أحدث المقالات

لا يزال الحراك العربي الراهن محل تساؤلات جوهرية و محاولات تحليلية عويصة، تكاد تقارب النفاق أحيانا و الموضوعية أخرى، لأن المعطيات اليومية للسياسة العربية عامة، أصبحت محل يقين بأنها تسبح ضد التيار العربي الحر، بل باتت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في شرك الارتهان للمشاريع الصهيونية العالمية، التي انتهجت ما بعد اتفاقية كامب ديفيد أسلوب المراوغة و التمويه و التجميل السياسي للأنظمة العربية و تفويض الشخصيات الفنية السياسية لتحطيم المشروع التحرري للشعوب و انهاكها بجرعات المهرجانات الطائفية سواءا منها الدينية او المذهبية او العرقية… و في نفس الوقت هناك اشتغال متعاظم لمخابر الاستكبار العالمي لإبقاء الساحة العربية و الاسلامية مرتعا لشياطين الطائفية و الألعاب التدميرية للشخصية العربية و الاسلامية ، حيث يبرز ارتفاع وتيرة العنصرية ضد كل ما هو عربي و اسلامي في الغرب و تحديدا في فرنسا و بريطانيا و هولندا و ألمانيا و النرويج، مما يؤشر لحملة صهيونية جديدة ضد الاسلام الحركي المنفتح على الانسانية و المتطلع لبناء الحضارة العالمية القائمة على العدالة و الحرية و العلم و المعرفة ، متوسلة هذه المخابر بطبخ مشاريع طائفية مقيتة و تسريبها للعمق الاستراتيجي العربي و الاسلامي عبر العقول التائهة و النفوس المرتهنة للتعصب الطائفي، حيث هذا الواقع  نلحظه يوميا في البيانات السياسية و البرامج الفضائية و الأقلام المأجورة في صحف و فضائيات السلاطين و الملوك، والمؤسف في الراهن العربي و الاسلامي أن ترضى العديد من الأقطاب السياسية و الثقافية و الدينية أن تكون في خدمة الاستراتيجيات الاستكبارية في المنطقة العربية و الاسلامية و على الخصوص الشرق الاوسط، بينما العمق الاستراتيجي الضروري راهنا للأمة العربية و الاسلامية هو تصفير المشاكل الداخلية لتعزيز السياسة الخارجية للمسلمين أمام التغطرس الصهيوني و ليس افتعالها لأجل تمكين الأجندات الفاشلة للاستدمار الصهيوني من العبور عبر بوابات النجدة الطائفية…
و في ذات السياق نؤكد أن الخطابات التعبوية الفارغة من الأدب السياسي الاسلامي بالنسبة للزعماء الاسلاميين،  لا تعالج المشاكل المذهبية و الطائفية، بل على العكس من ذلك، فإنها تؤجج الوضع و تخدم مصالح رواد سياسة فرق تسد التي جعلت الأمة رهينة التخلف و التبعية طيلة قرون من الزمن، و ما نراه اليوم من قلاقل منتشرة على طول خط طنجة- جاكرتا، هو بالفعل أعظم دليل على الطفولة السياسية التي يعيشها السواد الاعظم من زعماء المسلمين، و ممن يحاولون صناعة المجد و البطولة عبر مسلسل الدراما الطائفي، الذي يسعى عبر حلقاته المتناقضة لغسل الدماغ المسلم من الوعي الاسلامي العادل…
ولعل كل الأوضاع الراهنة هي في الحقيقة سيناريوهات هوليودية، يشارك فيها بعض القراصنة العرب و العجم، إما عن الوعي أو في غمرة سكرة البطولة يبدعون في توسيع الجرح العربي و الاسلامي، متناسين مآسي الشعوب و مستميتين في زراعة بذور التعصب و الطائفية المذهبية و العرقية، و هناك في عواصم الغرب المريض بعقدة اسمها الاسلام الحضاري، تبتهج أجواء العنصرية السامية لحماقة العرب و العجم مذهبيا و تعصبهم لرذائل الأخلاق…
إن المهزلات السياسية التي يتفرج عليها عالم الأغبياء هناك بجزر المكر و الفساد و جبال النفاق و الدجل، تمثل أفظع الجرائم التاريخية بحق مستقبل هذه الأمة، فتارة يخرج ناعق بإسم حماية الدين و أهل المذهب الفلاني أو الطائفة الفلانية لينشر أوساخ نفسه و أمراض جنونه في ربوع الأمة الاسلامية ، و تارة يأتيك من أقصى الشرق سياسي لبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا ، ليزيد الطينة بلى، و العجب العجاب ادعاء الجميع الاصلاح و العدالة و التنمية و ما هنالك من عناوين أصبحنا اليوم نتحير في فقه معناها الصحيح، هل كما يراه هؤولاء الأبطال و الزعماء و المصلحين في زمن التيه و الطائفية أم أنها مفاهيم تستخدم كالتوابل في الطبخات السياسية (الشعارات و الخطابات و البيانات و المواثيق)…؟ !
أما بعد: دعونا نتساءل، إلى متى سنتفنن في ملاحقة بعضنا البعض و تتبع عثراتنا ؟ و ما مستوى هذا الحمق بأن أتعامل مع ذلك الأخ في  الدين والوطن و الإنسانية وفق معايير تجزيئية لا تحترم إنسانيته و لا تنطلق من صميم الشريعة الاسلامية السمحاء؟ من المعيب أن نبقى في هذا القرن  و ما يحمله من اكتشافات علمية و معرفية عظيمة ، نتواصل بثقافة الطائفية، و من كنا نظنهم لزمن ليس ببعيد أنهم عقلاء في السياسة و الدين، حملتهم رياح التاريخ و استراتيجيات الهيمنة على بساط التعصب لتنزل بهم وعاظا للسلاطين همهم الوحيد، أوهامهم الطائفية و العرقية و السياسية …
الجواب الوحيد: لكل من سولت له نفسه ممن نزل بقصر الوجاهة الدينية أو القومية أو السياسية أو الثقافية: إن الصدق صلاح كل شيء، بينما الصدق في السياسة الممزوجة بالدين الموهوم  هو في العمق كذب على الذات و الناس و افتراء على التاريخ الذي لا يرحم، لأن الصدق الصحيح اسلاميا أن لا تخرج نفسك من حد التقصير و لا تقرأ التاريخ و الأحداث بعين واحدة (مذهبية أو عرقية أو حزبية)، الاسلام لم يأت للعرب دون الفرس أو الاتراك و العكس كذلك، و الاسلام ليس دينا توقيفيا للسنة دون الشيعة أو العكس، و الاسلام لم يفوض أمره للوهابية أو السنة أو الشيعة لحمايته، الاسلام جاء للإنسانية و محمد رسول الله (ص) رحمة للعالمين ، و لا قيمة لهذه الطوارئ  الفكرية و المذهبية و القومية في مقياس الاسلام سوى بالتقوى، لأن المصير النهائي متوقف على قاعدة (يومئذ لا أنساب بينهم…) فمهما حاول المرجفون و المتنطعين و تجار الفتن و عباد المال و الجاه و قادة الطائفية أن يوهموا الامة برمزيات ورثتها كنتوناتها من التراث الاسلامي على أنها من الدين، لكن هيهات أن يصبح النحاس ذهبا… فالتراث فيه الغث و السمين أما الدين الاسلامي الحنيف هو عنوان الحقيقة المطلقة  التي تستدعي منا التواضع لله و الجد و الاجتهاد في تحصيل الطهارة المعنوية لتحمل تبعات المعرفة الدينية، لأن القضية الاسلامية قائمة على حقيقة لا لبس فيها : "اعدلوا هو أقرب للتقوى" فكلما ابتعدنا في تفاعلنا اسلاميا عن العدالة ابتعدنا عن التقوى و ظلمنا أنفسنا و أهلينا، بل حتى الآخرين ممن أصبح فريق منهم يستلهم أن النجاة و الخلاص هي في صميم الوعي الاسلامي الذي يرشد للعدالة الحقيقية و للعزة و الكرامة في رحاب الطهارة الروحية  و الرحابة الفكرية للظفر بالطمأنينة النفسية القائدة نحو رضا الله خالق الوجود و رازقه …
كفى استحمارا للأجيال الاسلامية و تبذيرا لمقومات القوة في تدمير وحدتنا و بث سموم الفرقة بيننا، و كفانا تشويها لصورة الاسلام أمام عالم أصبح لا يحترمنا ليس لأنه فقط يعادينا و لكن الحقيقة أننا لا نحترم أنفسنا كأتباع لمحمد (ص) الرحمة المهداة ، فمتى ما عملنا على نظْم أمورنا بتصفير مشاكلنا الداخلية لغرض تقوية وحدتنا لا للإستقواء على بعضنا البعض، حينها سنكون أقرب للتقوى الذي من مصاديقه الأمة الواحدة الشاهدة  بالعلم و القوة و الإنسانية و العدالة و الكرامة و الحضارة التوحيدية الذي تعبد الله لا تشرك به شيئا، أما دون ذلك فإن الله سيأتي بقوم غيرنا رحماء بينهم أعزة على الكافرين أذلة على المؤمنين، يجاهدون في سبيل الله من أجل وحدة الأمة، و لا يخافون لومة أبواق الطائفية ولا يكون بأسهم بينهم شديد…
الطائفية و العصبية لغير مكارم الأخلاق هي دليل على الضلال و التيه و سوء المصير، و حتى تستكمل القراءة للواقع : حيثما وجدت الصهيونية متمثلة في زعمائها التاريخيين في العصر الحديث (السرطان الشيطاني و أمه الكبرى و أباطرة اوروبا و عرابي الفتن و الحروب بالعالم العربي) ، فإعلم أن مصلحة الاسلام في خطر، فما شهدته العراق منذ 2003 إلى يومنا هذا و لبنان و اليوم سوريا و البحرين و التهويد المبرمج لعاصمة الاديان و فتنة مصر و ليبيا و السودان و باكستان و أفغانستان و التطهير الديني للمسلمين في شمال الصين و جنوب شرق آسيا و وسط افريقيا و الحرب الخفية ضد المسلمين بالغرب كل ذلك دليل الخدعة الرهيبة التي يهدف أصحابها من خلالها إلى غسل الدماغ العربي و المسلم عامة ، حتى يستعبد لعقود أخرى من الزمن و حتى يستغرق في التفاصيل الوهمية و الصراعات الطفولية التاريخية و لا ينتبه للتجديد الخرائطي  لأمته الإسلامية…
المرحلة القادمة بحسب كواليس الشيطان الأكبر، هي تأجيج الحرائق الطائفية عبر العالم الاسلامي كله، و تحديدا استثمار كل التراث الخرافي و التخلفي لاشغال الأجيال المسلمة بالصراعات الطائفية و دفع البنوك الفتنوية لتمويل الاعلام الشيطاني بالشرق الاوسط  لتعطيل الوعي و برمجة الطوائف لصراع جديد مع ايجاد أمراء جدد ألهتهم أهواؤهم لقيادة مواكب الظلم و البهتان و الجهاد  في سبيل الشيطان الأكبر… !!!
و عليه أصبح من الواجب المقدس على المخلصين في هذه الأمة من عرب و أتراك و ايرانيين و غيرهم من المسلمين، تنبيه الأمة عبر كل المنابر الاعلامية و المواقع القيادية و البرامج التثقيفية لصد هذا المد الطائفي البغيض و تفعيل سبل اللقاء و تشكيل الهيئات الاسلامية المنفتحة على قضايا الأمة بعيدا عن مخلفات الجهل المذهبي ، و الاجتهاد في تنقية التراث و ما يفرزه من مشاكل عقائدية و فقهية و أخلاقية، ناهيك عن دعم حركات التحرر و الاصلاح و التغيير عبر العالم و ترشيدها بثقافة الوحدة و التسامح و التعايش و عدم الارتهان لوعود  شياطين العالم و أذنابه في المنطقة الاسلامية…
بكلمة: ما هكذا تساق الابل ، فالحكمة تقتضي الوسطية و القاضي يسمع للخصمين، حيث الظالم بائع غشاش، يبيع للناس الخوف و يشتري منهم الأحقاد، أما العمق الاستراتيجي، أصبح محل إشكال  لدى أصحابه أصلا، لأن اعتماد الطائفية في العمق الاستراتيجي يعني السقوط في مستنقع الرذائل…
وفصل الخطاب: الحقيقة الاسلامية هي ثمرة شجرة التقوى …و الله من وراء القصد.

______________________________________________________________
(*) كاتب و باحث إسلامي

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً