أحدث المقالات
صدرت قضايا إسلامية معاصرة مطلع سنة 1997 خارج العراق، تعبيراً عن أحلام وتطلعات بتجديد وإجتهاد وإعادة بناء وتحديث للتفكير الديني، بما يواكب متطلبات العصر ووتيرة التغيير المتسارعة في عالمنا، بعد ان لبثت تلك الأحلام عقداً من السنين يتداولها في حلقات نقاشية نخبة من الدارسين العراقيين في الحوزة العلمية في قم، وسبقتها سنة 1994 مجلة نصف سنوية بإسم "قضايا إسلامية"، توقفت بعد ثلاث سنين، فكان توقفها إيذاناً بإنطلاق قضايا إسلامية معاصرة، بموازاة مجموعة سلاسل كتب، طبع منها مئتا كتاب تقريباً.
أدركت هذه المطبوعة ان مهمتها تتلخص في الإنتقال من القول الى الفعل، والكف عن الإستغراق في الكلام، وترديد الشعارات، من دون أية مبادرة جادة لتحريك ما هو ساكن، فتمحورت جهودها حول الإشكاليات الراهنة للتفكير الديني، والآفاق المعاصرة والمستقبلية للإجتهاد الشامل في مختلف حقول المعرفة الدينية، بنشر كتابات الباحثين والمفكرين المتخصصين في ذلك، سواء كانت باللغة العربية، أو عبر ترجمتها من لغات أخرى. وقد رفضت استثناء عالم الإسلام من توظيف مناهج العلوم الإنسانية الحديثة في دراسة وتحليل الظواهر الدينية والإجتماعية؛ فاقتحمت حقلاً يحذر بعض المهتمين بالدراسات الإسلامية من التعاطي معه، فيما ينظر اليه آخرون بإرتياب وخشية، وحرصت على المراجعات النقدية والحوارات والنقاشات لمختلف المقولات والمفاهيم والرؤى المتداولة في المعرفة الدينية، ولم تتحيز لباحث أو مفكر وتدعو لمقولاته، وعادة ما أردفت نشر أية رؤية خلافية بما ينقدها ويدلل على رفضها، ذلك انها تنشد الإستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة، وتحسب ان المصالحة مع التاريخ والجغرافيا يكفلها وعي الماضي والحاضر والمحيط الذي نعيش في فضائه.
خطاب هذه المجلة تخصصي منذ عددها الأول، مضافا الى ان الدعاية لها والإعلان عنها ضئيلة،  مما منعها من التواصل مع طيف واسع من القراء، وكأنها أضحت محدودة التداول؛ مما ضيق مجال توزيعها وحضورها، والتعرف عليها، والكتابة عنها، حتى الإحالات المرجعية في البحوث والمؤلفات والإطروحات الجامعية اليها، لا تتناسب مع ما تضمه صفحاتها من دراسات ومساهمات وآراء متنوعة.
يتساءل جماعة من المهتمين بقضايا إسلامية معاصرة عن كيفية تحريرها ومكتبها وعدد المحررين العاملين فيها، وميزانيتها السنوية وحجم نفقاتها ومنابع دعمها وتمويلها، وما تمتلكه من إمكانات ووسائل تتيح لها التواصل مع أبرز المتخصصين في المعرفة الدينية واستكتابهم وإثراء ملفاتها بدراساتهم، ومبلغ المكافآت المدفوعة لما ينشر فيها، فيما يبدي آخرون دهشتهم من سقف الحرية الواسع في موضوعاتها، واتساعها لإستيعاب مختلف المواقف التحديثية والمحافظة، مما تضيق به الدوريات الإسلامية الأخرى، وقدرتها على تخطي "الطائفية الثقافية" والإنفتاح على مختلف الأقلام، في عصر يطغى فيه الإستقطاب الطائفي ويتعاظم الصراع المذهبي، بنحو يتورط ليبراليون وإسلاميون  بالدفاع عن "الوهابية السياسية" منخرطين في نضالات طائفية، تدافع عن أسوأ نموذج سياسي وديني، يصادر الحريات والحقوق.
تود هذه الدورية ان تبوح لقرائها، بأنها فضلا عن إفتقارها إلى مكتب ومبنى، فإنها لا تتوافر لديها ميزانية، أو ممتلكات وأوقاف خاصة بها، ومساهمات الكتاب فيها تطوعية، ولا تتم عملية التحرير فيها في مكان واحد؛ فتحريرها وطباعتها وتوزيعها تجري في أكثر من بلد، وفريق تحريرها يتألف من "عائلة"، تتولى فيها الأم سكرتارية التحرير منذ العدد الأول، فيما يتولى الإبن الإخراج والتنظيم، ويشرف الأب على التواصل مع الكتّاب، وإقتراح محاور وموضوعات كل عدد، وإدارة عملية التحرير، وإجراء الندوات والحوارات، غير ان ذلك لم يمنعها من الإستمرار لمدة خمسة عشر عاما، بالنهج الذي اختطته، وبكفاءة فكرية عرفها بها المتابعون لها.
لا تزعم قضايا إسلامية معاصرة انها حققت أحلامها وما يترقبه قراؤها، ولا تدعي انها أحدثت تحولات نوعية في التفكير الديني. انها تعلم ان تغيير عالمنا لم يعد محكوماً بالأساليب والوسائل الموروثة، بل تجاوزت المجتمعات النمط الذي ظل فيه التاريخ تصوغه الايديولوجيات والأفكار والدعوات والمفكرون والأبطال، بعد انزياح عالمنا لصالح العالم الإفتراضي، وسطوة تكنولوجيا المعلومات على كل ما يتصل بتدبير الشأن الدنيوي، وإعادة تشكيل الإجتماع البشري في سياق مختلف. وما تفاجئنا به هندسة الجينات من معطيات ونتائج، ربما تتخلخل فيها الشفرات الوراثية للنوع الإنساني، فضلا عن غيره من الأحياء. انها ترسم صورة بديلة لنموذج من بني آدم، قد تبتعد بالتدريج عن الخصائص المألوفة لدينا، حسبما أنبئنا إكتشاف الخارطة الجينية، والقدرة على التحكم بال"DNA "، وما سيفضي اليه من تنميط للنوع البشري. مضافا الى ما تعد به تكنولوجيا "النانو"، وغيرها من آفاق متنوعة للتكنوجيا. ولا تبدو الوتيرة المتسارعة للتحولات المناخية، وما ينجم عنها من كوارث طبيعية غير متوقعة، أقل أثراً في تفكيك بنية المجتمعات وتحولاتها. اما المشكلة الديمغرافية واختناق بلادنا بتكاثر عشوائي للسكان، والعجز عن توفير الحد المناسب للعيش الكريم لهم، فإنه يضعنا في مأزق مصيري، تتعطل معه المجتمعات وتتهشم مرتكزاتها وعناصر بقائها وديمومتها.كل ذلك يعيد ترتيب العناصر الفاعلة في بناء المجتمعات، ويخضع العوامل الأساسية التقليدية في حركة المجتمع الى تسلسل مغاير، تضمحل أو تختفي معه بعض العوامل المؤثرة، بينما يتعاظم تأثير عوامل ثانوية أو جديدة، وتنتظم الأولويات في نسق بديل، بعد المتغيرات النوعية الجديدة، وما تفرضه من آثار وحقائق غير معروفة.
يتفق جماعة من المتابعين لهذه الدورية، من باحثين ودارسين ومهتمين بدراسة الإجتماع الإسلامي وما يسوده من ظواهر دينية وثقافية، انها تغلبت على التفكير داخل إطار المفاهيم والآراء الموروثة، واشتقت لنفسها نهجاً لا يتطابق مع ما هو متعارف في الأدبيات الإسلامية المتداولة، اخترقت مجالات لا مفكر فيها، وأحياناً ممنوع التفكير فيها. تغلب على نمط الكتابة فيها إستفهامات تتناسل منها إستفهامات فرعية، خرجت من الدوائر القارة الساكنة في التفكير الديني، وحاولت ان تتخلص من الجزمية، وتصوغ رؤيا تقدمها للنقد والنقاش، من دون أن تبشر بها، أو تدعو الى قبولها والإعتقاد بها وتبنيها.
التقليد الذي أرسته قضايا إسلامية معاصرة عملت على محاكاته بعض الدوريات الإسلامية، فأضحت ال"معاصرة" عنوانا توشحت به أكثر من مجلة فصلية صدرت فيما بعد، ولاحقت تلك المجلات الإشكاليات ذاتها، وانفتحت على نصوص ظلت منفية تحذر بعض المطبوعات من التعاطي معها.
الحضور الأبدي للدين والمقدس:
يتمحور اهتمام هذه الدورية على دراسة الدين والمقدس، بإعتبار الدين أصيلاً في حياة الانسان، وحيثما وجد الدين تجسد في السلوك الشخصي بشعائر وطقوس وممارسات تستلهم مفاهيمه، وتجلت تمثلاته المتنوعة في الإجتماع البشري. ولايستغني الإنسان عن المقدس؛ فتجليات المقدس تتنوع بتنوع المجتمعات والأديان. يتغلغل المقدس في مجالات الحياة المختلفة، ويظل أثره على الدوام ليس هامشياً أو زائفاً، وربما حاسماً في مراحل ومنعطفات هامة في التاريخ، وترتبط عضوياً إلى حد كبير بتحولات المقدس وتوظيفه عمليات التغيير الإجتماعي، في بعض المجتمعات. يورغن هابرماس يحيل ما حدث في الغرب إلى الدين، بل إنه ينفي ماسوى الدين من عوامل، إذ يكتب:"المسيحية، ولاشئ ما عدا ذلك، المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. إلى يومنا هذا، نحن ليس لدينا خيارات أخرى، نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر. كل شئ آخر ثرثرة ما بعد الحداثة".      
 حضور المقدس وتمثلاته وتعبيراته وتجلياته وآثاره المتعددة في الحياة ظاهرة انثروبولوجية، لا تنفك عن الاجتماع البشري، تحّدثنا عنها المكتشفات الأثرية منذ فجر التاريخ، في حضارات وادي الرافدين، والنيل، والصين، والهند، وفارس، وأثينا، وروما، والمايا، والأزتيك…وغيرها. وواكبت تلك الظاهرة تاريخ الانسان، وظلت على الدوام تمتد عمودياً وأفقياً في كافة المجتمعات، واستعصت على أية محاولة لطمسها، مهما كانت ضراوتها وقسوتها. وأخفقت دعوات ووسائل اجتثاثها، بالرغم من استخدامها لأساليب التصفية الجسدية والقتل العشوائي والإبادة الجماعية،كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق، ودول اوروبا الشرقية، خاصة ألبانيا التي فرض عليها أنور خوجة الإلحاد لعشرات السنين، والصين الشعبية في عهد الثورة الثقافية وقيادتها المعروفة بعصابة الأربعة، الذين كان من أبرزهم زوجة ماوتسي تونغ.
 ان المقدس مستمر متواصل أبدي ، غير انه ليس ساكناً أو قاراً أو ثابتاً، بل هو متحرك ومتغير. انه موجود دائما، لكن أشكاله وأنماطه شديدة التنوع. وعادة ما يتعرض المقدس للتلاعب من قبل البشر،  ويجري توظيفه في المعارك، ويستخدم كقناع وذريعة في الصراع الإجتماعي، ويخضع لمختلف أنواع التفسير والتأويل والقراءات المنبثقة عن الفضاء البشري الحاضن له.
تحديث المؤسسة الدينية:
لما كان المقدس يرتبط عضوياً بالمؤسسة الدينية، إذن ينعكس كافة ما يتعرض له من توظيفات واستخدامات عليها، بنحو مباشر أو غير مباشر، وتظهر أصداء ذلك في التحول والتغيير في داخل المؤسسة.  
والاسلام كأي دين لاينفك عن الزمان والمكان والاجتماع البشري الذي يعتنقه، المؤسسة الدينية هي نمط من التمثلات الاجتماعية للدين، وهي ظاهرة ملازمة لحضور الدين واستمراره في الحياة البشرية، محكومة بسوسيولوجيا الجماعة ومصائرها ومطامحها، ولاتنفك عن شبكات المصالح المعلنة والمضمرة في المجتمع. وليس بوسعنا افتراض ان الاسلام ينفرد عن غيره من الأديان، بأنه عابر للتاريخ، ولايخضع لصيرورات الاجتماع وتحولاته، حين يتجسد في الحياة الفردية والاجتماعية.
المؤسسة الدينية تمثل الذروة الروحية العليا في المجتمع، مضافا الى ادارتها وتدبيرها للشأن الديني، ومهمتها هذه تتيح لها مديونية طوعية بلا حدود لأتباعها، وهي ما اصطلح عليها مارسيل غوشيه "مديونية المعنى"، مما يمنحها فرصاً وامكانات وامتيازات ومكاسب لاتظفر بها أية مؤسسة سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو اجتماعية، أو غيرها.
للمؤسسة الدينية مهمات خطيرة، خاصة في المجتمعات التقليدية، ولايحدث تحوّل في مثل هذه المجتمعات ما لم يحدث تحول في المؤسسة الدينية، ولايمكن تحديث المؤسسة الدينية ما لم يتم تحديث تلك المجتمعات، بمعنى ان هناك تأثيراً متبادلاً بين طرفي المعادلة، لاينفك أحدهما عن الآخر، انهما قطبان في معادلة واحدة. في مجتمع أمي، فقير، متخلف، تتفشى فيه الأمراض، لايمكن تحديث المؤسسة الدينية، ذلك ان هذه المؤسسة نابعة من المجتمع، هي مرآة له، ترتسم صورته فيها، مثلما المجتمع مرآة لها، ترتسم صورتها فيه. الطلاب الذين تلقوا تعليماً أساسياً جاداً ومتميزاً في الابتدائية والمتوسطة والاعدادية، عندما ينخرطون في التعليم الديني بعد التخرج من الثانوية العامة، هم أكثرا استعداداً على فهم واستيعاب وتمثيل ودمج معارفهم التراثية التي يدرسونها في المدارس الدينية بمعارف العصر، ووصل الماضي بالحاضر، والاصغاء لايقاع العصر ورهاناته واستفهاماته، بينما يعجز المنخرطون في التعليم الديني من الطلاب الذين لم يشملهم التعليم الأساسي قبل التعليم الديني، أو أخفقوا ورسبوا، أو تلقوا تعليماً أساسياً فاشلاً، من ان يجسّروا العلاقة بين معارفهم الدينية والعصر الذي يعيشون فيه.
كما ان التنمية الشاملة تتطلب مسارات مشتركة، تشمل الثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، و…الخ، فانه لا يمكن تحديث المؤسسة الدينية  بلا تحديث تربوي، وتعليمي، وثقافي، واقتصادي، واجتماعي، وسياسي شامل. في مجتمع متخلف، يسوده نمط مغلق، تنبثق منه مؤسسة دينية مغلقة تقرأ النص قراءة حرفية ساذجة، وتنتج مفاهيم مبسطة سطحية تعطيلية، تمسخ الأبعاد الانسانية للدين، وتستبعد الميراث الرمزي والمعنوي والروحي والعقلي للدين.
الأنساق الثقافية التاريخية الراسخة تعمل على تحديد طبيعة فهم النص الديني وتفسيره، فإذا كانت تلك الأنساق مدنية متحضرة، يسودها التنوع والاختلاف الايجابي، يهيمن فيها اتجاه تأويلي للنصوص، يتجاوز مداليلها الظاهرية، ويغوص في رؤياها الرمزية  الاشارية، كذلك تنتج نمطاً متسامحاً انسانياً للتدين، كما نلاحظ في بيئة الأندلس، التي أنتجت تصوف محيي الدين بن عربي، وعقلانية ابن رشد، وفي بيئات آسيا الوسطى وبلاد فارس وتركيا التي ظهر فيها الفارابي، وابن سينا، والبيروني، وأبو زكريا الرازي، والقاضي عبد الجبار الهمذاني، وجلال الدين الرومي، وصدر الدين الشيرازي…وغيرهم.
تدلل المؤشرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية على ان المجتمع التركي اليوم من أكثر المجتمعات المسلمة تحديثاً، لذلك توالد فيه نموذج تدين متميز، يراكم المكاسب والمنجزات باستمرار، ولايكف عن التواصل مع محيطه الإقليمي بفاعلية وثقة، ويصغي باهتمام لمتطلبات العصر، ويستجيب للمتغيرات المتنوعة.
التفكير الديني كأي حقل من حقول التفكير ليس ساكناً، الخبراء في تاريخ ومقارنة الأديان، يعرفون جيدا كيف بدأ التفكير الديني لدى المجتمعات الأولى، وكيف تحول وتطور بمرور الزمان. التطور والتجديد سنة اجتماعية، من لايتجدد يموت.
التفكير الديني في مختلف مجالاته، تأثر بما يجري من تحولات في بنية المجتمعات وثقافاتها، وأنماط عيشها. فلسفة العلم تدلل على الترابط في المعارف والعلوم الانسانية، وتكشف عن ان المخترعات والمكتشفات في العلوم الطبيعية، والعلوم البحتة، تؤثر في العلوم الانسانية، وتحدث تحولات مفصلية ومنعطفات فيها، وهكذا تؤثر النظريات الفلسفية الجديدة على العلوم الطبيعية وغيرها. المعرفة البشرية شبكة ذات نسيج مركب متشابك متحد، والتفكير الديني أحد عناصرها. وافتراض ان كل شيء يتغير ويتحول فيما التفكير الديني متخشب، تكذبه فلسفة العلم.
ماتشهده المؤسسة الدينية من تطورات، وتحولات، عادة ماتكون بطيئة، ذلك ان ديناميكية التغيير فيها تستبطنها بنية تحتية عميقة، وتمر من خلال أنساق تاريخية كثيفة، لاتسمح بالعبور من مرحلة الى اخرى بسهولة. لايجري التغيير فيها بنحو دفعي آني كيفي، مثلما في الانقلابات والثورات، وانما يتم التغيير فيها بنحو تراكمي تدريجي بطيء.
تحديث التفكير الديني يعني تحديث المؤسسة الدينية. لتحديث التفكير الديني رافدان يستقي منهما:
 الرافد الأول: هو دراسة وفهم واستيعاب الموروث الديني، واستكشاف مداراته ومدياته وآفاقه المتنوعة، والاهتمام بالميراث العقلي في المنطق والفلسفة وعلم الكلام، والميراث الرمزي والإشاري والروحي في التصوف والعرفان، والتحرر من المواقف التبسيطية الساذجة في التعاطي مع التراث، والنظر اليه باعتباره كماً من النصوص التي يجب استظهارها وحفظها وتكرارها، وتوقف التفكير عند تنظيمها وترتيبها وتصنيفها، بلا تدبر وتحليل وتأويل.
الرافد الثاني: هو الاطلاع على العلوم الانسانية الحديثة، ودراستها، خاصة فلسفة العلم، وعلم النفس، والاجتماع، والانثروبولوجيا، والقانون والحقوق، والعلوم السياسية، والألسنيات، وعلم الدلالة، والهرمنيوطيقا، وتوظيفها كأدوات في التحليل، ومفاهيم اجرائية في قراءة النص الديني، وتفسير الظواهر الدينية في المجتمع، واكتشاف ومعرفة أنماط التجارب والخبرات الدينية الشخصية.
تحديث التفكير الديني يتطلب دراسة مسارات الدين عبر التاريخ والجغرافيا والاجتماع البشري، واكتشاف طبائع التدين وأشكاله في مختلف المجتمعات، والاهتمام بمقارنة الأديان ونصوصها المقدسة، وأنماط مؤسساتها الدينية.
المنطق الذاتي للتحديث:
ترتد حركة تحديث التفكير الديني الى مطلع القرن التاسع عشر، مع رفاعة رافع الطهطاوي، الذي أوفده الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر مرشداً دينياً لأول بعثة طلابية مصرية الى باريس، غير ان الطهطاوي كان أبرز المبعوثين الذين اكتشفوا التنوير الاوروبي، ومنجزات العقل الحديث، والتنظيمات الجديدة في الغرب، ودوّن ذلك في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". ثم عكف بعد عودته مباشرة على انشاء مؤسسة للترجمة، وحاول اصلاح النظام التقليدي للتربية والتعليم.
