أحدث المقالات

أنت تمرّ بالقرب من مسجد الإمامين الحسنين(ع)، ليلة الجمعةأو سواها، سترى المحبّين يمرّون قرب الضَّريح، يُلقون السَّلام على مرشدٍأخلص لهم حتَّى الرَّمق الأخير، ومحضهم الحبّ في كلّ جنبٍ من جنباتالضَّاحية، وفي آفاق المعمورة، وحيث الإنسانُ كان، ثمّ استراح فيما بينهم،ولم يُرخِ للمسافات أعنّتها، ولم يَركن إلّا لعشقه الأوّل والأخير، هو اللهالأوَّل، وفي تجلّياته النّاسُ أفضلُ الكون، وهو اليوم "قريبٌ على بعدٍ،بعيدٌ على قربِ"، وكلّما مرّ به جمعٌ من المحبّين، يمّموا وجوههم شطر مسجدهالجامع وفاءً وعرفاناً، يتلون فاتحة الكتاب، ويعبّرون عن تواصلهم معَملهمٍ للنَّهج الّذي اختاروه حياةً وسلوكاً، وكان وليد البيئة اللّبنانيّة.

لكن… هل تكفي الفاتحة المباركة حتَّى نُثبت للأحبَّةأنَّنا نحيا الذّكرى وبها، وأنَّهم أحياءٌ فينا وبنا، وعند اللهيُرزقون؟!…لا أظنُّ ذلك، وإن يكن الأمر خصيصةً للأعلام الخالدين، فضلاًعن أنّ التّجارب ما بيّنت سالفاً تقليداً ناضجاً في الأوساط الإسلاميّةبشأن الاستمراريَّة، ومتابعة المسيرات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّةوالمنهجيّة، وكانت حياتنا في مساحاتٍ عظيمةٍ منها منفتحةً على تاريخانفصالاتٍ وانقطاعاتٍ عن السياقات الطبيعيَّة، ما هدّد ويهدّد التّجاربالمختلفة والثريَّة، وخصوصاً في العصر الحديث، حيث يشتدّ أُوار المواجهةبين نموذجين أساسيّين في عالم اليوم، فيمضي الأوّل في مسيرته متقدِّماً،رغم ترهّله، فيما يجهد الآخر، رغم شبابه والتوثّب.

في هذا المشهد المحتدم، لا تكفي الفاتحة زاداً للطّريق،وإن تكن المبتدا، ولا يكفي الحنين وإن كان مدادَ الوفا، وعنواناًأخلاقيّاً، بل المطلوب التنبّه إلى تراث الأعلام منّا، وجعله زاد اليوموالغد، منه وإليه ننطلق ونؤوب، نقتبس ونستوقد، ننهل ونغترف، ثمّ نبني ممّاتحصّل لنا لبِناتِ صروحنا في اتجاهاتٍ شتَّى، ونلوي أشرعة سفننا في مساراتٍعدَّة، منفتحين على الآفاق الرَّحبة أنَّى تجلّى لنا الحقّ.

لكنّه كلَّما أوغل الوقت في تقدّمه الدّائب، بان النقص فيالمشهد الإسلاميّ عموماً، والشّيعيّ على وجه الخصوص، سواء على المستوىالثّقافيّ أو على المستوى الاجتماعيّ، فيما يعفو الزّمان على تراثالرّاحِلين، إلا من المناسبات التنكّريّة الّتي لا تُعطي للرّاحِل حقّه، لابل تغمطه ذلك، وتجيّر للرّاعي رصيداً لا يستحقّ منه سوى تشرّفه الشّخصيّبرعاية حفل تكريمٍ لعظيمٍ

إذاً، ما يحتاجه الوسط الإسلاميّ هو الوفاء لتراثالرَّاحلِين، ومداومة القراءة للتّراث، وتخليقه في حللٍ فكريَّةٍ، فيها منالحداثة الكثير، وفيها من الوصل الكثير، وفيها من التَّراكم كثيرٌ أيضاً،وتكون من المسلمين أممٌ يترحَّم بعضها على بعضٍ، ويشكرون بعضهم بعضاً علىما شادوه من صرحٍ عظيم، لا تمنع من ذلك معاصرةٌ، ولا منافسةٌ، ولا شيءٌ منحطام الدّنيا وغرورها، إذ إنّ أمّة الحقّ والعدل لا تشهد إلا بالحقّوللحقّ، مهما بلغت الصّعاب من درجةٍ، ومهما تشعَّب شنآن قومٍ من النَّاس.

في هذا المشهد وتطلّبه، يتموضع العلامة الرّاحل السيّدمحمّد حسين فضل الله(قده)، مَفصَلاً في مسيرة هذه الأمَّة وتاريخها، لا علىالمستوى الرّسميّ الّذي ابتعد عنه طويلاً، لكن على مستوى واقع الأمّةوعامّتها الّتي انحاز إليها على الدّوام، وكان مفردةً من مفرداتهاالمفتاحيّة، وجزءاً من مكوّناتها الأساسيَّة، منبثّاً في مسجدها ومصنعها،وفي مدرستها ودار رعايتها، وفي كتابها وقارئها، وفي فكرها واجتماعها، وفيفرحها وحزنها الّذي رافقه طويلاً… وما كان يحجّره موقعٌ ولا نهجٌمدرسيٌّ، ولا كمٌّ من الاعتبارات التي تقيّد الغالبيَّة من العاملين..

يتموضع العلّامة فضل الله وينساب في حركة الأمَّة وحياتها،ويترك مساحة الموت لآخرين امتهنوه حرفةً، ونادوا به غايةً في الحياة، فيماكانت الحياة لديه الغايات السّامية، وفرحاً في الطّريق إلى الله،وانفتاحاً على خلق الله، فطريّاً لا كسبيّاً، ودون أن "تدوّخه" المصطلحات،ودون أن يحول ذلك بينه وبين التصدّي لكلّ الّذين يُريدون إسقاطه، تصدّياًلم يبلغ درجة القطع مع المناوئ، ولم ينجرّ إلى العنف اللّفظيّ والمادّيّ،فكان "بروتستانيّ الإسلام والتّشيّع"، غير صداميٍّ في الطّرح ولا فيالممارسة، غير أنّه صلبٌ في اعتقاداته ورؤاه، ومن أجلها تحمَّل الوزرَوالعنتَ، ومضى على بيّنةٍ من منهجه، حتّى ارتحل إلى حيث لا يعتقدُ أنّللكراهية وجوداً، وأنّ حطام الدّنيا في الدّنيا يبقى ولا مستقرَّ له فيآخرة المقرّبين؛ ولربّما كانت الحملات التي تعرّض لها في أيّامٍ مشهوداتٍسحقته، لولا أنَّه عريك الحياة وتقلّباتها، وخبير المجتمعات المتداخلة،وقارئ الثّقافات المختلفة، وابن العائلة الرّاسخة.

إذاً في الدّنيا، جلب منهج العلامة فضل الله بغضاءالقاصرين، ولم يكن للمفردات عظيم الخطر، فالمفردات تبقى عشواء ولها ميزاتالتكيّف، ولمقولات الكلاميّين والمتفلسفة أن تهضمها حين يكون العزم والقصد،ويُمكن لليوميّات الرّتيبة أن تُجهضها، فيغادرها المعنى وتكون هباءً، لكنّالمنهج، كاللّغةِ، خصيبٌ في توليد المعنى، وخصيبٌ في تشكيل الحياة، وأساسالفرادة في المسارات العظيمة؛ وهو بذلك نقطة افتراقٍ وموضوعُ صراعٍ ومحلٌّله.

لم ينثنِ العلامة فضل الله عن منهجه ـ الّذي يراه الباحثالشيخ حيدر حبّ الله منهجاً تفكيكيّاً، وفق المصطلح الإسلاميّ ـ لكنّه كانعلى الدّوام حريصاً على إلقاء الفكرة إلى الآخر وعلى محاورته، ولم ينجرّإلى صدامٍ مدمّرٍ رغم تشبّثه بعدالة الصّراع، ولم يُغامر في مستقبل المشروعالإسلاميّ، رغم إصراره على تبديل قواعد السّير، وعلى شموليّة النّظرةالجامعة إلى تفاصيل الواقع.

لقد اعتصر العلامة فضل الله تاريخاً من المحاولاتالتَّجديديَّة، ومن التّجارب الحركيَّة، وأبدع بمجهودٍ يكاد يكون فرديّاً،وبفكرٍ متوثّبٍ، منهجاً تتأكَّد ضرورته وأهميَّته في الحياة الإسلاميَّة،ويؤمّن في الوقت عينه سبيل السَّلامة إلى مستقبلٍ إسلاميٍّ سليمٍ، ويقومعلى هندسةٍ فكريَّةٍ متماسكةٍ مدعَّمةٍ بأدلَّتها العقليَّة والنَّقليَّة ـوفق التَّعبير الإسلاميّ التَّقليديّ ـ يأتي في قمَّة هرمها القرآنومقاصده الكلّيّة وأدلّته العامَّة، الّتي يُمكن وصفها بالقواعدالدّستوريَّة، وفق المصطلحات القانونيَّة الحديثة، ثمَّ تكون السّيرةمنضبطةً بكلام الله والقواعد الّتي أرساها، وهي سيرةٌ خصبةٌ للدّراساتالحقليّة، وبحاجةٍ إلى جهدٍ عظيمٍ في اكتشافها مجدّداً، وفي وضع قواعد فهمٍلها على أسسٍ من تطوّرات العلوم والحياة؛ قواعد لا تمسّ السيرة المطهّرةبسوءٍ، لكنَّها تنقِّيها من المغالاة، وتخفِّف عنها مساحاتٍ لا يتوجَّبعليها تغطيتها، وكان قد بسَطها عليها بعض المحبّين أو المتقوّلين دونضرورةٍ لذلك، أو استجلاباً للحرج، رغم القواعد الإلهيَّة العديدة الّتيتنعت الدّين بالفطرة، والشَّريعة بالسّهولة والسّماح، وبدفعها للضّرر،وبوضعها الإصر والأغلال

ولا يترك العلامة فضل الله مجالاً واسعاً للفلسفة والعقلوالعرفان وغير ذلك في الدّخول على الدّين، إذ الخطاب الإلهيّ في النّصّالمقدَّس: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًافِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَلِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِلَا يَعْلَمُونَ}[الرّوم:30]، إنَّما المجال رحبٌ لديه لكلِّ أنواع العلوم في تنظيم الحياة الدّنيويّة ومادّتها، لا في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى.

من هنا، نجد في منهج العلامة فضل الله وسطيّةً ليستلمدّعٍ، وأصالةً إسلاميّةً ليست "لمتحوّلٍ" يستعير أساليب الآخرين ويُسقطهاعلى إسلام الفطرة، ويمسخ الدّين ومفاهيمه وعلاقاته، ويُسقطه من إلهيَّته،ويرفع إلينا دنيويّته.

 كذلك نجد لدى العلامة فضل الله نتيجة منهجه، البُعدَالإنسانيَّ برحابته وانفتاحه ومحبّته وإيجابيّته؛ بعد لم يفعل سوى تخفيفمستوى الحقد والمناكفة في النّطاق الإسلاميّ ـ الإسلاميّ، وفي النّطاقالإسلاميّ ـ المسيحي، وفي كلّ نطاق إنسانيّ؛ بعد غير مفتعلٍ، يسير فييوميَّات الحياة بكلِّ تفاصيل الحياة، بعدٌ كانت قرآنيّته جليّةً ساطعة، "فالأب آدم والأمّ حوّاء"..

وفي الدّائرة الإنسانيّة الّتي وسّعها السيّد فضلالله(قده)، أو الّتي أعطاها مداها الحقيقيّ، فطريّاً وإسلاميّاً، أمكن لهولمريديه أن يدخلوا الحوار من أوسع أبوابه، وأن يصلوا به إلى آفاقٍ رحبةٍلا تتأتَّى لغير مدرستهم؛ تلك المدرسة الّتي أسقطت موانع وحواجز ما كانتلتُريح أيَّ حوارٍ صادقٍ، وما كان لحوارٍ أن يكون صادقاً في ظلّها. وهذهالميزة من ميزات "المنهج الفضل اللهيّ"، الّذي حكّم قيمة الصّدق في واقعالحياة العلميّة والعمليّة، فاستنطق النّصّ القرآنيّ قبل غيره، ولم يملِعليه "قبليَّاته" ولا موروثاته الشخصيَّة وحساسيّاته، وجعل الحريّة فيالتّفكير صنواً للصّدق، فأخرج مقلّديه من أعباء احتياطات الفقيهالاجتهاديَّة وتبعاتها الحياتيّة، وافتتح مساحاتٍ "نظيفة" في عالم المرأةوتجسيداته القانونيَّة، محاولاً إيجاد توازنٍ بين مختلف المفاهيمالإسلاميّة ومختلف الفتاوى، متجاوزاً "سلفيّةً" شيعيّة، غير مصرّحٍ عنها،ولا معتَرفٍ بها.

لقد كان العلامة فضل الله "قرآنيّاً" في كلّ فكره وحركته،وأوجد فيالبيئة الإسلاميَّة، والشيعيّة على وجه الخصوص، منحًى فكريّاً "بروتستانتيّاً ناعماً"، في علاقته بالله وكلامه، وفي حركته الاجتماعيَّة،دون أن يدّعي انغلاقاً على الحقيقة والصّواب، ودون قطيعةٍ مع "البابويّة" الإسلاميَّة، وكان في حديث الوداع والزّهراء(ع) تجلّياً لذلك الوجهوالمنهج؛ منهجٌ يأمل "المخلصون" أن يُحييه أمناؤه على تراثه، وكلٌّ أمينٌبقدرٍ ما، وأن لا يكتفوا بقراءةٍ للفاتحة لا ريبَ في استحبابها المؤكَّد.

طارق قبلان

 


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً