أ. مشتاق بن موسى اللواتي(*)
مقدّمةٌ
مرَّتْ مسيرة أئمّة أهل البيت^ ـ منذ بواكير تاريخ المسلمين ـ بظروف ومنعرجات متفاوتة من الانفراج والضيق، تركت ظلالها وانعكاساتها على المشهد الفكري في مختلف الأدوار التاريخية.
وتعدّ الفترة التي عاصرها الإمامان الجليلان: أبو جعفر محمد بن علي الباقر(114هـ) وأبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق(148هـ)، مرحلةً فارقة وهامة في هذه المسيرة. حيث أتاحت لهما الظروف أن يواصلا نهج سَلَفهما، ويقوما بتوضيح ونشر المعالم الفكرية والفقهية لمدرسة أهل البيت بشكلٍ مكثَّف نسبيّاً.
ونظراً لمكانة أهل البيت في وَعْي المسلمين، ولما كان يمتاز به الإمامان الهمامان من سموٍّ أخلاقي وتفوّق فكري ومعرفي، طار صيتهما في الآفاق، فقصدهما طلاب العلم والحديث والفقه والكلام من مختلف الحواضر والتيارات الفكرية والفقهية والحديثية.
ولم تقتصِرْ حلقاتهما على الدروس والمحاضرات، بل كانت تشيع فيها المذاكرات الحديثية والسجالات الفقهية والأصولية والجدالات الكلامية والمناظرات الفلسفية، مع فقهاء ومفكِّرين ونظّاراً ينتمون إلى التيارات الفكرية المتعدّدة، للمسلمين أو غير المسلمين.
وفي هذه الأوراق القليلة، نقوم بقراءة تطورات المشهد الفكري في عصري الإمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق، ونتحدث عن إسهاماتهما في الفكر الإسلامي بشكلٍ عام، ودَوْرَيْهما في توضيح ونشر معالم الفكر الإسلامي في نظر أهل البيت^. كما نشير إلى بعض الوقائع الفكرية والسياسية التي ظهرت في الاجتماع الديني والسياسي خلال تلك المرحلة، وهي في مجملها تتَّسق مع منطق التاريخ والظروف التي أحاطَتْ بالمسيرة الفكرية لأتباع أهل البيت.
وسنشير خلالها إلى العوامل التي أدّت إلى ظهور اهتمامات متنوّعة ونظرات متعدّدة بين أصحاب الأئمّة، وكيف انعكست فيما بعد على التفكير الإسلامي الإمامي؟
وسنتطرّق تباعاً إلى بعض الإفرازات المربكة التي كانت تطفو على السطح بين آونةٍ وأخرى؛ لأسباب سياسية وثقافية عامّة، وسنتناولها من خلال العناوين التالية:
أوّلاً: الظروف الضاغطة التي أحاطَتْ بأهل البيت (عليهم السلام)
تعرض أهل البيت^ وأتباعهم ومحبّوهم في العصر الأموي لظروف سياسية شديدة وضاغطة، فرضت عليهم بعض الأوضاع القلقة، التي جعلت الاتصال بالأئمة غير متيسّرٍ للجماهير، ممّا حرمها من الاستفادة من معارفهم وتوجيهاتهم، والتأثُّر بشخصياتهم الكريمة.
ولم يكن متاحاً للأئمّة من أهل البيت، وللرواة المنتمين إليهم أو المتلقّين منهم، أن ينشروا حديث الإمام علي× وعلمه وفضائله وإسهاماته في الدعوة الإسلامية.
وإنها لمفارقةٌ تاريخية لافتة أن يُسَبّ الإمام عليّ× على بعض منابر المسلمين، وفي بعض مجالسهم ومحافلهم، في تلك الفترة المبكِّرة من تاريخ المسلمين. يروي مسلم، في صحيحه، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: أمر معاوية سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ (كنية الإمام عليّ) فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله| فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدةٌ منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله| يقول له، وقد خلَّفه في بعض مغازيه، فقال له عليّ: يا رسول الله، خلّفتني مع النساء والصبيان، فقال رسول الله: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي؛ وسمعتُه يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأُتي به أرمد، فبصق في عينه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه؛ ولمّا نزلت هذه الآية: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ دعا رسول الله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلي([1]). وروى مسلم أيضاً، في صحيحه، عن سهل بن سعد قال: استعمل على المدينة رجلٌ من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم عليّاً، قال: فأبى سهل، فقال له: أما إن أبيتَ فقُلْ: لعن الله أبا التراب، فقال سهل: ما كان لعليٍّ اسم أحبّ إليه من أبي التراب، وإنْ كان ليفرح اذا دُعِيَ بها([2]). واستمرت هذه السياسة في الدولة الأموية بعد ذلك، فقد نقل الذهبي، عن الفقيه الأوزاعي(157هـ) قوله: ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على عليٍّ بالنفاق، وتبرَّأْنا منه، وأخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وأيْمان البيعة([3]). وروى الذهبي أيضاً أن الحاكم الأموي هشام بن عبد الملك سأل ابن شهاب الزهري(124هـ): مَنْ الذي تولَّى كِبْره منهم؟ (يعني في قوله تعالى، في سورة النور: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾)، فقال: هو عبد الله بن أبي سلول، قال: كذبْتَ، هو عليّ (ابن أبي طالب)، فقال: أنا أكذب، لا أبا لك…، قال: فلم يزل القوم يغرون به، فقال له هشام: ارحَلْ، فوالله ما كان ينبغي لنا أن نحمل على مثلك. وبعد أن ثبت الزهري على موقفه ـ حَسْب الرواية ـ قال هشام: إنا لن نهيج الشيخ، وأمر فقضى عنه دَيْناً كان عليه بألف ألف([4]).
وروى ابن سعد أن التابعي عطيّة بن سعد العوفي هرب إلى فارس، بعد أن شارك في حركة ابن الأشعث، فكتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم الثقفي أن ادْعُ عطية، فإنْ لعن عليّ بن أبي طالب؛ وإلاّ فاضربه أربعمائة سوط، واحلِقْ رأسه ولحيته، فدعاه، فأبى أن يفعل، فنفَّذ فيه أمر الحجاج([5]).
إن هذه النصوص التاريخية تشهد على الضغوط والإملاءات التي كانت تمارسها السلطة الرسمية على الرواة والمحدِّثين والفقهاء؛ لتحريف القضايا الدينية، وتوجيهها إلى الاتجاهات الرسمية.
وذكر ابن حجر، عن يونس بن عبيد: سألتُ الحسن (البصري)(110هـ)، قلتُ: يا أبا سعيد، إنك تقول: قال رسول الله|، وإنك لم تدركه؟ قال: يا بن أخي، لقد سألتني عن شيءٍ ما سألني عنه أحدٌ قبلك، ولولا منزلتك منّي ما أخبرتك، إني في زمانٍ كما ترى (وكان في زمان الحجّاج)، كل شيء سمعتني أقول: قال رسول الله| فهو عن طريق عليّ بن أبي طالب، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً([6]).
ويقول أبو جعفر الإسكافي المعتزلي(220هـ): وصحّ أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي×، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتّى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلَّق بفضله، بل بشرائع الدين، لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب([7]).
وحَسْب الإصفهاني(356هـ)، إن الشعراء كانت لا تقدم على رثاء الإمام الحسين؛ مخافةَ بني أمية، وخشيةً منهم([8]). وذكر ابن المعلِّم المفيد(413هـ) أن الرجل كان اذا أراد أن يروي عن أمير المؤمنين روايةً لم يستطِعْ أن يضيفها إليه، بذكر اسمه ونسبه، وتدعوه الضرورة إلى أن يقول: حدَّثني رجلٌ من أصحاب رسول الله|، أو يقول: رجلٌ من قريش، ومنهم مَنْ يقول: حدَّثني أبو زينب([9]).
وفي هذا المناخ السياسي العامّ، المعادي للإمام عليّ وأبنائه وأتباعه، في بعض الفترات التاريخية، كان بعضُ علماء التابعين يتخوَّفون من التحديث عن الإمام عليّ، ومن إسناد الحديث النبوي إليه، وطرح مواقفه الفقهية، فضلاً عن ذكر مناقبه وفضائله وإسهاماته في الدعوة الإسلامية. قال الشيخ الخليلي: وشدّدوا على الناس حتى في الرواية عن عليٍّ؛ حرصاً منهم على تناسي اسمه، فكانت الرواية عنه تُعَدّ من الجرائم التي لا تغتفر([10]).
وأوعَزَتْ السلطة إلى بعض الرواة والمحدِّثين الرسميين، الذين أوكلت إليهم تدوين السيرة النبوية الشريفة، أن يهمشوا دَوْر الإمام عليّ، ولا يذكروا إسهاماته في مدوّناتهم. يروي الإصفهاني، عن المدائني، عن الزهري قال: قال لي خالد القسري: اكتب لي السيرة، فقلتُ له: فإنه يمرّ بي الشيء من سيرة عليّ بن أبي طالب، فأذكره؟ قال: لا، إلاّ أن تردّه في قعر الجحيم([11]). وتشير بعض المصادر إلى أن بعض الساسة الأمويين كانوا لا يتحمَّلون حتّى اسم الإمام عليّ وكنيته. ذكر الذهبي(748هـ) أن عليّ بن عبد الله بن العباس، وكان يكنى بأبي الحسن، دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: لا أحتمل لك الاسم والكنية جميعاً، فغيَّر كنيته إلى أبي محمد. وذكر ابن حجر في التهذيب أن عليّ بن رباح كان يقول: لا أجعل في حلٍّ مَنْ سمّاني عَليّاً (بفتح العين)، وقال المقّري: كان بنو أمية إذا سمعوا بمولودٍ اسمه عليٍّ قتلوه([12]).
وكان يصعب جمع حديث أهل البيت في عهد الأمويين؛ لاضطهادهم العلويين، كالذي روَيْنا من قبل ـ والحديث لأحمد أمين ـ من أمر معاوية للرواة أن لا يذكروا شيئاً من فضائل عليّ، وأن يستكثروا من فضائل عثمان، فكان بعض الجامعين للحديث يتَّقون الأمويين في شأن أحاديث أهل البيت، ولم يكن الحال في صدر الدولة العبّاسية بخيرٍ من هذا([13]).
ولهذا انتهى الشيخ أبو زهرة إلى أن فقه عليٍّ وفتاواه وأقضيته لم تُرْوَ في كتب السنّة بالقَدْر الذي يتَّفق مع علمه وتاريخه وسيرته؛ حيث كان عليٌّ أكثر الصحابة اتصالاً برسول الله|، فقد رافقه وهو صبيٌّ قبل أن يبعث، واستمرّ معه إلى أن قبض|، ولذا كان يجب أن يُذْكَر له أضعافُ ما هو مذكورٌ فيها. ورأى أنه لا بُدَّ أن يكون للحكم الأموي أثرٌ في اختفاء كثيرٍ من آثار عليٍّ في الفقه والقضاء؛ لأنه ليس من المعقول أن يلعنوه فوق المنابر، ويتركوا العلماء يتحدَّثون بعلمه، وينقلوا فتاواه وأقواله، خصوصاً ما كان يتّصل منها بأساس الحكم الإسلامي([14]).
في نصٍّ تاريخي مهمّ أورده ابن أبي الحديد المعتزلي(656هـ)، عن الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر ـ الذي عاش في الفترة بين 57 ـ 118هـ، وعاصر أحداثاً وتحوّلات مهمة ـ، يشير فيه إلى معاناة أهل البيت في بعض تلك الفترات. جاء فيه: ثمّ لم نَزَلْ ـ أهل البيت ـ نُستَذَلّ ونُستضام ونُقصى ونُمتهن ونُحرم ونُقتل ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا. وأضاف: فقتلت شيعتنا بكلّ بلدةٍ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان مَنْ يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو هُدمت داره، ثمّ لم يَزَلْ البلاء يشتدّ ويزداد، ثمّ جاء الحجّاج، فقتلهم كلّ قتلةٍ، وأخذهم بكلّ ظنّةٍ وتهمة، حتى أن الرجل ليُقال له: زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال: شيعة عليّ([15]).
ولم يكن العصر العباسي أحسن حالاً على أهل البيت وأتباعهم ومحبِّيهم. ويرى أبو زهرة أن العباسيين كانوا يعدّون العلويين خصومهم الأقوياء؛ لاشتراكهم في النسب؛ ولأنهم أقرب رحماً من رسول الله|. وإذا رأوا دعوةً علوية قضوا عليها في مهدها. وكانوا يقتلون على التهمة، لا على الجزم واليقين؛ إذ يرَوْن أن قتل بريء يستقيم به الأمر لهم أَوْلى من ترك متَّهَمٍ يجوز أن يفسد الأمر عليهم([16]). وكانوا يخشون الإمام جعفر الصادق(148هـ) وشيعته، ورُبَما أزعجتهم اتجاهات الصادق الفكريّة؛ لما قد يكون لها من تأثيرٍ على الناس، أكثر من الاتجاهات الثورية العلوية([17]). وعلى الرغم من أن الإمام جعفر لم ينخرط في الحركات الثورية المسلَّحة، إلا أن ذلك لم يغيِّر من سياسات العباسيين ضدّه. وتؤكِّد الدكتورة الليثي أن المنصور كان يخشى على خلافته ممّا وصل إليه الإمام جعفر، من علوّ منزلةٍ، وسموّ مكانة بين المسلمين عامّة، والشيعة خاصّة، حتى أنه كان يصفه بالشجى المعترض حلقه([18]). وكان المنصور يستقدمه من المدينة إلى العراق؛ بسبب الوشايات التي كانت تصله ضدّه([19]). وكان الهدف من ذلك فرض أجواء الإرهاب عليه، وعلى أصحابه وأتباعه والمتعاطفين معه، ومحاولة استنقاصه أمام الناس والتصغير من شأنه! ([20]).
كما كان الإمام موسى بن جعفر(188هـ) مصدر قلقٍ للرشيد، بالرغم من أنه لم يشهر سيفاً في وجهه، ولهذا أمر بحبسه أكثر من مرّةٍ([21]).
ونقل السبط ابن الجوزي(654هـ)، عن الخطيب(463هـ)، أن الإمام موسى بن جعفر(188هـ) تعرّض للحبس زمن المهديّ؛ وعن المدائني(225هـ)، أن الرشيد حمله إلى بغداد فحبسه. وحَسْب الذهبي، إن الرشيد حبسه إلى أن توفي في محبسه([22]). وذكر أحمد أمين بأنه ـ الإمام الكاظم ـ وُشِي به إلى الرشيد، فقبض عليه بالمدينة، وحمله إلى بغداد، فحبسه، ثمّ قتله قتلاً خفيّاً، وأدخل عليه شهوداً شهدوا أنه مات حتف أنفه. وأضاف: هذا ما فعله العبّاسيون مع أئمّة الطالبيين، ولم يكن تنكيلهم بمَنْ تشيَّع من عامّة الناس بأقلّ من ذلك. فأبو مسلم الخراساني سلّط أعوانه على آل أبي طالب، يقتلهم تحت كلّ حجرٍ ومدرٍ، ويطلبهم في كلّ سهلٍ وجبلٍ، وملئت سجون المنصور والرشيد بالعلويين ومَنْ تشيَّع لهم. وتشير بعض المصادر إلى أن هارون والمتوكِّل لا يعطيان مالاً، ولا يبذلان نوالاً، إلاّ لمَنْ شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب([23]). وذكر ابن الجوزي أن المتوكِّل العباسي كان يبغض عليّاً وذرّيته، فبلغه مقام الإمام عليّ بن محمد الهادي(254هـ) بالمدينة، ومَيْل الناس إليه، فخاف منه، فأمر بتفتيش داره بالمدينة، وإشخاصه قَسْراً إلى عاصمته سُرّ مَنْ رأى؛ ليكون تحت نظره([24]). وعن المسعودي نُمِي إليه بأنه يجمع الكتب والسلاح، فبعث جماعةً من الأتراك، فهاجموا داره ليلاً، وفتَّشوها([25]). وروى الطبري(310هـ) أنه في سنة 236هـ أمر المتوكِّل بهدم قبر الحسين، وهدم المنازل والدُّور التي حوله، وأن يُحرث ويُسقى موضع قبره، وأن يُمنع الناس من إتيانه، فنودي في الناحية: مَنْ وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ بعثنا به إلى المطبق([26]). وفي عهده كثر الطعن في الإمام العادل، سيف الإسلام ـ حَسْب أبي زهرة ـ؛ إذ كان المتوكِّل من الذين يناصبون عليّاً العداوة، ويطعنون فيه([27]). وعلى العموم لم يكن جَوْر بني العباس في الحكم، وفسادهم في الأمة ـ حَسْب تعبير الخليلي ـ، أقلّ مما كان من بني أميّة؛ فإنهم لم يتورّعوا عن سفك الدماء، بل أصاب بني عمومتهم من العلويين من بطشهم ما جعلهم يستقلّون بطش بني أميّة، ويتطلَّعون إلى عهدهم المشؤوم، حتى قال قائلهم:
يا ليت جَوْرَ بني مروان دام لنا *** وليت عَدْلَ بني العبّاس في النارِ([28]).
وكلما كان يزداد الضغط والإرهاب عليهم، وعلى أتباعهم، كان يضعف التواصل بينهم وبين الجماهير الموالية لهم، ويؤثِّر ذلك سلباً على انتشار فكرهم وفقههم، ووصول آرائهم ومواقفهم بوضوحٍ إلى الناس، وقد يؤدّي إلى اختفاء وضياع بعض كتب أتباعهم.
ورد عن حمّاد بن واقد قال: استقبلْتُ أبا عبد الله (الصادق) في طريقٍ، فأعرضت عنه بوجهي، ومضيت، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلتُ: جعلتُ فداك، إني لألقاك فأصرف وجهي؛ كراهة أن أشقّ عليك، فقال: رحمك الله، ولكنّ رجلاً لقيني أمس في موضع كذا وكذا، فقال: عليك السلام، يا أبا عبد الله، ما أحسن ولا أجمل([29]).
وفي رجال النجاشي(450هـ): لما حبس محمد بن أبي عمير زمن الرشيد دفنَتْ أخته كتبه، وقيل: تركتها في غرفةٍ سال عليها المطر، فهلكت([30]).
إن ثبات أهل البيت على نهجهم، على الرغم من كلّ ما كانوا يلقونه، كان يؤكِّد مصداقيتهم، ويبرز مظلوميتهم وتمسُّكهم برسالتهم. ويؤدّي في الوقت ذاته إلى مزيدٍ من التلاحم والتماسُك الجَمْعي بين أتباعهم ومحبِّيهم، ويعمِّق فيهم مودَّتهم، ويقوّي تمسُّكهم بهم. فقد كان الجميع يلحظ أن ما يلقونه هو بسبب اتجاههم الفكري، وآرائهم السياسية، ولما لهم من مكانةٍ في الأمة؛ لكونهم من أهل بيت النبوّة.
إن الانتماء إلى أهل البيت، والبَوْح بالولاء للإمام عليّ وأبنائه، وطرح حديثهم ورؤاهم في القضايا الفكرية والشرعية والسياسية، كان يواجَه بالقمع والإرهاب.
إن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تعرّض لها أتباعهم منذ العصر الأموي المبكِّر، والسياسات العنيفة التي فرضت عليهم وعلى أئمّتهم صنوفاً من الإرهاب الفكري والسياسي، اضطرّتهم الى التعامل بالكتمان، وإلى استعمال التقيّة، وإخفاء أفكارهم ومسلكهم الفكري واتجاههم السياسي في بعض الظروف الضاغطة. وقد يضطرّ الإمام منهم في بعض الظروف إلى عدم البَوْح ببعض الأمور المرتبطة بإمامته، أو إلى اتباع أساليب التمويه لإخفاء هويّة الوصيّ والإمام من بعده، وتجنُّب التصريح بأسماء الأئمّة، وتحديد أعيانهم وأشخاصهم. ورد في الكافي أن المنصور كتب إلى واليه على المدينة محمد بن سليمان أن ينظر إنْ كان جعفر بن محمد قد أوصى إلى رجلٍ بعينه أن يضرب عنقه، فرجع إليه الجواب: إنه أوصى إلى خمسة، وهم: أبو جعفر المنصور ومحمد بن سليمان وعبدالله الأفطح وموسى بن جعفر وحميدة زوجته، وهي أمّ الكاظم([31]). وبسبب هذه الأوضاع كان يضعف اتصال الجماهير بأئمّة أهل البيت، مما يحجب عنها فكرهم وفقههم في بعض الأحيان، وتثور الاختلافات، وتقع الإرباكات، في أوساطهم. وهذه الأوضاع كانت تفسح المجال لبعض الفاسدين والمشبوهين والمندسّين في صفوف أتباعهم؛ لاستغلالها وتوظيفها في بثّ أفكارٍ وآراء مغاليةٍ فاسدةٍ بينهم، وإحداث الانقسامات بينهم، وتشويه صورتهم في المجتمع([32]).
ثانياً: عصر الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)
لقد تميَّز عهد الإمامين أبي جعفر محمد بن علي الباقر(118هـ) وأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق(148هـ) عن بقيّة الأئمّة. فقد تولى الباقر الإمامة بعد وفاة والده سنة (95هـ)، وتولى الإمام جعفر الصادق الإمامة بعد وفاة والده، بين عامي (114 ـ 118هـ)، وتوفي سنة 148هـ.
كانت الدولة الأموية في هذه الفترة آخذةً في الولوج في طَوْر الضعف والانحلال؛ بسبب الصراعات الداخلية التي دبَّت بين الحكام، ولانغماسهم في أجواء اللَّهْو والترف، وعلى أثر الحركات الثورية التي تواصلَتْ فيها منذ واقعة كربلاء سنة 60هـ. ولم تلبث الدولة الأموية أن سقطَتْ سنة 132هـ. فكانت هذه الفترة بمثابة فترةٍ انتقالية بين نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي؛ نظراً إلى أنه كان عصر ضعف السلطة الأموية وانهيارها، واشتغال السلطة العباسية في تشييد أركان الدولة الجديدة.
وكانت الحركة العباسية وظّفت شعارات الرضا من آل محمد والمطالبة بحقوقهم والاقتصاص من ظالميهم؛ لكسب تأييد الرأي العام. وحصل في هذه المرحلة بعض الانفراج السياسي والفكري، مما أتاح للإمامين الكريمين الفرصة لنشر فكر أهل البيت، وتبيين آرائهم ومواقفهم في مختلف المعارف، وتقوية اتصالاتهم بالجماهير المسلمة. وذلك قبل أن تتمكَّن الدولة، وتبدأ بالتضييق على العلويين، وعلى الإمام جعفر الصادق أيضاً.
موقع الأئمّة(عليهم السلام) الفكريّ
وكان أئمّة أهل البيت معروفين بموقعهم الديني والاجتماعي والفكري والأخلاقي. قال أبو يوسف: قلتُ لأبي حنيفة(150هـ): لقيتَ محمد بن علي الباقر؟ فقال: نعم، وسألتُه يوماً، فقلت له: أأراد الله المعاصي؟ فقال: أفيعصى قَهْراً، قال أبو حنيفة: فما رأيت جواباً أفحم منه([33]). وهي إشارةٌ إلى المشيئة الإلهية العامّة، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ (الإنسان: 30).
وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند أحدٍ أصغر علماً (كذا) منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم بن عيينة ـ وكان عالماً جليلاً في زمانه ـ كأنّه مغلوبٌ([34]). ورواه المفيد، عن عبد الله بن عطاء: ولقد رأيت الحكم بن عتيبة، مع جلالته في القوم، بين يدَيْه كأنه صبيٌّ. ونقل أبو نعيم، عنه: رأيتُ الحكم عنده كأنّه متعلِّمٌ([35]).
وسأله عمرو بن عبيد(143هـ)، شيخ المعتزلة، عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾، ما غضب الله عزَّ وجلَّ؟ فقال: غضبُه عقابُه، ومَنْ ظنَّ أن الله يغيِّره شيءٌ فقد كفر([36]).
وصف الجاحظ(255هـ) الإمامَ محمد بن علي الباقر وولدَه الإمام جعفر الصادق، على لسان الهاشميين، فقال: وكان محمد بن عليّ بن الحسين سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلَّم الناس الفقه، وهو الملقَّب بالباقر، باقر العلم، لقَّبه به رسول الله، ولم يخلق بعدُ([37]). وقال عن الإمام جعفر: وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفضله، ويقال: إن أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب([38]).
وذكر الذهبي أن النسائي(303هـ) وغيره عدّوا الباقر من فقهاء المدينة([39]).
وعدّ أبو السعادات ابن الأثير(606هـ) الإمامَ الباقر من فقهاء المدينة في المائة الأولى، قال: وكان من الفقهاء بالمدينة محمد بن عليّ الباقر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، وسالم بن عبد الله بن عمر. وعَدّ الإمام عليّ بن موسى الرضا من مجدِّدي الإمامية على رأس المائة الثانية([40]).
تحدّث الذهبي(748هـ) عن أئمّة أهل البيت، فوصف الإمام أبا جعفر الباقر، بأنه سيّدٌ إمامٌ فقيهٌ، يصلح للخلافة. وقال عن أبي عبد الله جعفر الصادق: إنه كبير الشأن، من أئمّة العلم، كان أَوْلى بالأمر من أبي جعفر المنصور([41]).
وحَسْب أبي زهرة، كان الإمام زين العابدين (عليّ بن الحسين)(95هـ) إمام المدينة نُبْلاً وعلماً، وكان ابنه محمد الباقر وريثَه في إمامة العلم ونبل الهداية، فكان مقصد العلماء من كلّ بلاد العالم الاسلامي، وما زار أحدٌ المدينة إلاّ عرَّج على بيت محمد الباقر يأخذ عنه([42]).
ووصف الشهرستاني(448هـ) الإمامَ جعفر الصادق بأنه ذو علمٍ غزير في الدين، وأدبٍ كامل في الحكمة، وزهدٍ بالغ في الدنيا، وورعٍ تامّ عن الشهوات. وأقام بالمدينة مدّةً، يفيد الشيعة والمنتمين إليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثمّ دخل العراق، وأقام بها مدّةً([43]).
وكان الإمام جعفر الصادق يتمتَّع بالعلم والمعرفة في مختلف المجالات الفكرية: الدينية والعقلية. ويحضر مجالسه الفقهاء والرواة والمحدِّثون من مختلف الاتجاهات، فيتلقّون منه الفقه والحديث والتفسير. قال أبو نعيم(430هـ): روى عنه عدّةٌ من التابعين، منهم: يحيى بن سعيد (الأنصاري) وأيوب السختياني وأبان بن تغلب وغيرهم، وحدَّث عنه من الأعلام مالك (ابن أنس) وشعبة بن الحجّاج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهم([44]). واختلف إليه أئمّة المذاهب، كمالك وأبي حنيفة وغيرهم كثير، واستفادوا من علمه وفقهه وحديثه([45]).
تحدّث الدكتور أحمد صبحي عن تسالم المتكلِّمين المسلمين على دَوْر الأئمة وتأثيرهم البارز في العلوم الإسلامية، بدءاً بالإمام عليّ ومروراً بالإمام جعفر. وأشار إلى موقف ابن تيمية المعترض على تفوُّق عليٍّ العلمي وإمامته للتراث الإسلامي، وأشار أيضاً إلى إنكاره ـ ابن تيمية ـ تلقّي الفقهاء عن جعفر بن محمد مسائل وأصولاً، إنما رووا عنه أحاديث يسيرة، ورووا عن غيره أضعافها([46]). وردّ عليه بقوله: يبدو أنه قد ذهب لمجرّد المعارضة إلى إنكار نسبة أيّ علمٍ إلى عليٍّ. ثمّ قال: وابن تيمية في نقده يريد أن يجعل التلميذ موافقاً للأستاذ في كلّ آرائه، حتى يعترف بالتلمذة؛ فاختلاف أبي حنيفة على جعفر في قضايا الفقه تبرِّر لديه إنكار تلقّي أحدهما العلم على الثاني. وهذا باطلٌ. ولو كان الأمر كذلك لما تقدّمت العلوم، ولا ازدهرت. فاختلاف أرسطو عن أفلاطون، أو واصل بن عطاء عن الحسن البصري، لا ينفي تلمذة الأولين للآخرين([47]).
ويبدو أن هناك مَنْ استكثر هذا التفوُّق العلمي للأئمّة في أزمنتهم أيضاً، ورُبَما أنكر بعض الناس اتصال علمهم بالمنهل النبويّ. وقد حاجّهم الإمام جعفر، كما ورد عنه في الكافي، وكان عنده أناسٌ من أهل الكوفة، ويظهر أنهم طرحوا عليه بعض ما كان يطرح عليهم في المجالس، قال: عجباً للناس، إنهم أخذوا علمهم كلّه عن رسول الله، فعملوا به واهتدوا، ويرَوْن أن أهل بيته لم يأخذوا علمه، ونحن أهل بيته وذرّيته، في منازلنا نزل الوَحْي، ومن عندنا خرج العلم إليهم، أفيرَوْن أنهم علموا واهتدوا وجهلنا نحن وضللنا، إنّ هذا لمحالٌ([48]).
أسباب الإعراض عن حديث الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام)
وفي هذا السياق يطرح سؤالٌ مفاده: إذا كان هذا هو المستوى العلمي الرفيع للإمامين الجليلين الباقر والصادق فلماذا لم يُخرِّج بعضُ أصحاب الصحاح، كالبخاري، حديثهما؟ ولماذا كان حضور حديثهما باهتاً في الصحاح؟
اختلفَتْ تعليلات الباحثين لهذه المفارقة الظاهرة في كتب الحديث، فأرجعها بعضهم، كالدكتور حامد حفني داوود ـ في سياق دفاعه عن البخاري ـ إلى عاملَيْ: التوثيق؛ والخوف والفَرَق من حكام العباسيين الذين كانوا يناصبون آل محمد العداء([49]). ويرى رونلدسن أن مالك بن أنس، صاحب الموطّأ، كان من اللازم عليه أن يراعي رغبات السلطة العباسية([50]).
ومن التبريرات التي تتردَّد في هذا السياق أن حديثهم اختلط مع المكذوب عليهم؛ جرّاء كثرة الكذب عليهم ممَّنْ انتحل التشيُّع، فلم يتمكَّن العلماء من تمييز صحيحه من فاسده!([51]). وهو تبريرٌ غير مقنعٍ، ويتعارض مع تحدّي أهل الحديث حين واجههوهم بكثرة الكذب في الحديث النبويّ، فكان جوابُ بعضهم: تعيش لها الجهابذة([52]). فهل عجزَتْ الجهابذة وتوارَتْ وراء الجُدُر وانسحبَتْ من الميدان حين جاءت النَّوْبة إلى تنقيب الحديث النبوي المرويّ عن عليّ بن أبي طالب وجعفر بن محمد؟!
وكان ابن تيمية أكثر صراحةً، حين رأى أن البخاري استراب في بعض حديث الإمام جعفر؛ لما بلغه كلام القطّان فيه، فلم يخرِّج له في صحيحه([53]).
وبهذا يتبين أن الرِّيبة عند بعض أهل الحديث لم تقِفْ عند حدّ الرواة عنه، بل امتدَّتْ إلى الإمام جعفر نفسه، وإلى حديثه مباشرةً.
ولا رَيْبَ أن الظروف السياسية والفكرية الشديدة التي مرَّتْ بأهل البيت تركَتْ آثارها وانعكاساتها على اتجاهات الرواة والمحدِّثين. وقد أفرز الاجتماع الديني والسياسي خلال القرن الأوّل وما تلاه فريقاً من المحدِّثين محمّلاً بنزعة الإعراض عن حديث أهل البيت، وتقديم تبريراتٍ واهية لهذه المواقف. ولا يستغرب من ذلك؛ فإنها من انعكاسات العصرين الأموي والعبّاسي. ويؤيِّد ذلك المواقف التي نقلها الذهبي لبعض هؤلاء من حديث الإمام جعفر، ومنها: ما نقله عن سفيان: كنّا إذا رأينا طالباً للحديث يغشى ثلاثةً ضحكنا منه، أحدهم: جعفر بن محمد؛ لأنهم كانوا لا يتقنون الحديث! ونقل مصعب بن عبد الله، عن الدراوردي: لم يروِ مالك عن جعفر، حتّى ظهر أمر بني العبّاس، وأضاف: كان يضمّه إلى آخر! وقال يحيى بن سعيد القطّان: في نفسي منه شيءٌ، ومجالد أحبّ إليّ منه! وقوله عنه: ما كان كذوباً! وقد عدّها الذهبي من زلقاته! وعن يحيى بن معين: خرج حفص بن غياث إلى عبادان، فاجتمع إليه البصريّون، فقالوا: لا تحدِّثنا عن ثلاثة، أحدهم: جعفر بن محمد! فقال لهم: لو كنتم بالكوفة لأخذَتْكم النِّعال المطرقة([54]). وهذا النصّ يوضِّح أن الكوفة كانت تمثِّل أحد المراكز التي عنيَتْ بحديث الإمام جعفر في تلك الفترة، كما يبين نزعات الطعن في حديثه لدى بعض المحدِّثين.
ونقل ابن حجر أنه قيل لأبي بكر بن عياش: ما لك لم تسمع من جعفر، وقد أدركْتَه؟ قال: سأَلْناه عمّا يتحدَّث به من الأحاديث، أشيءٌ سمعْتَه؟ قال: لا، ولكنها روايةٌ رويناها عن آبائنا. وعلى فرض صحّة ذلك، فهل يشمل كلّ حديثه أم أحاديث معيَّنة سُئل عنها؟
وعن ابن سعد: كان (الإمام جعفر) كثير الحديث، ولا يحتجّ به، ويستضعف. سُئل مرةً: سمعْتَ هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم، وسُئل مرّةً، فقال: إنما وجَدْتُها في كتبه. قلتُ (ابن حجر): يحتمل أن يكون السؤالان وقعا عن أحاديث مختلفة، فذكر فيما سمعه أنه سمعه، وفيما لم يسمعه أنه وجده، وهذا يدلّ على تثبُّته([55]).
هكذا كان هذا الاتجاه الحديثي يقدِّم تسويغاتٍ واهية لترك الرواية عن الإمام جعفر الصادق. ويبدو أن أبان بن تغلب، وهو أحد تلامذة الإمام جعفر، أشار إلى هذه الفئة بقوله: مرَرْتُ بقومٍ يعيبون عليَّ روايتي عن جعفر، قال: فقلتُ: كيف تلومونني في روايتي عن رجلٍ ما سألتُه عن شيءٍ إلاّ قال: قال رسول الله([56]). وقد تركت هذه النزعة بصماتها الواضحة على مجال الجَرْح والتعديل لرواة الأحاديث ونَقَلة الآثار والأخبار. ويظهر أنها أثَّرَتْ حتّى على تصنيف درجات علماء الحديث إلى مراتب علمية مقرّرة. يؤيِّد ذلك شهادة الذهبي بأنه لم يكن أحدٌ في رأس الثلاث مئة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعِلَله ورجاله من مسلم، ومن أبي داوود، ومن أبي عيسى (الترمذي)، وهو جارٍ في مضمار البخاري وأبي زرعة، إلاّ أن فيه قليل تشيُّعٍ وانحراف عن خصوم الإمام عليّ، كمعاوية وعمرو([57]).
الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) مرجع عصره
ومع توسُّع رقعة الدولة، وحدوث الانفتاح على الفلسفات والأديان والمذاهب الفكرية المختلفة، انتشرَتْ في عصر الإمام جعفر المقالات والآراء، ونشطَتْ مجالس الجَدَل والمناظرة، وكثرت التساؤلات والإشكالات حول العقل والتكليف والتوحيد والصفات والأسماء والتشبيه والتنزيه والتجسيم والرؤية وعلم الله وقدرته وإرادته ومشيئته وأفعال الإنسان والجَبْر والاختيار والتفويض، وحول الوَحْي والنبوّة والرسالة، وما شاكل.
وكان الإمام جعفر يقصده الفلاسفة والمتكلِّمون والفقهاء والنظّار، فيناظرهم ويردّ على إشكالاتهم في الخلق والحدوث والتوحيد والمعاد. وكان يجادله أصحاب المقالات الفكرية والتيارات الكلامية وأصحاب الآراء التشكيكية، كابن أبي العوجاء وأبي شاكر الديصاني وابن المقفَّع، أو تنقل إليه إشكالاتُ هؤلاء وغيرهم، فيردّ على إشكالاتهم وشبهاتهم وتساؤلاتهم التشكيكية. فقد كان على علمٍ دقيق بالفلسفة ومناهج الفلاسفة، وبمواضع التهافت عندهم، وكان مرجع عصره في ردّ الشبهات ـ حَسْب أبي زهرة ـ، وكان ذا أفقٍ واسع في المعرفة، لم يتسنَّ لغيره من علماء عصره، فقد كانوا محدِّثين وفقهاء أو علماء في الكلام أو علماء الكون، وكان هو كلّ ذلك([58]). ويتحدَّث السيد أمير علي الهندي عن الحركة الفكرية التي شهدها العالم الإسلامي في بعض العصور، فيقرِّر أن زعامة تلك الحركة العلمية التي ازهَرَتْ في المدينة، والتي أسَّسها حفيد عليّ بن أبي طالب، المسمّى بالإمام جعفر، والملقَّب بالصادق. ويضيف: وكان رجلاً بحّاثةً ومفكِّراً كبيراً جيّد الإلمام بعلوم ذلك العصر، ويعتبر أوّل مَنْ أسَّس المدارس الفلسفية الرئيسة في الإسلام. ولم يكن يحضر محاضراته وحلقته العلمية أولئك الذين أسَّسوا فيما بعد المذاهب الفقهية فحَسْب، بل كان يحضرها الفلاسفة وطلاب الفلسفة من الأنحاء القصيّة([59]).
نماذج من مواقفه الفكريّة
وللتدليل على سعة علمه وتعدُّد آفاقه الفكرية، نذكر مقتطفاتٍ مختارة من كلماته وحواراته في بعض القضايا الفكرية التي سادت في زمانه:
ورد عنه في التوحيد: إن الله عظيمٌ رفيع، لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كُنْه عظمته، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، لا يوصف بكَيْفٍ، ولا أينٍ، وحيثٍ؛ وكيف أصفه بالكيف؟ وهو الذي كيَّف الكيف حتى صار كيفاً، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف؛ أم كيف أصفه بأين؟ وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أيناً، فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين؛ أم كيف أصفه بحيث؟ وهو الذي حيَّث الحيث حتّى صار حيثاً، فعرفت الحيث بما حيَّث لنا من الحيث([60]).
وأشار إلى صفاته الذاتية، فقال: لم يزَلْ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور([61]).
وسئل عن الأوّل والآخر؟ فقال: الأوّل لا عن أوّلٍ قبله، ولا عن بدءٍ سبقه، والآخر لا عن نهايةٍ كما يعقل من صفة المخلوقين، ولكنْ قديمٌ أوّلٌ آخرٌ، لم يزَلْ ولا يزول، بلا بدءٍ ولا نهاية، لا يقع عليه الحدوث، ولا يحول من حالٍ إلى حالٍ، خالق كلّ شيءٍ([62]).
ومن نماذج ما جاء من أحاديثه في المحاجّة في التوحيد: إن «مشكِّكاً» بمصر، اسمه عبد الملك، جاء ليحاجّه، وجرى بينهما حديثٌ، ثمّ قال له الإمام: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً؟ «قال: نعم، قال: فدخلتَ تحتها»؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها؟ قال: لا أدري، إلاّ أني أظنّ أن ليس تحتها شيءٌ، فقال الإمام: فالظنّ عجزٌ، لما تستيقن؟ ثمّ قال: أفصعَدْتَ إلى السماء؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا، قال عجباً لك، لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل الأرض، ولم تصعد السماء، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحدٌ بما فيهنّ، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟…إلخ([63]).
ومنها: إن ابن أبي العوجاء وابن المقفَّع شاهدا الإمام يطوف بالبيت، وبعدما فرغ جاء إليه الأول، قال: ولمّا لم يبْقَ أحدٌ بالمجلس قال له الإمام: إنْ يكن الأمر على ما يقول هؤلاء ـ وهو كما يقولون، يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم، وإنْ يكن الأمر على ما تقولون ـ وليس كما تقولون ـ فقد استويتُمْ وهُمْ، فقلتُ له: يرحمك الله، وأيّ شيءٍ نقول؟ وأيّ شيءٍ يقولون؟ ما قولي وقولهم إلاّ واحدٌ، فقال: كيف يكون قولك وقولهم واحداً، وهم يقولون: إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن في السماء إلهاً، وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خرابٌ، وليس فيها أحدٌ، قال: فاغتنمتها منه، وقلتُ له: ما منعه إنْ كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه، ويدعوهم إلى عبادته؛ حتّى لا يختلف منهم اثنان، ولِمَ احتجب عنهم، وأرسل إليهم الرُّسُل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟ فقال لي: ويلك، كيف احتجب عنك مَنْ أراك قدرته في نفسك، نشوؤُك ولم تكن، وكبرك وصغرك، وقوّتك وضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك…، قال: وما زال يعدِّد عليَّ قدرته، التي هي في نفسي التي أدفعها، حتّى ظنَنْتُ أنه (الخالق) سيظهر فيما بيني وبينه([64]).
وقال ابن أبي العوجاء لأبي عبد الله الصادق، في بعض ما يحاوره: ذكرْتَ الله فأحلْتَ على غائبٍ، فقال: ويلك، كيف يكون غائباً مَنْ هو مع خلقه شاهدٌ، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم؟ فقال: أهو في كلّ مكانٍ؟ أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟ وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟ فقال: إنما وصفْتَ المخلوق، الذي إذا انتقل عن مكانٍ اشتغل به مكانٌ، وخلا منه مكانٌ، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما يحدث في المكان الذي كان فيه؛ فأما الله العظيم الشأن الملك الديّان فلا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكانٍ أقرب منه إلى مكان([65]).
وسأله أحد المشكِّكين: من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ فقال: إنّا لمّا أثبَتْنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجُزْ أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبِّرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، والمعبِّرون عن الله عزَّ وجلَّ، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه…إلخ([66]).
وورد عنه في قضية الجبر والتفويض والاختيار، وعلاقتها بعلم الله وإرادته من جهةٍ، وما يترتب عليها من الثواب والعقاب من جهةٍ أخرى: قال له رجلٌ: أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال: ألله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي، ثم يعذبهم عليها، فقال له: ففوّض الله إلى العباد؟ فقال: لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: فبينهما منزلة؟ قال: نعم، أوسع ما بين السماء والأرض([67]).
وورد عنه أنه قال: الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد([68]). وطرح مبدأً عاماً في مسألة الجبر والتفويض والاختيار بقوله: لا جبر، ولا تفويض، لكن أمرٌ بين أمرين، قيل: وما أمرٌ بين أمرين؟ قال: مَثَلُ ذلك رجلٌ رأيته على معصيةٍ، فنهيتَه، فلم ينتهِ، فتركتَه، ففعل تلك المعصية، فليس؛ حيث لم يقبل منك فتركتَه، كنتَ أنت الذي أمرتَه بالمعصية([69]).
ب كامل في الحكمة و زهد بالغ في الدنيا وورع تام عن الشهوات . و قد أقام بالوبالفعل تمكّن الإمام جعفر الصادق في هذه الفترة من نشر علمه وحديثه وحديث آبائه في التفسير والحديث والكلام والفقه وسائر المجالات المعرفية الدينية.
قال المفيد(413هـ) وابن حجر الهيتمي(974هـ): «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البدان»([70]). وأضاف المفيد قائلاً: ولم ينقل عن أحدٍ من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونَقَلة الأخبار ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله. وأضاف: إن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة الثقات على اختلاف في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل([71]).
علق الدكتور صبحي الصالح على ذلك بقوله: ولسنا نستغرب هذا، بل قد كان ممكناً أن نستغرب عكسه لو وقع ونقل. وعزاه إلى النزاع حول الإمامة والعصمة وتتبّع الشيعة للروايات التي تثبت صحّة عقيدتهم فيها. وأضاف: أن أهل البيت فوق ذلك، أعلم الناس بكتاب الله وسنّة نبيِّه، فلا عجب إذا اتجهوا إلى التعليم والمناظرة والتدريس، بعد أن أبعدهم الأمويون عن الحكم والسياسة([72]).
وثمة شهادة تاريخية لأحد الرواة في القرنين الثاني والثالث، وهو الحسن بن علي بن زياد الوشّاء (عاش إلى أوائل القرن الثالث الهجري)، قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كلٌّ يقول: حدَّثني جعفر بن محمد([73]). ولا تعنينا الأرقام بقدر ما تهمّنا دلالة الرواية على الكثرة التي حدّثت عنه. ومن المفترض أن يكونوا من اتجاهات متعدّدة، على الأقلّ من تلك التي كانت تحترم أهل البيت، وتنهل من علومهم.
وكان المنصور العبّاسي(158هـ) يقلقه انتشار صيت الإمام جعفر، والتفاف الناس حوله، وتلقِّيهم من معين فكره، وتأثُّرهم بآرائه. وقد حرصت السلطة على إبراز شخصياتٍ فقهية أخرى من اتجاه الحديث بالمدينة، أو الرأي بالعراق، وفرض فقهها وفتاواها في القضاء الرسمي. فقد طلب المنصور من مالك بن أنس أن يوطئ للناس كتاباً وقال له: لئن بقيتُ لأكتبنَّ قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثنَّ به إلى الآفاق فأحملهم عليه([74]). واعتمد الرشيد في عهده فقهاء الرأي من تلامذة أبي حنيفة، كالقاضي أبي يوسف، الذي كتب له كتاب الخراج، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهما.
وفكَّر المنصور في إحراج الإمام جعفر الصادق أمام العلماء، والتقليل من شأنه أمام الجماهير؛ للاستنقاص من سمعته العلمية. روى الموفَّق الخوارزمي(568هـ) وغيره، عن الحسن بن زياد اللؤلؤي: سمعتُ أن أبا حنيفة سُئل: مَنْ أفقه مَنْ رأيتَ؟ قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق، لما أقدمه المنصور بعث إليَّ، فقال: إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيِّئ له من المسائل الشداد. وبالفعل هيأ أبو حنيفة أربعين مسألة، وعُقد لذلك مجلسٌ حضره المنصور بنفسه، يقول أبو حنيفة: فأتيتُه، فلما بصرت به دخلَتْني من الهيبة لجعفر الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فالتفت إليَّ المنصور وقال: ألْقِ على أبي عبدالله مسائلك، فجعلتُ ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا (أهل العراق أو الرأي)، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فرُبَما تابعنا ورُبَما تابعهم ورُبَما خالفنا جميعاً، حتّى أتيتُ على الأربعين مسألة، وعندها قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس([75]).
وهذا المجلس الذي عقده المنصور لإحراج الإمام جعفر أمام العلماء، وإبراز علم إمام الرأي أبي حنيفة وتفوُّقه عليه، قد حضره الإمام جعفر دون علمٍ أو تحضيرٍ مسبقين، على عكس أبي حنيفة.
وهذا النصّ التاريخي يكشف عن الإحاطة العلمية الواسعة للإمام جعفر، ويفيد كذلك بوضوحٍ أن مدرسة أهل البيت كانت قد غدَتْ معروفةً مشخّصة، وصار لها صيتٌ في الأوساط العلمية والسياسية.
لقد كانت هذه الفترة ـ نسبيّاً ـ من أنشط الفترات التاريخية التي مرّ بها أهل البيت وأتباعهم ومحبّوهم. لقد واصل الإمام جعفر مسيرة والده الباقر، وفتح أبوابه مشرّعةً لروّاد المعرفة من مختلف التيارات، فقصده طلاب الفكر والفقه والحديث والكلام، وانهالت عليه الأسئلة في مختلف مجالات الفكر الديني، وكان يجيب عليها بكلٍ رحابة صدر.
والناظر في بعض مصادر الحديث، مثل: «الكافي»، للكليني(329هـ)، و«التوحيد»، للصدوق(381هـ)، يمكنه أن يطلع على المحاور المتعدّدة التي تركّزت حولها كلماته أحاديثه وحواراته، كما يمكنه أن يلحظ مستوى أجوبته عن الأسئلة التي كانت تُطْرَح عليه في مجالات العقل والعلم والنقل والحدوث وإثبات الخالق الموجد وتوحيده، وحول صفات الذات والفعل، وحول الرؤية والتجسيم والحركة والتحيّز والحدّ، وحول الحجّة والنبوة والإمامة والمعاد والجبر والاختيار والسعادة والشقاء والحُسْن والقُبْح، بالإضافة إلى قضايا الفقه الشرعي والقِيَم الأخلاقية.
لقد ظهرت جليّاً إمامته واقتداره في المعرفة الدينية في الأوساط الفكرية، ولهذا لا نستغرب من الإمام جعفر أن يقول ـ كما أورد الذهبي ـ: سلوني قبل أن تفقدوني؛ فإنه لا يحدِّثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي. وأن يقول عنه أبو حنيفة: ما رأيتُ أفقه من جعفر بن محمد([76]).
موقفه من تشجيع الكتابة والتدوين
وكان الإمام جعفر، على نهج جدّه الإمام عليّ، يحثّ تلامذته على كتابة الحديث وتدوين العلم. قال ابن الصلاح(643هـ): اختلف الصدر الأوّل في كتابة الحديث؛ فمنهم مَنْ كره كتابة الحديث والعلم، وأمروا بحفظه؛ ومنهم مَنْ أجاز ذلك. وممَّنْ روينا عنه كراهة ذلك عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري، في جماعةٍ آخرين من الصحابة والتابعين. وممَّنْ روينا عنه إباحة ذلك وفعله عليّ وابنه الحسن وأنس وعبد الله بن عمرو، في جمعٍ آخر من الصحابة والتابعين([77]). وبالفعل فقد كان بعضهم يكتب ما يمليه عليهم، ويحدِّثهم به من المعارف في مختلف المجالات المعرفية. ونشط تلامذته والرواة عنه في كتابة كثيرٍ من الرسائل والكراسات التي عُرِفَتْ في الأدبيات الشيعية بـ «الأصول». ونقل عن الشيخ المفيد أنهم صنَّفوا منذ عهد أمير المؤمنين إلى عهد الإمام العسكري أربعمائة كتاب، تسمّى الأصول([78]).
أخرج ابن سعد(230هـ): إن عليّ بن أبي طالب خطب الناس فقال: مَنْ يشتري علماً بدرهم؟ فاشترى الحارث الأعور صحفاً، ثمّ جاء عليّاً فكتب له علماً كثيراً([79]).
وروى الكليني(329هـ)، عن الحارث بن الأعور: خطب أمير المؤمنين عليّ يوماً خطبة بعد العصر، فعجب الناس من حسن صفته، وما ذكر من تعظيم الله جلَّ جلاله، قال أبو إسحاق: فقلتُ للحارث: أَوَما حفظتَها؟ قال قد كتبتُها، فأملاها علينا من كتابه([80]).
وقد خصّص الكليني(329هـ) في «الكافي» باباً بعنوان «باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسُّك بالكتب»، جاء فيه عن الإمام جعفر: اكتبوا؛ فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا. وقال للمفضَّل بن عمر: اكتب وبثَّ علمك في إخوانك، فإنْ مِتَّ فأورث كتبك([81]).
وعن حمزة الطيّار، عن أبي عبد الله، قال: قال لي: اكتب، فأملى عليَّ: إن من قولنا: إن الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثمّ أرسل إليهم رسولاً، وأنزل عليهم الكتاب، فأمر ونهى([82]).
وعن حمزة بن الطيّار قال: قال لي أبو عبد الله (الصادق): الناس على ستّة أصناف، قال: قلتُ: أتأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم، فأملى عليه الأصناف، مستنبطةً من القرآن الكريم([83]).
وكان زرارة يدخل عليه أحياناً، ومعه ألواحٌ، يكتب فيها أحاديثه وأجوبته عن الأسئلة التي يطرحها عليه([84]).
إسهاماتٌ فكريّة لأصحاب الأئمّة
وتشير كتب التراجم والفهارس بأن أصحاب الأئمّة كان لهم إسهامٌ كتابي ظاهر في مختلف مجالات الفكر الديني آنذاك. ونشير هنا إلى نماذج قليلة ومختصرة ممّا ذكره ابن النديم في فهرسته. تطرّق في الفنّ الخامس من المقالة السادسة إلى أخبار فقهاء الشيعة وأسماء ما صنَّفوه من الكتب، وقال: أول كتابٍ ظهر للشيعة كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي(90هـ)، وهو من أصحاب أمير المؤمنين، وكان هارباً من الحجّاج؛ لأنه طلبه ليقتله([85]). ومنهم: أبان بن تغلب، ومن كتبه: كتاب معاني القرآن، كتاب القراءات، كتاب من الأصول في الرواية على مذاهب الشيعة([86]). ومنهم: يونس بن عبد الرحمن، من أصحاب موسى بن جعفر، علاّمة زمانه، كثير التصنيف والتأليف على مذاهب الشيعة، ومن كتبه: علل الأحاديث، كتاب جامع الآثار، كتاب الصلاة، والصيام، والزكاة، والوصايا، والفرائض([87]). ومنهم: الحسن بن محبوب السرّاد، من أصحاب الرضا وابنه محمد، ومن كتبه: التفسير، وكتاب النكاح، الفرائض، والحدود والديات.
وتطرَّق في الفنّ الثاني من المقالة الخامسة إلى متكلِّمي الشيعة. وممَّنْ ذكره منهم: علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، ووصفه بأنه أوّل مَنْ تكلَّم في مذهب الإمامة، وله من الكتب: كتاب الإمامة، وكتاب الاستحقاق([88]). ومنهم: هشام بن الحكم، من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد، من متكلِّمي الشيعة، وممَّنْ فتق الكلام في الإمامة، وهذَّب المذهب بالنظر، ومن كتبه: كتاب التوحيد، كتاب الدلالات على حدوث الأشياء، الردّ على الزنادقة، الردّ على أصحاب الاثنين، كتاب الردّ على أرسطاليس في التوحيد، كتاب الوصية والردّ على مَنْ أنكرها، اختلاف الناس في الإمامة، الردّ على مَنْ قال بإمامة المفضول، كتاب الأخبار وكيف تصحّ؟([89]). ومنهم: أبو جعفر الأحول، وكان متكلِّماً حاذقاً، ومن كتبه: كتاب المعرفة، وكتاب الإمامة، والردّ على المعتزلة في إمامة المفضول([90]).
هذه بعض النماذج من إسهامات فقهاء ومتكلِّمي ومحدِّثي الشيعة من أصحاب الأئمة. ويتبين من عناوين كتبهم أنهم كانوا فاعلين ومتفاعلين مع المشهد الفكري، وكانت لهم مواقف علمية من مختلف التيارات الكلامية والفلسفية والدينية، سواء منها المسلمة أو الوافدة. فلم يكتفوا بالكتابة في مجالات الفكر الإسلامي، كعلوم القرآن والفقه وأصول الرواية وعلل الحديث والتوحيد والإمامة والوصية، ولم يقفوا عند مناقشة التيارات المسلمة، كالمعتزلة والمرجئة، بل ناقشوا أتباع الأديان والمذاهب الفلسفية، كالثنوية والمانوية، ونقدوا الفلسفة الأرسطية. وهذا يدلّ على اتساع آفاقهم الفكرية، وانفتاحهم على نتاجات مختلف الأديان والمذاهب والتيارات. إن تلكم الكتب ـ للأسف ـ لم تصِلْ إلينا؛ ولعل مصيرها وكثيرٍ غيرها كان الحرق والإتلاف، غير أنه لا يبعد أن تكون مضامينها متناثرةً على شكل أحاديث ومرويّات عن أصحابها في مصادر الحديث الإمامي وغير الإمامي.
وبناءً على بعض النصوص والأدلة التاريخية، ذهب بعض الباحثين إلى أن الشيعة كانوا سبّاقين إلى الكتابة في مجال الفقه والقضاء والفكر السياسي وبحوث الإمامة.
أشار الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى بعض النصوص حول «مجموعة زيد بن علي»، وكتاب حول قضاء عليٍّ، ثمّ خلص إلى القول: إن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين. أما سبب ذلك في نظره فهو اعتقادهم العصمة في أئمتهم، فإنه ساقهم إلى الحرص على تدوين أقضيتهم وفتاواهم([91]). أما في الفكر السياسي فقد انتهى بعض الباحثين، كالدكتور الريس، إلى أن الشيعة هم الذين أوجدوا هذا العلم، وطبعوه بطابعهم، وصاغوه الصياغة التي ارتضَوْها، وهم الذين اختاروا للإمامة مصطلحاتها الفنِّية، وهم الذين وضعوا الأساس لعلم الإمامة أو علم النظريات السياسية الإسلامية، وعيَّنوا مجاله، ورسموا حدوده([92]). وفي موسوعة السياسة: وكان مؤلِّفو الشيعة هم طلائع المؤلِّفين في الفكر السياسي الإسلامي، عندما ألفوا في الإمامة مؤلَّفات مستقلة، وتناولوها في مباحثهم الكلامية([93]).
الأئمّة(عليهم السلام) وتنمية المَلَكات الفكريّة لأصحابهم
وكان الأئمّة يحرصون على تنمية المَلَكات الفكرية والفقهية لأصحابهم، وبالأخصّ بعض الذين ظهرت عليهم علامات النبوغ، وكانوا يعتنون بهم، ويختلون ببعضهم، ويستمعون إلى أسئلتهم، ويتيحون لهم فرص المناقشة والبحث عن الأدلة وطرح الإشكالات، ويردّون على بعضها بأجوبةٍ كلِّية قاعدية، تسهم في تنمية مَلَكاتهم الاستنباطية.
ورد عن هشام بن الحكم أنه سأل الإمام جعفر عن أسماء الله واشتقاقها: الله ممّا هو مشتق؟ فقال: الله مشتقّ من إله، والإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمَنْ عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ولم يعبد شيئاً؛ ومَنْ عبد الاسم والمعنى فقد كفر، وعبد اثنين؛ ومَنْ عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد. وفي الختام قال له: أفهمْتَ يا هشام؟ قال: قلتُ: زدني: قال: لله تسعة وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان لكلّ اسم منها إلهاً، ولكنّ الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء…، وفي نهاية الحديث قال له: أفهمْتَ، يا هشام، فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتَّخذين مع الله عزَّ وجلَّ غيره؟ قلتُ: نعم: فقال: نفعك الله به، وثبَّتك([94]).
وورد عن زرارة قال: قلتُ لأبي جعفر (الباقر): أكان الله ولا شيء؟ قال: نعم، كان ولا شيء، قلتُ: فأين كان يكون؟ قال: وكان متَّكئاً، فاستوى جالساً، وقال: أحَلْتَ (قلْتَ محالاً) يا زرارة، وسألت عن المكان إذ لا مكان([95]).
وسأل منصور بن حازم الإمام جعفر فقال: هل يكون اليوم شيءٌ لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، مَنْ قال هذا فأخزاه الله، قلتُ: أرأيتَ ما كان وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق([96]).
وعن أبي بصير: سألتُ أبا عبد الله (جعفر) عن قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾؟ فقال: نزلت في عليٍّ والحسن والحسين، فقلتُ له: إن الناس يقولون: فما له لم يسمِّ عليّاً وأهل بيته في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم يسمِّ الله ثلاثاً، ولا أربعاً، حتى كان رسول الله هو الذي فسَّر ذلك لهم؛ ونزلت عليه الزكاة ولم يسمِّ لهم من كلّ أربعين درهم درهم، حتّى كان رسول الله هو الذي فسّر ذلك لهم؛ ونزل الحجّ فلم يقُلْ طوفوا أسبوعاً، حتّى كان رسول الله هو الذي فسَّر ذلك لهم([97]).
وعن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم أنه قال لأصحابه: ما لكم والقياس؛ إن الله لا يُسأل كيف أحلّ؟ وكيف حرَّم؟([98]).
وعنه قال لهشام: يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشَّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾…، يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة؛ وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة؛ وأما الباطنة فالعقول([99]).
وفي مستطرفات السرائر، لابن إدريس الحلي(598هـ)، عن الإمام جعفر الصادق قال: إنما علينا أن نلقي عليكم الأصول، وعليكم أن تفرِّعوا.
وورد عن الإمام عليّ الرضا: إنما علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفريع([100]).
وكانوا يوجِّهونهم الى التفكير الاستدلالي، ويطرحون عليهم القواعد الكلية التي تنطبق على وقائع ونوازل متعدّدة، ويوجِّهونهم للتفريع عليها.
ومن الشواهد التي يمكن أن يُشار إليها حول ما ورد عنهم في مجال القواعد الأصولية والفقهية: ما جاء عن زرارة قال: قلتُ له (أي للإمام جعفر الصادق): الرجل ينام وهو على وضوءٍ أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ وبعد محادثة بينهما، قال له: لا، حتّى يستيقن أنه قد نام، حتّى يجيء من ذلك بأمر بين، وإلاّ فإنه على يقينٍ من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ، ولكنْ ينقضه بيقينٍ آخر. وهي تشير إلى قاعدة الاستصحاب([101]).
وورد عنه: كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنه قذرٌ، وما لم تعلم فليس عليك([102]). وهي تشير إلى قاعدة أصالة الطهارة.
وعنه: كلّ شيءٍ يكون فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلالٌ أبداً، حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتَدَعه([103]). وهي تشير إلى قاعدة أصالة الحلّ([104]).
وكان في أصحابهم مَنْ كان ملمّاً بالفقه المقارن، ومطلعاً على فتاوى التيارات الفقهية الأخرى، فوجَّههم الأئمة للإفتاء حَسْب توجُّهات المستفتي منهم، وطرح فقه أهل البيت أثناء ذلك.
ورد أن أبا جعفر الباقر وجَّه أبان بن تغلب إلى الإفتاء، وقال له: اجلس في مجلس المدينة وأَفْتِ الناس؛ فإني أحبّ في شيعتي مثلك([105]).
وقال له أبو عبد الله جعفر الصادق: جالِسْ أهل المدينة، فإني أحبّ في شيعتنا مثلك([106]).
وقال له أبان: إني أقعد في المسجد فيجيؤون الناس، فيسألوني، فإنْ لم أجبهم لم يقبلوا مني، وأكره أن أجيبهم بقولكم وما جاء منكم، فقال له: انظُرْ ما علمْتَ أنه من قولهم فأخبرهم بذلك([107]).
وعن معاذ بن مسلم الهراء النحوي، أن أبا عبد الله جعفر الصادق قال له: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس، قال: قلتُ: نعم، وقد أردْتُ أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في الجامع فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يقولون، ويجيء الرجل أعرفه بحبّكم أو بمودّتكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري مَنْ هو فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، قال: فقال لي: اصنع كذا؛ فإني أصنع كذا([108]).
واهتمّ فريقٌ من أصحابه بالكلام وحضور مجالس المناظرة والجَدَل الكلامي ومجادلة النظّار من مختلف تيارات المسلمين وغيرهم. وكان الإمام يرشدهم إلى قواعد المناظرة، ويبين لهم نقاط القوّة والضعف في أساليبهم، ويشجِّع المتمكِّن منهم على مواصلة الجدال والحوار الفكري مع أقطاب الفِرَق.
روى الكليني أن الإمام جعفر الصادق شهد مناظرةَ بعض أصحابه من المتكلِّمين مع أحد الشاميّين، فلما انتهوا جعل يقيِّم كلّ واحدٍ منهم، ويبين له موطن القوّة والضعف لديه، قال لحمران بن أعين: تجري الكلام على الأثر، فتصيب؛ وقال لهشام بن سالم: تريد الأثر، ولا تعرفه؛ وقال لأبي جعفر الأحول: قيّاسٌ روّاغ، تكسر باطلاً بباطل؛ وقال لقيس بن الماصر: تمزج الحقّ مع الباطل، وقليلُ الحقّ يكفي عن كثير الباطل، أنت والأحول قفّازان حاذقان؛ وقال لهشام بن الحكم: لا تكاد تقع، تلوي رجلَيْك إذا همَمْتَ بالأرض طرْتَ، مثلك فليكلِّمْ الناس، فاتَّقِ الزلَّة…، إلخ([109]). واشتهر بعضهم، مثل: هشام والأحول والميثمي، بحضور البديهة وقوّة الجَدَل، ونقل المفيد جملةً من مناظراتهم في كتابه (المجالس) مع متكلِّمين وفقهاء وأصحاب مقالات من مختلف التيّارات والاتجاهات.
ونقل المسعودي عن كتاب «المجالس»، لأبي عيسى الورّاق(247هـ)، مناظرةً لهشام بن الحكم(179هـ) مع شيخ المعتزلة البصريّين عمرو بن عبيد(144هـ)، حول الإمامة، حيث وجَّه إليه عدّة أسئلة تمهيدية حول علّة خلق الله تعالى لبعض أعضاء الجسم، كالعين والأذن واللسان، والأخير يجيبه، ثم توجَّه إليه بسؤالٍ عن وظيفة القلب، فأجابه: لتكون هذه الحواسّ مؤدِّية إليه؛ فيكون مميِّزاً بين منافعها ومضارّها، فقال هشام: فكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسّك ولا يخلق لك قلباً تؤدّي هذه الحواس إليه؟ قال عمرو: لا، فسأله عن السبب، فقال: لأن القلب باعث لهذه الحواسّ على ما يصلح له، فلو لم يخلق الله فيها انبعاثاً من نفسها استحال أن لا يخلق لها باعثاً يبعثها على ما خلقَتْ له إلاّ بخلق القلب، فيكون هو الباعث لها على ما تفعله، والمميِّز لها بين مضارها ومنافعها([110])، وأضاف في الكافي: إن هشاماً توجَّه إليه قائلاً: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً، يصحِّح لها الصحيح، ويتيقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً، يردّون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك؟([111]).
وروى ابن قتيبة(276هـ)، أن ملحداً جاءه، فقال له: أنا أقول بالاثنين، وقد عرفتُ إنصافك، فلستُ أخاف مشاغبتك، فقال له هشام، وهو مشغولٌ بثوب ينشره: حفظك الله، هل يقدر أحدهما أن يخلق شيئاً لا يستعين بصاحبه عليه؟ قال: نعم، قال هشام: فما ترجو من اثنين، واحد خلق كل شيء أصحّ لك! فقال: لم يكلِّمني بهذا أحدٌ قبلك. والرواية تدلّ على أنه كان معروفاً، وله مصداقية في الجَدَل الكلامي.
ونقل ابن قتيبة حواراتٍ أخرى له مع الموبذ من علماء المجوس([112]).
الكيان المدرسي لأهل البيت(عليهم السلام)
والواقع أن مدرسة أهل البيت شهدت في زمان الإمامين الباقر والصادق نهضةً فكرية ومعرفية واسعة، فقد تمّ فيها توضيح وشرح المعالم العامّة لمدرسة أهل البيت في شتّى المعارف الإسلامية، وتبينت لأتباعهم ومحبِّيهم طبيعة المرجعية الدينية التي يمثِّلونها. وتمّ نفض الغبار عن أبعادها الدينية والاجتماعية.
وكانت الجماهير قبل ذلك تجهل كثيراً من فقههم وتعليماتهم الدينية والحياتية؛ نتيجة للظروف الصعبة التي أحاطَتْ بالأئمّة وأتباعهم.
ورد عن الإمام جعفر الصادق: كانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر (الباقر) وهم لا يعرفون مناسك حجِّهم وحلالهم وحرامهم، حتّى كان أبو جعفر، ففتح لهم وبين لهم حتّى صار الناس يحتاجون إليهم من بعدما كانوا يحتاجون إلى الناس([113]).
ويعدّ من النتائج البارزة للدَّوْر الفكري الذي قام به الإمامان الباقر والصادق أن مدرسة أهل البيت غدَتْ ـ وبالأخصّ في زمن الإمام الصادق ـ معروفةً بمصادرها ورموزها ومرتكزاتها الفكرية ومبانيها الفقهية. وقد رأَيْنا الإمام جعفر في أجوبته على أبي حنيفة، في المجلس الذي عقده المنصور العباسي، يصرِّح بمدرسة أهل البيت فيقول: «ونحن نقول كذا»، إلى جانب ذكر آراء أهل الحديث والرأي.
ويظهر أن بعض الأئمّة من قبل كانوا يصرِّحون بذلك في بعض الأوساط، وإنْ لم يكن بهذا الوضوح، كما في هذا الدَّوْر. أخرج أبو نعيم، عن الزهري، أنه وجماعةً دخلوا على الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين، فسألهم: فيمَ كنتُم؟ قال: تذاكرنا الصوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شيءٌ واجب إلاّ شهر رمضان، فقال: يا زهريّ، ليس كما قلتُم، الصوم على أربعين وجهاً، إلى أن ذكر صوم المريض والمسافر، فقال: إن العامة اختلفَتْ فيه؛ فقال بعضهم: يصوم؛ وقال قومٌ: لا يصوم؛ وقال قومٌ: إنْ شاء صام، وإنْ شاء أفطر؛ أما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، وعليه القضاء، واستشهد بقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾([114]).
وبلغ الإمام جعفر عن أحد أصحابه، وهو معاذ بن مسلم النحوي، أنه يجلس للإفتاء، فسأله عن ذلك، فأجابه قائلاً: يجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري مَنْ هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، قال: فقال لي: اصنع كذا؛ فإني أصنع كذا([115]).
لقد كان أتباع أهل البيت وموالوهم قبل زمن الصادق، يُعْرَفون بشيعة عليّ والحسين، أو بالشيعة بشكلٍ عامّ. وثمّة تطوُّرٌ ملفتٌ حصل في عصر الإمام جعفر، له دلالته التاريخية، حيث يستفاد من بعض الروايات أن أتباعه ومحبِّيه كانوا يضافون إليه، وينسبون إليه، ويعرفون بـ «الجعفرية» في زمانه، مما يدلّ على أنه بالفعل صار لهم كيانٌ فكري معنوي معروف. ورد عن زيدٍ الشحّام قال: قال لي أبو عبد الله: اقرأ على مَنْ ترى أنه يطيعني ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزَّ وجلَّ والوَرَع في دينكم، إلى أن قال: صِلُوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم؛ فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الإمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفريٌّ، فيسرّني ذلك، ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر([116]). وفي روايةٍ أخرى: قال أبو الصباح الكناني لأبي عبد الله: ما نلقى من الناس فيك؟ فقال أبو عبد الله: وما الذي تلقى من الناس فـيَّ؟ فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام، فيقول: جعفريٌّ خبيث، فقال: يعيِّركم الناس بي؟ فقال له أبو الصباح: نعم، قال: فقال: ما أقلّ والله مَنْ يتبع جعفراً منكم، إنما أصحابي من اشتدّ وَرَعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي([117]).
فالكناني يشير إلى ما كانوا يلقونه أثناء بيانهم آراءهم الفقهية وحججهم الكلامية لبعض معارفهم من التيارات الأخرى، فإنهم سرعان ما ينسبونهم إلى الإمام جعفر. ويبدي الإمام جعفر تأسُّفه لذلك، مع أن كثيراً من المنتمين إليه ـ كما هي العادة ـ لا يتقيَّدون بتعليماته التفصيلية.
وفي هذه المرحلة يحدِّد أبان بن تغلب ـ وهو أحد أصحاب الإمام جعفر البارزين ـ معياراً واضحاً يُعْرَف به الشيعة من غيرهم من تيارات المسلمين: عن عبد الرحمن بن الحجّاج: كنّا في مجلس أبان، فجاءه شابٌّ، وقال: يا أبا سعيد، أخبرني كم شهد مع عليّ بن أبي طالب من أصحاب النبيّ؟ فقال له: كأنك تريد أن تعرف فضل عليٍّ بمَنْ تبعه من أصحاب رسول الله؟ قال: هو ذاك، فقال: والله ما عرفنا فضلهم إلاّ باتِّباعهم إيّاه. وقال أبان لأبي البلاد: تدري مَنْ الشيعة؟ الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله أخذوا بقول عليٍّ، وإذا اختلف الناس عن عليٍّ أخذوا بقول جعفر بن محمد([118]). وأبان بن تغلب كان من تلامذة الإمام جعفر الصادق البارزين، وصفه الحاكم النيسابوري بقاضي الشيعة، وحديثه مخرَّجٌ في الصحيحين. وعرَّفه الذهبي بأنه شيعي جَلِدٌ، لكنه صدوق([119]).
وإذا نظرنا في حقيقة المعيار الذي حدَّده أبان بن تغلب نجده يتمحور حول مرجعية أئمّة أهل البيت في الدين، وهو ما أكَّدَتْه النصوص الدينية.
دَوْر الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) في توضيح معالم التشيُّع
ويتَّفق عددٌ من الباحثين من مختلف الاتجاهات الفكرية على دَوْر كلٍّ من الإمامين محمد الباقر وابنه جعفر الصادق في إبراز وتوضيح ونشر الفكر الشيعي الإمامي في هذه المرحلة التاريخية.
يرى الدكتور النشّار أن الإمام أبا جعفر محمد بن علي الباقر أخذ يرسي قواعد «عقيدة الإمام»، ويضعها في أسلوبها المنهجي، الذي سنراه يتَّضح عند ابنه جعفر الصادق على أكبر صورةٍ([120]).
ووصف أحمد أمين الإمام جعفر بأنه أكبر شخصيات ذلك العصر في التشريع الشيعي، بل رُبَما كان أكبر الشخصيات في ذلك، في العصور المختلفة. وكثيرٌ من أحاديث الإمامة ونظمها تُروى عنه. ويظنّ ـ حَسْب تعبيره ـ أن فكرة المهديّة وعصمة الأئمّة وتقديسهم وإعلاء شأنهم نبتَتْ في ذلك العصر([121]).
وحَسْب الخربوطلي، إن جعفر الصادق نادى بانحصار الخلافة في أولاد الحسين، دون الحسن([122]).
ويذهب الدكتور الجابري إلى أن جعفر الصادق الإمام الشيعي الأكبر قد توفي سنة 148هـ، وأنه تمّ في عهده تدوين الحديث والفقه والتفسير من وجهة نظر الشيعة، وبعبارةٍ أخرى: تمّ في عهده، وبإشرافه، تنظيم الفكر الشيعي، وصياغة قضاياه الأساسية صياغةً نظرية([123]).
أما المستشار عبد الجواد فقد تردَّد في تحديد دَوْر الإمامين الباقر والصادق في بلورة الفكر الشيعي؛ فتراه مرّةً يقرِّر أن للإمام جعفر دَوْراً لا ينكر في عملية التأسيس النظري الأوّلي للتشيع الإمامي، خلافاً للمتكلِّمين السنِّيين ـ حَسْب كلامه ـ؛ وتجده مرّةً أخرى ينفي أن يكون الصادق هو الذي أنشأ التشيُّع الإمامي، وبنى منظومته النظريّة بكاملها([124]). وأخيراً قرَّر بأن المواقف المروية عن الباقر والصادق، والتي تشير إلى تبنِّيهما لمفهوم «الإمامة الموازية»، ومفهوم «التقية»، ومفهوم «العصمة»، وفي مصادر غير متَّهمة، تجعله يميل إلى القول بأن الروايات المنسوبة إليهما في ما يتعلَّق بهذه المفاهيم ليست مكذوبةً عليهما بالضرورة([125]).
إن بعض الكتّاب يتعامل مع مرويات المصادر الإمامية بمواقف مسبقة، فيشكِّك في مصداقيتها بالجملة؛ تأثُّراً بما تناقلَتْه مصادر التراث السائد، أو مجاراةً لمواقف السلطة الدينية الموروثة. ولو أمعنوا النظر فيها، وحاولوا التجرُّد عن تلكم التأثيرات، واتَّبعوا أساليب الموازنة والمقارنة، وقرأوها في ضوء التطوُّر التاريخي، فرُبَما انتهوا إلى نتائج مختلفة.
ومن العَجَب أن بعض الباحثين يشكِّك في أيّ حديثٍ أو روايةٍ أو حادثةٍ تاريخية كانت مؤيِّدةً لاتجاهٍ فكريّ معين، وإنْ كان قد أخرجها محدِّثون معروفون من غير ذلك الاتجاه في مصادرهم؛ بدعوى أنها موضوعةٌ ومدسوسة فيها.
ونظراً إلى أن حديث الإمام جعفر غلب على مصادر الحديث عند المسلمين الإمامية الاثني عشرية، وغدا مصدراً لفكرهم وفقههم وحديثهم، فقد نُسب الفقه الإمامي، وكذلك المذهب الإمامي، إليه، فقيل: المذهب الجعفري؛ والفقه الجعفري.
صرَّح الدكتور فروخ بالقول: لا خلاف أن مذهب الشيعة الإمامية منسوبٌ إلى جعفر الصادق. وعلى هذا يجب أن يكون معظم الأقوال والآراء في هذا المذهب للإمام جعفر نفسه، مع الإيقان بأن كثيراً من تفاصيل المذهب الجعفري يجب أن يكون قد نشأ في أزمنةٍ متأخِّرة، كما هو الشأن في تطوُّر كلّ مذهبٍ([126]).
ويقول الدكتور فاروق عمر: وقد لعبَتْ شخصية الصادق دَوْراً في تبلور مذهب الشيعة الإمامية، أو ما يُسمّى بالاثني عشرية، فلقد استطاع أن يوضِّح أصول هذا المذهب، الذي يُنسب إليه عادةً، فيُسمّى بالمذهب الجعفري([127]).
وهو في الواقع من صميم مذهب عليٍّ ـ كما عبر المستشار الجندي ـ([128]).
ويجدر أن نستذكر هنا، بأن فكرة الوصيّة ظهرَتْ مبكّراً في التاريخ، غير أن السلطة السياسية والدينية قرَّرت شيطنتها وشيطنة مَنْ آمن بها، وإرجاعها وإرجاع المؤمنين بها إلى عناصر أجنبية.
وقد ارتبط التشيُّع منذ اليوم الأول بشكلٍ عضويّ بمواقف الإمام عليّ الفكرية والسياسية، وبذلك عُرِفَ الشيعة على ألسنة الرواة ومصادر التاريخ والمقالات. وهذه القضية من الوضوح بمكانٍ، بحيث يفترض أن لا تخفى على الدارس. ويوضِّح المستشار ياسين رأيه فيها بقوله: إن مفهوم «وراثة النبوة»، ببواطنها وأسرارها، كما انتهى إليه الطرح الشيعي النظريّ، لا بُدَّ أن يحمل بصمةً من مفهوم عليٍّ الأوّل عن «وراثة النبيّ»، إنْ لم يكن في ذاته مجرّد صيغةٍ متطوّرة عن هذا المفهوم الأخير([129]). وانتهى إلى القول: نميل إلى تفسير التشيُّع النظري بوجهٍ عامّ بأنه حاصلُ جمعٍ جدلي بين المواقف السياسية والفكرية الأولى لعليٍّ وبين أحداث الصراع السياسي الدموي اللاحق على الفتنة([130]).
وبالفعل، كان أبناء الإمام عليّ حَمَلة علمه، والأمناء على تراثه الفكري، الذي استقاه من معين رسول الله|، وقد انتقل عبرهم إلى تلامذتهم وأصحابهم، وإلى الرواة عنهم.
وكما ذكر أبو زهرة، قام أولئك الأبناء الأبرار بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري، وهو إمام الهدى، فحفظوه من الضياع. وأضاف: كان سَلَفهم ينقله إلى خَلَفهم بالرواية، فكان البيت العلوي فيه علم الرواية عن عليٍّ، رووا عنه ما رواه عن الرسول كاملاً، ورووا عنه فقهه وفتاواه كاملة([131]).
ويؤيِّد ذلك ما رواه الفرّوخ(290هـ)، عن أبي جعفر الباقر: والله لو كنّا نحدِّث الناس أو حدَّثناهم برأينا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدِّثهم بآثارٍ عندنا من رسول الله، يتوارثها كابرٌ عن كابر([132]).
وفي بعض المصادر أن الإمام أبا جعفر الباقر كان يؤكِّد أنهم يمثِّلون المرجعية في الدين. جاء في تفسير الطبري والكافي أنه كان يقول: نحن أهل الذكر([133]). وعن أبي عبد الله جعفر الصادق: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزَّ وجلَّ([134]). وعدّ الحاكم النيسابوري أصحّ أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليٍّ، إذا كان الراوي عن جعفر ثقة([135]). ومن المفارقات ما ذهب إليه ابن حِبّان من أنه يحتجّ بحديثه إذا كان من غير رواية أولاده([136])؛ لأنه رأى أن أحاديثهم لا توافق نظراته.
ونقل أبو نعيم(430هـ) عن بعض السَّلَف من المحدِّثين، في سياق حديث الإمام علي الرضا في نيشابور عبر هذه السلسلة السندية، قوله: لو قُرئ هذا الإسناد على مجنونٍ لأفاق. ونسبه ابن حجر الهيتمي إلى أحمد بن حنبل، ولعلّه هو صاحب القول([137]).
والخلاصة التي ننتهي إليها هي أن الظروف التاريخية التي مرّ بها أئمة أهل البيت^ وأتباعهم والمتعاطفون معهم، طوال مسيرتهم التاريخية، فرضَتْ عليهم تحدّياتٍ وأوضاعاً صعبة. ومع كل الضغوط التي مرّوا بها فإنهم استفادوا من بعض الانفراجات السياسية في نشر مناهجهم ومعارفهم في مختلف المجالات الفكرية الدينية، وقدّموا إسهاماتٍ بارزةً وملموسةً في مختلف المعارف الفكرية الإسلامية.
وكانت مجالسهم تستوعب طلاّب الفكر والكلام والفقه والتفسير والرواية من مختلف الاتجاهات الفكرية.
وكان من نتائج النهضة الفكرية التي أحدَثَها الإمامان الجليلان أن ساد الوَعْي في أوساط أتباعهم والمتعاطفين معهم. ودُوِّنَتْ روايات الأئمة من قِبَل تلامذتهم والرواة عنهم في الفقه والتفسير والكلام والأخلاق وسائر المجالات الدينية. وانتشَرَتْ المعارف الفكرية لمدرسة أهل البيت في شتّى المجالات الدينية، وتبيَّنَتْ المعالم العامة للفكر الإسلامي الإمامي.
الهوامش
(*) باحثٌ مهتمٌّ بالفكر العربيّ الإسلاميّ. من سلطنة عُمَان.
([1]) مسلم بن الحجّاج النيسابوري، صحيح مسلم: 979، ح2404، بيت الأفكار الدولية، 1998م، الرياض.
([2]) المصدر السابق: 981، ح2409.
([3]) محمد بن أحمد الذهبي، سير أعلام النبلاء 7: 131، بإشراف: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط11، 1996م.
([5]) محمد بن سعد، الطبقات الكبرى 8: 421، تحقيق: علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 2001م؛ وأحمد بن حمد الخليلي، الاستبداد: 48، ط1، 2013م.
([6]) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 2: 266 (الهامش)، دار صادر، ط1 مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، 1325هـ؛ وراجع: الخليلي، الاستبداد: 48.
([7]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 4: 73، دار الفكر، 1979م.
([8]) أبو الفرج الإصفهاني، مقاتل الطالبيين: 122، دار المعرفة، بيروت.
([9]) محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الإرشاد: 163، مؤسسة الأعلمي، ط3، 1979م.
([10]) الخليلي، الاستبداد: 48.
([11]) صائب عبد الحميد، تاريخ الإسلام الثقافي: 79، مركز، الغدير للدراسات الإسلامية، 1997م.
([12]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 5: 253؛ وابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 7: 319.
([13]) أحمد أمين، ضحى الإسلام 3: 266، دار الكتاب العربي، ط10، بيروت.
([14]) محمد أبو زهرة، الإمام الصادق: 162، دار الفكر العربي.
([15]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 11: 43.
([16]) محمد أبو زهرة، الشافعي: 22، دار الفكر العربي.
([17]) محمد الرشيد العقيلي، الشيعة: نشأتها وتطوّرها: 194، المملكة الأردنية الهاشمية ـ عمّان، ط1، 1980م.
([18]) سميرة مختار الليثي، جهاد الشيعة: 194، دار الجيل، بيروت.
([19]) محمد العقيلي، الشيعة: 195.
([20]) سميرة الليثي، جهاد الشيعة: 194.
([21]) محمد العقيلي، الشيعة: 203.
([22]) السبط ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 349 ـ 350، تقديم: محمد صادق بحر العلوم، مكتبة نينوى الحديثة، طهران؛ والذهبي، سير أعلام النبلاء 6: 270.
([23]) أحمد أمين، ضحى الإسلام 3: 293: 296.
([24]) السبط ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 360.
([26]) أبو جعفر الطبري، تاريخ الطبري 9: 185، تحقيق: محمد أبو الفضل، دار التراث، بيروت.
([27]) محمد أبو زهرة، أحمد بن حنبل: 170، دار الفكر العربي؛ وعبد العزيز الدوري، دراسات في العصور العباسية المتأخّرة: 44، مطبعة السريان، بغداد، 1945م.
([28]) أحمد الخليلي، الاستبداد: 334.
([29]) محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي 2: 222، ضبط تصحيح وتعليق: محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف للمطبوعات، 1990م، بيروت.
([30]) أبو العبّاس النجاشي، رجال النجاشي 2: 206، تحقيق: محمد النائيني، دار الأضواء، ط1، 1988م.
([31]) الكليني، أصول الكافي 1: 367.
([32]) علي آقا نوري، نشأة التشيُّع وبداية ظهور الفرق الشيعية، تعريب: علي محسن، دار الصفوة، ط1، 2012م، بيروت.
([33]) السبط ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 337.
([35]) المفيد، الإرشاد: 263؛ وأبو نعيم الإصفهاني، حلية الأولياء 3: 186، مكتبة الخانجي ودار الفكر، القاهرة، 1996م.
([37]) عمرو بن بحر الجاحظ، رسائل الجاحظ، 108، تحقيق: حسن السندوبي، ط1، 1933م، المطبعة الرحمانية، مصر.
([39]) محمد بن أحمد الذهبي، تذكرة الحفّاظ 1: 125، دار الكتب العلمية، بيروت.
([40]) أبو السعادات ابن الأثير الجزري، جامع الأصول 11: 322، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني، 1972م.
([41]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 13: 120.
([42]) محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 688، دار الفكر العربي.
([43]) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل 1: 166، تحقيق: محمد كيلاني، دار المعرفة، بيروت.
([44]) أبو نعيم الإصفهاني، حلية الأولياء 3: 199؛ والذهبي، سير أعلام النبلاء 6: 256.
([45]) ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة: 201، تعليق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة، ط2، 1965م؛ ومحمد أبو زهرة، الإمام الصادق: 38: 66.
([46]) أحمد محمود صبحي، نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: 269، دار النهضة العربية، 1991م، بيروت.
([48]) الكليني، أصول الكافي 1: 464.
([49]) حامد حفني داوود، مقدّمة على كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 17، دار الكتاب العربي، ط2، 1969م، بيروت.
([50]) دوايت م رونلدسن، عقيدة الشيعة: 280، مؤسّسة المفيد، بيروت، ط1، 1990، بيروت؛ وراجع: سميرة الليثي، جهاد الشيعة: 213.
([51]) ابن القيِّم الجوزية، إعلام الموقعين 1: 21، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
([52]) صبحي الصالح، مصطلح الحديث: 263، دار العلم للملايين، ط12، 1981م.
([53]) ابن تيمية، منهاج السنّة 7: 533، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1، 1986م.
([54]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 6: 256.
([55]) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 2: 103 ـ 104.
([56]) النجاشي، رجال النجاشي 1: 79.
([57]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 14: 133.
([58]) محمد أبو زهرة، الإمام الصادق: 99.
([59]) أمير علي الهندي، مختصر تاريخ العرب: 193، ترجمة: عفيف البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت.
([60]) الكليني، أصول الكافي 1: 156.
([70]) ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة: 201.
([72]) صبحي الصالح، النظم الإسلامية: 221، دار العلم للملايين، ط6، 1982م.
([73]) النجاشي، رجال النجاشي 1: 138.
([74]) الذهبي، تذكرة الحفّاظ 1: 209.
([75]) أبو الموفق المكّي الخوارمي، مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة 1: 173، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند ـ حيدر أباد الدكن، 1321هـ؛ والذهبي، سير أعلام النبلاء 6: 258، مؤسسة الرسالة، ط11، 1996م، بيروت؛ ومحمد أبو زهرة، أبو حنيفة: 81، دار الفكر العربي.
([76]) الذهبي، تذكرة الحفّاظ 1: 166.
([77]) ابن الصلاح، مقدّمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح: 362، تحقيق: بنت الشاطئ، دار المعارف، القاهرة.
([78]) محمد بن عليّ ابن شهرآشوب، معالم العلماء: 3، دار الأضواء، راجعه: محمد بحر العلوم، بيروت.
([79]) محمد بن سعد، الطبقات الكبرى 6: 447، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1995م.
([80]) الكليني، أصول الكافي 1: 190؛ ومحمد بن عليّ الصدوق، التوحيد: 31، دار المعرفة، تصحيح وتعليق: هاشم الطهراني.
([81]) الكليني، أصول الكافي 1: 103 ـ 105.
([84]) محمد بن عمر الكشي: 130، تقديم: أحمد الحسيني، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
([85]) محمد بن يعقوب النديم، فهرست النديم: 276، تحقيق: رضا تجدُّد، 1971م.
([91]) مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: 297، تقديم: محمد حلمي، دار الكتاب المصري، 2011م.
([92]) محمد ضياء الدين الريس، النظريات الإسلامية السياسية: 85، دار المعارف بمصر، ط4، 1967م.
([93]) عبد الوهّاب الكيالي وزملاؤه، موسوعة السياسة 1: 671، ط1، 1979م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
([94]) الكليني، أصول الكافي 1: 166.
([99]) المصدر السابق 1: 56 ـ 60.
([100]) الفيض الكاشاني، الأصول الأصلية: 92، تصحيح وتحقيق: حسن قاسمي، المدرسة العليا للمطهري، 1387هـ.ش.
([104]) عبد الهادي الفضلي، تاريخ التشريع الإسلامي: 123، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، ط1، 1992م.
([105]) النجاشي، رجال النجاشي 1: 74.
([106]) الكشّي، رجال الكشّي: 280.
([109]) الكليني، أصول الكافي 1: 227.
([110]) علي بن الحسين المسعودي، مروج الذهب 4: 105، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، 1983م، بيروت.
([111]) لاحَظْنا وجود سقطٍ في المروج، فأكملنا الحوار من: الكليني، أصول الكافي 1: 223.
([112]) ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار 2: 154، دار الكتاب العربي، بيروت، إعادة طبعة دار الكتب المصرية لسنة 1925م.
([113]) الكليني، أصول الكافي 2: 24.
([114]) أبو نعيم الإصفهاني، حلية الأولياء 1: 86.
([115]) الكشّي، رجال الكشي: 218.
([116]) الكليني، أصول الكافي 2: 600.
([117]) الكليني، أصول الكافي 2: 83؛ والكشي، رجال الكشّي: 220 (مع اختلافٍ يسير).
([118]) النجاشي، رجال النجاشي 1: 78.
([119]) الحاكم النيسابوري، معرفة علوم الحديث: 136 دار الكتب العلمية، ط2، 1977م؛ ومحمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال 1: 5، دار المعرفة، بيروت.
([120]) علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام 2: 113، دار المعارف، ط7، 1977م.
([121]) أحمد أمين، ضحى الإسلام 3: 261.
([122]) علي حسني الخربوطلي، الإسلام والخلافة: 169، دار بيروت، 1969م.
([123]) محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي 1: 66، مركز دراسات الوحدة العربية.
([124]) عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام: 88: 99، المركز الثقافي العربي، ط3، 2008م، الدار البيضاء.
([126]) عمر فرّوخ، تاريخ الفكر العربي: 268، دار العلم للملايين، ط4، 1983م.
([127]) فاروق عمر، التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشرين: 98.
([128]) عبد الحليم الجندي، الإمام جعفر الصادق: 188، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1977م.
([129]) عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام: 213.
([131]) أبو زهرة، الإمام زيد: 163، دار الفكر العربي.
([132]) محمد بن الحسن الفرّوخ، بصائر الدرجات: 320، تعليق: ميرزا محسن، مؤسسة الأعلمي، طهران.
([133]) أبو جعفر الطبري، تفسير الطبري 7: 587، دار الكتب العلمية، ط1، 1992م، بيروت؛ والكليني، أصول الكافي 1: 268.
([134]) الكليني، أصول الكافي 1: 105؛ وراجع: صبحي الصالح، النظم الإسلامية: 223، دار العلم للملايين، ط6، 1982م، بيروت؛ وبنفس المضمون راجع: محمد بن الحسن الفرّوخ، بصائر الدرجات: 320.
([135]) الحاكم النيسابوري، معرفة علوم الحديث: 55.
([136]) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 2: 104.
([137]) أبو نعيم الإصفهاني، حلية الأولياء 3: 192؛ وابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة: 205.