ولم تتوقف محاولات تحديث التفكير الديني، واصلاح النظام التعليمي منذ ذلك التاريخ؛ بل ان بعض تلك المحاولات أُجهضت في وقت مبكر، أو تخبطت وارتبكت وانهارت، لأنها لم تدرك رهانات عصرها بدقة، أو لم تتعمق في دراسة التراث واكتشاف ما تراكم من طبقاته، أو قفزت على الماضي، واستخفت بالتراث فتجاهلته وأهملته. وظلت مساعي تحديث التفكير الديني خارج المؤسسة الدينية لاتلقى استجابة مناسبة داخل هذه المؤسسة، ولم تحدث تحولاً أو تطوراً في نمط التفكير السائد، خلافا لجهود ومساعي المجددين من الفقهاء وعلماء الدين، الذين اكتشفوا المنطق الداخلي للموروث، واستلهموا روح العصر، فاستدركوا ما يمكنهم استدراكه، واستأنفوا تركيب وبناء المعارف الاسلامية، في ضوء متطلبات المسلم المعاصر وهمومه. ولاتفتقر المؤسسة الدينية على الدوام الى محاولات وجهود جريئة وجادة في تحديث التفكير الديني، وعادة مايكمل فيها اللاحق ماسبقه.
في مراجعة عاجلة لحركات الاصلاح الديني الفاعلة والمؤثرة في تاريخ الأديان، والتي امتدت وترسخت عبر الزمان، نجد الحركات المشتقة من المؤسسة الدينية والمتولدة منها خاصة، كحركة الاصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر من داخل الكنيسة، هي ما أحدث منعطفاً وتحولاً هاماً في تقاليد ونظام المؤسسة الدينية، ويظل على الدوام صوتها مسموعاً ومؤثراً في المؤسسة. تحديث المسجد لا يتحقق إلا حين ينبثق من داخل المسجد، وتحديث الحوزة العلمية لا يتم إلا عندما ينطلق من الحوزة، لكيلا يفتقر التحديث للمشروعية، وتبعا لذلك يتوافر له حامل إجتماعي. بينما لا تجد الدعوات والكتابات في الإصلاح من خارج المؤسسة الدينية حاملاً اجتماعياً، يعتنقها ويتبناها ويتفاعل معها، في داخل المؤسسة، ويستخدم الامكانات التي يتيحها له انتماؤه للمؤسسة الدينية، كالمنابر والشعائر والمواكب ودور العبادة في التثقيف على المفاهيم والرؤى والأفكار التي تدعو اليها.
المؤسسة الدينية بالغة الحساسية حيال النماذج المستعارة من بيئات أخرى، تحرص على حماية نسقها الثقافي الخاص، وأية محاولة للتحديث تتوكأ على استنساخ تجربة الاصلاح في جغرافيا دينية مختلفة تقاوم وتجهض، وحتى لو عمد دعاتها على توطينها، متغلبين على التحديات والعوائق، فإنها تولد نماذج ممسوخة، مشوهة، هجينة، مغتربة عن الفضاء الخاص بالمؤسسة. التحديث في المؤسسة الدينية لايجد نموذجه في محاكاة الغير، وانما يستند الى المنطق الذاتي، والسياقات التاريخية والدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المؤسسة.
ان تعثر واخفاق محاولات تحديث التفكير الديني خارج اطار المؤسسة الدينية، وعجز منجز معرفي غني وواسع عن اختراق هذه المؤسسة، والترسب في البنية الذهنية العميقة للدارسين، يرتد الى ان ذلك المنجز قدمه مفكرون وأكاديميون وباحثون ومثقفون من خارج المؤسسة، بمعنى انهم يفتقرون الى المشروعية التي لاتمنحها المؤسسة لأي فرد من خارجها، وهذه المشروعية تكتسب عبر المكوث سنوات طويلة فيها للدراسة والتدريس والبحث والتبليغ والارشاد والدعوة. وأشير هنا الى محاولات تحديث للتفكير الديني، نهض بها مفكرون وباحثون من ذوي التأهيل الأكاديمي الجاد، والتكوين اللغوي المتنوع، مضافاً الى خبرتهم الواسعة بالعلوم  الحديثة، ومعرفتهم بالتراث، وتمحور جهودهم وانتاجهم الفكري على كل مايتصل بالدين وتعبيراته الشخصية والاجتماعية.
 تعززت ممانعة المؤسسة الدينية بمرور الأيام حيال مساعي تحديث التفكير الديني من خارجها، وأضحى من يتعاطاها من الطلاب والدارسين في المؤسسة الدينية مورداً للارتياب في أفكاره وسلوكه. ولم تجد لها مسارب في وعي الناس وتفكيرهم، فضلاً عن اخفاقها في التأثير على الحركات الاجتماعية والسياسية؛ بينما نجد نمط التحديث الذاتي يتوغل في التفكير الديني في الحركات السياسية والاجتماعية، وفي وعي النخب والجماهير، ويسري في التعليم الديني العالي في الجامعات.
 عندما تنطلق فكرة التحديث من داخل المؤسسة، ومن خلال الأسماء المكرسة فيها، يناهضها البعض، غير انها تصمد وتنمو وتتجذر في خاتمة المطاف، لأنها لا تفتقر للمشروعية، كما هي الفكرة الآتية من خارج أسوارها. ولا أعني بالمشروعية هنا المفهوم الميتافيزيقي أو الفقهي؛ بل أعني المفهوم السوسيولوجي والانثروبولوجي، أي ان خطيباً على منبر بوسعه تعبئة وتحريض المستمعين واعتناقهم لآرائه مهما كانت، تبعا لما يمنحه المقام الذي يصدر عنه حديثه من مكانة وقيمة ومشروعية؛ فيما لا يمتلك المفكر والباحث والمثقف خارج المؤسسة الدينية مايمنح أراءه هذه القيمة الرمزية.
عوائق التحديث:
تواجه عملية التحديث تشويهاً من السطحيين، ممن يتحدثون عن نموذج كاريكاتوري للدين والمقدس والموروث، من دون ان يتعمقوا في دراسة الدين والمقدس والتراث، ويستكشفوا مسالكه ودروبه المتشعبة.
دعوات هؤلاء تكبح التحديث، ذلك انهم يحسبون ان الهتافات والشعارات والعناوين الصاخبة، هي السبيل لانخراط المجتمع في تفكير مغاير، ولم يدركوا ان عملية التغيير الاجتماعي والتحولات في التفكير هي عملية بالغة الصعوبة، ترتد الى شبكة معقدة من العوامل والمؤثرات المتشابكة.
ما يعيق التحديث هم الذين يجرحون الضمير الديني للآخر، فيتهمونه ويهجون مقدساته بعبارات قاسية، بنحو يفضي الى خشية الناس على معتقداتهم، التي هي ممتلكاتهم الرمزية والروحية الثمينة،كذلك من يختزلون الدين في بعد واحد هم أبرز من يقفون ضد التحديث، عبر التشديد على ان الاسلام يساوي المدونة الفقهية فحسب؛ هؤلاء يقدمون قراءة أحادية للدين، تستبعد نظامه الرمزي والمعنوي والروحي والجمالي والفني والقيمي والأخلاقي، وتشدد على مضمونه الدنيوي، بل تسعى لقلب كل ماهو ديني الى دنيوي، وماهو دنيوي الى ديني، فإن الدين ذا البعد الواحد الذي تنادي به الجماعات السلفية، فرغ الدين من محتواه الميتافيزيقي، وأهدر معظم مضامينه الروحية والمعنوية والانسانية.
من يؤمن بالأثر الاستثنائي للدين في الحياة البشرية وأبدية الدين وتجلياته وتمثلاته وتعبيراته على مر التاريخ، ويستوعب معارف ذلك الدين، ويمتلك رؤية شاملة للمنجزات العلمية والمعرفية الراهنة، يمكنه المساهمة بصياغة رؤية علمية لتحديث التفكير الديني؛ فيما لاينبغي لمن لايعتقد بذلك، ويحسب ان الدين والشأن الديني هما منبع كل تخلف وانحطاط، أن ينصب نفسه متحدثاً باسم تحديث التفكير الديني، ذلك ان هؤلاء لايفقهون رسالة الدين في الحياة، ويعمل موقفهم على استفزاز المجتمع وتوجسه من أية دعوة للتحديث.

إفتتاحية العدد 45-46 لمجلة قضايا إسلامية معاصرة

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً