إيمان شمس الدين
التحيز هو حصر الشخص نفسه في حيز ومكان مسوّر بسور متميز عن غيره، وهذا هو المعنى الحسي للكلمة، والاستعمال الشائع للكلمة هو استعمالا مجازيا خاصة في المسائل الفكرية والمعنوية، فالتحيز له حقيقة في اللغة ومجاز في الاستعمال.. وهناك علاقة بين التحيز وبين مسألة العدل والهوى، فالتحيز ينبغي أن يكون منه الممدوح والمذموم، فالممدوح هو ما وافق العدل، بحيث تكون قيمة العدل هي الدافع والحافز لتبني المواقف والآراء والأفكار، والعدل ما طابق الواقع، والحق هو ما طابقه الواقع من العدل.. وهناك فرق بين التحيز وبين الرأي الموضوعي على مستوى الواقع من جهة وعلى مستوى الأمل (ما ينبغي أن يكون) من جهة أخرى، والتحيز قد يتعارض أو يتوافق مع الرأي الموضوعي، فالرأي الموضوعي قد ينصب على الحكم على موضوع الكلام، أما التحيز فهو منشئ ذلك الرأي[1].
ولقد أشار الله تعالى في محكم كتابه الكريم إلى مرجعية العدالة كقيمة معيارية كمعالجة لموضوع التحيز، سواء في الحكم أو في القول أو في الموقف، مؤسسا لقاعدة عامة تعالج التحيزات بكافة أشكالها حيث قال جل شأنه في سورة المائدة آية ٨ :” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ”.
والتحيز المعرفي هو مصطلح عام يستخدم لوصف العديد من الآثار الملاحظة في أداء العقل البشري، فالبعض منها قد يؤدي إلى تشويه الإدراك الحسي، والى اتخاذ حكم أو قرار غير دقيق، أو تفسير غير منطقي. هذه الظاهرة العقلية تم دراستها في العلوم المعرفية وعلم النفس الاجتماعي[2].
وهناك من يشير إلى أن التحيز المعرفي يعتبر خطأ في التفكير والتقييم والتذكر, أو إدراك إجرائي يحدث أحيانا نتيجة قناعات وإيمانيات مترسخة، تجعل الفرد يلتزم بها بغض النظر عن أي معلومات مغايرة، والتي قد تكون أكثر عقلانية. مثال ذلك, التحيز التأكيدي, الذي هو ميل للبحث في المعلومات التي تتوافق مع قناعاتنا فقط, فالذاكرة هنا تؤدي غرض التحيز, بحيث أنها وبسهولة تؤثر في كيف وماذا تريد أن تتذكر, فالناس وبشكل جلي يتذكرون المواقف الممتعة وتلك التي تذكرهم بأنفسهم وكم هم مهمين.
إذا التحيز المعرفي هو خطأ في التفكير الذي يحدث عند الناس، نتيجة معالجة أو تفسير معلومة معينة بشكل خاطىء. بمعنى أنه غالبا ما تكون هذه الأخطاء نتيجة محاولتنا لتبسيط معالجة المعلومات على ضوء خبراتنا ومعارفنا التي تشغل حيزا عريضا في أذهاننا، والتي لا نعلم غيرها وفي الغالب أيضا لا نود معرفة ما يتصادم معها. إنها ببساطة تشكل قواعد أساسية في طريقة تفكيرنا، والتي من خلالها تجعلنا نصيغ ونُكَوّن أفكارنا وتصوراتنا عن العالم من حولنا بالطريقة التي ترسمها لنا, والتي تساعدنا في اتخاذ القرارات بسرعات متفاوتة, لكن مما يؤسف له أن هذه الأفكار والتصورات والتي تفرز وجهات نظر أو قرارات نقوم باتخاذها والتي تبدو لنا عقلانية ومنطقية إلا انها تكون غالبا غير صحيحة[3].
إلا أن إطلاق الحكم بكون التحيز المعرفي خطأ في التفكير، هو تحيزا أيضا باتجاه فكرة أحادية الجانب، كون هناك تحيزات معرفية إيجابية صحيحة، خاصة إذا تطابق التحيز المعرفي مع معيار العدالة، بالتالي يكون تحيزا للحق وهو بذاته صحيح وليس مذموما. وغالب التحيزات المعرفية وخاصة تلك المتعلقة بالعقيدة يكون سببها ذاتي في بنية الإنسان الدماغية التي تميل للتبسيط، وتبتعد عن التعقيد، بل تعود أيضا لميل الإنسان للكسل، وهروبه من البحث العميق في الأفكار وتمحيصها، فيكون الطريق الأسهل لعامة الناس هو التبسيط والتحيز، للتخلص من أي تعقيدات ذهنية تشعرهم بالاضطراب المعرفي، وتسلب منهم إطمئنانهم المتسالم عليه والمتوارث.
الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله (١٩٣٨ ـ ٢٠٠٨م) عندما استوقفته إشكالية التحيّز عند دراسته للظواهر الإنسانية, اختار المصطلح: “التحيّز”, بالرجوع إلى المعجم اللغوي العربي, وفيه: أن التحيّز يعني الانضمام والموافقة في الرأي وتبنّي رؤية ما, مما يعني رفض الآراء الأخرى. وقد اختار هذا المصطلح ليطلقه على مجال جديد لدراسة ظاهرة إنسانية من صميم المعطى الإنساني, ومرتبطة بإنسانية الإنسان, كما كان يرى, وهي ظاهرة[4]
ووضع الدكتور المسيري قواعد أساسية تساعد على فهم التحيّز وتمييزه, وهي:
١ ـ القاعدة الأولى: التحيّز حتمي: وذلك بسبب المعطيات التالية:
أ ـ لأنه مرتبط ببنية عقل الإنسان ذاتها, فهذا العقل لا يسجّل تفاصيل الواقع كالآلة الصمّاء, فهو عقل فعّال, يدرك الواقع من خلال نموذج فيستبعد بعض التفاصيل ويبقي بعضها الآخر.
ب ـ التحيّز لصيق باللغة الإنسانية المرتبطة إلى حدّ كبير ببيئتها الحضارية, وأكثر كفاءة في التعبير عنها. فلا توجد لغة تحتوي كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوّناته, فلا بدّ من الاختيار.
ج ـ التحيّز من صميم المعطى الإنساني, ومرتبط بإنسانية الإنسان, أي بوجوده ككائن غير طبيعي, لا يردّ إلى قوانين الطبيعة العامة ولا ينصاع لها, فكل ما هو إنساني يحوي على قدر من التفرّد والذاتية ومن ثمّ التحيّز.
٢ ـ القاعدة الثانية: التحيّز قد يكون حتمياً ولكنه ليس نهائياً:
فالتحيّز ليس بعيب أو نقيصة, بل على العكس يمكن أن يُجرّد من معانيه السلبية, ويصبح هو حتمية التفرّد والاختيار الإنساني.
واللغة الإنسانية رغم حدودها قادرة على تحقيق التواصل, وعلى مساعدتنا على تجاوز أشكال كثيرة من التحيّز, وعلى بناء نماذج معرفية هي نتاج تجربتنا الحضارية الخاصة, ولكنها بنفس الوقت تساعدنا على التعامل مع أنفسنا ومع واقعنا ومع الآخر. فمعنى أنه ليس نهائياً أي أنه ليس نهاية المطاف حيث يمكن تجاوزه, ولكن النهائي هو الإنسانية المشتركة والقيم الأخلاقية الإنسانية[5].
إلا أن قول المسيري أن التحيز حتميا يحتاج توضيحا وفق ما أفهمه للتحيزات الحتمية، كون الحتمي لا يمكن تجاوزه كما قال الدكتور المسيري، وقد يكون المسيري يقصد من الحتمية كونها أمر واقعي تكويني في الإنسان ضمن تركيبته البيولوجية التكوينية، وتجاوزه يأتي من خلال التعلم والتدريب المعرفي البحثي والممارسة البحثية على الطرح الموضوعي وكسب ثقافة الخروج من الصناديق المعرفية المغلقة، دون التنازل عن الثوابت التي تشكل حقائق ثابتة في الهوية المعرفية، فالباحث أو المثقف لابد له من أن يتحيز للحقيقة والحق، لكن ذلك لا يتم إلا بعد أن يستعرض ويستقرئ كل الآراء التي طرحت بخصوص الموضوع محل البحث، أي أن يقوم بعملية ضرب للآراء ببعضها البعض، ومن ثم يخرج بالرأي الأقرب للحق والحقيقة، وينحاز له ليطرحه ويدافع عنه، وهذا الانحياز المعرفي هو انحياز صحيح وصحي في ذات الوقت، إلا أنه مشروط بعدة شروط أهمها:
١. أن يعتمد الباحث والمثقف في فهمه للواقع واستقصائه للمعارف على مصادر المعرفة البشرية المعتمدة من المدرسة التي تنتمي هويته إليها، مضافا إلى ذلك اطلاعه على المدارس الأخرى في المعرفة.
٢. استقراء جل الآراء وأهمها المطروحة في الموضوع خاصة البحث، واستعراضها عرضا نقديا علميا، ومن ثم الخروج وفق منظوره برأي.
٣.المراجعة النقدية لما توصل إليه من رأي، واعتباره عرضة للنقد والتطوير والتراكم المعرفي من قبل الباحثين والمثفين الآخرين.
٤. التجرد من الأنماط والرغبات الإجتماعية معرفيا “الشعبوية”، والتجرد من ثقافة الإجماع السلبية ومبدأ المشهور المعرفي العلمي.
٥. والأهم من كل ما سبق هي معيارية العدالة المرجعية في تشخيص صلاح هذا التحيز المعرفي لأن العدل معيارا للحق، والانحياز للحق هو انحيازا إيجابيا، ولكي يحقق هذه المعيارية على المثقف أن يكون حرا في بحثه المعرفي.
وأغلب التحيزات المعرفية تعمد إلى حجب الحقيقة، ومن أهم مسببات التحيزات المعرفية هي:
١. البيئة والمحيط الاجتماعي والأسري، الذي يعمل على تنميط الأفكار والمنهجيات ومصادر المعرفة.
٢.مناهج التربية والتعليم التي تضعها الدولة، ويتربى عليها الطفل، ومناهج التدريس التي يستخدمها المعلم في تعليم التلاميذ.
٣.الانتماءات العصبوية بكافة أشكالها سواء القبلية أو المذهبية أو الطائفية.
٤.الأنماط الاجتماعية والإجماع السطحي القائم على الشعبوية بمعناها السلبي، فقوة الاجماع الشعبي تخلق تسالما سطحيا للمعارف، وبالتالي تصنع جوا معرفيا متحيزا بشكل غير منطقي وموجها للرأي العام، هذا الاجماع الشعبوي يستخدم فيه قوة خفية تفرض من خلالها هذه الإجماعات رأيها، وهذه القوة الخفية تتعلق بالشعور والرغبة الداخل نفسية بالانتماء للجماعة والخوف من الخروج والمخالفة، إلا أن المثقف عليه أن يتخلص من هذه المخاوف، وأن لا يخضع لهذه القوة الخفية التي يكتنزها الإجماع الشعبوي، وأن تكون نفسيا وشعوريا متخررا من الانتماء للجماعة ليصبح شعوره الأصيل الداخل نفسي هو الانتماء للحق والحقيقة، وفهم الواقع وملابساته لتعرية كل الوهم المرتكز في العقل الجمعي السلبي الأبعاد، وليناضل كمثقف وظيفته صناعة الوعي، يناضل لأجل استبدال هذا الوهم بالحقيقة.
٥.الثقافة والتربية الأحادية المتوارثة دون مراجعة وتمحيص، تصنع عقلا أحادي المنهج والفكرة، وتخلق تحيزات معرفية لاغية لكل ما هو خارج هذا الصندوق المعرفي المتوارث، والمورث للاطمئنان التواضعي البسيط.
٦. التحيز المعرفي الناشئ عن أخلاقية الخضوع والانهزام النفسي أمام معارف الدول الأقوى حضاريا، و الأكثر تقدما في الانتاج المادي والمعرفي، أي هو تحيز نتيجة الفارق الحضاري والانبهار، وهو تحيزا له بعد نفسي، وله بعد معرفي. وهو من أكثر التحيزات التي يقع في شباكها المثقف.
ومن أهم ما يجب أن يلتفت إليه المثقف هو الخروج من التحيزات المعرفية التي تتعارض مع مبدأ العدالة والإنصاف، لأن وظيفته صناعة وعي واقعي قائم على أسس معرفية رصينة، وأدوات ومناهج سليمة علميا، كون التحيزات تعمل كمضادات حيوية للمعرفة والوعي، وكحُجُب موجهة للمعرفة باتجاهات محددة ومغلقة ونمطية. لذلك كان لزاما على المثقف الرسالي الذي يتصدى لصناعة الوعي، وتطوير المعارف والعصرنة والمواكبة أن يعتمد علي عملية النقد المستمر للذات، والمراجعة المستنيرة للأفكار والمناهج والمحتوى الفكري، وإلى المواكبة لكل التطورات المعرفية على الساحة الثقافية، والإلمام بمستحدثات الإشكاليات والمعارف التي تواجه المجتمعات، خاصة أن العولمة حولت المجتمعات إلى قرية صغيرة، تتناقل فيها المعارف وإشكالياتها بالعدوى المعرفية. وهو ما يستدعي المثقف للخروج المستمر من الصناديق النمطية، إلى فضاءات المعرفة المختلفة، لأن الوعي في حركة تكامل وكمال مستمر، والعقل في سيرورة و صيرورة معرفية تطورية مستديمة، لا تلغي الثوابت لكنها تحصنها بتطوير المتغيرات وفق الزمان والمكان، هذا فضلا عن اتصافه بالانصاف العلمي والمعرفي في اعتماده على مصادر معرفة متعددة، فهناك مثقفون يستبعدون مصادر معرفة بشرية كونها لا تتناسب وإيديولوجيتهم وعقيدتهم، مثل المثقف الذي يستبعد النص والعقل، ويعتمد فقط على الحس والتجربة، أو ذلك الذي ينكر دور الحس والتجربة، ويستبعدهما كمصادر ويعتمد فقط على النص والعقل مع تغليب النص وتهميش العقل وهكذا. لذلك المثقف عليه أن لا ينحاز إلا للحقيقة والحق التي تتطلبان منه أن يطلع على الآراء معتمدا على كل مصادر المعرفة، التي من خلالها يعرف الإنسان ويتعلم ويفهم.
_____________________
[1] إشكالية التحيز/رؤية نقدية معرفية ودعوة للاجتهاد/ تحرير عبد الوهاب المسيري/المعهد العالمي للفكر الإسلامي/١٩٩٨م/ بحث بعنوان كلمة في التحيز ـ د. علي جمعة ص ١٧ـ ١٨ بتصرف
[2] د.سالم موسى/جامعة الملك خالد/ أبها / التحيزات المعرفة التصديق الزائف / https://middle-east-online.com/التحيزات-المعرفية-والتصديق-الزائف/ تم الاطلاع في ١٥/ مايو / ٢٠١٩م
[3] كندرا تشيري /خبيرة علم النفس/ المصدر السابق
[4] امفهوم التحيز عند الدكتور عبد الوهاب المسيري/رغداء محمد أديب زيدان/ تم الاطلاع في ٢٤ـ مايوـ٢٠١٩/ http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=16515
[5] المصدر السابق