أحدث المقالات




ضمور المبادئ الأخلاقية والفطرية في العلوم الدينية

نقلاً عن الموقع الإلكتروني: يحيى ميرزائي

ذكرنا في مكان آخر من هذه المقالة، في الكلام على باثولوجية العلوم من ناحية "الكيف" أن تلك العلوم المنتجة، على مسافة بعيدة من الإدراك الكلي والرسالي والشامل للقرآن، حيث تفقد العلوم الدينية في مثل هذه الحالة معقوليتها، وطبيعي إنني أقصد هنا على الأقل معطياتها المفترض أن تكون عقلانية، ومن الواجب هنا الإشارة إلى الآفات الأضخم التي تهدد كيان "المعرفة الدينية"، غير المبني على هندسة القرآن وأسسه العامة، وهي فقدان التفسير والتسويغ الأخلاقيين للأحكام الشرعية، وما من شك أن قبول المعارف التي تفتقد إلى السمو والرفعة، يقلل من قيمتها على المستوى الاجتماعي، ويضع "فطرية العلم الديني" موضع الشك والتساؤل.

حتماً، حين تُعرف "أخلاقية" الأحكام هذه، ووصف "الشريعة" والدين بـ"الأخلاقية"، وتزداد وضوحاً وشفافية، يُحلل الدين، بنظرة أرحب ورؤية أسمى مما هو مشاهد اليوم، ونتعرف إليه من جديد، ونتصور حدوده وانتظاراته ووظائفه أكثر اتساعا ورحابة.

لاشك في أن معظم الحركات النقدية للأخلاق الدينية، مصدرها نظريات من خارج الدين، أو موروثات من خارج الإسلامي، أو نقد أخلاقي متأثر بالمنظومات المعرفية المبنية على مفردات ومصطلحات الحركة التاريخية للحضارات وللثقافات وللأفكار الأخرى غير الإسلامية.

تأكيداً على ابتعاد مسار إنتاج "علم الأخلاق"، من النصوص الإسلامية وبخاصة القرآن الكريم، والاستخدام الجزئي للروايات وحتى الآيات لتفسيرها وتسويغها، تجدر مراجعة: "العقل الأخلاقي العربي" لمحمد الجابري، و"دستور الأخلاق في القرآن" لمحمد درّاز، و"سؤال الأخلاق" لطه عبد الرحمن، حيث يتوضح مسار "المعرفة الأخلاقية المبنية على غير القرآن الكريم، ويتبين أن الأعمال العلمية الوازنة المتعلقة بعلم الأخلاق غالباً ما أُعدت على طريقة "ابن مسكوبه"، أي المنهج الفلسفي في شرح الأخلاق، إن تاريخ علم الأخلاق ومنظومة المعارف الأخلاقية دليلان على الحقيقة المرة: وهي المسافة الشاسعة التي تفصل وضع علم مصطلحات الأخلاق، ومساره العلمي عن روح القرآن والثقافة القرآنية، حتماً هنالك شخصيات كالغزالي وعلماء متأخرين وردت أسماؤهم هنا وهناك في هذه المقالة، فقد سعوا جاهدين لإعادة بناء الهيكلية التنظيمية لعلم الأخلاق (علم تزكية النفس) على أسس القرآن ومبادئه.

هذه المعضلات نفسها موجودة في التحقيقات النقدية أيضاً التيارين، الناقد والمنقود عن الاستراتيجيات القيمية والأخلاقية والتربوية للنظام المتكامل والموحّد للقرآن، وذلك على الأغلب بتأثير الإنتاج الذاتي والفلسفي المحور، البعيد عن جوهر النصوص الإسلامية الثابتة والقطعية من ناحية، وتأثر مناهج النقد العلمي بالأجواء العلمانية الغربية من ناحية أخرى، وكنموذج على ذلك، انظروا إلى "الخطاب" الأخلاقي للمفكرين التنويريين في إيران، الذين يؤكد عدد لا يستهان به منهم على استحالة إنتاج نظام أخلاقي ديني جامع، ويتمسكون بإصرار بالاعتقاد القائل بتحول الأخلاق التي يسمونها "آداب المقام" وهم يعتقدون أن الأخلاق بوجه عام خادمة الحياة، وليست مخدومتها، وبما أن الحياة في حالة تحول وتغير، الأخلاق أيضاً نسبية ومتغيرة، وهكذا يصبح الدين بحسب قولهم، "الحد الأدنى" في محصلة خطابهم العلمي!

إن نظرة في ما كتبه الدكتور سروش وشبستري والجابري وأمثالهم، لا تترك مجالاً للشك في أن قراءاتهم إما شاعرية مبنية في أفضل الحالات على تجارب عاطفية (الدكتور سروش) وبحسب قوله دينية صوفية عرفانية، أو إنها لم تتطرق (الشبستري والجابري) إلى تحول علم الأخلاق، وإمكانية تقديم طرح جديد عنه على هامش أصالة القرآن، وكلاهما، نظر إلى الأخلاق نظرة تاريخية، لكن من باب الإنصاف يجب أن نذكر أن الدكتور الجابري في كتابه القيم عن الأخلاق، يصرّح بعد ذكره للتيارات الأخلاقية، بهجران الأخلاق الإسلامية الخالصة المبنية على "العمل الصالح"، ويرى أن المعارف الأخلاقية للمسلمين قد تأثرت غالباً بالمشارب الفكرية – الفلسفية للشعوب والحضارات الأخرى، ويطالب بإعادة بناء أخلاق إسلامية، انطلاقاً من الأخلاق الإسلامية الأصيلة، وبمنهجية موحدة ومنظومة معرفية واحدة.

إن الجهود التي بذلها المرحوم حسين معن: مع كل محدوديته، والعمل العلمي للمرحوم درّاز على الرغم من تأثره وانفعاله المستشرقين وإهمالهم لرؤية القرآن الكريم الأخلاقية في "بحوثهم الأخلاقية"، هي جهود مناسبة في دعوتها للتمرس حول مرجعية القرآن… متأثر بشدة بشخصية الشهيد محمد باقر الصدر وأفكاره القرآنية المحور، ومن المؤلم أن نعلم أن التزكية أو التربية الأخلاقية الإنسانية التي هي الركن الأهم في فلسفة تشريع الأديان وتنزيل الكتب السماوية وبعثة الأنبياء، لها الحصة الأقل في إنتاج العلم الديني، ما من عظة أو فريضة أو كلام في الشريعة إلا ووراءه هدف أخلاقي وقاعدة قيّمية، لكن التاريخ المظلم لمعطيات "المنهج" المتّبع في استنباط "الحكم الشرعي"، يشير بأنه ليس رحباً ولا يملك المرونة للوصول إلى عمق الشريعة وفلسفتها، والتي لا تفسر إلا على أساس "فلسفة الدين".

في اعتقادي أن زوال "أخلاقية" الدين والشريعة أكثر ضرراً وأشد خطراً من غياب عقلانيتهما، إن هذه الأمراض الكبيرة والأزمات والإنزلاقات الابيستيمولوجية الدينية، التي تقف عوائق في طريق إنتاج العلم الديني، ناجمة غالباً عن احتضار الاستنباط في العلوم الشرعية، الناجمة بدوره عن غياب سلطة القواعد الموحدة للعم الديني (فوق التخصصات والفروع) والقوانين الثابتة، والسنّن التي لا تتغير والمتمثّلة في الأركان والمحكمات وأمهات القرآن الكريم، والخطر الأكبر على العلم الديني والمعرفة المنطلقة من الوحي هو انفصالهما عن التسويغ الأخلاقي، وهذا ما يفضي إلى القضاء على جدارة المعرفة الدينية الأصلية أي فطريتها.

صحيح أن المنهج والنظام العام للتعليم الديني والتحقيقات العلمية الدينية، يجب أن تكون مقوننة ومؤطرة ومتخصصة، وقد كانت كذلك فعلياً حتى الآن، بحسب سيرة العلماء الإسلاميين وأنماط سلوكهم العملي المتنوعة، لكننا لا نستبعد، أن عدم الدقة في المسار التخصصي للاهتمامات العلمية منذ عدة قرون، وحتى في البرامج المقترحة لمؤسسات التحقيق الديني التجديدية في الحوزة والمجتمع، قد وصلت إلى درجة من الخطورة والضرر، لم يعد السكوت عنها مقبولاً.

في الحقيقة، إن فتح الحدود المعرفية في الدين وبخاصة في القرآن ممكن: أي من الممكن وضع اليد على معطى معين وعدّه معطىً أخلاقياً أو عقائدياً أو فقهياً، (بحسب المعنى الاصطلاحي لهذه الألفاظ)، ومن الممكن أيضاً الاعتقاد بالتخصصات لتعميق مفاهيم وبرامج التعليم والتحقيق في المؤسسات العلمية – الدينية، لكن يجب أن نتخلى بصراحة وبأسرع ما يمكن عن الفهم والتفسير المتخصصين بمعنى إنتاج العلم الديني في فرع خاص، بدون الاهتمام بفلسفة العلم الديني التي هي وحدة لا تتجزأ ولا يناسبها التفكيك والتخصص.

على جميع الذين يريدون أن يتكلموا على اللغة والبيان والحكم الديني، أن يخضعوا لدورة في المعرفة والتعلم والتحقيق والتربية الرائية إلى الدين ككل، وبخاصة في ظل فلسفة الدين والشريعة وأحكامهما، حينئذ يمكن للواحد منهم أن يحيط بفضاء عام وشمولي، ولا فرق إن لجأ بعد ذلك إلى إعمال الفهم الديني في ساحة الفلسفة أو العقائد أو الأخلاق أو الشريعة، أو أي مكان آخر، لكن المستغرب أن هذه الدورة ذاتها الضرورية والعامة، والتي هي من مستلزمات الشروع بإنتاج أي معرفة دينية، تّعد هي نفسها فرعاً من بين الفروع الأخرى، واحد يبدأ من القرآن ويريد أن يتخصص فيه، والآخر يبدأ بالفلسفة، والثالث يقرأ الفقه والأصول وهلم جرّاً… في حين أن مراعاة التراتبية والتقدم في المعرفة الدينية في منهجيته المعرفية هي إحدى الضرورات، فالفقه والعقيدة والأخلاق والفروع الأخرى، ستكون وخيمة العاقبة، إن لم تكن بدايتها مبنية على حجم واسع من المعلومات والمعارف المرتبطة، بالنظام المعرفي الديني ككل، وبمباحث فلسفة الدين والشريعة.

إن التخصص والتفريع في الاهتمامات التربوية والبحثية والتحقيقية للعلوم الدينية، وفي النهاية الجهد لإنتاج علم ديني مبني على هذه الفروع المتخصصة حسن، لكن إذا عُلّمت العقائد والقرآن الكريم إلى جانب الفقه والأصول كاختصاص، بحيث أن الطالب أو الباحث في "القسم القرآني"، يقرأ تفسير القرآن ويتعرف إلى المفاهيم القرآنية وكيفية تحصيلها، ولا يكون للتحقيق الفقهي وأصول القراءة وتدوين شريعة المستقبل من عمل سوى تطبيق سقم آيات الأحكام أو صحتها في كتب الفقه والأحكام الشرعية، أو أن "خط إنتاج" علم الفقه يكون فقط كما يلي: الأدب العربي – الأحكام – أصول الفقه والفقه – الاجتهاد والعلم الشرعي، وإلى جانبها قليل من المنطق والفلسفة والقرآن والأخلاق والتاريخ كدروس "جانبية" (حتماً دون الإصرار على إيجاد حالة من الحوار "الخطاب" المبني على هندسة صناعة العلم الديني)، وفي هذه الحالة يجب غض النظر والتحسر على علم دين أو معرفة دينية، التوجيه القرآني (العقدي والأخلاقي والغائي) فيه غير ملزم، وهكذا إضافة إلى غياب العقلانية بنسب مئوية عالية من المقولات المفترض أن تكون عقلانية، يخسر العلم الديني أرصدته "الأخلاقية" و "العقائدية الإيمانية".

من هنا – وبكل صراحة ودون أدنى وجل يجب أن نعلن بأعلى الأصوات أن مشروعية جميع العلوم والمعارف الدينية غير المبنية على الفهم والإدراك العميقين للقرآن – جميع آيات القرآن – ستتعرض للاستفهام والتساؤل.

إن تفكيك الروابط بين "الأخلاق" و "الفقه" و "مناهج فهم الشريعة"، في المنطق العام لإنتاج العلم الديني، ليس أمراً سهلاً يمكن المرور عليه مرور الكرام، يجب الذهاب أبعد من ذلك، والقول بصراحة إن العلوم والمباحث المسماة "دينية"، مطعون بدينيتها: ما لم تحضّر وتّعد في ظل نظريات الدين وفلسفته وأسئلته ومبادئه وغاياته، وبناه التحتية الكلية والراسخة.

أشير من جديد إلى أن الضرر اللاحق "بالعلم الديني" وبفروعه ومعطياته، على أثر تلاشي ضوابطه، واضطراب قواعد أصوله وفروعه، وبنيته التحتية من الروايات غير المنقحة على هدي سلطة أمهات القرآن العقائدية والأخلاقية والعقلانية، وعدم التأكد من الوجود الدائم، لظل الروح الكلية للدين وللشريعة (فلسفة الدين وفلسفة الشريعة)، أكبر بكثير من ضمور التوجهات الأخلاقية والعقلانية أو العقائدية، الإرباكات العديدة التي تظهر في هندسة منطق فهم الدين والشريعة، وقوانين إنتاج العلم الديني (فهماً وتفسيراً)، مردّها أن أضبط معيار يمكن أن تقاس الشريعة بواسطته هو سند الروايات (الهش لوجود الخلل والتباين فيه)، والأقوال والمعايير الأخرى، حتى وإن وصلت إلى درجة الآيات القرآنية الواضحة والشفافة يجب أن تؤول، والضعف في الرواية، يصلحه ضعف روائي أو شهرة أو إجماع….

انظروا ماذا أصاب علم الشريعة وعلم التحقيق الدينيين؟ إن سبب هذه المصائب والإرباكات كلها الابتعاد عن حبل الله المتين والعروة الوثقى والنور المبين، الذكر الإلهي واختلال التوازن والترتيب في التعامل مع حديث الثقلين للنبي (صلعم)، فالتمسك بالقرآن الكريم، أيا كان معناه، بعيد كل البعد، عن معنى التلاوة المحضة والتبرك، ويضيع هدراً كل ما ذكر وقيل وكتب عن الآفاق الشاسعة والأبعاد العميقة لهذا "التمسك"، وذلك "الاعتصام" بحبل الله الذي لا ينقطع في أعداد المعرفة الدينية في الكثير من الرسائل.

ليت أحداً من باب الإنصاف يجيب عن هذا السؤال: إلى أي حد اشتُغل على القرآن وآياته ودوره المنهجي والشمولي في الهداية وتصحيح المراجع الدينية الأخرى؟ مقارنة بالاهتمام الذي أولاه أصوليونا لأقوالهم هم، أو للنظريات المتفلسفة، "الإنسانية المحور"، "والوضعية"، ومقارنة كذلك بالمناقشات العجيبة للتسويغ مثلاً "الحجية الجبرية"، و "دور الشهرة الداعم" أو "الأخبار الضعيفة"، وأغلب مباحث الأصول المتراكمة والجهد المبذول لتقديم هذه "الحجية" بسخاء على الرغم من كل هذه الظنون والأمارات "المعتبرة"؟.

لو أن واحداً في المئة من الجهود العلمية التي يبذلها عالم ديني طيلة سنوات البحث والتعمق في مسائل هذه العلوم، منذ أولى الحلقات الدراسية وحتى نهاية عمره، يصرفه على فهم القرآن ككل، قراءة تفسير كلام الله وفهم هذا التفسير، لما كان لكل هذا القصور والشلل المعرفي والخلل الموضوعي والحياتي من وجود.

إن هذا الابتعاد عن مكانة القرآن الكريم المعرفية، ومنزلته "المعيارية"، والجلوس بدلاً من ذلك على مائدة غيره من العلوم، لا يزال حتماً كما كان في السابق لم يطرأ عليه تغيير يذكر.

من هنا فإن المسار الكلي "لإنتاج العلم الديني" الذي يأتي غالباً بعد الاعتراف رسمياً بدور القرآن "المرجعي" و "الابيستيمولوجي" لم يحدث بعد.

العلوم الأخرى أيضاً كالفلسفة، وعلم الكلام، والأدب العربي، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والعلوم الدينية الأخرى، قد تضررت بشدة في هذا المعبر، وأصبحت أحياناً وضعية.

هنا بالذات، يجب القول بصراحة، أن قسماً أساسياً من المعارف الفلسفية والعقلية حتى حين اتجهت بقوة أو بضعف باتجاه القرآن، فعلت ذلك راكبة راجلة، والدليل على ذلك، التوجه الشديد وأحياناً المرفوض "لتأويل" ظاهر القرآن، بخاصة في النظريات الفلسفية والعرفانية في المذاهب الكبرى‍‍!

الاهتمامات المتعددة الأخرى في حقول المعرفة الدينية هذه، غير مهتمة بتقرير أو تفسير أو تأسيس بنى تحتية معرفية وقرآنية، ولا تساهم أساساً في التنظير الفكري لعلم الكلام وإنما هي تتصدى لحقول معرفته… متأثرة غالباً بمعالجات ومناقشات من هنا وهناك في العالم المعاصر، مبنية عموماً على الأصول النظرية للآخرين، وحتماُ بتحشية روائية في بعض الأحيان، كنوع من دفع نظريات العلوم الإنسانية هذه بدفعة التسويغ الديني.

هذا الوضع المؤسف الذي يُعرف أحياناً في العالم الإسلامي باسم "أسلمة المعرفة"، يجب أن يبحث بفكر نقدي وباثولوجي وبإنصاف، وأن يفكر من جدي بإرساء "قواعد" الفكر العقلاني الشامل، والعقدي الإيماني، والبلاغي، والتاريخي والاجتماعي، والتربوي – الروحين وغير ذلك في ظل الفهم المعمق للقرآن الكريم بجميع جوانبه وأبعاده.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً