أحدث المقالات




إنتاج العلم الديني الصّدام أو المصالحة مع السنن التاريخية والاجتماعية والطبيعية

عن موقع يحيى ميرزائي

 

من الثمار السائغة جداً لحاكمية القواعد المعرفية القرآنية الكلية على المسارات والقضايا المتحكمة "بإنتاج العلم الديني"، تشابك مجالات التفاعل بين فروع هذا العلم وبين "القوانين الطبيعية" للحياة، فإضافة إلى عدم وجود أي صدام أو تناقض بين القرآن وقوانينه وبين قوانين الوجود والطبيعة والفطرة، هنالك أيضاً نوع من التصالح والتوافق الكامل والتطابق المحض في ما بينها، كما يعدّ القرآن من الينابيع الفياضة لعلم الطبيعة (بالمعنى الوارد من قبل).

إن نظرة عابرة إلى عواقب المعارف غير المبنية على أسس القرآن الكريم في الميادين الاجتماعية المختلفة (الثقافة، المؤسسات المتنوعة، مباحث علم الاجتماع، الحقول التربوية وحتى الاقتصادية)، ترينا هذه الحقيقة المريرة، التي هي عبارة عن حدوث صدامات شديدة ومضرة، بين المعطيات المسماة دينية أو إسلامية، وبين المعطيات الطبيعية)، إن الطروحات النظرية المبنية على فروع الدين ومن بينها فروع تنتمي إلى فضاءات زمانية وتاريخية معينة، لم يحالفها النجاح في التعامل (الإداري أو الحياتي)، لفقدان الدعم "السني" والطبيعيين يجب البحث عن سر كل هذا القصور وهذه الإعاقة في "اصطدام" الديني بالفطري (أو الطبيعي) وأحياناً بالعقلي.

هنالك، على مستوى "العقيدة" والفضاء الكلي المسيطر على وجهات النظر الدينية "السنية المحور"، والطبيعة الفطرية، على الدوام "تآلف" وانسجام مستمران بين هذين الحقلين، وهذا الأمر المؤلم، لم ننقّب حتى الآن عن نتائجه المرة بنظرة عميقة ولكن واقعية، ولم ندرك بعد الآثار المؤذية، التي تركها الابتعاد عن حلقة الاتصال بين "العلم الديني" و"القوانين الطبيعية"، التي هي نفسها "المعرفة الطبيعية، الفطرية المحور".

إن إنتاج العلم الديني في ضوء القرآن المعرفي، وتحت عباءته العلمية، هو الفرصة الكبرى لحماية "المعارف" و"النظريات" الدينية الشاملة من الصدام والتناقض مع الطبيعة، لأن الدستور الكلي للقرآن الكريم إضافة إلى عدم تناقضه مع الطبيعة وقوانينها وسننها، فإن دعوته للتمسك بهذه السنن، و"الشرائع" و"الفطرات" محكمة وقطعية.

إن العلم الديني في أعماق فلسفة وجوده، هو الوجه الآخر لقوانين الطبيعة الحكيمة – الفطرية، المعقولة، و"المتقنة" ومرشد "الإنسان" وقائده الأكبر (في تعامله مع أخيه الإنسان ومع المحيط الطبيعي)، للتعايش مع معادلات الطبيعة الدقيقة، والسنن الإلهية الثابتة (في جميع ساحات الوجود الفردي والاجتماعي) والبعد عن محاربتها، وهذا التآلف الديني، الفطري والطبيعي والعقلي في قالب "السنن"، لا يصبح زمنياً وموضوعياً، إلا حين تحكم العلم الديني النظريات الكليّة المسيطرة في القرآن الكريم (النبأ العظيم) الصادق، عن الحركات والتحولات والسنن الشاملة، المسيطرة على الوجود كله من أحقر الذرّات إلى أعماق السماوات العلا، والتصوير الأكثر واقعية للمعادلات الثابتة، "الأفعال وردود الأفعال" في ساحة الحوادث الطبيعية، ومن بينها السلوك الإنساني، (للفرد وللمجتمع).

من هذه الزاوية يعدّ الدين والعلم الديني تجلياً لمعرفة الطبيعة (بالمعنى الشامل المتعدّد الجوانب)، بلسان القرآن الكريم، والروح التي تحكمه لكل مثقال ذرة من العمل أجر وثواب، ولأي صوت رجع وصدى، ولكل سلوك أو تصرف ردة فعل طبيعية.

إن الاهتمام بهذا الإدراك السامي للقرآن الكريم ولروح الدين، هو نقطة الثقل ومركز الإلهام للعلماء المسلمين، في وضعهم حجر الأساس في بنيان "الحضارة الإنسانية" فهم قد تصدوا في مضمار التفاعل المبني على فهمهم العلمي والسنني عن الدين، للسير في الأرض، والتعقل، والتبصر في مناحي الوجود، وسبر غور الأشياء، وتأمل الأجرام السماوية، والتفكير العميق في ذرّات الوجود، وتبيّن "الأنفس" الإنسانية والتحقيق فيها وسبر غورها، وحركة استنباط العلم الديني على أساس معرفة الآفاق والأنفس.

لقد تعرضت الحضارة الإسلامية الإنسانية في الأزمنة المتأخرة، لهذا المصير الذي نشهده، بسبب البعد عن هذه المفاهيم ووجهات النظر التي كانت نقطة الجمع بين العلم الديني والقوانين الطبيعية، لقد فصل العلم الديني طريقة أيضاً عن هذا المسار بالتدريج واستحكم المسلك الإخباري والتعبّد غير القرآني وتجذّر في هذا الوادي، حتى مع التهافت الظاهري للتيارات غير القرآنية في "الفهم الديني" بقيت روح ذلك العصر المحاربة للعلم والمعادية للطبيعة، والمتخلية عن الفطرة، والذي هبط فيه العلم الديني إلى حدود السلوك الفردي، المنبتّ عن أي توجه عقلي وفلسفي طبيعي ولا يزال، وحلّت محل نظريات ابن الهيثم، وابن حيان، وابن سينا في الدين، نظريات حديثة بعيدة عن الطبيعة والقانون الفطري وحدث ما تشاهدونه اليوم.

بعد ذلك أيضاً، ظهرت حركات نهضوية كبيرة تدعو إلى العودة إلى تلك المفاهيم القرآنية السامية والمناهج الوجودية المحور، الفطرية والعقلية والقانونية (وليس إلى الاستنتاجات الجزئية لهذا العصر)، في المذاهب والتيارات الدينية في مصر والمغرب العربي وشبه القارة الهندية وإيران والعراق، وأماكن أخرى، وسعى بعض العلماء الواعين المتنورين، للتعريف بأن سرّ تخلف المسلمين كامن في تخلّيهم عن هذه الحقيقة القرآنية الجليلة (التي أوصلتهم في يوم من الأيام، بسبب التزامهم نسبياَ بها، إلى أعلى قمم العز والفخار، لكن كان الوقت قد تأخر قليلاً، والأجواء العامة لم تكن مهيئة لتقبل المؤسسات والبرامج التي تصوغ الشريعة وتنتج العلوم الدينية، وكانت العداوات والأحقاد تنهمر عليهم من جميع النواحي.

مع ذلك، فقد زرعت بذور مباركة من هذا الفكر الديني العميق في قلب الأمة الإسلامية وفي أماكن أخرى من العالم، أخرجت نباتاً طيباً اشتدت… يوماً بعد يوم، وكانت الثورة الإسلامية الإيرانية، إحدى تلك النبتات الغضة، هذه الثورة بإمكانها أن بحث صانعوها ومدبروها، واستفادوا من المعارف الدينية المبنية على تحقيق السنن القرآنية، واعتناق تلك السنن (في ظل الاستفادة) من قيادة المفسرين الأصليين للقرآن، الراسخين في العلم (عليهم السلام)، أن تصل إلى أبعد مما وصلت إليه.. لأن الدين و"العلم الديني" هو الطريق نفسها والصورة العلمية لحياة الإنسان (جزء من الوجود) في باطن طبيعة (تحيط بالناس، وقوانينها تتحكم بكل شيء)، للوصول إلى الفلاح، والإيمان بالدين، بهذه النظرة الشمولية والوجودية المحور، المساعدة للإنسان ليتعرف إلى القوانين والسنن المسيطرة على الوجود وعلاقاتها في ما بينها، هو الطريق الوحيد لاضمحلال النظريات العلمانية، التي تفصل بين المعرفة الدينية والمجتمع متلفعة بلبوس الدين.

إن الالتزام بالقرآن ككل، إضافة إلى الإدراك العقلي والفطري للبشر (الذي يعززها القرآن، ويحث على تفعيلها وتأهيلها، في أثناء التأسيس لـ"إنتاج العلم الديني" والخروج من الأطر الضيقة والمحصورة لعلم الأصول الحالي المبني على التحرك الانفعالي، مقابل التيار الإخباري أو غيره، للتوصل إلى أصول (فهم الخطاب الديني)، وإلى أصول فهم أسس الشريعة، وقوانينها الكليّة، في ظل الفلسفة الكليّة للدين، ومن ثم لفهم أصح النظريات "الإنفاق" و"الرحمة" و"السنن التاريخية الثابتة و"العبادة" و"التوحيد" وغيرها، هي طريق التخلص من الإشكاليات والأخطار والآفات التي ضعفت كيان الفكر الديني.

إن ذكر نقطة حول هذا الموضوع لا تخلو من فائدة، وهي أن القرآن الكريم هو المصدر الأصلي لفهم كيفية التعامل وكيفية التفاعل بين الإنسان والغيب والطبيعة، يقول الحاج حمد: "نحن لا يتوجب علينا، ولا نريد أن ننزل النص القرآني – كما فعل القدماء أو المعاصرون – ونطبقه على الواقع، وإنما علينا أن نرفع الواقع إلى مستوى النص القرآني، وهذا ممكن بواسطة منهجية تعتمد على قوانين القرآن الوجودية والعالمية في ضبط النص ومنهجته، هذا الارتقاء بالواقع للوصول إلى النص القرآني، ممكن ليس من طريق التفسير والتأويل، وإنما بواسطة بُنى منهجية ومعرفية المواقع وللنص القرآني

 

فشل حماس الحركات الحضارية والعالمية:

إن تحليل وتفكيك العناصر الفكرية للثورات الاجتماعية والسياسية للمسلمين، لا يترك مجالاً للشك في أن اعتبار "التعاليم الإسلامية" "بديلاً لإدارة" المجتمع جميع حقوله، كان أحد أهم محاور رغباتهم وأهدافهم، والحال كذلك اليوم في المجتمعات الإسلامية، حيث يرى المفكرون الإسلاميون والتنظيمات الدينية، في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي و"الإسلام"، البديل الأسمى والأرفع من الخيارات الأخرى كلها لإدارة شؤون المجتمع والحكم، هذه النظريات الاجتماعية الإسلامية – إذا كان بالإمكان عدّها نظريات – تعطى أحياناً عناوين جديدة وعصرية أيضاً، لرفع مستوى نوعيتها الاجتماعية وتقبلها العام، لكنها ترد مشروعية السلطة والسيادة – التي هي حتماً بيد الشعب – إلى نصوص الشريعة.

إن ابتعاد الفكر الديني – بالتدرج وبعد طي المراحل التاريخية وتداخل عناصر متعددة – عن الاهتمام النظري والمعرفي بالمجتمع ككل وبحركة الإنسان العامة فيه، وظهور الركود والانقسام العميق في مسار، إنتاج العلم الديني، الجدير والقادر على تقديم الأعم العلمي للأهداف الاجتماعية السامية للثورات الإسلامية، واقتناع المؤسسات الفاعلة في "صنع الفكر الديني" والمراكز العاملة على استنباط الأحكام الدينية وفهمها وتفسيرها بالمستويات الفردية "للفقه الإسلامي"، و"بالتجريد" و"اللاموضوعية" في أعمالها المعرفية، هي مجمل بواعث فقدان الدعم النظري للأهداف والتطلعات الإسلامية في مسار التأثير الشامل على حركة الفرد والمجتمع العالمي في إطار "نظرية الحضارة العالمية الإسلامية".

إن فشل مؤسسات " العلم الديني" في عرض نظريات الإدارة والمجتمع والتربية السياسية والحقوق وفروع القانون والقضاء والاقتصاد والثقافة وغيرها في الميادين، يُفسر بأنه ناجم عن الآفات الكبيرة المتضخمة في أسس "منهجية" "إنتاج العلم الديني"، وإذا كنا نشاهد اليوم، حيرة عملية وتأزماً من الفشل الذريع في صياغة أجوبة علمية وموضوعية عن "أسئلة العصر"، وتأهيل الأجواء المتداخلة والمضطربة في السياسة والثقافة والاقتصاد والتربية الاجتماعية، فذلك ليس بسبب عدم رغبتنا في تحقيق طموحاتنا وأهدافنا، أو أننا نبحث عن بدائل منها، أو لأن حاكماً ما رفض السماح بمثل هذه النظريات في المؤسسات الدينية – العلمية، أبداً.

يجب بصراحة أن نبحث عن سر هذه المشكلات والأخطار في الركام الذهني، العاجز وغير الاجتماعي، التاريخي واللامنهجي في الجهود العلمية المسماة "منهج فهم الدين" وكذلك في "الفقر النظري" و"نقص المنظرين"، حتماً لا فرق إن كان ما أوصل إلى هذا الوضع هو عدم الكفاية المنهجية، أو المناهج القاصرة، أو كان هذا "القصور" في توليد العلم الديني المناسب و"المدني" ناجماً عن قوننته في مناهج إنتاج معرفي، أو كان القصور في المناهج واضطرابها البنيوي، هو الذي أوصلنا إلى هذه النهاية، فالنتيجة واحدة، العجز عن توليد علم ديني يستجيب لمتطلبات "الحضارة".

لقد ضاعت الفرص التاريخية والمصيرية، التي جاءت على أعقاب عجز العلماء المسلمين عن تقديم الدعم العلمي والنظري للأنظمة الإسلامية الجديدة، وانتهت أحياناً بتعريض وجهة نظر الرأي العام بالإسلام للخطر.

الثورة الإسلامية الإيرانية، التي قامت على أساس تلبية حاجات المجتمع ومتطلباته المختلفة، ولإقرار العدالة الاجتماعية وتوفير الحرية والكرامة الإنسانية، والإفساح في المجال أمام تقدم الإنسان ورشده وتعاليه، في مختلف النواحي في ظل سلطة تأسست على عمد الدين وأجوبته، هي إحدى هذه الفرص التاريخية مقابل أدعياء قدرة الفكر في هداية "المجتمع المدني" بما في الكلمة من معنى، هذه الثورة العظيمة، التي هي نقطة تحول في تاريخ عملنة الأفكار في ميادين الفلسفة السياسية والاجتماعية الدينية، تعترضها اليوم مخاطر جدية – بسبب فك الارتباط العلمي – النظري بينها وبين مؤسسات العلم الديني – النظري – حتماً دون قصد أو تعمد.

إن كان طرح الثورة والحكومة الإسلامية في صميمه اجتماعياً وشاملاً ينوب عن الأنظمة السياسية – الاجتماعية غير الدينية، والإدارات المبنية على القوانين الوضعية المحضة، لابد من أن يكون لها نظرياتها وأفكارها المتعددة الجوانب وفي جميع الميادين، والمتجذرة في "المعرفة الدينية".

إن مثل هذا الهدف السامي لا يتلاءم مطلقاً مع النظريات العلمية، التقليدية، والمسيطرة على الفقه والأصول والكلام والفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم، والمعمول بها في الحوزات العلمية، هذه المشكلة النظرية الكبرى، لا تحل بالحماس وبالتأييد في المظاهرات الداعمة للنظام الإسلامية، كما يجب أن نعرف أن العوائق النظرية الناجمة عن فقدان النظريات الإجمالية المبنية على المقاصد الدينية وفلسفة الدين وفلسفة الشريعة في عملية إنتاج العلم الديني، لا تزول بطرق عمل تكتيكية للدوائر العليا، وبتأسيس مؤسسات وطرق حل سياسية للخروج من الأزمات العلمية الاجتهادية.

من هذا المنطلق، فإن الفراغ والنقد النظريتين الكبيرين في النظام المدني والعالمي والحكومي، لدولة كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، ليملأ ولا يسد بالأهداف السامية والمسؤوليات الإستراتجية المستمدة من المقاصد الأصلية للثورة الإسلامية، وبالجهود الطبيعية والمحدودة، لمجلس الخبراء، ومجتمع تشخيص مصلحة النظام، وغير ذلك، فمثل هذه المؤسسات التي يدل نسيجها وبنيتها إلى أن وظيفتها تنحصر فقط في تعبيد الطرق المسدودة ووضع الحلول العادية التي غالباً ما تكون سياسية وإدارية لحل "الخلافات"، وكلما كانت هذه المؤسسات قوية ومفيدة وضرورية، وهي كذلك، وأجرها على الله، لكن المقتضيات النظرية لنظام الحكم الديني، الذي يريد أن يبنى على نظريات الدين الإسلامي، ويلبي حاجات الإنسان والمجتمع، ويهديهما،ويمهد الأرضية الاجتماعية "لتحقق الذات الإسلامية"، وتحسين ظروف الحياة الإنسانية، على أساس الأيديولوجية الدينية، أرفع من هذه الحركات.

لذلك يجب أن تتحول البنية العامة والنظريات السائدة في عملية إنتاج المعرفة الدينية تحولاً جذرياً، وان يتجدد الفقه الإسلامي بجميع أبعاده وأبوابه، ليصبح فاعلاً، واقعياً، إنسانياً، عالمياً، منفتحاً على جميع الجوانب ومطوراً للإنسان والمجتمع والطبيعة.

إن الفقه المحدود الفردي المحور: اللاجتماعي، الذي يتحرك على أساس "الاحتياط" و"الاستصحاب" و"الخبر الواحد"، والذي يتهرب من مسؤولية سيطرة المفاهيم القرآنية الشاملة عليه، ولا يعتقد بضرورة البحث والتحقيق الجدّيان لكشف المقاصد الشرعية والدينية للمفاهيم الإسلامية في مختلف الأبواب والفروع، وينحصر عمل محققيه في إطار التكليف الفردي والأحكام الفردية، (بدلاً من وضع نظريات فقهية)، تفصله مسافة كبيرة عن ذلك الفقه المتبقي الذي يجب أن يدعم "الإدارة الدينية" للمجتمع بالنظريات.

لقد أشرنا في مكان سابق، كنموذج، إن الاهتمامات الفقهية إذا تمكنت يوماً، من إلغاء الربا من المعاملات المالية والاقتصادية، ذلك لا يعني انتهاء مهمة الفقه، فإذا كانت مهمة الفقه محصورة في الأمر، فالأسهل والأقل عناءً تحريم المصارف الربويّة من الأساس.

يبدو أن المصرف الإسلامي يجب أن يحظى بمواصفات إدارية ونظريات علمية تحمي ظهره، لا يتعاطى الربا وفي الوقت نفسه يؤدي بمهارة وظيفته المصرفية الأساسية: التي لا يستطيع المجتمع بدونها أن يمارس حياته الاقتصادية واقعياً وموضوعياً، وينمي: الاقتصادية في المجتمع، من هذه الزاوية فإن "فقه الحكم والمجتمع" يجب أن يخاف على قدر المساواة من إشاعة الربا في المجتمع ومن عدم تحقق الوظيفة الاقتصادية المصرفية في المجتمع الإسلامي، وانهيار مقومات النمو الاقتصادي، على اثر فهم خاطئ لفلسفة تحترم الربا وحدود هذا التحريم الدقيقة والموضوعية، لأن دور الفقه، قبل أن يكون مراقبة حركة الأموال، كي لا تقع في ظواهر سلبية غير مشروعة كالرّبا، يجب أن يفكر بكيفية دعم المصارف الإسلامية بالنظريات التي تتيح لها تحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين مستوى العدالة الاجتماعية وتأهيل الوضع العام لاقتصاد الدولة الدينية والمجتمع الإسلامي.

لا أعلم إن كان يصح أن يسمى المسار العام لتأهيل الفقه الحالي "الفقه المعارض"، ولتلبية الحاجة الملحة للثورة الإسلامية وحكومتها الدينية – التي تدعي حكم الفقه الإسلامي – "فقه حكم" أم لا.

لكن المقصود هو أن الفقه الموجود – بحسب دراسة المباحث الحالية لعلم الأصول التابع له – وطريقة إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، هو إلى حد كبير "فقه على هامش" المجتمع المدني، ما يجب أن يحدث هو جرّه إلى متن المجتمع (بكل تعقيداته وأسئلته المعاصرة، وإرباكاته)، لإدارة القضايا الشائكة والمهمة في السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع و… غير ذلك.

كان السعي في هذه المقالة القصيرة في جميع أجزائها المساعدة على تنقيح الفرضية التالية: "عجز الدين والنظريات الدينية الإسلامية عن تقديم الأجوبة، بدون العودة إلى مرجعية مبادئ القرآن ومفاهيمه ونظرياته ومقاصده".

وكما ذكر من قبل: "إن الجو العام المسيطر على منهجية إنتاج العلم الديني، الفاقدة للموازين والمعايير القطعية والحتمية – في السند والدلالة – يمكنه فقط بالعودة إلى نظرية وتفسير خاصتين لفهم الدور للقرآن الكريم أن يلبي احتياجات الإنسان والمجتمع في ميادين وساحات الحياة المعاصرة.

الاحتمال المحوري الذي سعينا في أحد أجزاء هذه المقالة إن ننقحه هو إثبات أن الحركة والتجدد في الدين والفقه والشريعة، لا يمكنها أن تخرج من الجمود والتصلّب وقلة المرونة وتعثر على إمكانية السير والتحرك، إلا بالاستناد إلى "الفهم المقاصدي" المبني على فهم صحيح "لروح الشريعة" وروح الدين، وإذا ما انوجد هذا الفهم وتنّبت يخرج بقية أعضاء الجسم من حالة الجمود والتصلب، وتعثر على إمكانية السير والتحرك، ربما إذا أجّلنا النظر من فوق كل هذه الإشكاليات الفكرية والأسئلة التي تواجه الفقه الإسلامي دون أن تعثر على الأجوبة نحن نوافق أيضاً أننا لا نستطيع "بالاجتهاد المصطلح عليه" أن نجعل من القرية محافظة بنجاح وحصافة

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً