أحدث المقالات

د. الشيخ حامد الإصفهاني(*)

ترجمة: السيد حسن علي الهاشمي

تمهيد ــــــ

هناك رؤيتان في ما يتعلق بدائرة أحكام الدين الاجتماعية، وهما: الرؤية الدينية الداخلية؛ والرؤية الدينية الخارجية. وفي الرؤية الدينية الداخلية لا مناص لنا من مواجهة آفات الرجوع إلى الحديث في دائرة المسائل الاجتماعية؛ إذ إن ما يقرب من 99% من السنة الشريفة ـ التي هي المصدر الثاني في التشريع ـ عبارة عن أحاديث الآحاد (غير متواترة)، وهذا يضطرّنا إلى إعادة النظر في النصوص. إن الروايات المتواترة ـ الأعمّ من القولية أو الفعلية ـ نادرة، وخاصّة في دائرة المسائل الاجتماعية؛ فإنْ استطعنا تشخيص الآفات وتحديد المخاطر الكامنة في الاستناد إلى الروايات المتعلّقة بالمسائل الاجتماعية، وتلمسنا الطريق إلى التعاطي معها بالشكل الصحيح، فإن المنحى الاستنباطي سوف يتغيّر أحياناً. وعليه فإنني ـ بعد تعداد الآفات ـ سأعمد إلى إيضاح الطرق المتعدّدة في مواجهتها. وفي نهاية المطاف سأدلي بالحصيلة النهائية لهذا البحث.

إن لحجية الرواية حيثيتين، وهما: الحيثية الثبوتية؛ والحيثية الإثباتية.

أما الحجية الثبوتية فهي رهنٌ بالاطمئنان بصدور الحديث عن المعصوم×، وتحصل هذه الطمأنينة من طرق مختلفة، كأنْ يكون الشخص قد سمع الرواية من المعصوم× بنفسه مباشرة.

وأما الحجية الإثباتية فتحصل من الطرق غير الحضورية.

والمقدور لنا هنا هو الحجية الإثباتية؛ لانسداد الطريق الثبوتية أمامنا. وعليه فإن بحثنا هذا ناظر إلى الحجّية الإثباتية فقط.

إن الاستناد إلى الأحاديث في دائرة الحقوق الاجتماعية يحتوي على مشاكل خاصّة، لا نواجهها في المسائل العبادية والأخلاقية. ففي ما يتعلق بالمسائل الاجتماعية هناك تشبّث من قبل العقلاء بمدركاتهم وتجاربهم الخاصة، وعليه لا يستطيع هؤلاء العقلاء التسليم لأيّ حكم يتعارض وهذه الإدراكات الخاصّة. وعليه فإن التسامح وغضّ الطرف الذي نشهده تجاه بعض الأحكام الفردية لا يمكن مشاهدته هنا؛ وذلك لارتباط ما نحن فيه بحقوق الناس. وبطبيعة الحال فإن المشاكل المتعلّقة بالاستناد إلى الحديث في الدائرة الاجتماعية لا تختص بهذه الدائرة، ولكن حيث إن التبعات الناجمة عن الاستناد إلى الحديث في هذه الدائرة ترتبط بأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم فإنها ستحظى بأهمّية خاصة.

وفي ما يلي سوف أشير إلى سبع مشاكل هامة، وهي مبثوثة في الكتب الأصولية والفقهية، وقد ذكرها العلماء واقترحوا حلولاً لكلّ واحدة منها.

فمثلاً: نجد أن العلماء من خلال تأسيس بعض الأصول العقلائية، من قبيل: أصل «عدم الزيادة» أو «عدم النقيصة» يعمدون إلى اعتماد رواية خاصة، ويصدرون الحكم بكلّ بساطة. بَيْد أن المرء حين يأخذ جميع هذه الآفات والمشاكل بنظر الاعتبار جملة واحدة يسعى إلى التفكير بطرق أساسية لحلّ هذه المشاكل. فهل يمكن من خلال أصل عملي واحد أو أصلين عمليّين تجاهل جميع هذه المشاكل، وإصدار أحكام بالإعدام ومصادرة الأموال وما إلى ذلك؛ لمجرّد الاستناد إلى روايات الآحاد التي هي عرضة لكلّ هذه الآفات والمشاكل؟ هل هناك أصلٌ يمكنه إلغاء جميع المشاكل التي تكتنف الاستناد إلى رواية واحدة؛ لكي نتمكّن من إصدار الأحكام المشدّدة والمغلّظة استناداً إلى تلك الرواية بنفسٍ مطمئنة؟ وهذا هو مكمن السرّ في تفريقنا بين دائرة الأمور الاجتماعية ودائرة الأمور العبادية، فإن المسألة في الأمور الاجتماعية تتّصل بدماء الناس وأرواحهم وأعراضهم، وإن الخطأ في دائرة الأمور العبادية؛ بسبب الاستناد إلى رواية واحدة، لا يؤدّي إلى نتائج كارثية كتلك التي تترتّب على المسائل الاجتماعية. وإليك بيان هذه المشاكل على النحو التالي:

أوّلاً: إن رواية الحديث ـ عند الشيعة وعند السنة على السواء ـ في القرنين الأولين كانت تتمّ في الغالب مشافهة. وإن الاختلاف بين الشيعة وأهل السنّة حول مسألة الكتابة لا يتنافى مع هذه الحقيقة؛ فالشيعة يقولون كان هناك تدوين للسنة، بَيْد أن هذا التدوين لم يكن شاملاً بحيث يستوعب جميع الروايات، وإذا كان هناك تدوين فقد كان بين مرحلة التدوين وبين مرحلة السماع فترة زمنية طويلة. فلم يدَّعِ أحد أن عملية التدوين كانت تتمّ بُعَيْد السماع مباشرة، بل قد ادُّعي العكس، وفي الحدّ المتوسط كانت الفترة التي تتخلَّل عملية التدوين والسماع أسبوعاً كاملاً في الحدّ الأدنى، حيث صرّح أكثر علماء الشيعة، كوالد الشيخ البهائي، والشهيد الثاني في علم الدراية، بأن إمكانات الكتابة في صدر الإسلام لا يمكن مقارنتها بالإمكانات المتوفِّرة في عصرنا. لقد كانت أدوات الكتابة من الأقلام والمحابر وغيرهما بحيث تستغرق عملية الكتابة فترةً طويلة، حيث لم تكن هناك أقلام حبر، ولا مسجلات صوتية، وما إلى ذلك. إنما كانت الأدوات عبارة عن ريشة أو قصبة تغمس في دواةٍ ليكتب بما تحمل على رأسها من حبرٍ على الجلود أو الأخشاب. وعليه نادراً ما كان يتّفق تدوين الحديث مع سماعه مباشرة.

ولا يخفى ما للنقل الشفهي من مشاكل، من قبيل: النسيان، وثقل السامعة، والخطأ في السماع والتلفّظ، وما إلى ذلك من المعضلات، بمعنى أن هناك من الناس مَنْ لا يستطيع النطق ببعض الحروف بشكلٍ صحيح، وهناك من الناس مَنْ يبدّل الكلام المسموع بكلامٍ أقرب إلى ذهنه.

ومن ناحية أخرى نعلم أنه حتّى ما قبل تدوين الكتب الأربعة ـ عند الشيعة ـ والصحاح الستّة ـ عند أهل السنة ـ كانت الغلبة في رواية الحديث للمشافهة، وإنّ التدوين جاء في فترةٍ لاحقة.

ثانياً: إن الحروف العربية لم تنقط إلاّ في القرن الثالث أو الثاني. وهذه الحقيقة تعكس مشكلة لا يمكن الاستهانة بها. فقد كان المسلمون الأوائل يعتبرون تنقيط القرآن بدعة، وكان أمر تنقيط كلمات القرآن شبيهاً بظاهرة ترجمة القرآن في العصور القريبة. فالنقطة إنْ حفرت تحوّل المحرم إلى المجرم، وإنْ رفعت تحوَّل المجرم إلى المحرم. فلولا النقطة أنّى للقارئ أن يعرف المعنى المراد؟! وكيف يمكن له التمييز بين السبعة والتسعة، أو العكس؟ ومن هنا نشأت مشكلة تحديد سنّ البلوغ، فإننا لولا التنقيط يمكن لنا قراءة السبعة تسعة، وقراءة التسعة سبعة. وهل يجب أن نضع بين المصلّي الرجل وبين المرأة ـ إذا أمّ جماعة النساء ـ حائلاً أم يكفي أن يبتعدْنَ عنه بمقدار شبر؟ إنّ هذا يتوقف على التفريق بين الشبر والستر الوارد في الرواية التي تبين حكم إمامة الرجل لجماعة النساء، حيث اشترط أن يكون بينه وبينهن (سىر)! فهل المراد هو (شبر) أو (ستر)؟! وما إلى ذلك من الاختلافات الأخرى الناشئة عن هذه الظاهرة. وإن أكثر النسخ البدل معلولةٌ لهذه العلة.

وعندما عقد العزم على مباشرة التنقيط لم يكن هناك من طريق في الكثير من الكلمات سوى الاجتهاد البحت. وعليه فإن الذي بلغنا إنما هو خليطٌ من الاجتهاد والظنّ والحدس والخطأ في القراءة والتصحيف.

ثالثاً: مشكلة «النقل بالمعنى». فقد أجاز المحدِّثون والرواة من الشيعة والسنّة النقل بالمعنى. وقد روى المجلسي روايات يسأل فيها الراوي الإمام× عن حكم نقل مضمون كلامه إذا تعذّر حفظ أصل الألفاظ؛ فيجيبه الإمام: «إذا أردت المعنى فلا بأس».

ومن هنا ذهب السيد البروجردي& وبعضٌ آخر من العلماء إلى اعتماد القدر المشترك بين الروايات؛ إذ لم يعتبروا خصوصية للألفاظ. كما كان الوحيد البهبهاني يحتاط في مسألة تقديم وتأخير الألفاظ، ويقول بأنه ليس على يقين من أن هذا اللفظ كان متقدّماً أو متأخّراً في نصّ كلام الإمام×.

رابعاً: مشكلة الوضع والتدليس. وهي مشكلة جديرة بالملاحظة والتدبّر، سواء في الجوامع الحديثية الشيعية أو كتب أهل السنّة. وفي حدود تتبُّعي وجدت أن جميع المحدِّثين وغير المحدّثين في المرحلة الأولى يعترفون بوجود الوضع في روايات الشيعة.

ومن ذلك ما قاله الشيخ الصدوق في كتابه «مَنْ لا يحضره الفقيه»: هناك روايات تقول: إن عبارة «أشهد أن أمير المؤمنين عليّاً ولي الله» من وضع الغلاة ـ لعنهم الله ـ.

وقال الشعراني في كتاب «المدخل إلى عذب المنهل»: نحن على يقين من أن في كلّ ألف حديث هناك خمسين حديثاً موضوعاً. ثم قال: هناك في الاستبصار خمسون ومئتان وألف باب، وإن هناك في كلّ باب حديثاً واحداً في الحدّ الأدنى لا يمكن نسبته إلى الإمام. وقد اعتبر مصحّح الكتاب هذا الكلام من الشعراني مبالَغاً فيه، حيث قال: «العهدة على المؤلِّف».

وقال السيد الخوئي&: هناك في أصول الكافي روايات لا يمكن إسنادها إلى المعصوم× قطعاً. كما أشار الآخرون إلى ظاهرة الوضع.

فهي حقيقة لا يمكن لأحدٍ أن ينكرها، وإنْ كان هناك من كلام فهو يقتصر على بيان هذه الظاهرة من الناحية الكمّية والكيفية، بعد الإيمان بأصل ثبوتها.

خامساً: مشكلة وضع النُسَخ. فإن أغلب نسخ الكتب الروائية التي وصلت إلينا لم تكن بخط المؤلِّف نفسه، بل هي استنساخ عن مخطوطته. وعملية الاستنساخ لها مشاكلها، ومنها: الوضع والدسّ والتصحيف والخطأ في القراءة، أو استحالة القراءة. وإنّ أقدم مخطوطة لكتاب الكافي أمكن لنا العثور عليها في دار الحديث ترقى إلى القرن السادس، وهي لا تشتمل على جميع مادّة الكافي، وإنّما تحتوي على بعضها.

إن من مشاكل الاستنساخ التي أشار إليها بعض المحقّقين والمصححين هي التغييرات العقائدية. وهذا التعبير قد استعمله الأستاذ شفيعي كدكني في مقالٍ له منشور في مجلة بهارستان، إذ يقول: أحياناً يبادر الناسخون إلى كتابة النصّ بشكلٍ ينسجم مع عقائدهم. ثمّ مثَّل لذلك بكتاب منطق الطير، لمؤلِّفه العطّار النيسابوري. وقال: لقد كان العطّار يثني في مؤلَّفاته على جميع الخلفاء، غير أن مختلف النسخ قد احتوَتْ على تغيير كمّي وكيفي. وإنّ هذا التغيير كان في كلّ منطقة، بحيث ينسجم والعقائد السائدة في تلك المنطقة التي تمَّ العثور فيها على تلك النسخة.

إن العقيدة التي يتبنّاها الناسخ كانت تتسلَّل إلى الكتاب الذي يستنسخه. ومن النماذج على ذلك روايات تحريف القرآن المرويّة في الكافي. ففي واحدةٍ من نسخ الكافي هناك رواية تقول: إنّ سبعة آلاف آية تعرَّضت للتحريف. وفي نسخةٍ أخرى نجد هذا العدد يرتفع إلى سبعة عشر ألف آية. ويتّضح من ذلك أن النسّاخ قد أقرّوا ما يناسب عقيدتهم. وبطبيعة الحال قد تحتوي نفس الرواية على مشاكل أخرى، من قبيل: سائر روايات التحريف، المشتملة على مشاكل سندية.

سادساً: مشكلة الإسناد والمسائل الرجالية. فمتى بدأ الاهتمام بتسجيل الأسانيد؟ وقد طرح المستشرقون هذا التساؤل أيضاً، وقدَّموا بعض الإجابات عنه. ثم إننا نفترض أنّ ذلك كان ثابتاً منذ البداية، بَيْد أن المشكلة الرئيسة تكمن في أننا نعمل على تقييم هذه السلاسل السندية اعتماداً على توثيقات علماء الرجال، في حين أن سند هذه التوثيقات في نفسه مرسَل، بمعنى أن النجاشي مثلاً عندما يقوم بتوثيق شخصٍ يكون توثيقه له مرسَلاً؛ إذ لا يذكر سنده، كما أنه لم يكن مباشراً حتّى يكون توثيقه حسّياً.

وقد ذكر السيد الخوئي هذا الإشكال أيضاً، ثمّ أجاب عن ذلك بأننا على اطمئنان من أنه منذ عصر الإمام الصادق× إلى عصر النجاشي قد تمّ تأليف أكثر من مئة كتاب رجالي، وإنّ هذه الكتب هي التي شكَّلت مستنداً للنجاشي. إلا أن هذه الإجابة غير مقبولة؛ إذ يمكن لشخصٍ أن يتساءل: من خلال هذا التبرير يمكن تبرير الإرسال في الحديث نفسه أيضاً، بأن يقال: منذ عصر الطوسي إلى عصر الإمام الصادق× تمّ تدوين مئات الأصول، وإنّ الشيخ الطوسي قد اعتمد عليها. وإذا كان الإرسال في السند لا إشكال فيه فلماذا يكون هناك إشكالٌ في الحديث نفسه؟ إن مشكلة الإرسال في الإسناد والتوثيقات مشكلةٌ جادّة. وللأسف الشديد لم تحظَ بالاهتمام المناسب.

سابعاً: إن الشيعة وأهل السنّة قد أذعنوا في الجملة بأن للمعصوم ـ غير حيثية الوحي والإخبار عن الوحي ـ حيثيّتين أخريين أيضاً، وهما عبارة عن: الحيثية الفردية؛ والحيثية الحكومية. أما الحيثية الفردية فتشمل أموراً من قبيل: أكل الطعام، والمشي، واختيار الزوجة، وما إلى ذلك. وأما الحيثية الحكومية فهي عبارة عن الأحكام التي تصدر أحياناً من أجل حلّ المشاكل، وهي ترتبط بالأوضاع والشرائط الخاصة.

والمشكلة الكامنة هنا أن هذه الحيثيات لم يتمّ التمييز بينها. فنحن لا نعلم أيّ سلوك هو سلوك حكومي، وأيّ سلوك هو ـ على حدِّ تعبير الشهيد الصدر ـ سلوك تبليغي يصدر عن الإمام باعتباره مبلِّغاً عن الله.

إن مشاكل الاستناد إلى الحديث لا تقتصر على هذه المشاكل السبعة وحدها، بل ربما كانت هناك مشاكل أخرى، بَيْد أن عمدة المشاكل هي هذه المشاكل السبعة.

وإن فقهاءنا وعلماء أصولنا قد توسَّلوا في مواجهة كلٍّ من هذه المشاكل بأحد الأصول العقلائية، واكتفوا به في حلّ المشكلة.

بَيْد أننا إذا سألنا نبيهاً، وقلنا له: إن لدينا نصّاً يحتوي على هذه المشاكل، فهل هناك أصلٌ يمكنه أن يحلّ جميع هذه المشاكل؟ سيجيب بالنفي. فكيف يسوغ لنا أن نحكم على شخصٍ بالقتل أو العقوبة استناداً إلى نصوص لم نتمكَّن حتّى الآن من رفع هذه المشاكل عنها؟! وهل يمكن رفع هذه المشاكل أساساً؟! إننا نروم إصدار حكم انطلاقاً من هذه النصوص، فكيف نقوم بذلك؟! فمثلاً: في مسألة دية القتل في الأشهر الحرم، هناك روايتان في أصول الكافي ذات سندٍ واحد، واحدةٌ تقول: «تغلّظ الدية»، والأخرى تقول: «تغلّظ العقوبة»؛ فإنْ عملنا بالأولى وجب على الجاني ـ طبقاً للحسابات الحديثة ـ أن يدفع زيادة تقدَّر بخمسة عشر مليون تومان. وبناءً على الرواية الثانية وجب على الجاني أن يدفع دية بنفس المقدار، مع إضافة عقوبة أو مجازاة خاصّة غير الدية. بمعنى أن تغييراً طفيفاً في اللفظ قد تسبَّب بإصدار حكمين مختلفين، ويتعين على المجرم طبقاً لأحدهما أن يدفع زيادة تقدَّر بثلث الدية الاعتيادية، وهي تبلغ الآن أكثر من خمسين مليون تومان.

لقد ظهرت بإزاء هذه المشاكل اتجاهات مختلفة. وإنّ هذه الاتجاهات عموماً هي نفسها التي نشأت في مواجهة خبر الواحد. وأهمّ هذه الاتجاهات عبارة عن:

الاتّجاه الأول: طريقة أهل الحديث، حيث كانوا يتجاهلون هذه المشاكل ويأخذون بخبر الواحد على إطلاقه. وبطبيعة الحال كانت لهم ملاحظاتهم، ولكنّهم كانو في المجموع يذعنون لمفاد خبر الواحد، سواء في الفقه أو غير الفقه (التاريخ والعقائد وعلم الاجتماع وما إلى ذلك)، دون تفريق.

وقد اتضح هذا الاتجاه في المراحل اللاحقة، وتحوّل في القرن الثاني عشر والثالث عشر إلى تيّار واسع في الحوزات الشيعية.

الاتّجاه الثاني: وهو الاتّجاه البغدادي، بزعامة الشيخ المفيد والسيد المرتضى. ثم تلاهما ابن إدريس ليبلغ بهذه المدرسة مرحلة الازدهار. إنّ هذه الجماعة لم تولِ خبر الواحد اعتباراً، بل قال ابن إدريس في مقدمة السرائر: «ما هدم الإسلام إلاّ هي [أخبار الآحاد]».

وقد تمّ تعديل هذه المدرسة الأصولية على يد الشيخ الطوسي. فقد تعرَّض الشيخ في «عُدّة الأصول» لهذا الموضوع، واختار منه مبنىً معتدلاً. ثمّ جاء بعد ذلك دور العلاّمة الحلّي ليجعل هذه النظرية أكثر نضجاً.

الاتّجاه الثالث: هو الاتّجاه التفكيكي، حيث يتمّ التفكيك بين الروايات الفقهية والرويات الاعتقادية. وهذا هو الاتّجاه المشهور بين الأصوليّين من الشيعة، كالشهيد الأول والشهيد الثاني والشيخ الأنصاري.

وطبقاً لهذا الاتّجاه لا يكون خبر الواحد في العقائد معتبراً، وأما في الفقه فهو معتبر.

الاتّجاه الرابع: اتجاه متطرِّف يتبنّاه عددٌ من مشاهير علماء أهل السنة، وهناك نزرٌ قليل من الشيعة يقولون به أيضاً. إنّ هذا الاتجاه ينكر الحديث بالمطلق. ودافعه إلى ذلك هو هذه الإشكالات التي ذكرنا بعضها آنفاً. وقد عُرفَتْ الجماعة التي تبنَّت هذا الاتجاه بين أهل السنة بـ «القرآنيّون»، وهم تيّار آخذٌ بالاتساع والانتشار. وقد ظهر أول الأمر في الهند، ثمّ واصله بعض العلماء المصريين. وتمثِّل هذا الاتجاه مؤلَّفات من قبيل: «القرآن كفى مصدراً للتشريع»، أو «الإسلام هو القرآن وحده».

الاتّجاه الخامس: اتّجاه العلامة الطباطبائي؛ إذ يقول بعدم حجية خبر الواحد في غير الفقه، فلا يكون خبر الواحد معتبراً عنده في مجال العقائد والتاريخ والأمور الطبيعية، وما إلى ذلك من العلوم غير الفقهية، وإنما هو معتبر في الدائرة الفقهية فقط.

الاتّجاه السادس: اتّجاه موجودٌ في كتبنا الفقهية على نحو ضمني، وهو يعود إلى عدد من الفقهاء المعاصرين، كالسيد أحمد الخوانساري في جامع المدارك، والشيخ شمس الدين في فقه الإمام الصادق، والشيخ يوسف صانعي. حيث يتعامل هذا الاتجاه مع خبر الواحد في ما يتعلَّق بالدماء باحتياطٍ شديد.

فمثلاً: نجد الشيخ محمد جواد مغنية في فقه الإمام الصادق يمثِّل بمسألة الزنا بذات المحرَم. وحكم الزنا بالمحرَم هو القتل، وإنْ لم يكن محصناً، وفي غير المحرم يجلد في المرة الأولى، والقتل عند تكرار الموبقة. وأما بالنسبة إلى الزنا بذات المحرَم فهو القتل من المرّة الأولى. ودليلهم على ذلك رواية لم يتَّضح منها ما إذا كان المراد من المحرم هو المحرم السببي أو النسبي. ذهب المشهور إلى العمل بإطلاق الرواية، ورتَّب حكم القتل على القرابة السببة والنسبية على السواء. إلاّ أن أمثال السيد الخوانساري يقولون: حيث إن الموضوع هنا يتعلَّق بالدماء فإن الاحتياط يلزمنا بالاقتصار على القدر المتيقَّن، وهو المحرَم النسبي. وقد نقل السيد الخوانساري هذا الكلام في بحثٍ تحت عنوان «يُقتل في الرابعة أو الثالثة»، من كتاب جامع المدارك. كما يذكره الشيخ يوسف صانعي في بحث اختلاف دية الرجل والمرأة على هامش الرواية. وشبيهٌ بذلك ما قاله الشيخ في التبيان، حيث يقول في تفسير آية النبأ: «في ما يتعلَّق بموضوع «الردّة» لا يمكن الاعتماد على خبر غير الفاسق، فما ظنّك بخبر الفاسق!»([1]). وعليه يتبيَّن أن هذا الموضوع كان هامّاً بالنسبة له. ففي موضوع مثل الردّة هناك عقوبة مشدَّدة، وعليه لا ينبغي التعويل فيها على مثل خبر الواحد.

يبدو لي أن علينا الاحتياط في دائرة المسائل الاجتماعية والحقوقية للناس، سواء في الدماء أو الأموال أو الحرّيات المدنية، بمعنى أنه يتعيّن علينا توسيع دائرة الاحتياط الذي دعا إليه السيد الخوانساري. كما أن سيرة العقلاء قائمة على الاحتياط إذا كان الأمر متعلِّقاً بالدماء أو الحقوق البديهية للناس، حتّى إذا كان المستند صحيحاً أو موثوقاً من الناحية الفقهية. وفي الواقع فإنّ الاستناد إلى خبر الواحد في الأمور الهامّة بعيدٌ عن الاحتياط.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذ في مجال علم الحديث والنقد الروائي والسندي.

([1]) لم نعثر على هذا الكلام بحرفيّته في المصدر. [المترجم].

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً