إلى الوَهْم والغفلة.

أمّا أدلّة المشترطين حضور السلطان وإقامته لها أو إذنه فيرَوْن:

1ـ أنه منذ عهد الرسول لم يقم الجمعة إلاّ أولو الأمر أو مأذونه. فكأنّ ذلك إجماعٌ على اشتراطه. والإجماع حجّةٌ قطعية.

ويَرِدُ على هذا: إنّ أقصى ما يفيده ذلك أن وليّ الأمر هو الأحقّ بإقامتها، وليس هو شرط وجوبها، ولا شرط صحتها.

2ـ استدلّوا بحديثه‘: (أربعة إلى السلطان: الجمعة؛ والحدود؛ والفَيْء؛ والصدقات). وفيه: إنها من مختصّاته، فلا يحقّ لأحدٍ القيام بها دون حضوره أو إذنه.

والردّ: إن هذا الحديث لم يُرْوَ مرفوعاً، إنما هو قولٌ لبعض التابعين، وهو الحسن البصري. ولم يثبت أنه قول للنبيّ‘، ولا لصحابيّ. ولو فرضنا أنه حديث صحيح فلا يدلّ على أكثر من أن هذه الأشياء من واجبات السلطان التي يلزمه أداؤها، لكنْ لا يعني أنها لا تجب إلاّ به([6]). فلو أهملها فلا تسقط؛ لأنها أحكام تحدد (حقّ الله) غير القابل للإسقاط. لذلك يتمسّك الذين لم يشترطوا السلطان بوجوبها بدونه عيناً على كلّ مكلف.

3ـ واستدلّوا بعدم تحقُّق الإجماع على شرط وجود السلطان أو إذنه، سواء للصحة أو الوجوب، بل المخالفون لهذا كثر.

4ـ لمقتضى الأصل القطعي القرآني بالتكليف في ضرورة السعي لصلاة الجمعة. والأصل القطعي لا يعارضه الظنّي.

5ـ استدلّوا بالاستصحاب، الذي يقتضي بقاء الفرض؛ لأن تشريعه يقيني، ولا يغيِّره طارئ ظني.

6ـ إنّ عليّاً× صلّى بالناس الجمعة في فترة حصار عثمان، بلا إذن منه، فلو كان الإذن شرطاً لما صحّت.

7ـ صلّى ابن مسعود بَدَل الوليد بن عقبة في المدينة بلا إذن منه.

يقول ابن رشد، مبيِّناً ما دعا أبا حنيفة لاشتراط المصر والسلطان والمسجد الجامع، قال: إن النبيّ‘ لم يصلِّها إلاّ في جماعة ومصر ومسجد جامع، فمَنْ رأى اقتران هذه الأشياء بصلاته جعلها شرطاً([7]).

واختلف القائلون في شرط وجود السلطان أو إذنه في وصف السلطان:

فقد اشترط الإمامية أن يكون السلطان عادلاً. والعدالة أمرٌ مفروغ منه في الإمام المعصوم، نصّاً واعتقاداً. أما الفقيه الجامع للشرائط المخوّل فهو الذي يجب أن يجتمع الناس على عدالته، أو يراها أغلب الناس، وإلاّ كان وجوده كعدمه. وذكر أن مذهب الحسن البصري هو جواز الصلاة خلف أهل البِدَع، فقد نقل عنه أنه قال: (صلِّ خلفه، وعليه بدعته). ولا يجيزها أحمد. وكذلك مالك بن أنس، فإنه يجيز الصلاة خلف أئمّة الجَوْر، ولا يجيزها خلف أهل البِدَع. (وهنا يظهر أن قلق المعتقد أكثر حضوراً من القلق على العدل).

تختلف مواقف الفقهاء من اشتراط وجود السلطان أو إذنه لصلاة الجمعة وجوباً أو انعقاداً على أقوال:

يرى أغلب الشيعة الإمامية أن وجود السلطان العادل، أي الإمام المعصوم، أو إذنه، أو نائبه الخاصّ المسمّى، أو النائب العامّ «الفقيه العادل الجامع للشرائط»، شرطٌ في الوجوب. واختلفوا في نوع الوجوب:

أـ الوجوب العيني.

ب ـ الصحّة الجوازية.

ويقول الأخباريون، ومعهم بعض الفقهاء: إن وجود الإمام المعصوم ليس شرطاً للوجوب، إنّما شرط أفضلية.

ومشهور الإمامية أن السلطان العادل أو مَنْ يأمره شرطٌ لوجوب الالتحاق بصلاة الجمعة، وكونه محلّ وفاق، وهو المنسوب إلى علماء الإمامية.

واستدلّ المحقِّق الحلّي في المعتبر بأن استمرار تعيين النبيّ‘ لأئمّة الجمعة إجماعٌ على شرط الإذن، فمخالفته خرقٌ للإجماع.

وفي الخلاف (للطوسي) أن الشرط شرط انعقاد.

ونفى في السرائر الخلاف في كونه شرط انعقاد. فهل هو شرط مطلق؟

اعتبره بعضهم شرطاً للوجوب العيني في عصر الحضور، لا مطلقاً؛ أما الآخرون فقالوا أنه شرطٌ مطلقاً.

ويرى ابن إدريس حضورَ الإمام شرطاً في المشروعية، لا في الوجوب.

وقد يلاحظ في مصادر كثيرة أن كلام المتقدِّمين خالٍ من ذكر هذا الشرط، بل هناك عبارات على خلاف هذا الشرط. ومع ذلك فقد توزَّعوا على أربعة آراء:

1ـ إنها واجبةٌ عيناً.

2ـ إنها حرامٌ.

3ـ إنها واجبةٌ تخييراً، مع الجامع لشرائط الإفتاء.

4ـ لا شرط لوجوبها، إلاّ شروط إمام الجماعة.

 

المطلب الثاني: صلاة الجمعة في فقه المذاهب

أما الحنفيّة فقد اشترطوا وجود السلطان وإذنه، ولم يشترطوا عدالته، إلاّ ما ورد عن أبي يوسف القاضي.

قال السرخسي في المبسوط: (تقديم الفاسق للإمامة جائزٌ عندنا). ويكره عند مالك. والمراد بالكراهة هنا التحريم المقتضي للبطلان. ودليل الحنفية ما نسب إلى النبيّ‘ أنه قال: (صلُّوا وراء كلِّ برٍّ وفاجر)؛ ولأن الصحابة والتابعين كانوا لا يمتنعون من الصلاة خلف أمراء السوء، فقد اقتدوا بالحجّاج في صلاة الجمعة([8]). لكنّ هذا ـ كما تقدّم ـ لا يسلم دليلاً؛ لأن اضطهاد الحجاج وقسوته توجب موقفاً يحافظ فيه التابعون على أنفسهم.

ويستدلّ ابن تيمية على عدم اشتراط العدالة للسلطان، وجواز الصلاة معه بـ:

1ـ إن الصحابة وكبار التابعين كانوا يصلّون خلف الحجّاج.

وقد تقدم تقييم هذا الاستدلال.

2ـ إن عدم وجود سلطان عادل يعني فوات صلاة الجمعة على رأي مَنْ يشترطه، وهو أعظم فساداً من الاقتداء به.

3ـ إن التخلُّف عن السلطان الجائر لا يدفع فجوره، فتبقى المفسدة في ترك العبادة الشرعية بدون أن يدفع ترك الجمعة لمفسدة وجود السلطان الجائر.

4ـ ومن تاريخ المسلمين يظهر أن التاركين للصلاة خلف أئمّة الجور معدودون([9]).

وعند المذاهب الأخرى يقول الفقهاء: إنه ضروريٌّ في الجمعات والأعياد؛ لتعلق هذه بالسلاطين. فلقد كان أحمد يرى الصلاة خلف أئمّة الجَوْر، ولا يراها خلف أهل البِدَع([10]). وهنا يظهر أن التعارض إذا حصل فالموقف العام أن يقبل الجَوْر، ولا يقبل الرأي العقائدي الآخر، المعبَّر عنها (البِدَع).

ممّا تقدَّم نلحظ أن أزمة شرعية السلطة لم تكن أزمة سلوكية؛ فإنّ مشهور الموقف العام أنّ المؤالف لعقيدة أهل السنة يقبل جوره، وأنّ مخالفهم في الرأي لا يقبل، حتّى وإنْ كان عادلاً.

وقد ظهرت عدالة إمام الجمعة بشكلٍ حادّ في الاستنباط الفقهي عند الإمامية (بشأن جواز صلاة الجمعة)، أو وجوبها، أو صحّتها. وظهرت ضرورة السلطان (في اشتراط فقهاء المذهب الحنفي) من إصرارهم على وجود سلطة تؤدّي هذه الشعيرة، اختلفوا في اشتراط شرعيّتها على قولين: أشهرهما: عدم اشتراط العدالة؛ لأنهم يريدون هذه العبادة مع وجود سلطة مستقرّة، وفي مسجد المصر الجامع.

أما المالكية والشافعية والحنابلة فلم يظهر عندهم هذا القلق على المشروعية السياسية، فلم يشترطوها شرطاً في صحة (صلاة)؛ لأنهم ربما ينظرون للجانب العبادي أكثر من الجانب السياسي. فقد جاء في فتح الباري، لابن رجب، عن البخاري في تاريخه: قال لنا عبد الله، عن معاوية بن صالح، عن عبد الكريم البكّاء، قال: أدركت عشرة من أصحاب النبيّ، كلهم يصلي خلف أئمّة الجَوْر([11]). ويُعَدّ هذا النصّ مستنداً لهم في عدم اشتراط السلطان العادل، وليس إسقاط شرط السلطان مطلقاً.

يقول ابن العربي المالكي: إنه تجوز الصلاة خلف مَنْ يقيمه الإمام على شرائعه وسننه، برّاً كان أو فاجراً أو مبتدعاً، ما لم تخرج بدعته عن الإسلام([12]). وهنا يظهر موقفٌ آخر، وهو شرط وجود رجلٍ مخوّل من السلطان، ولا يهمّ بعد ذلك أن يكون برّاً أو فاجراً أو مبتدعاً، وهو يختلف عن المأثور والمشهور من موقف مالك بن أنس.

فقد ورد عن مالك: إنه لا يصلّى خلف أهل البِدَع، ويُصلّى خلف أئمّة الجَوْر.

وقد تقدم أنّه أيضاً رأيٌ لأحمد بن حنبل.

وعن الشافعي أنه يجيز الصلاة خلف مَنْ أقامها وإنْ كان غير محمودٍ في دينه([13])، بحيث يفهم منه قبول الصلاة خلف شخص في تديُّنه مجموعة من الإشكالات.

والذي يغلب عليه الظنّ أن مَنْ نظر لصلاة الجمعة أنها فعل عباديّ محض، كبقيّة الفروض، لم يجعل السلطان شرطاً أو مقدّمة لازمة لهذا الواجب، فهو واجب لذاته؛ ذلك لأنه لم يلحظ طبيعة المقصد والغرض من تشريع صلاة الجمعة، ودور الخطبة فيها.

أما مَنْ لاحظ الصفة الجماعية للصلاة، وربط وجود الجماعة (بالسلطة)، واعتبر أن لصلاة الجمعة دَوْراً في تنظيم هذه الجماعة، وتوصيف حركتها ومسارها، وتوضيح أهداف الحكومة وإجراءاتها، فقد اشترط لها وجود السلطان أيّ سلطان، كما هو رأي أبي حنيفة؛ أمّا مَنْ رأى أن الإمام العادل شرطٌ ضروري لوجوبها؛ لأن المجتمع يتكامل بالإمام العادل الذي يسعى من خلال عدّة وسائل لإعادة بناء الإنسان والمجتمع على مدرج الكمال والأنموذج، وإلاّ فإن هذا التجمُّع المحاط بهيبة العبادة وسموّ السلطة الربانية يمكن أن يستغلّ من (القادة غير العدول) لدفعهم إلى ما يضرّهم، ويحقّق مصالح السلطات التي لا تتّفق مع مصالح الناس.

لذلك أجد الأرجح في المواقف المتعدّدة شرطية الإمام العادل أو نوّابه العموميّين إذا كانوا على موازينه، بشرط توفُّر الظروف التي تصنع أنموذجاً حضارياً إنسانياً سامياً.

المبحث الخامس: الزكاة وجباية السلطان الجائر

يفتتح الماوردي كتابه الأحكام السلطانية بأن الإمامة (رئاسة الدولة) موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا([14]). ومن حراسة الدين تشجيع الناس على إيتاء الزكاة إيماناً واحتساباً، ومن سياسة الدنيا جباية الزكوات من أصحابها، وتفريقها على مستحقّيها.

وقد نقل عن أبي هريرة أنّ رسول الله‘ قال: «سيليكم بعدي ولاةٌ فيليكم البرّ ببرّه، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا»([15]). ومقتضى الحديث أن يطاع في جباية الزكاة. وقال في عون المعبود: إنما أمر‘ بالصلاة مع أئمّة الجَوْر حَذَراً من وقوع الفرقة، وشقّ عصا الأمة.

ومن الطبيعي أن تكون الزكاة صنو الصلاة، بلا فرق في أحكام الجباية.

ومن واجبات السلطان العشرة ـ كما حدّدها الماوردي ـ جباية الفَيْء والصدقات على ما أوجبه الشرع، نصّاً واجتهاداً([16]). ونصُّ الماوردي يجعل الصدقات غير الفَيْء. والمراد بالصدقات مطلقاً زكاة الأموال وزكاة الأبدان (فطرة رمضان)، أما الفَيْء فهو المال الذي صار للمسلمين عامّةً بلا قتال منهم، وتدخل فيه الثروات الوطنية، كالمعادن، والبحار، والأراضي غير المملوكة، ورؤوس الجبال، والوديان، وما آل أمره إلى بيت المال، مثل: مال ما لا وارث له، وأموال الجزية.

وقد ذكر الماوردي للإمام (وليّ الأمر) أو السلطان صلاحية تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال للأفراد من عطايا وهدايا.

وإذا قلّد الخليفة أميراً على إقليم (والأمراء أقسام)؛ فمنهم (عن إمارةٍ منه)؛ ومنهم اضطراراً؛ لأنه أمير متغلِّب، فمن واجباته جباية الخراج، وقبض الزكاة من مستحقّيها، وتفريق ما استحقّ منهما لأصحابها([17]).

يتّفق الفقهاء على أنه ليس لوالي الصدقات النظر في زكاة المال الباطن، وأن أربابه أحقّ بإخراجه، إلاّ أن يبذلها أربابه طوعاً. فإذا كان السلطان عادلاً فإخراج زكاة الأموال الباطنة لأربابها التفرّد بإخراجها، فإذا طلبها لأمرٍ مهمّ عليهم دفعها للسلطان العادل، قولاً للأكثر، ولا تجزئهم إذا أخرجوها؛ والقول الثاني: يكون إخراجها للسلطان استحباباً؛ إظهاراً للطاعة، وليس واجباً عليهم([18]).

وللسلطان على القولين أن يقاتلهم عليها إذا امتنعوا من دفعها؛ استفادةً من حوادث أبي بكر مع مانعي الزكاة؛ لأنهم بمنعهم يصيرون بغاة([19]). وهنا يلزم التنبيه إلى أن التباساً تاريخياً كبيراً اكتنف الحملات المسلَّحة التي أمر بها الخليفة الأول ضدّ مجموعات من الناس، منهم المرتدّ، ومنهم مانع الزكاة، ومنهم المعترض على قرار السقيفة.

ويميِّز الفقهاء في الأراضي المستغلة لأغراض إنتاجية بين كونها أراضٍ عشرية (دخلت طوعاً في نطاق السيادة الإسلامية)، وأراضٍ خراجية فتحت بالقوّة، فإذا كانت الأرض عشرية فللمسلم العمل فيها، وليس عليه إلاّ العشر، أما إذا ملكها الذمّي ثم زرعها فإن للفقهاء فيها أقوال:

ذهب الشافعي إلى أنه لا عشر فيها، ولا خراج؛ لأن مستغلها غير مسلم، والعشر يؤخذ من المسلم. ولأنها أرض عشرية لا يستبدل المأخوذ منها إلى الخراج؛ لأن الخراج ما يوظف على الأراضي العامرة المفتوحة عنوة فقط، ولا يجوز تحويل الأراضي العشرية إلى الخراجية.

ويوجب الشافعي أن يؤخذ من المسلم الذي يستثمر أرضاً خراجية العشر والخراج معاً؛ بلحاظ تكليفه كمسلم، فتؤخذ منه الزكاة، وبلحاظ كون الأرض ملكاً للدولة، فتؤخذ استحقاقات الدولة كمالكةٍ للأرض الخراجية([20]).

وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الخراج يؤخَذ من الأرض العشرية اذا استثمرها الذمي؛ وذلك بلحاظ وظيفة المورد المستثمَر (الأرض الخراجية)، ولا يسقط الخراج بإسلامه، أي إن المسلم اذا استثمر أرضاً خراجية فعليه الخراج فقط، وليس عليه العشر؛ لأنه يرى أن لا يجتمع حقّان على موردٍ واحد.

وخالفه أبو يوسف، فذهب إلى مضاعفة العشر على الذمّي، فيؤخذ منه عشرون (20%). فإذا أسلم سقط عنه العشر الثاني.

أما الشيعة الإمامية فإنهم يرَوْن أن الذمّي اذا اشترى أرضاً عشرية من المسلم فعليه دفع خمس الثمن إلى الدولة. وهو الرأي الذي توصلنا إليه في دراسةٍ خاصّة بنا لهذا الموضوع. وليس الأمر إحدى موجبات الخمس الشرعي.

وقال محمد بن الحسن وسفيان: لايؤخَذ من الذمّي إلاّ العشر؛ لأن الأرض عشرية، فلا يجب أن يؤخذ منها أكثر من العشر، ولا يسقط العشر بأيّ حالٍ.

ويرى الإمامية أنه يجب العشر في أرض الصلح، وما أسلم عليها أهلها، بإجماع العلماء. أما إذا كانت أرض خراج، وأدّى المستثمر المسلم الخراج، فإنْ بلغ الباقي نصاباً وجبت فيه الزكاة، ثم قال: ولا تسقط الزكاة بالخراج عند علمائنا أجمع. فالخراج حقّ الدولة (الحقّ الاجتماعي)، والعشر حقّ الله تعالى الموظَّف في المجال الاجتماعي، ولكنْ بنصٍّ دينيّ محدَّد.

ويوافقهم الشافعية، فيرَوْن جواز أن يجتمع العشر والخراج، وأنّ الخبر الدالّ الذي ينفي اجتماعهما ضعيفٌ([21])؛ إذ إنّ هناك أثراً يقول: (لا يجتمع عشرٌ وخراج).

وقد ذهب الفقهاء إلى أن حاصل الغلاّت الأربعة في الأرض الخراجية يحتسب لأغراض نصاب الزكاة ـ بعد إخراج ضريبة السلطان ـ، وكذلك الحال في مستحقات الخمس عند الإمامية؛ إذ إن المال الذي حال عليه الحَوْل هو المتبقي بعد خراج السلطان. ولم يلاحظ الفقهاء في دفع الخراج أن يكون السلطان جائراً أو عادلاً.

يقول في الجواهر: ولا تجب الزكاة إلاّ بعد إخراج حصة السلطان. ونفى الخلاف في ذلك، بل نقل ادّعاء الشيخ الطوسي الإجماع عليه([22]). ولعل المراد من مصطلح حصّة السلطان المعبَّر عنها بالروايات هو الخراج، وهو قول صاحب المقاصد والحدائق([23]).

ويرى النراقي، في كتابة مستند الشيعة، أنّ الروايات تنصّ على أنه إنْ كان السلطان يأخذ خراجه فليس عليك شيء؛ وإنْ لم يأخذ خراجه فعليك إخراج عشر ما يكون منها. وهذا الرأي على خلفية بقاء ما يفضل عن خراج السلطان، أو خضوع الحاصل للزكاة؛ لأن السلطان لم يأخذ خراجه؛ لأنه لم يُشِرْ إذا كانت الأرض خراجية أو عشرية.

ولكن هذا الحكم ينطبق على العشرية أكثر من انطباقه على الخراجية؛ فقد جاء في صحيحة العيص بن القاسم، عن الصادق×، في الزكاة: (ما أخذه منكم بنو أميّة فاحتسبوا به، ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم؛ فإنّ المال لا ينبغي أن يزكّى مرتين).

وفي النصّ إشارةٌ إلى أن ما يأخذه سلاطين الجَوْر باسم الزكاة قَهْراً يجوز احتسابه من الزكاة، وما يأخذونه جَوْراً من الخراج فإنه سيؤثِّر على النصاب المتبقّي الخاضع للزكاة، ويظهر من النصّ أنه× أمر أن يجتهد المَرْء بأن لا يعطيهم شيئاً.

ويؤيِّد ذلك ما نقله البحراني في الحدائق، من أنّ الأرض الخراجية إذا أخرج منها حصة السلطان، وبقي في حاصلها نصاب، فيجب إخراج الزكاة عنه؛ لأن الزكاة الوظيفة الشرعية على مال المسلم إذا بلغ نصاباً وحال عليه الحَوْل.

وقد تقدَّم أن الفقهاء قد قسَّموا أموال الزكاة إلى قسمين:

أـ الأموال الظاهرة، وهي الزروع والأنعام، وأموال التجارة، لمَنْ يقول بوجوبها أو استحبابها.

ب ـ الأموال الباطنة، وهي الذهب والفضة.

وقد قرّر الفقهاء أن زكاة الأموال الباطنة تترك للفرد، يخرجها هو، ويضعها حيث أمر الله تعالى. أما الظاهرة فالسلطان بالخيار؛ إمّا أن يدعها لصاحبها يفرِّقها على مصارفها؛ أو يطلبها. فإذا طلبها السلطان فقد اختلف فيها؛ قال فقهاء المذاهب: يجب دفعها له، أما الباطنة فلا يجب على المزكّي إجابته، ولا يجب عليه دفعها للحاكم؛ لقول الماوردي: ليس للولاة النظر في زكاتها، إلاّ أن يبذلها أربابها طَوْعاً، أو يعلم الإمام أن أربابها لا يؤدّونها، فيقول لهم: إمّا أن تدفعوها لمستحقّيها؛ أو تدفع لنا فنفرّقها.

وجديرٌ بالذكر أنّ رأي الحنابلة والشافعية في الأموال الظاهرة أنّ صاحب الأموال نفسه يجوز أن يفرِّقها، ولا يجب عليه دفعها للسلطان. وحجّتهم أنها مثل الأموال الباطنة؛ إذ لا فرق بينهما من حيث ترتُّب حكم الزكاة([24]).

بينما قال المالكية والحنفية: يجب أن يدفعها إلى السلطان؛ لقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾. ووجه الدلالة أن الأمر (خُذْ) يقتضي وجوب أخذ السلطان للزكاة من أربابها، ويقتضي أن يدفعها المزكّي له. وكون لفظة أموالهم (جمعاً مضافاً) فإنها تدلّ على العموم، فتشمل ما يصدق عليه مال.

وعند الإمامية قولان: الأوّل: إذا لم يطلبها الإمام فهناك قولٌ بوجوب حمل زكاة الأموال الظاهرة إليه؛ والثاني: استحباب حملها([25]). أما إذا طلبها الإمام وجب صرفها إليه([26]). ولعلّ هذا القول إذا لم يكن السلطان جائراً أو متسلِّطاً بالغلبة؛ بدليل ما نقله الشيخ الطوسي في الخلاف: «إذا كان الإمام جائراً فالمزكّي يليها بنفسه قولاً واحداً، ويضعها في مصالح المسلمين»([27]).

ونجد في فقه المذاهب الأخرى قولاً مؤدّاه أنّه متى طلبها السلطان فيجب دفعها إليه، ظاهرةً وباطنةً؛ لما في منعها من الفتنة، والافتيات على السلطان، ومقدّمات لسقوط الطاعة، ومقدّمات العصيان.

ويرى الشافعية أنه يجب عليه أن يدفعها للسلطان؛ لفعل الصحابة ذلك؛ ولزوال التهمة بمعاداة السلطة، حتّى ولو علم يقيناً أن السلطان لا يفرِّقها في مواضعها.

ويتفق الإمامية والمالكية والشافعية بأن المزكّي إذا عرف أن السلطان لا يضع الزكاة في مواضعها له أن يضعها في مصالح المسلمين؛ لأن مقصود الشارع من الزكاة إيصالها إلى مستحقّها، فيكون إعطاؤها للسلطان الجائر تضييعاً للحقّ عن صاحبه، وهم: الأصناف الثمانية الذين ذكرتهم الآية.

أما الحنابلة فإنهم يرَوْن جواز دفعها إلى السلطان؛ مستندين إلى ما رواه البيهقي عن ابن عمر أنه قال: (ادفعوها لهم، وإنْ أكلوا بها الكلاب)، وفي رواية: (وإنْ شربوا بها الخمر)([28]).

وبذلك يتكوّن لنا اتّجاهان:

الأوّل: وجوب دفعها للسلطان، أيّاً كان، إذا طلبها. وهو مشهور الشافعية والحنابلة.

الثاني: يتولّى المسلم وضعها في مواضعها إذا كان السلطان جائراً. وهو قول الإمامية والمالكية، وقولٌ للشافعية.

وقال في شرح المستقنع: يرى الحنابلة: إذا خصّص السلطان الجائر سعاةً وجباةً لا تجزي إلاّ بدفعها له، ولا يجزيه أن يخرجها بنفسه. ولو أخرجها يجب عليه قضاؤها([29]).

بينما يرى المالكية أنّه إذا كان السلطان جائراً، واستطاع المزكّي إخفاء أمواله عن السعاة، فليضعها هو في مواضعها. ونقل قول مالك: وأحبّ إليَّ أن يهرب بها عنهم إنْ قدر على ذلك([30]).

وقد نقل أصحاب مالك أنهم سألوه سرّاً عن زكاة الفطرة يبعث الوالي من يقبضها، فقال: أرى أن يفرّق كلّ قومٍ زكاة الفطرة في مواضعهم، ولا يدفعونها إلى السلطان([31]).

وموقف الإمام مالك هذا يكاد يكون موقفاً متميِّزاً؛ لما رواه ابن مهدي، وهو واحدٌ من أئمة علم الحديث، من أن سفيان وحذيفة وأبا سعيد الخدري وسعد بن أبي وقّاص وأبا هريرة وعبد الله بن عمر وعروة ومجاهد وعطاء وعائشة وأنس كلّهم يأمر بدفع الزكاة إلى السلطان، ولو كان جائراً، وهم يدفعونها له، وقالوا: يجزئ ما أخذوا، وإنْ فعلوا([32])؛ مستندين في ذلك على رواية ابن وهب، عن النبيّ‘ قال: «أدّوها اليهم، فلكم برّها، وعليهم إثمها».

ولعل المتأخِّرين من فقهاء المذاهب اختاروا الموقف الأكثر انسجاماً مع الواقع السياسي.

يُروى عن ابن حجر أنه سُئل عن السلطان يأخذها جَبْراً، هل يسقط الفرض؟ قال: نعم؛ لأن الإمام الجائر كالعادل في الزكاة.

وبذلك خالف مشهور الشافعية في حجب الزكاة عن السلطة الجائرة.

وفي حاشية ردّ المحتار يقول بعض فقهاء الحنفية المتأخِّرين: أما السلطان الجائر فله ولاية أخذها([33]). لذلك تساءل الفقهاء من الحنفية: هل يصحّ لو صادر السلطان أموال رجل، فنوى بذلك أنها زكاةٌ:

فكانوا على عدّة أقوال:

1ـ لا يؤمر بأداء الزكاة لأنه أصبح فقيراً بمصادرة أمواله. وكأنّ هذا الرأي لا يريد حسم المسألة فقهياً، بل تخلَّص منها بأن الرجل إذا صادر السلطان أمواله فسيبقى فقيراً، لا تجب عليه زكاة.

2ـ إنّه يؤمر بأداء الزكاة؛ لانعدام الاختيار في أخذ أمواله منه. وهنا لم يحدّد المناط (جور السلطان وعدم استحقاقه)، إنما سقوط الاختيار؛ إذ العمل العبادي لا بُدَّ له من نيّةٍ واختيار.

3ـ تسقط عن أرباب الصدقة؛ لأن السلطان أخذها، فله أن يحسبها على هذا المضمار. وهذا هو الموقف الذي ظهر بوضوحٍ عند المتأخرين.

في حين ينصّ في حاشية ردّ المحتار: لا يجوز اعتبارها من الزكاة؛ لأنه ليس للظالم ولاية أخذ الزكاة([34]).

ومن الجدير بالإشارة أن الفقه الحنفي يفرِّق في جواز أخذ السلطان الجائر الخراج بوصفه حقّاً للدولة وبين أخذه الزكاة؛ لأن الزكاة حقّ الله، وهي عبادة تحتاج إلى نيّة القربة وتمام الأجزاء والشروط، وانتفاء الموانع، فلا يحقّ له، وعلى المأخوذ منه إعادة الإنفاق؛ لأنها عندهم حقّاً للمستحقين من الفقراء والمساكين، وليس حقّاً قربياً خالصاً.

وعند الشيعة الإمامية أجد خلافاً في ما أخذه السلطان الجائر. فالرواية عن الصادق×، بسند زيد الشحّام قال: قلتُ لأبي عبد الله×: جعلت فداك، إن هؤلاء المصدقين يأتوننا، فيأخذون منا الصدقة، فنعطيهم إياها، أتجزي عنا؟ فقال×: لا، إنما هؤلاء غصبوكم وظلموكم، وإنّما الصدقة لأهلها.

وهذا يخالف فهم الشيخ الطوسي، الذي يرى أن الرواية تقرِّر استحباباً إعادة أداء الزكاة.

وفي ظنّي أنّ ما ورد من أقوالهم^ في أنّه مَنْ أخذ منه السلطان الخراج لا زكاة عليه تحمل على الأرض الخراجية، وليس العشرية([35]).

المبحث السادس: فريضة الجهاد وشرعية السلطة

يتّسع مصطلح الجهاد في القرآن الكريم ليشمل، إلى جانب جهود الدفاع عن مصالح المسلمين ونشر الإسلام، كلَّ جهدٍ بنّاء على مستوى إصلاح الذات، وتزكية النفس، وتهذيب المجتمع، وبناء الدولة، وإعلاء شأن الممارسة الإنسانية. ويقترن التوسُّع في المعنى مع المصطلح القرآني الذي يورد الجهاد من مستوى النفس إلى بناء التجربة الإسلامية الكونية.

أما مصطلح القتال فقد ورد في القرآن في الغالب دفاعاً عن حرّية الاعتقاد، وعن حقوق ومصالح المسلمين. لذلك يرد الجهاد في القرآن بما هو أعمّ من القتال، ويرد مصطلح القتال في القرآن حَصْراً في مجالات النزاع المسلَّح، مثل: قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 9)، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ (البقرة: 216)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ (الأنفال: 8).

ولكنّ الذي يتبادر عند انطلاق المصطلح للتراكم الذهني المتولِّد عن استعمال المدونات التراثية أنّ كلمة الجهاد تعني فقط النزاعات المسلَّحة.

وهذا التبادر في ظني ليس صحيحاً، بل خطراً على العقل الإسلامي.

ولعلّه في فرصةٍ أخرى نتوسَّع في ذلك.

وأيّاً كان فسؤالنا عن موقف الفقهاء من المشاركة بالقتال مع السلطان الجائر؟

المطلب الأول: فريضة الجهاد وشرعية السلطة في فقه الإمامية

يرى الإمامية أنّه يجب الجهاد مع الإمام المعصوم جهاداً ابتدائياً، أو جهاداً دفاعياً، فكلاهما سواء في الوجوب والمبادرة. وإن الجهاد مع المعصوم كالجهاد مع النبيّ‘، يجب على كلّ قادرٍ عليه. وهذا في عصر الحضور.

أما في عصر الغيبة فالجهاد مع الفقيه العادل ـ في زمن الغيبة ـ لا يجب إلاّ إذا داهم المسلمين خطرٌ كبير، فيجب الجهاد؛ لدفع الأذى، ولا يجب للدعوة إلى الإسلام. فلا يجوز القتال الدفاعي، إلاّ بأمره، ولا يسوغ لهم دونه، شرط أن يدعوهم إلى القتال وللدفاع عن الإسلام.

لذلك فشروطه أنه يصحّ إمّا مع وجود سلطان عادل، أي الإمام المعصوم، أو مَنْ ينوب عنه في الجهاد الدفاعي. فإذا اختلّ شرط سقط الفرض، سوى ما كان على وجه دفع العدوّ([36]).

أمّا الجهاد مع أئمّة الجَوْر، أو بدون إمامٍ، فهو خطأٌ يستحق فاعله الإثم؛ فإنْ أصاب لم يُؤجَر، وإنْ أصيب كان مأثوماً، إلاّ اذا دهم المسلمين عدوٌّ يُخاف منه على بيضة الإسلام، فعند ذاك تجب مقاومته؛ دفاعاً عن النفس، على أن ينوي المجاهد الدفاع عن نفسه، ولا ينوي الجهاد مع الإمام الجائر، ولا مجاهدة الأعداء ليدخلوا في الإسلام([37]). وفي هذه الحالة، أي حالة أن يدهم المسلمين عدوٌّ، يتحوّل الجهاد إلى فرض عين على القادر عليه([38]).

ولا ينوب حتّى الفقيه العادل مناب الإمام في الدعوة إلى جهاد ابتدائي. فنائب الإمام العامّ لا يجوز له تولّي أمر الجهاد حال الغيبة([39])، إلاّ إذا كان من قبيل: الدفاع عن بيضة الإسلام.

وعموماً لا يجوز الجهاد بغير إمامٍ، ولا يجوز مع أئمّة الجَوْر([40]).

ويُلاحَظ في فقه الإمامية أن سهم «في سبيل الله» من مصارف الزكاة يصرف ـ كما قال أكثر الفقهاء ـ على الجهاد، ولا سيَّما إذا كان الإمام موجوداً. أما مع غيبة الإمام فيسقط نصيب الجهاد من (سهم سبيل الله)، ويصرف في المصالح العامة([41])، كبناء الجسور والمدارس والمؤسّسات الخيرية العامة.

المطلب الثاني: فريضة الجهاد وشرعية السلطة عند المذاهب الأخرى

فقد ورد في فتح الباري، لابن رجب، أن أبا داوود أخرج حديث مكحول، عن أبي هريرة، عن النبي‘، قال: «الجهاد واجب عليكم مع كلّ أمير، برّاً كان أو فاجراً».

وقد علّق الدارسون على هذا الحديث، فقالوا: حديثٌ منقطع([42])؛ فمكحول لم يسمع من أبي هريرة.

وروى ابو داوود في سننه حديث أنس: (الجهاد ماضٍ، لا يبطله جَوْر جائر)([43]).

ويتبنّى ابن تيمية جواز القتال مع أئمّة الجَوْر.

ويضع عبد الله بن المبارك معياراً لاعتقاد أهل السنّة أنهم يرَوْن أنّ الجهاد مع كلّ خليفة، عادلاً كان أم جائراً([44]).

وبذلك يظهر أن موقف الفقهاء من المذاهب الأربعة لا يفرق في الالتحاق بالمواجهات المسلّحة بين السلطات الشرعية المحدّدة بالدستور والمراقبة من مجالس الشورى والنوّاب وبين السلطات المتفرِّدة.

أما موقف الإمامية فيضع لهذه المشاركة عدّة ضوابط:

1ـ وجود (حاكم) فقيه وعادل.

2ـ وجود عدوّ يداهم بلاد المسلمين.

3ـ أن يدعو الحاكم العادل للدفاع.

المبحث السابع: الثورة على السلطان الجائر

المجمع عليه في الفقه الإسلامي أن السلطان العادل تجب طاعته، ويثاب المسلم على نصحه وتقويمه ومعاونته وتسهيل مهمته، ويعدّ الخروج والتمرُّد عليه بَغْياً على الشرعية، تنطبق عليه أحكام البغاة على السلطان العادل. ورغم أن عصر الإمام عليّ× شهد ممارسات من التمرُّد على السلطة الشرعية، إلاّ أن التجربة السياسية الإسلامية أفرزت عدّة متغيّرات في نوع الممارسة، والحكم على البغاة، وأغفلت التجربة ضرورة أن يكون التمرُّد على السلطان العادل بَغْياً.

فتجربة الحكم والسلطنة لم تعتمد في أصل السلطة النصّ الإلهي، كما يذهب الإمامية في نصّ الغدير، واختارت مراكز القوى في فترة ما بعد رسول الله‘، والتي اعتبرت صورةً من صور (الشورى)، مع أن المسلمين جميعاً لم يكن لهم رأيٌ، إنما كان الرأي هو رأي مراكز القوى: «أمراء الأنصار، أمراء المهاجرين، وآل البيت».

بعد ذلك تعدّدت أشكال اختيار رئيس الدولة، من الاختيار (المباشر) من «أعيان المدينة المنورة» أو عاصمة الخلافة، إلى نظام العهد من الخليفة السابق إلى اللاحق، وقد يتعدّد العهد، ثمّ طريقة حصرها في مجموعة مرشّحين يختارون من بينهم الخليفة، وقد ظهرت الصيغة الشعبية العامّة التي اختارت عليّاً× والحسن× بعد ذلك اختياراً حُرّاً عفوياً عامّاً، شمل الأعيان وعموم الناس.

وفي العصر الأموي أُقيمت السلطة على أساس القوّة والقمع السلطوي، وتحوّلت التجربة الإسلامية الأولى (عصر الخلفاء) إلى ملكية وراثية ثيوقراطية. واستمرّت على هذا الشكل حتّى سقوط الخلافة العثمانية 1924هـ، بعد ثلاثة عشر قرناً من استمرار السلطة خارج الاختيار العام، وخارج التنظير والتقعيد الفقهي للسلطة.

ولقد حصلت مجموعة ثورات على السلاطين؛ أوّلها: الثورة المسلَّحة على عثمان ابن عفان؛ ثم حصلت حركات تمرُّد، منها: «جماعة الجمل»؛ ثمّ الخوارج؛ ثم توالت حركات العلويين المتلاحقة ضدّ السلطات في عصور الخلافة الإسلامية المتعاقبة، أغلبها تنشد الشرعيّة وإقامة العدل والشورى.

ومن مجموع الممارسات هذه أنضج الفقه الإسلامي باعتباره السجل التشريعي للواقعات والحوادث، بحيث ينتج مجموعة من القواعد والأحكام التي تنظم العلاقة بين السلطة والفرد. ونقطة البدء في المسألة هي مدى القبول بالواقع السياسي القائم فعلاً. وفي هذه القضية اتجاهان:

أـ إن ما أفرزه الواقع التاريخي فعلاً أن الواجب أن تُطاع، ويحرم الخروج عليها. وهو مذهب أكثر أهل السنّة الأشاعرة، وثلاثة من المذاهب الفقهية (المالكية والشافعية والحنابلة).

ب ـ إن مجرّد وجود السلطة لا يكفي موجباً لطاعة الأمّة، إنّما لا بُدَّ أن تكون السلطة عادلة وشرعية. فاذا خرجت عن الدين أو جارت جاز الخروج على سلاطين الجَوْر مع القدرة على التغيير. وهو مذهب الإمامية والزيدية، وهو قول قدماء الخوارج ممّا يسمّى في المدوَّنات الفقهية بأحكام الخروج على السلطان.

وعلى اتّجاه القبول «بالسلطان» مطلقاً يقرِّر الماوردي أنه إذا بغَتْ طائفة من المسلمين، وخالفوا رأي الجماعة؛ لأن السلطان في فقه المذاهب الأربعة يُعَدّ تلقائياً ممثِّلاً للجماعة، وانفردوا بمذهبٍ ابتدعوه، فإنْ لم يخرجوا به عن إعلان عدم الطاعة للإمام، ولم يتحيَّزوا بدار يعتزلون فيها، وكانوا أفراداً متفرِّقين تنالهم القدرة، وتمتدّ إليهم اليد، تُركوا ولم يحاربوا، وأُجريت عليهم أحكام العدل في ما يجب لهم وعليهم من الحقوق والحدود([45]).

وهنا يتقرّر دستورياً أنه تجوز مخالفة آراء الحاكم في المنطقة التي يجوز الخلاف فيها. والممنوع هو إعلان العصيان. كذلك الممنوع عدم التجمُّع في مكان خاصّ بهم جماعة، ثم يحاربون الحاكم وقواته.

لقد وضع الإمام عليّ× اللوائح الدستورية للتعامل مع المعارضة، وقال عليٌّ× للخوارج، حين أعلنوا عصيانهم عليه: «لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدأكم بقتالٍ، ولا نمنعكم الفَيْء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتالٍ»([46]). وفي النصّ ضمان الحقوق الثلاثة: حقّ التمتُّع بالمؤسسات الوطنية، وحقّ التمتُّع بالثروة الوطنية، وعدم محاربتهم. فإنْ تظاهروا باعتقادهم، وهم على اختلاط بأهل العدل، أوضح لهم الإمام فساد ما اعتقدوه، وبطلان ما ابتدعوه؛ ليرجعوا عنه إلى اعتقاد الحقّ، وموافقة الجماعة (فالمعالجة الأولى هي الحوار العقلاني، ومقارعة الحجّة بالحجّة والبرهان).

ويجوز للإمام أن يعزِّر مَنْ تظاهر منهم بالفساد، وزجر مَنْ لم يتجاوز إلى قتلٍ أو ارتكاب ما يوجب الحدّ.

أما لو اعتزلت الفئة، وتحيّزت بدار، وتميّزت فيها عن مخالطة الجماعة، فإنْ لم تتمنَّع عن أداء حقّ، ولم تخرج عن طاعة، لم يُحارَبوا ما أقاموا على الطاعة وتأدية الحقوق للسلطان.

فلو امتنعت هذه الطائفة من طاعة الإمام، ومنعوا ما عليهم من الحقوق، وتفرّدوا باجتباء الأموال وتنفيذ الأحكام، فهم على صورتين:

أـ فإنْ لم ينصِّبوا عليهم إماماً، ولم يقدِّموا زعيماً، فكل الأموال التي اجتبوها غصبٌ، لا تبرأ منهم ذمّة، وكلّ الأموال مردودةٌ، لا يثبت بها ملكٌ لأحد.

ب ـ فإنْ نصّبوا لهم إماماً، واجتبوا بقوله الأموال، ونفّذوا بأمره الأحكام، حوربوا؛ ليتركوا المباينة، ويفيئوا إلى الطاعة، ويخضعوا لسلطة وليّ الأمر.

وقد وضع الفقهاء لقتالهم مجموعة من المبادئ والضوابط، وأهمّها:

1ـ إنّ غاية القتال ردعهم، وليس قتلهم وإبادتهم، كما هو الحال مع المشركين. وكأنّ الفقهاء يسوِّغون القتل والإبادة للمشركين إذا ما أصرّوا على شركهم وتهديدهم.

2ـ أن يُقاتَلوا ما داموا مصرّين على المواجهة، فلا يقاتلوا مدبرين، علماً أن الفقهاء يجيزون أن يقاتل المشركون مدبرين ومقبلين.

3ـ لا يجهز على جرحاهم، ولا يقتل أسراهم. فمَنْ تيقَّنّا عدم رجوعه إلى معاودة القتال أطلق سراحه، ومَنْ لم تؤمن توبته حبس حتّى انتهاء الحرب، ولا يحبس بعدها؛ إذ يطلق سراحه طالما لا يستطيع أن يفعل فعلاً مضادّاً للوضع السياسي.

4ـ لا تغنم أموالهم، ولا تُسبى نساؤهم، بعكس قتال المشركين.

5ـ لا يُستعان على قتالهم بمشركٍ، ولا معاهد، ولا ذمّي. ويجوز الاستعانة بهؤلاء في قتال المشركين.

6ـ لا تجوز مهادنتهم، ولا موادعتهم، في حين تجوز موادعة المشركين.

7ـ لا تصادر أموالهم الخاصّة، ولكنْ لا يتمتّعون مع القتال بشيءٍ من الفَيْء والصدقات والثروات الوطنية.

8ـ لا يقاتلون بالأسلحة التي تنشر الدمار لهم ولغيرهم.

9ـ لا يجوز استخدام «معدّاتهم» في قتالهم([47])، إلاّ عند أبي حنيفة.

10ـ إذا انجلت الحرب ولهم أموال عند الناس رُدَّت إليهم، وما تلف منها في غير قتال فهو مضمونٌ على متلفه، وما تلف منه في الحرب فهو هدرٌ.

11ـ ما أتلفه الخارجون على السلطان فهم ضامنون له حتّى في غير القتال، أما ما أتلفوه بالقتال ففيه قولان: الأوّل: لايضمنونه؛ والثاني: هم ضامنون؛ لأن المعصية لا تبطل حقاً، ولا تسقط غرماً، أي عليهم ضمان الديات والمتلفات([48]).

هذه هي الضوابط والقواعد العامة في معالجة (التمرُّد).

وينقل ابن حجر أن أحمد يرى كراهة أن يحدّث العامّة بالأحاديث التي ظاهرها جواز الخروج على السلطان، ويأمر بأن يتكتّم عليه؛ لأن ذلك يقوّي البِدْعة([49])، ويحرّك الناس للتمرُّد.

وينصّ الفرّاء، في الأحكام السلطانية، على أن مَنْ غلب المسلمين بالسيف حتّى صار خليفةً، وسُمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً([50]).

وينقل ابن حجر إجماع فقهاء المذاهب الثلاثة على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء. وحجّتهم النصوص المتقدمة([51]).

وينقل شارح سنن ابن داوود أنه ما من ذنب أجدر لصاحبه العقوبة مع ما يدّخر له مثل البَغْي([52]).

وعن المالكية ما ينقله الزرقاني في شرح الموطأ أن الحالة الطبيعية أن يكون الإمام عادلاً، والناس مطيعة له. فإنّه إنْ لم يكنْ فالصبر على طاعة السلطان الجائر أَوْلى من الخروج عليه؛ لما فيه من استبدال الخوف بالأمن([53]).

وقد استدلوا بالنصوص الحاكمة التالية:

1ـ روى البخاري: مَنْ رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر؛ فإنه مَنْ فارق الجماعة شبراً فمات فميتتُه جاهلية([54]). ومَنْ خلع يداً من طاعةٍ لقي الله ولا حجّة له (قال ابن بطّال: الحديث حجّةٌ في ترك الخروج).

2ـ روى مسلم، عن حذيفة، أنّ رسول الله‘ قال، في حقّ الولاة، حتّى الجائرين منهم: «تسمع وتطيع، وإنْ ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمَعْ وأطِعْ»([55]).

3ـ وفي صحيح مسلم: مَنْ أتاكم وأمركم جميع على رجلٍ واحد يريد أن يشقّ عصاكم فاقتلوه([56]).

وقال الشوكاني، في نيل الأوطار: هذه الأحاديث مخصّصة لعمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب مقاومة الظلم، المتواترة لفظاً ومعنىً([57]). ويريد هنا بالتخصيص «إخراج بعض الحالات من حكم العموم؛ للعناوين الثانوية، أي ما يتسبَّب عن الثورة على السلطان الجائر من فوضىً. ثم يقول: ولا ينبغي لمسلمٍ أن يحطّ على مَنْ خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم على أئمّة الجور فإنّهم فعلوا ذلك باجتهادٍ منهم، وهم أتقى لله، وأطوع لسنّة رسول الله، ممَّنْ جاء بعدهم من أهل العلم.

وينتقد الشوكاني مَنْ يرى أنّ الحسين× باغٍ، فيقول: «هل يجوز أن نراه باغياً على الخمِّير السكّير الهاتك لحرم الشريعة المطهَّرة يزيد بن معاوية لعنهم الله»([58]).

ممّا تقدَّم يتّضح:

1ـ أن المعارضة في التصوُّر الاسلامي يلزم أن لا تكون مبدئياً معارضة مسلحة، بل لا بُدَّ من استخدام الوسائل المدنية المتحضِّرة، مثل: استخدام الصحافة، والإعلام، ومجلس النواب، ومنظمات المجتمع المدني، والتظاهر، والمطالبة بالإصلاحات، ثمّ الإضراب…، إلى آخر الوسائل السلمية.

2ـ أن التظاهر العنيف يعَدّ ممارسة غير سليمة لغرض الاحتجاج على السلطة، طالما أن هناك إمكانية للتحاور والتفاوض لبناء وضع جيد.

3ـ إذا كانت المعارضة مسلّحة تسلُّحاً غير كافٍ فإنّها تسحق من السلطة. أما إذا تحققت المنعة، وتكافأ الطرفان، فالطريق السليم هو التفاوض، بدلاً من المواجهة المتكافئة، التي ستخرب البنى الارتكازية، وتسبِّب المزيد من الخسائر البشرية.

فشرط تغيير المنكر أن لا يؤدّي إلى منكرٍ أشدّ. وهذا بلا شَكٍّ منكرٌ أشدّ…

لكنْ إذا استعصى الأمر، وتمسَّكت السلطة الجائرة بجَوْرها، وتعسَّفت في ظلمها، فإنّ المواجهة معها أيضاً يلزم أن تتدرج، مع مراعاة الكلفة.

جاء في فتح الباري لابن حجر:

1ـ إذا قدر الناس على خلع أمراء الجَوْر بغير فتنة، ولا ظلم، وجب عليهم ذلك، وإلاّ فالواجب الصبر. وهنا تظهر الواقعية.

2ـ لا يجوز عقد الولاية لفاسقٍ ابتداءً، فإنْ أحدث جَوْراً فقد اختلف الفقهاء في الخروج عليه على أقوال؛ الصحيح منها المنع، إلاّ إذا وقع في كفرٍ صريح. وهنا نشهد مرّةً أخرى أن الجانب العقائدي مقدَّم على الجانب الإنساني في إقامة العدل.

ولقد سُئل مالك عن قومٍ أرادوا الخروج على سلطانهم؛ لجوره، هل يحلّ لهم ذلك؟ فأجاب: إنْ كانوا اثنا عشر ألفاً، وكلمتهم واحدة، وسعهم ذلك، وإنْ كانوا أقلّ لا يسعهم ذلك؛ لأنّهم بهذا العدد سوف لا يكون خروجهم سعياً لإهلاك أنفسهم، فيسعهم ذلك، لكنّهم إنْ كانوا أقلّ لم يتيقَّن أحدٌ بغلبتهم، فلو خرجوا ولم يغلبوا يقصدهم السلطان الجائر بالأذى، فكأنهم ساعون في إهلاك أنفسهم، فلا يسعهم ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.

وبهذا يتّضح موقف الحنابلة والشافعية والمالكية من مسألة الخروج على السلطان. أما الحنفية فإن رأي الإمام أبي حنيفة واضحٌ في نصرة الإمام زيد ومحمد ذي النفس الزكية، إلاّ أن المتأخِّرين من أتباعه أذعنوا لما يريده الواقع السياسي. قال في الدرّ المختار: إن الإمام يصير إماماً إمّا بالمبايعة؛ أو بنفاذ حكمه على رعيته، خوفاً منه([59]). ولما صار إماماً وجبت طاعته.

وبهذا يتناقض مع تعريف جريمة البغي، التي يقول: إنها (خروجٌ عن الإمام الحق بغير الحق).

ويقسم الخارجين إلى قسمين:

أـ بغاة سلطة، بلا تأويل سياسي أو عقائدي.

ب ـ خوارج، لهم تأويلٌ وإنْ كان باطلاً([60]).

إن ما يلفت النظر في موقف المتأخِّرين من الحنفية تجاهلهم للنصوص التي تثبت موقف أبي حنيفة. فقد ذكر الخطيب البغدادي أنه أحلّ الخروج على الأئمّة. وذكر ما ينكر الأوزاعي على عبد الله بن المبارك أنه يذكر رجلاً يرى السيف في أمّة محمد، أي يرى جواز الخروج بالسيف على سلطان الجَوْر([61]). وما يرويه البغدادي من أن رجلاً قتل أخوه مع إبراهيم، فسأل أبا حنيفة عمّا أفتاه به، فأجابه: إنه أفتاه بالخروج مع إبراهيم.

وتذكر كتب التاريخ أن هشام بن عبد الملك لمّا عرف أن أبا حنيفة ساند زيداً استدعاه لتولّي القضاء أو بيت المال، وحين رفض ضُرب بالسياط. كذلك لا تخفى مساندته لثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن في عهد المنصور العباسي. لذلك يروي الإمام زفر بن الهذيل أن المنصور استقدمه، واستضافه خمسة عشر يوماً، وسقاه السمّ فمات. ولما شيّعت جنازته أصرّ المنصور بنفسه أن يتقدّم المشيِّعين([62])؛ إبعاداً لتهمة الاغتيال السياسي.

ومثلما رفض أبو حنيفة تولّي القضاء رفضه سفيان والليث. ومن الطريف الذكر أن شخصاً استُدعي لتولّي القضاء، ففرّ من هذا العرض، وألقى بنفسه في الفرات؛ هَرَباً، فأسرع الجنود لانتشاله. فلمّا انتشلوه صلبوه؛ جزاءً لامتناعه([63]). لذلك آثر متأخِّرو الحنفية القول أن الأمر قد اختلط في زمانهم، فالحكم في ذلك الزمان للغلبة؛ لأنه لا يُدرى مَنْ هي الفئة العادلة ومَنْ هي الفئة الباغية، فكلهم يطلبون الدنيا([64]). لكنْ لصلة أبي حنيفة بواصل بن عطاء وبفكر المعتزلة؛ ولأن الأصل الخامس عندهم الأمر بالمعروف، ومنه: الخروج على السلطان إذا فعل الكبير أو وصف بالفسق، خلافاً لمجموع أهل السنّة([65])، فقد قال بجواز الخروج على سلاطين الجَوْر، خلافاً للذين اعتبروا ذلك منه من بِدَع الاعتقاد([66]).

إن التبرير الذي تقدّمه نظرية أهل السنّة، الذين يجمعون على عدم جواز الخروج على السلطان الجائر، والسبب الذي اعتبروه ممنوعاً شرعاً، إلاّ إذا بدر منه كفرٌ صريح، هو ادّعاؤهم أن الخروج على السلطان يفضي إلى الفتنة، بعكس الخوارج، الذين يرَوْن أنّ مرتكب الكبيرة كافرٌ، والخروج على الكافر واجبٌ تحت كل الظروف والأحوال، ولم يراعُوا في ذلك مقتضى الظروف، ولا ما يترتَّب على الخروج.

أما المعتزلة فمنهم مَنْ أوجب الخروج مع مراعاة الظروف، وتحقيق مقدمات نجاح الثورات من جهتي الإمكان والقدرة وقيادة الإمام العادل، ولم يقيِّدوا الخروج بظهور كفرهم، بل يكفي الفسق والجور، ما عدا الجاحظ، الذي قدَّم لائحة ممتازة للسلطة العباسية في أن الخروج على السلطة القوية أمرٌ غير ممكن عملياً، وأن نتيجته الإخفاق، فلذلك لا بُدَّ من القبول والتسليم.

ولقد انتبه محمد رشيد رضا إلى أن هذا الأنموذج من القبول بالسلطان الجائر سيق تحت مبرّر الاضطرار، فقال: إنّ الاعتراف بسلطة التغلُّب وضع لحالة الضرورة، وليس محلّ الأصل، ولا يجوز أن نوطِّن أنفسنا على اعتماد هذه الحالة على الدوام؛ لأن الضرورة تقدَّر بقدرها.

وقد سبقه الغزالي؛ إذ ندّد بفقهاء السلاطين، الذين نقلوا مفهوم الضرورة الطبيعية إلى الوضع السياسي، وقاسوا إكراه السلطان للأمّة على إكراه السلطان للفرد، وبرَّروا ذلك بقاعدة ضرورة تحمُّل أخفّ الضررين.

الثورة على السلطان الجائر في فقه الإمامية

يختلف فقه الإمامية عن غيرهم من فقهاء المذاهب الفقهية (الشافعية والمالكية)، الذين يرَوْن أنّ البغاة على السلطان العادل مخطئون، ولكنهم من أهل الاجتهاد، ومن جهةٍ أخرى لا يجيزون الخروج على السلطان الجائر. واستدلوا لذلك الفقه بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ﴾.

وهذا لا يوافق أصول الإمامية؛ باعتبار أن الإمامة عند الشيعة من الأصول، وهي عند غيرهم من الفروع. فالتضادّ مع الأصول كفر، والتضادّ مع الفروع فسق([67]).

ويفسِّر الإمامية قوله تعالى: ﴿طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ باعتبار ما كانوا عليه؛ أو بناءً على الظاهر. وقد ورد في سورة الأنفال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾، وهو نصٌّ يثبت أن في المنافقين مَنْ يجادل الرسول‘ بالحقّ، وهم كفّارٌ في الحقيقة، وسمّاهم النصّ مؤمنين بلحاظ الظاهر.

لذلك يجب على الإمام العادل× قتالهم إلى غاية منصوصة (حتّى يفيئوا)، فإذا أفاؤوا لا يجوز الرجوع بعد الصلح عليهم بنفسٍ أو مال. والجميع على جواز قتال كلّ مَنْ منع حقّاً طولب به فلم يفعل؛ لأنها العلة التي جوّزت قتال البغاة، إلاّ أن صاحب الجواهر قال: «العلة هذه مستنبطة، ليست حجّةً عندنا»([68]).

والأحكام:

1ـ يجب قتال مَنْ خرج على الإمام العادل×، واعتباره كافراً، بخلاف قول المذاهب الأخرى.

2ـ لا بُدَّ أن يندب الإمام الناس للقتال أو عن طريق مَنْ نصبه لمواجهة أيّ تمرُّد على السلطة الشرعية.

3ـ القتال واجبٌ كفايةً، ما لم يستنهض الإمام أفراداً بعينهم. ولو أمرهم على العموم الاستغراقي وجب امتثال أمره نفيراً عاماً.

لو استعانوا بالمصاحف والدعوة إلى حكم الكتاب لم يلتفت إلى قولهم؛ استفادةً من صِفّين.

فإذا كان لهم فئةٌ يرجعون إليهم في انسحابهم يجوز الإجهاز على جرحاهم، واتّباع مدبرهم، وقتل أسراهم؛ فقد ورد عن جعفر الصادق×، عن أبيه×، قال: ذكرت الحرورية عند عليٍّ× فقال: إنْ خرجوا على إمامٍ عادل، أو على جماعةٍ، فقاتِلوهم؛ وإنْ خرجوا على إمامٍ جائر فلا تقاتِلوهم؛ فإن لهم في ذلك مقالاً.

وقال عليٌّ×: لا تقتلوا الخوارج بعدي؛ فليس مَنْ طلب الحقَّ فأخطأه كمَنْ طلب الباطل فأدركه.

يقول الشيخ الطوسي، في المبسوط: إذا انتهت الحرب ـ على أيّ صورةٍ ـ فكلّ مَنْ وجد ماله عند غيره كان أحقّ به، سواء من أهل العدل أو من أهل البغي. أما أموال معسكراتهم فإنْ رجعوا إلى طاعة الإمام فهي لهم؛ وإلاّ فللإمام. أما في الخلاف فقال: تغنم. ورجَّحه العلاّمة الحلّي([69]).

الخاتمة

1ـ ظهر من خلال البحث أن طبيعة العالم القديم والوسيط من الناحية السياسية هي طبيعة استبدادية. فلم تكن تعرف في ذلك العالم تجارب عالية في المشاركة بالقرار أو دستورية التجارب. لذلك ليس من السهل أن يتجاوز وعي المنتمين للرسالة الجديدة ظروفهم الزمنية والواقعية.

غير أن التأكيد القرآني على مسألة الشورى وأمره تعالى النبيّ‘ ﴿وَشَاوِرْهُمْ…﴾، وامتداح مَنْ كان أمرهم شورى بينهم، كان يمكن أن تلحقه جهودٌ تفسيرية وإجرائية؛ ليتحوَّل مفهوم الشورى إلى نظرية صالحة للحكم.

ولقرب عهد «فترة الراشدين» من عصر نزول القرآن، ومن سيرة النبيّ‘، كانت هذه الفترة أقلّ الفترات ثقلاً وضاغطية على تدنّي شروط الحكم الصالح.

فهذه وإنْ لم تعتمد طريقي المشروعية (التنصيب بالنصّ، أو التنصيب بإرادة الأمّة مجتمعة)، سوى في ولاية عليٍّ×، التي جاءت بعد ظروف مضطربة، إلاّ أن بقية السلوك السياسي لهذه الفترة كان إلى حدٍّ كبير يخلو من عمليّة الاستلاب والمصادرة.

لكنّ الذي حلّ بالتجربة السياسية بعد عصر الراشدين كان عودةً لسلطة الأسرة الحاكمة وراثياً، بلا مشاركة لا في اختيار الحاكم، ولا في طريقته في إدارة الشأن العامّ، مما أوجد «موضوعاً» للجدل في الوسط الكلامي، في هل مرتكب الكبيرة مؤمن أم كافر؟ الذي أريد به الاستناد إلى مقولة شرعية للثورة على الأمويين، ودخول موضوع الأمر بالمعروف والنهي كأصلٍ من أصول المعتزلة، وظهور وجوب الخروج على السلطان غير المرتضى في فكر الخوارج، والتصرُّف على قواعد التعامل مع الأوضاع غير الشرعية في فقه الشيعة الإمامية.

وظهر جدالٌ آخر في الوسط الفقهي يحدِّد نوع التعامل مع السلطة، ظهر في أكثر من موضعٍ، مرّ عليها البحث مروراً سريعاً.

2ـ ارتبطت أسماء الحاكمين بموضوع شرعية اكتساب السلطة، وشرعية إدارة الشأن العام. فكان لفظ (الإمام) (والخليفة) وأمير المؤمنين والسلطان كلّ يكتنفه معنى من المعاني، أو يكثر فيه معنى إلى جانب المعاني المعتادة.

3ـ إن الفكر السياسي الإسلامي الشيعي قد وضع «أنموذجاً» للحاكم الشرعي العادل هو الإمام المعصوم، الذي هو الشخص الأكمل، والمربّي الأفضل، والذي لا تصدر عنه شائنة أبداً.

وهذا الأنموذج القياسي أو المعياري يجعل حركة بناء التجربة السياسية مستمرة نحو الأفضل بصورةٍ دائمة، بينما لا نجد هذا التنظير في الفكر السياسي السنّي؛ إذ اعتمد على معطيات تجربة الراشدين، وعاملها على أنها السقف الأعلى، ثم وضع معايير «أيديولوجية ـ سياسية».

4ـ لقد وجد أئمّة الفقه أن هناك فاصلة بين قواعد الفقه السياسي النظري وبين التجربة العملية، فواجهوها بأسلوبين: الأوّل: مساندة حركات التصحيح، واستنباط الأحكام التي تحول دون طاعة الناس المطلقة للحاكمين؛ ولكنّ هيمنة السلطات على الفقهاء وأتباعهم، ومحاولات الترهيب، والهبات ووسائل الاستمالة، حوَّل هذا الموقف إلى موقفٍ آخر في نطاق الفقه السياسي السنّي، إلى فقهٍ مساند للسلطة ـ كيفما كانت ـ؛ بحجّة أن انهيارها يؤدّي إلى الهرج والفوضى. والصحيح أن وراء ذلك عوامل أيديولوجية، يعبِّر عن ذلك صراحة موقف الطحاوي المذكور.

5ـ لقد أدّى الترويض السياسي للنخبة الفقهية إلى أنهم لم يشدّدوا على خصائص ومميّزات العبادات ذات الطبيعة المجتمعية، بما تحمل من تأسيسات للوعي، وتحديد الموقف، وحشد المناصرين، والوقوع في تضليل الحكّام، فاعتبروا صلاة الجمعة مثل الظهر. وممّا يُستغرب له عدم اتّساق حيثيّات الاستنباط، بحيث يشعرك هذا الاضطراب بالضغط الشديد الذي مورس عليهم من جهةٍ، والخوف من الآخر المذهبي، الذي وضع نفسه بديلاً سياسياً لوضعٍ سياسي أكثر قبولاً لدى فقهاء الجماعة.

6ـ لاحظ الباحث أن الفقهاء وقعوا في منطقةٍ وسطى بين رغبتهم في عدم معاونة السلطان الجائر، بالامتناع عن تولّي وظائفه، وبين الحَرَج الشديد؛ لأن الناس تريد أن توجد لنفسها مسلكاً للعيش، ففرَّقوا تفريقاً يركِّز على مضمون العمل المحرَّم مع السلطان، وكان هذا أروع اكتشاف لمنطقةٍ بين الجائز والممنوع.

7ـ لاحظ الباحث أنه رغم تابعيّة القضاء، تنصيباً وعزلاً، لوليّ الأمر (الحاكم)، فإنّ تصرُّف القاضي في الغالب لم يكن تصرُّفاً يداهن السلطة. لذلك فإن في تراثنا الفكري صورةً مشرقة للقضاء النزيه والمستقلّ.

8ـ إن هبات السلاطين وجوائزهم، التي يمنحونها للناس، سواء لعملٍ قدّموه أو هبة ابتداءً، أحكامٌ يُلاحَظ فيها أغراض الهبة، ونوع المال الذي منه الهبة، ومدى صلاحية الواهب.

لكنّ الذي ظهر للباحث من خلال البحث أن الفقهاء تساهلوا في مدى القبول، فضيَّقوا «منطقة المحرَّم منه على مقدار القدر المتيقَّن»، ولا سيَّما ما عرفه الفقه عند المذاهب الأربعة من اتّساع كبير في قبول عطايا السلطان الجائر.

9ـ وجد الباحث أن فقه الشيعة الإمامية يربط بين أداء صلاة الجمعة وأداء الزكاة وبين مَنْ يستطيع أن يصنع إنساناً مكتملاً وعياً وإرادة وعاطفة وقيماً، ويستطيع أن يضع الزكاة في موضعها. لذلك أصرّوا على «الشرعية السياسية» كشرطٍ للإجزاء. بينما لم يلاحظ الفقه (في المذاهب الاربعة) ذلك؛ لأنه فقهٌ استند إلى «تأصيل الحاضر الفقهي» بالتجربة الفعلية لإدارة الدولة. وقد جعل هذا الفقه التجربة العملية وسلوك طبقة الصحابة والتابعين ـ كلّهم ـ دليلاً شرعياً ليس فقط في حالة فقدان النصّ، إنّما حتّى مع وجود نصّ يقبل التأويل، بل أحياناً يعتمد عليه حتّى مع معارضة صريحة من جهة النصّ.

10ـ اكتشف الباحث أن البناء الحضاري الأرقى كان هدفاً وغاية للعقيدة والتشريع والقيم القرآنية. وإن الآلية والإجرائية الأساسية لتحقيق هذا الهدف الشمولي الكوني هو «الجهاد»، أي بذل الجهد للرفعة والسمو في كلّ مجالاته السلمية والدفاعية.

إلاّ أن التجربة العملية حصرت التبادر منه بالقتال، الذي أفرد القرآن له مجموعة من الآيات الخاصّة به. ثمّ تدهور الفهم المدرسي لهذا المصطلح، حتّى صار يطلق على عمليات القتل الجماعي للناس، «بدوافع عقائدية خاصّة»، فسُمِّيت العمليات الإرهابية جهاداً. ومن المؤسِف أن يتحوَّل مفهومٌ إيجابي بنّاء إلى مفهومٍ سلبي مدمِّر وغير مسوغ، عقلاً وحضارة.

11ـ وجدنا أن الفقهاء على اتجاهين: أحدهما: يجيز الالتحاق بالحملات العسكرية «خلف الحكّام كيفما كانوا»؛ استناداً إلى فقه الفتوحات؛ وآخر: يشترط وجود «المدبِّر الحكيم»، الذي يصحّ الالتحاق بأفواجه؛ لأنه يدرك (لماذا؟ وماذا؟ وكيف؟).

12ـ وأخيراً كانت معضلة الفقهاء موضوعة الخروج على السلطان. فلم يتنازل فقهاء السلطة عن حقّ الناس في التغيير نحو الأفضل، بل تحوّلت هذه النزاعات إلى نزعات مدانة. واعتبر القبول بالجَوْر واحداً من علامات «الاتّباع»، مقابل «البِدَع». وانقسموا في ذلك إلى ثلاثة اتجاهات: الأوّل: قول قدماء الخوارج بأن مرتكب الكبيرة من السلاطين كافر، تجوز الثورة عليه وتغييره. اتّفق معهم إلى حدٍّ ما الزيدية؛ والثاني: القبول بالوضع الراهن على علاّته؛ حفاظاً على «الحالة المستصحبة أيديولوجياً ومذهبياً»؛ أما الاتجاه الثالث: فقد نظر إلى الاستعداد والقدرة ووضوح الهدف وتحقُّق القيادة الصالحة والحكيمة. وتفرّع من داخل الاتجاه الثالث فرعان: فرع يرى أنّ انتظار الخلاص الإلهي بظهور الإمام الثاني عشر، الذي يقيم مملكة الله العادلة؛ والآخر يرى أنّ مَنْ تكاملت عنده الشروط من الفقهاء، وكان مبسوط اليد، للناس أن يأتمروا بأمره في مجال الدفاع فقط.

الهوامش

(*) رئيس قسم الدراسات العليا في كلِّية الفقه، ومدير مركز الدراسات، في جامعة الكوفة. من العراق.

([1]) د. هاشم جميل، مسائل في الفقه المقارن 1: 120.

([2]) العلاّمة الحلي، المختلف 2: 250.

([3]) المصدر نفسه.

([4]) العلاّمة الحلي، المختلف 2: 252.

([5]) نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية 3: 326.

([6]) ابن رشد، بداية المجتهد 1: 154.

([7]) المصدر السابق 1: 111.

([8]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى.

([9]) الماوردي، الأحكام السلطانية.

([10]) عون المعبود في شرح سنن أبي داوود 2: 107.

([11]) ابن رجب، فتح الباري 5: 99.

([12]) التاج والإكليل.

([13]) ابن رجب، فتح الباري 5: 102.

([14]) معجم الطبراني الأوسط، فيه راوٍ ضعيف جدّاً هو عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة.

([15]) عون المعبود في شرح سنن أبي داوود 1: 474.

([16]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 15.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) المصدر السابق: 180.

([19]) المصدر نفسه.

([20]) المصدر السابق: 187.

([21]) إعانة الطالبين 2: 186.

([22]) جواهر الكلام 15: 240.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) الماوردي، الأحكام السلطانية.

([25]) ذخيرة المعاد 5: 207.

([26]) المصدر نفسه.

([27]) شرايع الإسلام 1: 335.

([28]) انظر: سنن البيهقي 4: 193؛ الطوسي، الخلاف 9: 149 (باب الزكاة، زاد المستقنع).

([29]) شرح زاد المستقنع 9: 149.

([30]) المدونة 2: 306.

([31]) المصدر السابق 2: 392.

([32]) المصدر السابق 2: 305.

([33]) حاشية ردّ المختار 2: 314.

([34]) المصدر السابق 2: 315.

([35]) وسائل الشيعة؛ الطوسي، المبسوط.

([36]) اللمعة الدمشقية 1: 12؛ سلاّر، المراسم في الفقه 1: 156.

([37]) الطوسي، النهاية في الفقه 1: 78.

([38]) الوسيلة في نيل الفضيلة 2: 72. انظر: العلاّمة الحلّي، المختلف 1: 324؛ المختصر النافع 1: 126.

([39]) الروضة البهية 2: 64.

([40]) ابن حمزة، الوسيلة 1: 174.

([41]) المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام.

([42]) ابن رجب، فتح الباري 5: 99.

([43]) طرح التثريب 8: 51.

([44]) بدع الاعتقاد 1: 6.

([45]) الماوردي، الأحكام السلطانية.

([46]) انظر: جواهر الكلام 21: 332؛ المستدرك على الوسائل، باب 24 من أبواب الجهاد، ح9.

([47]) المرتضى، المسائل الناصرية (الجوامع الفقهية): 261.

([48]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 100 ـ 102.

([49]) فتح الباري 1: 203.

([50]) الفراء، الأحكام السلطانية: 20.

([51]) ابن حجر، فتح الباري 1: 203.

([52]) عون المعبود في شرح سنن أبي داوود 10: 430.

([53]) شرح الموطّأ 2: 292.

([54]) ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري 2: 58.

([55]) صحيح مسلم.

([56]) المصدر نفسه.

([57]) نيل الأوطار 11: 409.

([58]) المصدر نفسه.

([59]) الدرّ المنثور 4: 448.

([60]) المصدر نفسه.

([61]) تاريخ بغداد 6: 121.

([62]) المعرفة والسلطة: 212، عن كتاب المحن.

([63]) المصدر نفسه.

([64]) حاشية رد المختار 4: 449.

([65]) إتحاف أهل الألباب 3: 138.

([66]) بدع الاعتقاد 1: 6.

([67]) المختلف 4: 460.

([68]) جواهر الكلام 21: 324

([69]) المختلف 4: 461

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً