لا يزال الحديث الجدلي قائماً حول موقفالإسلام من صناعة الأسلحة النووية واقتنائها، وحول شرعية استخدامها فيالحروب والمعارك ، وفيما يأتي نحاول مقاربة هذا الموضوع من الزاوية الفقهيةبغية استجلاء الموقف الشرعي إزاء هذه القضية الحساسة .
التلوث بالإشعاع النووي:
يعتبر التلوث بالإشعاع النووي أخطرأنواع التلوث على الإطلاق، وقد ظهرت خطورة هذا النوع من الإشعاع بعدماتعرض الإنسان إلى كارثتين نوويتين كبيرتين في القرن العشرين تمثلتا بإلقاءقنابل ذرية على مدينتين في اليابان(سنة1945) وبالانفجار الذي حدث في مفاعلتشرنوبيل النووي (سنة1986). وقد اكتشف الإنسان عملياً مدى خطورة الإشعاعاتالنووية على جميع الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونباتات مختلفة، فقد عانىاليابانيون الذين تعرضوا للإشعاعات النووية من الموت أو من الأمراض التيأصابت كل حواسهم وانتقلت بعدهم إلى أولادهم وإلى أحفادهم، كما دلت التجاربالكثيرة التي أجريت وما زالت تجرى في منطقة تشرنوبيل والمناطق المحيطة بهاعلى تأثير خطير على كل أنواع الكائنات الحية بما في ذلك الأشجار والحشائشوالأعشاب التي ما تزال تعاني حتى اليوم جراء انفجار المفاعل النووي". (كتابالبيئة للدكتور نزار دندش ص:185).
باتضاح مخاطر الإشعاع النوويوآثاره السلبية على كل الكائنات الحية، نحاول أن نطل على الموقف الشرعيالإسلامي من القضية، وفيما أرى فإنّ استجلاء الموقف الفقهي من هذه المسألةلا بدّ أن يتم عبر مرحلتين من البحث:
المرحلة الأولى: مرحلة تصنيع السلاح المذكور واقتنائه.
المرحلةالثانية: مرحلة استخدامه، والاستخدام تارة يكون بهدف تجريبي صرف، كما تفعلالكثير من الدول التي تجري تجارب نووية في أعماق البحار أو في الصحارى أوفي جوف الأرض، وتارة أخرى يكون ذلك بهدف قتالي.
تصنيع السلاح النووي:
فيمايرتبط بالمرحلة الأولى، أعني مرحلة التصنيع فقد يقال: إنه ليس ثمة ما يمنعشرعاً من تصنيع السلاح النووي أو اقتنائه، بل إنه قد يكون مطلوباً شرعاً،كونه يشكل أحد مصاديق إعداد القوة في مواجهة الظالمين المعتدين، وإعدادالقوة كذلك مطلوب شرعاً وعقلاً، قال تعالى: ﴿ واعدوا لهم ما استطعتم من قوةومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم… ﴾.
والآية الشريفةتشير إلى مبدأ "قوة الردع" القاضي بأن إعداد القوة والتسلح ليس بالضرورة أنيكون بهدف القتال والحرب، بل بهدف إيقاف الحرب من خلال توازن الردع أوالرعب الذي تحققه القوة، وهذا ما رمزت إليه عبارة ﴿ ترهبون به عدو اللهوعدوكم، ﴾والسلاح النووي يعتبر من أهم وسائل الردع في أيامنا، وذلك باعتبارأنّ الدولة التي تمتلك قنابل ذرية أو هيدروجينية هي بطبيعة الحال دولةمتفوقة على الدول الأخرى، فإذا امتلك الطرف الآخر قنبلة مماثلة شكّل ذلكضغطاً على الطرف الأول ما يحول دون استخدامه للسلاح النووي، الأمر الذي قديدفع الطرفين إلى عقد الاتفاقيات التي تمنع استخدام الأسلحة النووية.
والكلامالآنف لتبرير تصنيع السلاح النووي وإن كان مطابقاً للموازين الفقهيةالمعروفة إلا أنّ في المقام تحفظاً أو تأملاً يمكن تسجيله وهو: إن هذاالنمط من السلاح الذي يمكن لأي خطأ بشري في إدارته أو لأي تصرف عدواني قديرتكبه بعض الأفراد الممسكين بزمامه أن يؤدي إلى نتائج كارثية قد تصل إلىحد القضاء على الكوكب الأرضي برمته وإفناء كل مظاهر الحياة عليه وفي الحدالأدنى قد يؤدي إلى إبادة الملايين من بني الإنسان هل يسمح الشارع الحكيمبتصنيعه أو يأذن في اقتنائه؟
قد لا يبتعد الفقيه عن الصواب إذا جزمبأن الشارع لا يأذن بتصنيع هكذا أنواع من السلاح، وأنه لا يكون مشمولاًلإطلاقات إعداد القوة، لأن الملاحظة المتقدمة صالحة إما لتقييد المطلقاتالمشار إليها أو أنها تشكل قرينة توجب انصراف الإطلاق المذكور إلى غير هذاالنوع من السلاح، على أنّا لو استفتينا العقل الفطري والوجدان السليم بشأنتصنيع سلاح من هذا القبيل أعني سلاحاً قادراً على تدمير الكرة الأرضية ومنعليها بلمحة بصر، لما ترددنا في الحكم بالمنع منه ومعاقبة مصنّعيهوالمروجين له، ورفض انتشاره بل ضرورة التخلص منه.
لكننا نستدركلنقول: أما وقد وقع المحذور وتمّ تصنيع السلاح المذكور وتملكته أكثر مندولة من دول الاستكبار العالمي وعلى رأسها الكيان الغاصب في فلسطين وتمكنتبواسطته من الاستطالة على الأمة الإسلامية وعلى الشعوب المستضعفة وإرهابهاوفرض إرادتها وشروطها عليها، فإن الموقف ـ وبميزان الدين والعقل أيضاً ـسوف يختلف، ليغدو تملك هذا السلاح مطلوباً وضرورياً في محاولة لإيجاد الردعوتوازن القوة، لأن من غير الجائز أن تبقى الأمة الإسلامية في موقعالابتزاز والترهيب أو في حالة من الوهن والضعف، فإن الله يريدها عزيزةًقوية ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ (المنافقون:8)، ولا يرضى لها أنتكون ذليلةً ضعيفةً مرهونة للآخرين.
إننا بهذا الكلام لا نريدالتشجيع على صناعة الأسلحة النووية فضلاً عن انتشارها، بل إننا ندعو إلىالتخلص منها والقضاء عليها، وأقصى أمانينا أن يأتي يوم على الإنسان وقد خلتالمخازن (مخازن الجيوش) من السلاح النووي لتعيش البشرية بأمن وسلام.
الصناعة النووية السلمية:
هذاكله لو كانت الصناعة النووية بهدف الأغراض العسكرية القتالية، أما لو كانتبهدف سلمي وبداعي تحقيق الأغراض العلمية والصناعية فالظاهر أنه لا شبهة فيشرعيتها، بل إن امتلاك الأمة الإسلامية للتقنية النووية السلمية أمر مطلوبومرغوب فيه، لأنه يفك ارتهانها لبعض الدول المستكبرة التي تعمل على احتكارمثل هذه التقنية وتمنع الدول الإسلامية من امتلاكها بحجج واهية من قبيلالتخوف من تطوير الأنشطة النووية بما يخدم الأهداف العسكرية، وكأن هذهالتقنيات هي حق حصري لتلك الدول المستكبرة أو التي تدور في فلكها، ولا يحقلسائر الدول أن تحقق التقدم أو تطور نفسها في كافة المجالات!
إنه "منطق القوة" الذي لا يستند إلى شيء من المعايير الأخلاقية والمنطقية،والشرعية، وإنّ على الشعوب الحرة والأبية أن لا تستكين لهذا المنطق بلعليها العمل الجاد في سبيل إسقاطه، لتحقق تقدمها وكل آمالها المنشودة.
استخدام السلاح النووي:
بالانتقالإلى المرحلة الثانية من البحث وهي مرحلة استخدام السلاح النووي فإننانستطيع القول في ضوء معرفتنا بأن الحرب في الإسلام لها ضوابطها وقيودهاوأخلاقياتها ووسائلها وأهدافها كما أن لها زمانها ومكانها: إن استخدامالسلاح النووي والقنابل الذرية في المعارك أمر محظور شرعاً للاعتباراتالتالية:
أولاً: إن استخدام هذا السلاح في كثير من الحالات يعتبر منأبرز مصاديق الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، وهو أمر محرّم بنصالقرآن الكريم، وقد تطرقنا لذلك في بعض المقالات السابقة في جريدة بيناتبعنوان "لا تفسدوا في الأرض" فراجع.
ثانياً: إن استخدام هذه الأسلحةلا ينفك عن قتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وإبادة الحيواناتوحرق الأشجار والمزروعات، وهذا مما ورد النهي عنه في العديد من الروايات،ففي موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله قال: إن النبي كان إذا بعث أميراًعلى سرية أمره بتقوى الله عز وجلّ في خاصة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثميقول: أغز بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولاتغلوا وتمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا متبتلاً في شاهق ولا تحرقوا النخلولا تغرقوه بالماء ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تحرقوا زرعاً، لأنكم لا تدرونلعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما بدا لكممن أكله.."(الكافي:5/29).
ثالثاً: ورد في الخبر المعتبر عن أبيعبدالله قال: قال أمير المؤمنين: "نهى رسول الله أن يلقى السم في بلادالمشركين"(الكافي:5/28، التهذيب6/143)، وظاهر النهي هو الحرمة، وبذلك أفتىغير واحد من الفقهاء، يقول ابن إدريس الحلي رحمه الله:"ويجوز قتل الكفاربسائر أنواع القتل وأسبابه إلاّ بتغريق المساكن ورميهم بالنيران وإلقاءالسم في بلادهم، فإنه لا يجوز أن يُلقى السم في بلادهم… به نطقت الأخبارعن الأئمة الأطهار"(السرائر2/7)، وقد التزم السيد الخوئي رحمه الله أيضاًبحرمة إلقاء السم في بلاد المشركين أخذاً بظاهر النص المتقدم (منهاجالصالحين1/373)، وبذلك يتضح ضعف القول بالكراهة كما عن بعض الفقهاء (التنقيح الرائع1/581، جامع المقاصد3/385، مختلف الشيعة4/392)، فإذا كانإلقاء السم في بلاد المشركين محرماً أفلا يكون استخدام ما هو أشد فتكاًوضرراً منه أعني السلاح النووي والذرّي محرماً بطريق أولى؟