أحدث المقالات

مدخل

من أهم حقوق الإنسان في كلّ مجتمع هو العيش في الأمن وليس أشدّ عذاباً للإنسان من الفتنة والفوضى، ومن أهم وظائف الدولة إيجاد الأمن في المجتمع. قال علي(ع) في بيانه لحاجة كل مجتمع إلى دولة: «لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به برّ ويستراح من فاجر»([1]).

وفي ظلّ الأمان والأمن تقوم الأمور جميعها، ويتقدم المجتمع على مختلف الصعد، ففي ظلّهما تكون الرفاهية؛ لذا عدّ الإمام علي(ع) والياً ظلوماً خيراً من الفتنة والفوضى قال(ع): «وال ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم»([2]).

من هنا يظهر ـ غالباً ـ بعد الفتنة والفوضى الاستبدادُ والديكتاتورية، والإرهاب مّما يوجب الفوضى ويسلب الأمن، و نبحث حول الإرهاب وسلب الأمن من المجتمع، وهو ما سيكون محور بحثنا في هذه المقالة.

مفهوم الإرهاب، إشكالية التعريف

من أشكل الموضوعات تعريف الإرهاب وبيان حدوده؛ لذا وقع خلاف كثير بين العلماء في تعريفه، بعد اتفاقهم على أنّ مطلق استخدام القوة ليس إرهاباً، بل هو استخدامها في الأهداف غير المشروعة وغير الإنسانيّة، وهذا هو الركن الركين في مفهوم الإرهاب بحيث لا يتحقق بدونه؛ فمنظمة التحرير الفلسطينية لا تعدّ منظمةً إرهابية؛ لأنها صاحبة حق باستخدام السبل كافّة لاستعادة أراضيها المغتصبة وإقامة وطن فلسطين.

الإرهاب في كلمات العلماء والقانونيين

اختلفت كلمات العلماء في تعريف الإرهاب؛ فقال «فريدلاند E.Friedland»: الإرهاب هو الاستخدام التكتيكي للعنف، الغاية منه خلق جوّ عام من الخوف والذعر لدى القسم الأكبر من الشعب. وقال تورك A.Turk: «الإرهاب أيديولوجية أو استراتيجية تبرّر الإرهاب الفتاك أو غير الفتاك بقصد ردع المعارضة السياسية بزيادة الخوف لديها عن طريق ضرب أهداف عشوائية». وقال فراكوتو F.Ferracuti: «العمل الإرهابي هو أيّ عمل ينفّذ كجزء من وسيلة للنضال السياسي يقصد به التأثير على سلطة الدولة أو على اكتساب هذه السلطة أو الدفاع عنها، ويتضمّن استخدام العنف الشديد ضدّ الأبرياء والمسالمين»([3]).

ويظهر من هذه الكلمات أنّ ركن الإرهاب هو أعمال العنف بطريقة غير شرعية؛ ففي التعريف الأوّل جعلت الغاية منه خلق جوّ عام من الخوف لدى القسم الأكبر من الشعب، وفي الثاني رُكّز على عنصر الأيديولوجيا، أمّا الثالث فسلّط الضوء على استخدام العنف ضدّ الأبرياء والمسالمين.

يقول إرنست ERNEST: «إنّ المدلول الاجتماعي لمختلف الأعمال المتماثلة شكلاً يظهر على نحو لفظي، وهكذا مثلاً تسمى القوة عنفاً حين تستخدمها السلطات، ويعتبر استخدامها مشروعاً في هذه الحالة، ولكنّها تسمى إرهاباً في كل الحالات الأخرى». ويفرّق وولف (Wolff) بين مفهومي العنف والإرهاب فيقول: «الإرهاب هو استعمال غير مشروع للقوّة في سبيل الوصول إلى غايات ما ولكن لا يدخل العنف ـ كاستعمال مشروع للقوّة ـ ضمن مفهوم الإرهاب». وقال جيرت GERT: «إنّ إقامة تفريق دقيق بين المفاهيم التي تتعلّق بالعنف ـ أي استخدام القوة على أسس مشروعة ـ والإرهاب، أي الاستخدام غير المشروع للقوة، ترتبط بالتقييم الصحيح للأعمال العنيفة (إدانتها أو تبريرها)، فكل استعمال مشروع للقوة (كاستعمال أجهزة السلطة للعنف ضدّ مختلف مظاهر الاعتداء على النظام الاجتماعي القائم ونظام الدولة) هو عمل منطقي ومبرر أخلاقياً، أما أعمال العنف غير المشروعة فهي غير منطقية، وهي أعمال إرهابية لا تجد مبرّراً لها»([4]).

الإرهاب والمؤتمرات الدولية

ظلّ الإرهاب محل استهجان المجتمع البشري منذ مطلع القرن العشرين، وخاصّة في أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ فقد عملت لجنة الفقهاء التي كلّفت بدراسة المشاكل المتعلّقة بمسؤولية مجرمي الحرب عام 1919م، عملت على إدراج الإرهاب المنظّم ضمن قائمة الجرائم التي عدّدتها ـ وهي اثنتان وثلاثون جريمة يقع الإرهاب في المرتبة الثانية منها ـ وأوصت بالإسراع في تجريمها ولاسيما الحالات التي تكثر فيها حوادث القتل والمذابح([5]). وفي مؤتمر بروكسل لعام 1930م، استعمل مصطلح الإرهاب لأوّل مرّة؛ حيث ورد في مشروع من خمس مواد اشتمل على ذكر عدد من الأفعال التي تتميّز بأنّها تتضمّن «استعمالاً عمدياً لوسائل من شأنها إحداث خطر عام أو تهديد الحياة أو السلامة البدنية أو القضاء على الملكية»([6]). وقد اقترح في مؤتمر 1975م أنه لتحديد مدلول الإرهاب الدولي ينبغي التمييز بين نوعين من أعمال العنف: أوّلهما أعمال يرتكبها فرد أو جماعة في موقف دولي بهدف تحقيق مكاسب شخصية أو مادية، مثل عمليات اختطاف الطائرات للابتزاز وأخذ الرهائن للحصول على فدية مالية مقابل الإفراج عنها، وهذه أعمال إرهابية بلا خلاف. ثانيهما أعمال لم ترتكب لتحقيق غايات شخصية لمرتكبها، بل لخدمة قضية معيّنة يشعرون بالالتزام تجاهها، مثل أعمال المقاومة الشرعية ضدّ قوى الاحتلال، وهذه لا يمكن أن تُعتبر من قبيل الأعمال الإرهابية([7]).

وكذلك العرف العام، يرى الإرهاب استخداماً غير مشروع للقوة، أما استخدام القوّة لدفع الاعتداء وتحرير الأرض فلا يعدّ إرهاباً؛ ولذا نرى أن لفظ الإرهاب من أقبح الألفاظ عند الناس، ومع هذا فالمقاومة مقدّسةً عندهم.

والنتيجة: إنّ الإرهاب لا يختصّ بالقتل والجرح، بل يشمل جميع الأعمال الخالقة للرعب في جوّ المجتمع، أمّا عند العرف فيختصّ بالقتل أو الجرح غير المشروعين لغاية إيجاد الرعب، «يطلق الإرهاب في الاصطلاح العام على القتل السياسي، وهو وإن لم يكن معناه الحقيقي لكنّه صار شائعاً بين الناس»([8]).

ونحن نقصد معناه الخاصّ عند العرف العام في هذه المقالة.

نظرية تحريم الإرهاب في الإسلام، الأدلّة والشواهد

يمكن أن يستدلّ لحرمة الإرهاب بالنبوي(ص) الذي ورد من طريق الشيعة والسنّة، قال رسول الله(ص): «الإيمان قيّد الفتك، لا يفتك المؤمن»، ونبحث عن هذا الحديث من جهة السند والدلالة.

1 ـ حديث الفتك من حيث السند

ورد هذا الحديث بعدّة طرق عند الشيعة والسنّة:

1 ـ لما قبض رسول الله(ص) واشتغل علي(ع) بغسله ودفنه وبويع أبو بكر؛ خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي(ع) لإجالة الرأي وتكلّموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج، فقال العباس رضي الله عنه: «.. والله لولا أن الإسلام قيّد الفتك، لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العليّ»([9]). وفي رواية الحلواني: «من محلّ الأبيل»([10]).

2 ـ خبر الحسن قال: «جاء رجل إلى الزبير بن العوام فقال: أقتل لك علياً؟!، قال: لا، وكيف تقتله ومعه الجنود؟ قال: ألحق به فافتك به، قال: لا، إنّ رسول الله(ص)قال: إن الإيمان قيّد الفتك، لا يفتك مؤمن»([11]).

3 ـ خبر سعيد بن المسيب، أنّ معاوية دخل على عائشة فقالت له: «أما خفت أن أقعد لك رجلاً فيقتلك؟ قال: ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان وقد سمعت النبي(ص) يقول: الإيمان قيّد الفتك»([12]).

4 ـ خبر عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله(ص): «الإيمان قيّد الفتك، من أمّن رجلاً على دمه فقتل (فقتله ظ) فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافراً»([13]).

5 ـ خبر أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): «لا يفتك المؤمن، الإيمان قيد الفتك»([14]).

6 ـ حديث عقبة بن عمرو قال: قال رسول الله(ص): «الإيمان هاهنا مختصر الإيمان قيد الفتك»([15]).

7 ـ خبر عثمان بن عفان أنه أتى النبي(ص) يوم الفتح آخذ (آخذاً) بيد ابن أبي سرح وقال رسول الله(ص): «من وجد ابن أبي الصرح ما وصع الناس، ومدّ إليه يده، فصرف عنه وجهه، ثم مدّ إليه يده، فصرف عنه يده، ثم مدّ إليه يده أيضاً فبايعه وأمّنه، فلما انطلق قال رسول الله(ص): «أما رأيتموني ما صنعت؟» قالوا: لا، أفلا أومئت إلينا يا رسول الله(ص)؟» قال رسول الله(ص): «ليس في الإسلام إيماء ولا فتك، إنّ الإيمان قيد الفتك والنبي(ص) لا يومئ»، يعني بالفتك الخيانة([16]).

8 ـ ومرض شريك بن الأعور ـ وكان كريماً على ابن زياد وشديد التشيّع ـ فأرسل إليه عبيدالله أنّي رائح إليك العشية فعائدك. فقال شريك لمسلم: «إنّ هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فاقتله.. ثم قام وانصرف فخرج مسلم، فقال له شريك: «ما منعك من قتله؟» فقال: «خصلتان: أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره، وأما الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي(ص): «إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن». فقال له شريك: «أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً»([17]). وفي الكامل: «.. وأما الأخرى فحديث حدّثه علي(ع) عن النبي(ص)..»([18])، وفي مقتل الحسين(ع) للمقرم: «فقال شريك لمسلم ما منعك منه؟» قال: خلّتان: الأولى حديث علي(ع) عن رسول الله(ص): «إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن.. والثانية امرأة هاني فإنّها تعلّقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي»، فقال هاني: «يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرّت منه وقعت فيه»([19]).

هذا، ولكن قال ابن نما: «فلما خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف كفه، قال له شريك: «ما منعك من الأمر؟»، قال مسلم: «هممت بالخروج فتعلّقت بي امرأة وقالت: نشدتك بالله إن قتلت ابن زياد في دارنا وبكت في وجهي، فرميت السيف وجلست»، قال هاني: «يا ويلها وقتلت نفسها والذي فرّت منه وقعت فيه»([20]).

ولا منافاة بين هذه الروايات؛ إذ ربما كان سبب امتناع مسلم ثلاثة أمور، لكنّه اكتفى في كلّ رواية بذكر بعضها، وكذلك لا منافاة بين كراهية هاني قتل ابن زياد في داره وبين مذمّة زوجته؛ لاحتمال أن يكون كراهيته في بدو الأمر، ولكن بعد سوء ظنّ ابن زياد([21]) صار راضياً بذلك وذم زوجته على منع مسلم.

قال بعضٌ: الأحاديث كما ترى لا تقدر على إثبات حرمة الفتك مطلقاً، ومسلم أجلّ وأعلم من أن ينسب إليه نسيان الحديث المروي عن النبي’ والأقرب عندي مجعولية أحاديث حرمة الفتك مطلقاً وصحة حديث 15291 (حديث ابن نما) في قصة مسلم في دار هاني([22]).

أقول: يحتمل نسيان مسلم حديث النبي(ص) في بدو الأمر ثم تذكره في الأثناء وهذا لا ينافي جلالة مسلم وعلمه، إذ هو ليس معصوماً عن الخطأ والنسيان؛ فهذا لا يدلّ على مجعولية الحديث، وقد تقدم أنه لا منافاة بين روايات قصّة مسلم في دار هاني؛ لاحتمال ذكر كلّ منها بعض القصة، ويؤيد هذا أنّ السيد المرتضى والطبسي نقلا اعتذار مسلم إلى شريك بأنه قال: «إنّ ذلك فتك وأن النبي’ قال: إن الإيمان قيد الفتك»([23]).

وقال بعض آخر: حتى لو استند مسلم بحديث الفتك ففيه بحث وتأمل؛ لأنّ قتل ابن زياد في تلك الشرائط كان مغيّراً لأوضاع العراق وكربلاء، وكان ابن زياد فاسداً سفّاكاً والنبي(ص) نفسه قد أرسل نفراً إلى مكّة لقتل أبي سفيان غيلةً وإن لم يقدروا على ذلك، وكذلك قتل أشخاصاً نظير كعب بن الأشرف وأبي عفك غيلة»([24]).

ويلاحظ عليه أولاً: لا نعلم كيف جسر على أن يقول هكذا في فعل مسلم؛ فإنه وإن لم يكن معصوماً ولا قوله وفعله حجّة علينا، لكنّه كان نائب الحسين(ع) في الكوفة وقال في حقّه: «أنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي مسلم بن عقيل»([25]). ولا شك أن من كان ثقة الإمام الحسين وعبّر عنه بأنه أخيه ونصبه لأمرٍ بتلك الأهمية يجب أن تكون أقواله وأفعاله مرضيةً له، ولا يصدر منه مخالف للأحكام الشرعية.

ثانياً: إنّ مسلماً كان يعيش في عصر أمير المؤمنين(ع) والإمامين الحسن والحسين(ع) وكان قريباً منهم جداً، من هنا كان أعلم بأحكام الإسلام ممّن يعيش بعد مضي أزيد من ألف عام من عصر المعصوم، وعلى هذا لا نجسر أن نخطئ مسلماً في عمله.

ثالثاً: لا يجوز التوسّل بأي وسيلة للوصول إلى المقصود، والإسلام لا يبرّر كلّ وسيلة؛ ولهذا اتّهم أمير المؤمنين(ع) بعدم الدهاء والكياسة. وقال السيد الخميني: نحن مكلّفون بالوظيفة لا بالنتيجة.. ألم يقدر علي(ع) بعد وفاة عمر على أخذ الخلافة، بأن يتعهد بالعمل بسيرة الشيخين ظاهراً والعمل بما يراه مطابقاً للإسلام بعد تولّي الأمر، وعليه كان عزل معاوية سهلاً جدّاً في ذلك الزمان ولم يكن ليتولّى يزيد أمور المسلمين ولا لتحدث حوادث كربلاء و.. ألم يقدر علي(ع) أن يمنع وقوع حرب الجمل بحبس طلحة والزبير أو قتلهما غيلةً؟ ألم يقدر أن يمنع من حرب النهروان بكذبةٍ واحدة مع الخوارج؟ ألم يقدر على قتل ابن ملجم و..

رابعاً: إنّ الاستشهاد بفعل النبي(ص)في قتل عدد من المشركين واليهود غيلةً قياس مع الفارق؛ لأنّ من أمر النبي بقتله لم يكن مأموناً من قِبَله، والكلام إنما يكون في قتل من كان مأموناً ولذا لم يأمر النبي(ص) بقتل المنافقين، وابن زياد وإن كان فاسقاً فاجراً لكنّه كان محكوماً بالإسلام ظاهراً وكان مأموناً في بيت هانئ.

9 ـ خبر أبي الصباح الكناني، قال: قلت لأبي عبدالله(ع): «إنّ لنا جاراً من همدان يقال له: الجعد ابن عبدالله، وهو يجلس إلينا فنذكر علياً أمير المؤمنين(ع) وفضله فيقع فيه أفتأذن لي فيه؟ فقال لي: يا أبا الصباح! أفكنت فاعلاً؟ فقلت: أي والله لئن أذنت لي فيه لأرصدنّه فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله، قال: فقال: يا أبا الصباح! هذا الفتك وقد نهى رسول الله(ص) عن الفتك. يا أبا الصباح! إنّ الإسلام قيد الفتك ولكن دعه فستكفي بغيرك»([26]).

10 ـ قال الشريف الرضي: «ومن ذلك قوله’: الإيمان قيّد الفتك»([27]).

11ـ وفي حديث المعراج: «قلت: إلهي فمتى يكون ذلك؟ فأوحى إليّ عز وجل: يكون ذلك إذا رفع العلم وظهر الجهل وكثر القرّاء وقلّ العمل وكثر الفتك وقلّ الفقهاء والهادون وكثر فقهاء الضلالة الخونة وكثر الشعراء..»([28]).

وعليه، فحديث الفتك صدر من طريق الشيعة والسنّة بأسانيد ضعيفة، لكن:

أ ـ إنّ حديث الفتك وصل بطرق متعدّدة، فيمكن دعوى استفاضته؛ وهذا ما يوجب اعتماده؛ والملاك في حجية الخبر هو الوثوق بصدوره.

2 ـ إنّ المرسِل لحديث أبي الصباح هو الحسن ابن محبوب، وهو ممّن أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنه؛ فبناءً على هذا يكون الحديث معتبراً.

2 ـ حديث الفتك من حيث الدلالة

قال ابن منظور: «الفتك: ركوب ما هم من الأمور ودعت إليه النفس.. وفتك بالرجل فَتكاً وفُتْكاً وفِتكاً: انتهز منه غِرَّة فقتله أو جرحه، وقيل: هو القتل أو الجرح مجاهدة وكل من قتل رجلاً غاراً فهو فاتك.. قال أبو عبيد: الفتك أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل حتى يشدّ عليه فيقتله وإن لم يكن أعطاه أماناً قبل ذلك..»([29]). وقال ابن الأثير: «الفتك أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل فيشدّ عليه فيقتله، والغِيلة: أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفيّ، وقد تكرر ذكر الفتك في الحديث»([30]).

وعلى هذا؛ فالفتك هو القتل عن غفلة، وهو الإرهاب في العرف العام وإطلاق الحديث أعمّ من أن يكون المقتول مهدور الدم أو محقونه، كافراً أو مسلماً، مأموناً من قبل القاتل أو غير مأمون، لكنّ المسلّم أن النبي(ص) أمر بقتل عدد من اليهود والمشركين، وهذا متواتر إجمالاً ونطمئن بصدوره؛ فيقع التعارض بين حديث الفتك وفعل النبي(ص)ونجمع بينهما بأحد الوجهين:

1 ـ بناء على عموم الفتك للقتل غفلةً، سواء كان المقتول مأموناً أم غير مأمون من قِبَل القاتل، كما صرح به أبو عبيد؛ فالنسبة بين حديث الفتك وفعل النبي(ص) هو العموم والخصوص مطلقاً، فيخصّ حديث الفتك بفعل النبي(ص)، لكن حيث لا يكون للفعل إطلاق؛ يقتصر في التخصيص على القدر المتيقن؛ وبالنظر في سيرة النبي الأعظم نجد أنّ من أمر بقتلهم كانوا من المشركين أو اليهود أو ممّن ارتدّ عن الإسلام، وكانوا بصدد التآمر على الإسلام وتجهيز الخيل عليه كخالد بن سفيان، أو كانوا يهجون النبي ويحرّضون المشركين على المسلمين كعصماء وأبي عفك وكعب بن الأشرف، أو كانوا ممّن حاربوا النبي فيما سبق كأبي رافع؛ فعلى هذا يستفاد من فعل النبي جواز قتل طوائف: أ ـ من كان بصدد تجهيز الجند على المسلمين. ب ـ من يهجو المسلمين ويحرّض المشركين على حرب المسلمين. ج ـ من حارب المسلمين فيما سبق من أئمة الكفر، وكان بصدد القتال فيما يأتي. د ـ من ارتكب جناية عظيمة بالمسلمين كهند ووحشي و..

ويضاف إليه: إنّ كلّ من أمر النبي بقتله كان من رؤوس الكفر والشرك ولم يكن إنساناً عادياً وكانت حياته خطراً عظيماً على المجتمع الإسلامي؛ وعلى هذا لا يمكن الاستناد إلى فعل النبي لقتل كلّ من ارتد عن الإسلام ومن كان مأموناً من قبل المسلمين، وعلى تقدير الشك في جواز قتل أحد فلابد من الرجوع إلى إطلاق حديث الفتك والقول بحرمته.

2 ـ ذهب بعضٌ إلى اختصاص الفتك بمن كان مأموناً من قِبَل القاتل؛ وعلى هذا يكون من أمر النبي بقتله خارجاً عن الحديث تخصّصاً، ولا تعارض بينهما أصلاً؛ لأنّ جميع من أمر النبي بقتلهم لم يكونوا مأمونين من قبَله’. قال العظيم آبادي: «معنى الحديث أنّ الإيمان يمنع من الفتك الذي هو القتل بعد الإيمان غدراً كما يمنع القيد من التصرف»([31])، ويستفاد ذلك أيضاً من بعض الروايات ففي حديث معاوية: «ما كنت لتفعليه وأنا ببيت أمان وقد سمعت النبي(ص) يقول: الإيمان قيد الفتك»، وفي حديث عمرو بن الحمق: «الإيمان قيد الفتك، من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء..».

لكن قد تقدم من أهل اللغة أن الفتك هو مطلق القتل على غرّة، ولا يختصّ ذلك بقتل من كان مأموناً من القاتل، ولعلّ من عرّفه بذلك قصد الفتك الحرام منه في الإسلام، وكيف كان فليس المراد من الأمان هو الأمان الخاصّ الصادر من القاتل، بل من كان محقون الدم في الإسلام، والشاهد عليه كلام معاوية لعائشة.

ولا يصدق مفهوم الإرهاب على فعل النبي(ص) في قتل رؤساء اليهود والمشركين؛ لأنّ الإرهاب هو القتل غير المشروع، ومن قتل بأمر النبي كان في حال الحرب مع المسلمين، وكان ارتكب جنايات عظيمة، وكان فعل النبي مصداقاً للدفاع عن الإسلام والمسلمين.

كما أنّ حديث الفتك يدلّ على حرمة الإرهاب من كلّ أحد، سواء من جانب الحكومة أو من جانب آحاد المسلمين، وقد توجد أدلّة على حرمة الإرهاب في موارد خاصة:

ألوان الإرهاب

أـ الإرهاب من آحاد المسلمين

         لا تحتاج حرمة الإرهاب من آحاد المسلمين دون إذن الحاكم إلى بيان وإقامة الدليل والبرهان؛ لأنّ المقتول لو كان محقون الدم يكون الإرهاب من مصاديق قتل النفس، وهو من أعظم الذنوب في الإسلام، وهذا واضح، أمّا إذا كان مهدور الدم فجواز قتله أو وجوبه إنّما يكون على الحاكم لا على آحاد المسلمين؛ فعن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبدالله(ع) من يقيم الحدود: السلطان أو القاضي؟ قال: «إقامة الحدود إلى من إليه الحكم»([32]). ويقول المفيد: «فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله، وهم أئمة الهدى من آل محمد(ص)ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان»([33]).

إنّ هدر دم إنسان لا يعني جواز قتله لكلّ أحد؛ فإن جواز قتل شخص من جهة إقامة الحدّ إنّما يكون بعد إثبات موجبه عند الحاكم وجواز قتله من جهة القصاص منوطٌ بإثبات التعمّد في القتل وطلب وليّ المقتول، نعم هناك فرق بين من قتل محقون الدم ومهدوره؛ فإنّ الأول مستحقّ للقصاص اتفاقاً فيما اختلف في الثاني. قال في الجواهر: «فلو قتل غير معصوم الدم كالحربي والزاني والمحصن والمرتد وكلّ من أباح الشرع قتله فلا قصاص وإن أثم في بعض الصور، باعتبار كون قتله حدّاً مباشرته للحاكم وإن كان غير معصوم الدم في نفسه»([34]). وذهب السيد الخوئي إلى ثبوت القصاص أو الدية في بعض الصور، قال: «لو وجب قتل شخص بزنا أو لواط أو نحو ذلك ـ غير سب النبي(ص) ـ فقتله غير الإمام، قيل: إنه لا قود ولا دية عليه، ولكنّ الأظهر ثبوت القود أو الدية مع التراضي»([35]).

والنتيجة أنّ حقن الدم أو هدره من المفاهيم النسبية؛ فقد يكون شخص مهدور الدم بالنسبة إلى الحاكم أو وليّ المقتول لكنّه محقون الدم بالنسبة إلى سائر الناس؛ فلو جاز قتل مهدور الدم من كلّ أحد للزم منه الفوضى في المجتمع، نعم قد أجاز الشارع قتل بعض الناس لكلّ أحد، لكن ذلك في موارد خارجة عن الإرهاب، وداخلة في مصاديق الدفاع وهي:

حالات الترخيص في القتل لكلّ إنسان

1ـ المتعدّي على حريم الآخرين

جعل الإسلام دار الإنسان حريماً له؛ فلا يجوز الدخول فيه لغيره من دون إذن صاحبه؛ فلو دخل إنسانٌ حريم غيره دون إذنه يجوز ـ بل يجب ـ دفعه بأي طريق ممكن؛ فعن النبي(ص): «الدار حرم فمن دخل عليك حرمك فاقتله»([36])، وعن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه(ص) قال: >إذا دخل عليك اللص يريد أهلك ومالك فإن استطعت أن تبدره وتضربه فابدره واضربه» وقال: «اللصّ محارب لله ولرسوله فاقتله فما منك منه فهو علي»([37]).

بل من قتل في الدفاع عن ماله فهو في الإسلام شهيد؛ فعن محمد بن مسلم عن أحدهما‘ قال: قال رسول الله(ص): «من قتل دون ماله فهو شهيد»([38])، وقد اتفق الفقهاء في ذلك؛ قال المحقق الحلي: «للإنسان أن يدفع عن نفسه وحريمه وماله ما استطاع ويجب اعتماد الأسهل.. ويذهب دم المدفوع هدراً جرحاً كان أو قتلاً». «بلا خلاف أجده فيه نصّاً وفتوى بل الإجماع بقسميه عليه»([39])، ولا شك في أن دفع المهاجم من حقوق الإنسان؛ فلا يعدّ إرهاباً، بل هو ممّا يوجب أمن الجميع؛ إذ لو دفع أفراد المجتمع المهاجمَ لهم حتى يموت لم يجسر أحد على الاعتداء على حريم الآخرين.

2 ـ الزاني بزوجة غيره

من وجد رجلاً زنى بأهله، يجوز له قتله، قال السيد الخميني: «لو وجد مع زوجته رجلاً يزني بها وعلم بمطاوعتها له فله قتلهما ولا إثم عليه ولا قود، من غير فرق بين كونهما محصنين أو لا، وكون الزوجة دائمة أو منقطعة، ولا بين كونها مدخولاً بها أو لا»([40]).

وهذا الحكم لا يوجب الفوضى وعدم الأمن في المجتمع؛ لأنّ قتله يجوز له شرعاً فيما بينه وبين الله ولا يعاقب عليه، لكن لو لم يقدر على إثباته عند الحاكم فإنه يقاصّ به، وهذا ما يوجب سدّ أيّ سوء استفادة من هذا الحكم، يقول السيد الخميني: «في الموارد التي جاز الضرب والجرح والقتل إنما يجوز بينه وبين الله وليس عليه شيء واقعاً، لكن في الظاهر يحكم القاضي على ميزان القضاء، فلو قتل رجلاً وادّعى أنه رآه مع امرأته ولم يكن له شهود على طبق ما قرّره الشارع، يُحكم عليه بالقصاص، وكذا في الأشباه والنظائر»([41]).

وهذا أيضاً ليس إرهاباً؛ لأنّ كل إنسان مجاز في الدفاع عن حريمه لا سيما في مسألة العرض الأكثر أهميةً للمسلم من نفسه؛ فكثيراً ما يبذل نفسه في حفظ عرضه.

3 ـ قتل سابّ النبي’

وممّن يجوز قتله سابّ النبي(ص)؛ لأنه يكون أشدّ عند المسلم من التعرّض لنفسه وعرضه؛ فإنّ النبي عند المسلمين أعزّ وأكرم وأحبّ من أنفسهم وأموالهم وأولادهم؛ ولعلّ المسلم يقدر على العفو عمّن قتل ولده، لكنّه لا يقدر أن يعفو عمّن يتجاسر على نبيه.

4 ـ قتل مدّعي النبوة

وممّن يجوز قتله لكلّ أحد مدّعي النبوة، قال في الجواهر: «من ادّعى النبوة وجب قتله بلا خلاف أجده»([42]).

ب ـ الإرهاب من الحاكم الشرعي

بناءً على نظرية ولاية الفقيه، للفقهاء في عصر الغيبة مناصب ثلاثة: الإفتاء، والقضاء، وإجراء الحدود والولاية على المجتمع، وعلى هذا يطرح تساؤل هنا: هل للفقيه استخدام الإرهاب لتأسيس الدولة وإبقائها؟ وهل يجوز له قتل المجرمين غيلةً من جهة إجراء الحدود فيما إذا لم يتمكّن من إحضار المجرم وإجراء الحدّ عليه؟ والبحث في هذه المحاور يقع في نقطتين:

النقطة الأولى: إجراء الحدود خفاءً

المتداول في إجراء الحدود إحضارُ المجرم ومحاكمته وإجراء الحدّ عليه بعد ثبوت ما يوجب الحدّ، لكن قد يتفق عدم قدرة الفقيه على جلب الجاني وإجراء الحدّ عليه أو كون إجراء الحدّ علناً عليه مخالفاً للمصلحة؛ فهل يجوز هنا إجراء الحدّ عليه خفاءً؟

إنّ إجراء الحكم على المجرم خفاءً على أقسام:

1 ـ من فرّ حين إجراء الحكم عليه: إذا صار المجرم محكوماً بالقتل حضوراً ثم توارى عند إجراء الحكم عليه، بحيث لا يمكن أخذه أو يستلزم أخذه قتل عدد من الأبرياء والمسالمين، ففي هذه الصورة هل يجوز للحاكم أن يأمر شخصاً بعينه بقتله أو يأمر كلّ من قدر عليه من المسلمين بقتله أم لا؟

لم يتعرّض الفقهاء لهذا الموضوع، لكن يمكن استفادة جواز قتله من إطلاق طوائف من الأخبار:

1 ـ ما دلّ على وجوب إجراء الحدود وحرمة تعطيلها؛ فقد روى ميثم أو صالح بن ميثم عن أبيه في حديث طويل: أنّ امرأة أتت أمير المؤمنين فأقرّت عنده بالزنا أربع مرات قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: >اللهم إنه قد ثبت عليها أربع شهادات، وأنك قد قلت لنبيك’ فيما أخبرته من دينك: يا محمّد! من عطّل حداً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي»([43]).

2 ـ ما دلّ على وجوب إجراء الحدّ على الإمام وعدم جواز العفو عنه إذا ثبت بالبيّنة؛ فعن أبي عبدالله البرقي عن بعض أصحابه عن بعض الصادقين× قال: >فجاء رجل إلى أمير المؤمنين(ع) فأقرّ بالسرقة فقال له: أتقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة، قال: قد ذهبت يدك لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطل حدّاً من حدود الله؟ فقال: وما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو وإذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع»([44]).

3 ـ ما دلّ على عدم الشفاعة في الحدود بعد بلوغها الإمام؛ فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر(ع) قال: كان لأم سلمة زوج النبي(ص) أمةً فسرقت من قوم، فأتى بها النبي فكلّمته أم سلمة فيها، فقال النبي: يا أم سلمة! هذا حدّ من حدود الله لا يضيع، فقطعها رسول الله([45])؛ وعن مثنى الحناط عن أبي عبدالله(ع) قال: قال رسول الله(ص) لأسامة بن زيد: «لا يشفع في حدّ<([46]).

4 ـ ما دلّ على عدم جواز تأخير الحدود؛ فعن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي(ع) في حديث قال: «ليس في الحدود نظر ساعة»([47]).

5 ـ ما دلّ على أنّ إجراء حدّ خير من مطر أربعين يوماً، فعن السكوني عن أبي عبدالله(ع) قال: قال رسول الله(ص): «إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً»([48]).

هذا ولكنّ الأحاديث المتقدمة ـ عدا واحدٍ منها ـ ليست في مقام بيان كيفية إجراء الحدود حتى يكون لها إطلاق من هذه الجهة؛ لأنّ أحاديث عدم جواز تعطيل الحدود وما دلّ على وجوب إقامتها على الإمام وما دلّ على عدم قبول الشفاعة فيها وما دلّ على عدم جواز تأخيرها وما دلّ على أن إجراء حدّ خير من مطر أربعين يوماً كلّها ناظرة إلى إجراء الحدود بجميع ما يعتبر فيها في الشرع بما لها من الشرائط، وفي صورة فقد كلّ واحد من شرائطها لا يصدق التعطيل؛ ولذا ما دلّ على أنّ إجراء الحدود يكون بيد الإمام ومن كان مأذوناً من قِبَله أو يشترط في إجرائها أموراً أخرى لا يكون مخصّصاً أو مقيداً لهذه الأحاديث.

نعم حديث يزيد الكناسي عن أبي جعفر(ع) قال: «.. ولا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم»([49])، له إطلاق من هذه الجهة؛ حيث يدلّ على عدم إبطال الحدود، سواء وجد فقيه أم لا، وسواء أمكن أخذ المجرم أم لم يمكن، فيجب بمقتضاه إجراء الحدود بأيّ طريق ممكن.

وهذا الحديث حاكم على قاعدة «الدرء»؛ حيث إنه مع وجوب إجراء الحدّ كيفما اتفق لا شبهة في إجراء الحدّ على المتوارى حتى تجري قاعدة الدرء، نعم يقيّد إطلاقه بما دلّ على عدم جواز الحدّ في أرض العدو؛ فعن أبي مريم عن أبي جعفر(ع) قال: قال أمير المؤمنين×: «لا يقام على أحد حدّ بأرض العدو»([50])؛ وعلى هذا لو هرب المجرم إلى أرض العدو فلا يجوز إجراء الحدّ عليه خفاء، ولكن قيّد في الجواهر هذا الحكم بالجلد([51])، والظاهر أنّ دليله انتفاء اللحوق بالعدو في صورة القتل، فلا يشمله الثاني، لكن الحديث الأوّل مطلق ولا يقيّده الحديث الثاني.

وبعد التي واللتيا، يبقى التعارض بين حديث الفتك وحديث يزيد الكناسي؛ فإن كان الفتك هو قتل من كان مأموناً فلا منافاة بينهما؛ لأن من هرب حين إجراء الحدّ عليه لا يكون مأموناً من قِبَل الحاكم حتى يعدّ قتله فتكاً، أما لو كان الفتك مطلق القتل على غرّة، فيقع التعارض بينهما بالعموم من وجه، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. لكن لا إشكال فيما يعدّ المجرم خطراً على الإسلام والمسلمين فيجب قتله بأيّ وجه ممكن؛ لتقدم حفظ النظام وأمن المجتمع وحفظ بيضة الإسلام على الأحكام جميعها، أما فيما لا يعدّ خطراً كذلك كمن زنا محصناً ثم هرب من إجراء الحكم بعد ثبوته، فالمرجع هو قاعدة الدرء؛ فلا يجوز قتله على غرّة.

ويوجد حديث آخر هنا عن أبي بصير عن أبي عبدالله، في رجل أقيمت عليه البيّنة بأنه زنى، ثم هرب قبل أن يضرب قال(ع): «إن تاب فما شيء، وإن وقع في يد الإمام أقام عليه الحدّ، وإن علم مكانه بعث إليه»([52])، والمراد من قوله: «فما عليه شيء< عدم العقاب عليه؛ فلا ينافي إجراء الحدّ عليه؛ فلا يسقط عنه الحدّ إن وقع في يد الحاكم. ويستفاد من هذا الحديث أنه لا يجب على المجرم في حقوق الله تسليم نفسه إلى الحاكم حتى بعد إقامة البيّنة وإثبات جرمه، بل له أن يتوب ويختفى من الحاكم ولا عقاب عليه، كما يستفاد من عدّة أحاديث عدم وجوب الاعتراف بالذنب عند الحاكم، بل مرجوحيته والتوبة فيما بينه وبين الله. ويستفاد منه أيضاً أنه لا يجب على الحاكم الفحص عن المجرم في حقوق الله وتعقّبه إذا لم يعدّ خطراً على الإسلام والمسلمين؛ فلو وقع في يده اتفاقاً أقام عليه الحدّ، ولو علم بمكانه بعث إليه؛ لأن الإمام(ع) لم يقل: يجب على الحاكم تعقبه والفحص عنه حتى يجده، وإنما قال: «وإن وقع في يد الإمام أقام عليه الحد..< ولم يتعرض الإمام(ع) لإجراء الحدّ على من هرب بعد إثبات الجرم خفاءً وغيلة، وهذا مشعر بأن الواجب على الحاكم هو إجراء الحدود على المجرمين بالطرق المعتادة؛ من هنا لا يبعد أن يكون حديث يزيد الكناسي أيضاً ناظراً إلى الطرق المعتادة في إجراء الحدود؛ لأن المنصرف إلى أذهان الناس عند التكلّم في إجراء الحدود هو هذه الطرق، ولا يتبادر منه إجراء الحدّ خفاءً؛ فلو كان مراد الإمام إجراء الحدود بأيّ طريق ممكن فلابد عليه أن يبيّن ذلك صريحاً، ولا يجوز الاكتفاء بهذا المقدار من البيان؛ لأنه مستلزم للإخلال بالغرض، والشاهد على هذا أن إجراء الحدود في عصر النبيوعليكان بالطرق المعتادة إلا فيمن عدّ خطراً على الإسلام والمسلمين وأمن المجتمع.

لكن حديث أبي بصير مرسل لا اعتبار به إلا على مبنى اعتبار كل حديث صحّ عن أصحاب الإجماع. وعلى فرض عدم وجود دليل على جواز ذلك وعدمه فالمرجع هو قاعدة الدرء وأصالة عدم ولاية الفقيه فيما شك فيه.

2 ـ عدم حضور المجرم ومحاكمته غياباً وهذا نظير الفرع السابق في جميع ما ذكرنا.

3 ـ إن الحاكم بدليل عدم بسط اليد أو لمصلحة لم يخبر المجرم ولم يحضره إلى المحكمة، وعلى هذا فهل يجوز له محاكمته غياباً وإجراء الحكم عليه خفاء أم لا؟

لا إشكال في جواز ذلك إذا كانت حياة المجرم موجبةً للإخلال بالنظام وإيجاد الرعب في المجتمع وتهديد المسلمين، نظير ما اتفق في عصر النبي’ بالنسبة إلى عدد من اليهود والمشركين، أمّا إذا لم يكن بقاؤه كذلك وإن كان مانعاً عن تأسيس الدولة أو مزاحماً لبقائها فلا يجوز ذلك للفقيه، ويجري فيه جميع ما ذكرنا في القسم الأوّل. ونضيف إلى ذلك:

أولاً: إنه قبل المحاكمة والإعلام يكون مأموناً من قِبَل الحاكم، ويكون قتله فتكاً؛ فيتعارض فيه حديث الفتك وحديث الكناسي، والمرجع بعد التساقط قاعدة الدرء وعدم ولاية الفقيه على ذلك.

ثانياً: مضافاً إلى حديث الفتك، وردت أحاديث عن الأئمة في النهي عن قتل من كان مأموناً بعد تأسيس الدولة، وجميع آحاد المسلمين وأهل الذمة بل الكفّار المعاهدون مأمونون من قبل الحاكم عدا من نصّب نفسه لمواجهة الدولة، وكذلك قبل تأسيس الدولة تكون الاتفاقية القائمة بين الفقيه والناس على الأمن؛ فعن النبي(ص): «من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافراً»([53])، وعنه أيضاً: «من أمّن رجلاً على دمه فقتله فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة»([54]).

ثالثاً: يستفاد من عدّة أحاديث عدم جواز قتل من ائتمنه غيره؛ فعن النبي(ص): «إذا أمّنك الرجل على دمه فلا تقتله»([55])، وعن أمير المؤمنين×: «ليس المسلم بالخائن إذا ائتمن، ولا بالمخلف إذا وعد، ولا الكاذب إذا نطق»([56])، وعن علي بن الحسين×: «والمنافق.. وإن ائتمنته خانك»([57])، وعن علي×: «والفاجر إن ائتمنته خانك»([58])، وعن النبي(ص): «تقبّلوا إليّ بست خصال أتقبّل لكم بالجنة: إذا حدّثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا ائتمنتم فلا تخونوا، وغضّوا أبصاركم واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم وألسنتكم»([59]).

ولا شك في أن المؤتمن لا ينحصر فيمن يؤتمن على مال، بل يشمل من يشعر الإنسان من قبله بالأمن على نفسه؛ فإن قتله يكون من أعظم الخيانات؛ فعن أبي جعفر عن النبي(ص) أنه قال: «ألا أنبئكم بالمؤمن: من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم..»([60]).

وواضح أن الناس قبل إثبات جرائمهم في المحاكم العادلة يأتمنون الحاكم على أموالهم وأنفسهم؛ لأن إحلال الأمن في المجتمع من أهم أهداف الدولة في الإسلام.

رابعاً: تقدّم أن إطلاق حديث الكناسي منصرف إلى الكيفية المعتادة في إجراء الأحكام؛ فلا دليل على جواز إجراء الأحكام بأيّ كيفية من ناحية الولي الفقيه؛ لأنه مع الشك في جواز فعل الفقيه فالأصل عدمه حتى على نظرية الولاية المطلقة للفقيه؛ لأن معنى الولاية المطلقة هو انتقال جميع صلاحيات المعصوم إلى الفقيه، وعلى هذا فكل صلاحية ثبتت للمعصوم تثبت للفقيه بضميمة أدلّة ولاية الفقيه، لكن إذا علمنا بعدم جواز فعلٍ ما على المعصوم أو شككنا فيه؛ فلا يمكن إثباته للفقيه؛ يقول الإمام الخميني: «وليلعم أن كلّ ما ورد ثبوته للإمام أو السلطان أو والي المسلمين أو ولي الأمر أو للرسول أو النبي(ص) أو ما يشابهها من العناوين يثبت بأدلّة الولاية للفقيه، نعم لا يثبت للفقيه ما شك في ثبوته للإمام(ع) أو علم عدم ثبوته له»([61])؛ وعليه، فإثبات جواز كل فعل للفقيه يتوقف على إثبات جوازه للمعصوم، وإثباته للمعصوم يتوقف على إثبات فعل المعصوم له أو دلالة دليل لفظي على جوازه، فلو لم يوجد شيء منهما فالأصل عدم ولاية الفقيه. والمحاكمة غياباً وإجراء الحكم خفاء مما لا دليل عليه لفظاً، ولم يفعله المعصوم إلا فيما خيف على بيضة الإسلام أو كان تهديداً لأمن المجتمع أو موجباً لهلاك الأبرياء والمسالمين.

ومما يجب أن يعلم أن المراد من تهديد بيضة الإسلام ما يعدّ خطراً على بقاء الإسلام كما في عصر النبي وأمير المؤمنين والحسن والحسين، أو يوجب انحراف كثير من الناس كمحمد بن بشير، وهذا قلّما يوجد في زماننا هذا، والمراد من تهديد أمن المجتمع والنظام إيجاد الفوضى وشيوع القتل والغارة، أمّا العمل السياسي الذي لا يضرّ بالأمن فلا يشمله ذلك؛ لذا لم يقم النبي’ بأيّ إجراء ضدّ المنافقين، وكذلك أمير المؤمنين(ع) في حقّ الخوارج ما داموا لم يعلنوا الحرب.

خامساً: أفتى الأصحاب بعدم جواز محاكمة المجرم غياباً في حقوق الله، وإطلاق كلماتهم وإن شمل ما إذا أبى المجرم عن الحضور إلى المحكمة، لكنّ القدر المتيقن منها ما إذا صدر الحكم عليه دون اطّلاعه وإعلامه، يقول ابن حمزة: «والحقوق ثلاثة: فإن كانت لله لم يحكم بها على الغائب، وإن كانت للناس حكم على ما ذكرنا، وإن كانت لله تعالى من وجه وللناس من وجه حكم على الغائب بحقّ الناس، وذلك مثل السرقة»([62]). وقال صاحب إصباح الشيعة: «واعلم أن الحقوق ثلاثة أضرب: حق الله وحق الآدمي وحق الله تعالى يتعلق به حق الآدمي؛ فحق الله كالزنا واللواط والخمر لا يقضى بها على الغائب؛ لأن القضاء على الغائب احتياط، وحقوق الله لا تحتاج إليه؛ لأنّها مبنيّة على الإسقاط والتخفيف، بخلاف حقوق الآدمي وذلك كالدَّين ونحوه؛ فإنه يقضي به على الغائب كما سبق، وحق الله المتعلق بآدمي كالسرقة فإنه يقضى فيها على الغائب بالغرم دون القطع»([63]). ومثله المحقق الحلي([64])، والعلامة الحلي([65])، واليزدي([66]).

لكن قال السيد الكلبايكاني ـ بعد ذكر الأدلة ـ: «هذا ولكن مقتضى أدلّة القضاء عمومها بالنسبة إلى الحاضر والغائب، وحينئذٍ فلو سرق حكم بقطع يده وبالغرم معاً؛ لعموم الأدلة، ودليل درء الحدّ بالشبهة لا يشمل هذا المقام، ولا مخصص ـ تام سنداً ودلالة ـ لتلك العمومات؛ فيقضى عليه في الحقين بلا فرق إلا أن يكون هناك إجماع»([67]). ولم يظهر لنا مراده من عمومية أدلّة القضاء:

أ ـ فإن كان مراده أدلة القضاء على الغائب ففيه أنها وردت في حقوق الناس ولا تشمل حقوق الله؛ فعن جميل بن دراج عن جماعة من أصحابنا عنهما‘ قال: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة، ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم»([68])؛ فلا إشكال في اختصاصه بحقوق الناس بقرينة ذيله ولا أقلّ من عدم إطلاقه، مضافاً إلى أن الحديث لا يختصّ بالقضاء على الغائب، بل يشمل القضاء والإجراء معاً، وحقوق الله بعد الإجراء غير قابلة للجبران حتى يقال: «ويكون الغائب على حجّته إذا قدم». وحمله في حقوق الناس على القضاء والإجراء وفي حقوق الله على مجرد القضاء خلاف الظاهر.

ب ـ وإن كان مراده عمومية أدلة الحدود، ففيه أنها ليست في مقام بيان شرائط إجراء الحدود حتى يكون لها إطلاق من هذه الجهة، فليس سوى حديث يزيد الكناسي مطلقاً من هذه الجهة، لكنّه معارض بحديث الفتك، مضافاً إلى انصرافه للطريق المعتاد.

ج ـ وإن كان مراده أدلة ولاية الفقيه، ففيه ما تقدم من أن مقتضى عمومها تفويض كل ما للمعصوم إلى الفقيه، ولم يثبت أنّ هذا الفعل جائز للمعصوم أم لا؟ ولم نجد دليلاً عليه.

فتحصّل أن دليل عدم جواز إجراء الحكم على الغائب خفاءً دون اطّلاعه هو عدم وجود دليل عليه، والأصل عدم ولاية الفقيه على ذلك، ومقتضى قاعدة الدرء أيضاً ذلك كما قال في العروة.

النقطة الثانية: اغتيال المعارضين لتأسيس الدولة أو حفظها

بعدما علم أنه لا يجوز قتل المجرم خفاء وعلى غرّة؛ لإجراء حدّ من الحدود ـ إلا ما استثنى ـ بل يجب إحضاره ومحاكمته ثم إجراء الحدّ عليه، يصل الكلام إلى السؤال التالي: هل يجوز للفقيه ـ لتأسيس الدولة وإبقائها ـ ممارسة القتل خفاء أم لا؟

إنّ الأئمة^ وإن كانوا منصوبين للخلافة والولاية بعد النبي(ص)، ويجب على الأمة إطاعتهم وحمايتهم؛ لكن لا يجوز لهم التصدي للخلافة بأيّ طريق ممكن، حتى مع قتل المعارضين والعمل بالطرق المعتادة بين الجبّارين، بل يجب عليهم تصدّيها برضا الناس والبيعة لهم طوعاً([69])؛ يدلّ على هذا:

1ـ قال النبي(ص) لعلي(ع): «أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتى؛ فإن أتاك هؤلاء القوم فسلّموها إليك ـ يعني الخلافة ـ فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك»([70]). وقد روي هذا الحديث بطرق متعددة مع اختلاف يسير، منها ما روي عن محمود بن لبيد في حديث له مع فاطمة بنت رسول الله(ع)في إمامة علي قال قلت: «يا سيدتي! فما باله قد قعد عن حقّه؟ فقالت: يا أبا عمر! لقد قال رسول الله(ص): مَثَل الإمام مَثَل الكعبة، إذ تؤتى ولا تأتي، أو قالت: مثل علي»([71]). وهذا الحديث ورد بطرق مستفيضة، مما يوجب اعتباره، ويدلّ على أن الناس لو رضوا بولاية علي وجب عليه تأسيس الدولة وإلا فلا.

2 ـ عن علي(ع) في كتاب له إلى شيعته: «وقد كان رسول الله(ص) عهد إليّ عهداً فقال: يا ابن أبي طالب! لك ولاء أمتي؛ فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا، فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه»([72]).

3 ـ وعنه بعد بيعة الناس لعثمان: «لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري، ووالله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصّة؛ التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة»([73]).

يقول الشهيد المطهري: «الإمام الحسين(ع) وحده كان مستحقاً للخلافة ومنصوصاً لا فرق بينه وبين أخيه وأبيه، كما أنه لا فرق بين يزيد ومعاوية والخلفاء الثلاثة، وهذا لا يوجب تكليفاً؛ فإن عرف الناس أصلحية الإمام وبايعوه فقد أعلنوا ببيعتهم ـ في الحقيقة ـ صلاحيتهم وتهيؤهم لقبول ولايته، والإمام أيضاً يقبل ذلك. وإذا لم يستعد الناس من جهة ولم يكن الأمر في صلاح المسلمين من جهة أخرى فلا يكلَّف الإمام بالمعارضة، بل وظيفته التعاون كما فعل علي؛ فقد كان يشارك في النشاطات السياسية والقضائية، وكان يحضر صلاة الجماعة..([74]).

4 ـ وعن الرضا(ع): «لنا عليكم حقّ برسول الله(ص)، ولكم علينا حقّ به فإذا أنتم أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحقّ لكم»([75]). ولاشك في أن حق الإمام على الناس هو نصرته وإطاعته، وحق الناس عليه إصلاحُ أمور دينهم ودنياهم، والإمام يقول: إنّ إصلاح أموركم يتوقف على إطاعتكم لي ونصرتكم، وفي هذا يقول الشهيد مطهري: «لنا عليكم حقّ ولايتكم، يعني هذا الحقّ لنا ولا يكون باختيار المأموم، لكن علينا حقّ إصلاح أموركم، ومتى أدّيتم حقّنا ـ يعني متى تقبّلتمونا خليفةً عليكم ـ يجب علينا أداء تكليفنا فيكم والسلام»([76]).

5 ـ عن أمير المؤمنين×: «لنا حقّ فأعطيناه، وإلا ركبنا الإبل وإن طال السرى»([77])، يقول الرضي في تفسيره: «وهذا القول من لطيف الكلام وفصيحه، ومعناه أنّا إن لم نعط حقّنا كنّا أذلاء؛ وذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد والأسير ومن يجري مجراهما»([78])؛ وهذا تفسير بعيد جداً؛ لأن الأئمة كانوا مظاهر العزّة والكرامة في المجتمع، وكانوا في قلوب الناس بحيث كانوا محسودين، فهل ملاك العزّة والكرامة هو الرئاسة والخلافة الظاهرية حتى يكون الأئمة أذلاء لبعدهم عنها؟ ألم يقل أمير المؤمنين: «والله لهي أحبّ إليّ من أمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً»([79]). والدليل عليه أنّ العبد لا يركب أعجاز الإبل باختياره بل يركبونه، أمّا الإمام فقد أسند الركوب في الحديث إلى نفسه، ومعلوم أنه لا يختار الذلّة؛ فالصحيح أن مراده ـ والله العالم ـ أنه لو سلّمت الخلافة إلينا نأخذ زمامها بأيدينا، ولو لم تسلّم إلينا تركناها ونركب أعجاز الإبل، وعلى هذا فدلالته تامّة على المقصود.

6 ـ وفي كتابٍ له إلى طلحة والزبير: «أما بعد، فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما ممّن أرادني وبايعني، وأن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب و..»([80]).

7 ـ وعنه لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان: «دعوني والتمسوا غيري؛ فأنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت والحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً»([81])؛ فقد صرّح الإمام أنه مطيع ووزير لمن اختاره الناس للخلافة؛ لمّا علم أن الناس لا يتحمّلون صرف الحقّ.

8 ـ ما في تاريخ الطبري، بسنده عن محمد بن الحنفية، قال: «كنت مع أبي حين قتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله’ فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله’ فقال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفياً (خفيّة) ولا تكون إلا عن رضى المسلمين»([82])؛ وهذا يدلّ على أنه لم يكن بصدد تشكيل الدولة من غير طريق بيعة الناس عن رضاً.

9 ـ عن الرضا× بإسناده عن النبي(ص) قال: «من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة ويغصب الأمّة أمرها ويتولّى من غير مشورة، فاقتلوه»([83]). وهو يدلّ على أنه لا يجوز لأحد تولّي أمور المجتمع من غير مشورة، وهذا لا ينافي نصب الأئمة من الله للخلافة؛ فإنّه يدلّ على أن للناس حقاً في تعيين الحاكم، ولا يدل على أن لهم حقاً في اختيار من شاء، بل عليهم أن يختاروا من نصبه الله لذلك؛ فهذا الحديث ساكت عن ذلك.

ومما تقدم يتبيّن أنه لا يجوز ـ لإقامة الدولة الإسلامية ـ التوسل بأيّ وسيلة، بل لابدّ من الطرق المشروعة؛ والإسلام لا يجوّز الرجوع إلى الوسائل غير المشروعة، والهدف لا يبرّر الوسيلة؛ ولذلك اتّهم علي بعدم الكياسة فيما عدّ معاوية الذي يستخدم كل وسيلة للوصول إلى هدفه داهيةً كياساً، حتى قال علي(ع) في جواب ذلك: «والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة. والله ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة»([84]). وقال في موضع آخر: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم»([85]).

فلا يجوز الإقدام على فعل غير مشروع لتأسيس الدولة وحفظها، وسيرة المعصومين أقوى شاهد على ذلك؛ فإن أمير المؤمنين لم يحرّض أحداً على قتل عثمان بل منعهم عن ذلك؛ فقال في كتابه إلى معاوية: «ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله أمن بذلك له نصرته فاستقعده واستكفّه؟ أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه؟.. وما كنت لاعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فربّ ملوم لا ذنب له، وقد يستفيد الظنّة المتنصح، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت»([86]).

والنتيجة أنه لا يجوز استخدام الإرهاب لتأسيس الدولة الإسلامية وحفظها.

الهوامش

 

(*)باحث في الحوزة العلمية، متخصّص في الفقه السياسي الإسلامي، من إيران.

([1]) صبحي الصالح، نهج البلاغة: 282، خ40.

([2]) غرر الحكم ودرر الكلم 6: 236.

([3]) الإرهاب والقانون الدولي: 12 ـ 13.

([4]) الإرهاب، مفهومه وأهم جرائمه في القانون الدولي الجنائي: 44 ـ 45.

([5]) المصدر نفسه: 73 ـ 75.

([6]) المصدر نفسه: 82.

([7]) المصدر نفسه: 75.

([8]) فرهنك جامع سياسي: 356.

([9]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 1: 218 ـ 219؛ والحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر.

([10]) الأبيل: رئيس النصارى، وقيل: هو الراهب الرئيس. وقيل: هو الشيخ، وكانوا يسمون عيسى× أبيل الأبلين. لسان العرب.

([11]) مسند ابن حنبل 1: 351 ـ 352، 1426؛ ومجمع الزوائد 1: 279، 344.

([12]) مسند ابن حنبل 6: 13، ح16832؛ ومجمع الزوائد 1: 279، ح345، والمستدرك على الصحيحين 4: 393، ح8038 مع اختلاف يسير.

([13]) الطبراني، مسند الشاميين 3: 350، ح2448.

([14]) المستدرك على الصحيحين 4: 392، ح8037؛ وابن سلامة، مسند الشهاب 1: 130، ح164.

([15]) مسند الشهاب 1: 129، ح163.

([16]) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 29: 34.

([17]) مقاتل الطالبيين: 65؛ وبحار الأنوار 44: 344؛ وتاريخ الطبري 5: 363؛ والأخبار الطوال: 235؛ والبداية والنهاية 8: 165؛ والإمامة والسياسة 2: 9.

([18]) الكامل في التاريخ 4: 27.

([19]) المقرم، مقتل الحسين: 152 ـ 153.

([20]) بحار الأنوار 44: 343 ـ 344.

([21]) جاء في رواية ابن شهرآشوب: «.. فتوهم ابن زياد وخرج»، بحار الأنوار 44: 343.

([22]) ميزان الحكمة 70: 379، ذيل ح15291.

([23]) بحار الأنوار 45: 97؛ وإعلام الورى 1: 439.

([24]) رسول جعفريان، تاريخ خلفاء: 458.

([25]) بحار الأنوار 44: 334.

([26]) فروع الكافي 7: 357، ح16؛ ووسائل الشيعة 19: 170، باب 22 من أبواب ديات النفس، ح1؛ وتهذيب الأحكام 10: 214، ح50؛ وبحار الأنوار 47: 137، ح187.

([27]) الرضي، المجازات النبوية: 356.

([28]) بحار الأنوار 52: 277، ح172.

([29]) ابن منظور، لسان العرب 10: 177.

([30]) النهاية 3: 409.

([31]) عون المعبود 7: 457، ح2752.

([32]) وسائل الشيعة 18: 338، باب 28 من أبواب مقدمات الحدود، ح1.

([33]) المصدر نفسه، ح2.

([34]) النجفي، جواهر الكلام 42: 12.

([35]) الخوئي، مباني تكملة المنهاج 2: 69.

([36]) نهج الفصاحة: 331، ح1582.

([37]) وسائل الشيعة 18: 543، باب 7 من أبواب حدّ المحارب، ح2.

([38]) المصدر نفسه: 589، باب 4 من أبواب الدفاع، ح1.

([39]) جواهر الكلام 41: 650 ـ 651.

([40]) الخميني، تحرير الوسيلة 1: 491، مسألة 28.

([41]) المصدر نفسه: 29.

([42]) جواهر الكلام 41: 440.

([43]) وسائل الشيعة 18: 309، باب 1 من أبواب مقدمات الحدود، ح6.

([44]) المصدر نفسه: 331، ح3.

([45]) المصدر نفسه: 332، باب 20، ح1.

([46]) المصدر نفسه: 333، ح2.

([47]) المصدر نفسه: 336، باب 25، ح1.

([48]) المصدر نفسه: 308، باب 1، ح4.

([49]) المصدر نفسه: 314، باب 6، ح1.

([50]) المصدر نفسه: 317، باب 10، ح1.

([51]) جواهر الكلام 41: 344.

([52]) وسائل الشيعة 18: 328، باب 16 من أبواب مقدمات الحدود، ح4.

([53]) الريشهري، ميزان الحكمة 1: 352، ح1526.

([54]) المصدر نفسه: 353، ح1527؛ وبحار الأنوار 100: 47.

([55]) ميزان الحكمة 1: 352، ح1524.

([56]) بحار الأنوار 32: 464، 595، وج34: 146، وج75: 40.

([57]) المصدر نفسه 54: 291، ح14.

([58]) المصدر نفسه 67: 10، ح6.

([59]) المصدر نفسه 66: 372، ح16.

([60]) المصدر نفسه 72: 236، وج64: 358.

([61]) الخميني، البيع 2: 497.

([62]) سلسلة الينابيع الفقهية 11: 206.

([63]) المصدر نفسه: 227 ـ 228.

([64]) المصدر نفسه: 312.

([65]) المصدر نفسه: 417.

([66]) اليزدي، العروة الوثقى 3: 47.

([67]) الكلبايكاني، كتاب القضاء: 374.

([68]) وسائل الشيعة 18: 216، باب 26 من أبواب كيفية الحكم، ح1.

([69]) راجع للمؤلف: مجلة «نامه مفيد» العدد 32 مقالة: جايكاه مردم در تشكيل حكومت پيشوايان معصوم.

([70]) موسوعة علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة 8: 119، ح3371.

([71]) المصدر نفسه، ح3373.

([72]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 505، نقلاً عن كشف المحجة لابن طاووس: 180.

([73]) نهج البلاغة، خ74.

([74]) مجموعة آثار للشهيد مطهري 17: 527.

([75]) بحار الأنوار 49: 146.

([76]) مجموعة آثار الشهيد مطهري 18: 132.

([77]) نهج البلاغة: 472، حكمة: 22.

([78]) شرح نهج البلاغة 18: 132.

([79]) نهج البلاغة: 76، خ33.

([80]) المصدر نفسه: 445، كتاب 54.

([81]) المصدر نفسه: 136، خ92.

([82]) تاريخ الطبري.

([83]) الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 62، باب 31، ح254.

([84]) نهج البلاغة: 318، خ200.

([85]) وسائل الشيعة 11: 82، باب39 من أبواب جهاد العدو، ح6.

([86]) نهج البلاغة: 388، كتاب 28.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً